نحو فكر أوضح
كنَّا في لجنة ثقافية، جماعة من المشتغلين بالفكر والفن والأدب، وحملتنا موجات هادئة من حوار كان ينتقل بنا من موضوع إلى موضوع، لنجد أنفسنا أمام سؤال مطروح وأحسسنا جميعًا بأهميته وخطورته، فهو وإن يكن قد ألقى بنفسه أمامنا مدفوعًا بتلك الموجات الهادئة في تيار الحوار، كما ترى قطعة من الخشب أو من الورق، عائمة تتأرجح مع حركة الموج؛ إلى أن تجد لنفسها مستقرًّا على رمال الشاطئ، إلا أنه — وأعني ذلك السؤال الذي جاء ليطرح نفسه أمامنا — لم يكد يعلن عن وجوده حتى أدركنا جميعًا مدى أهميته وخطورته، ومع ذلك فلست أذكر أنه قد ظفر منَّا بأكثر من دقائق ملأناها بعبارات غامضة، ثم حان موعد انصراف اللجنة فانصرفنا إلى بيوتنا؛ ولعل السؤال قد أخذ يلح علينا بعد ذلك ونحن فرادى؛ لأن اللجنة لم تعد إلى طرحه أمامها مجتمعة.
فلقد حدث في ذلك الاجتماع أن أُلقي على مائدة البحث بالكرة لتتقاذفها أيدي الحاضرين في رفق ولين، وكان الموضوع الذي حملته الكرة الملقاة هو العلاقة القائمة بين ميادين الفكر والفن والأدب في حياتنا الراهنة ما طبيعتها؟ وما نصيبها من القوة والضعف، أم تكون تلك العلاقة مبتورة معدومة؟ فنحن ننتج موسيقى وننتج شعرًا وننتج أدبًا روائيًّا ومسرحيًّا، وننتج فنونًا تشكيلية وننتج فكرًا، والسؤال هو: بأي الروابط والصلات تتوحد تلك الثمرات في كيان ثقافي واحد؟ وذلك أنه لا بد في الحياة الثقافية السليمة السوية لشعب من الشعوب في كل عصر معين من عصور تاريخه، أن تكون للحياة الثقافية وحدة عضوية تربط أطرافها، ولا تخدعنك الفوارق البعيدة الظاهرة بين تلك الأطراف؛ إذ قد تتساءل: وماذا عساه أن يربط بين الموسيقى والرواية؟ وبين الرواية والنحت والعمارة وبين هذا كله وبين لوحات المصورين وأفكار المفكرين في شتى المجالات؟ لا، لا تخدعنك تلك الفوارق التي هي في ظاهرها مختلفة بعضها عن بعض اختلافات بعيدة الآماد، وذلك لأن الشعب الواحد في العصر الواحد، يستحيل ألا تجيء حياته مستقطبة حول مشكلاته الكبرى، وعندئذٍ نرى جوانب تلك الحياة وكأنها كواكب المجموعة الشمسية تختلف فيما بينها لكنها جميعًا تدور حول الشمس بجاذبية واحدة، وإلا فهل يمكن لشعب يعاني من وطأة مستعمر خارجي أو من طغيان مستبد داخلي — مثلًا — ولا يكون ذلك الهم المشترك ضاغطًا على منشئ الموسيقى وعلى الشاعر والفنان والروائي والمسرحي ورجل الفكر؟ كل ما في الأمر من ضروب التباين بين هؤلاء جميعًا هو اختلافهم في الوسائل وما تقتضيه تلك الوسائل من ضرورات التعبير، كل وسيلة منها في مجالها، وأما اللباب الكامن في عمق العمل الفني أو الأدبي أو العقلي فلا بد أن يكون متشابهًا أو متقاربًا عند الجميع، ذلك — بالطبع — لو كانت حياة الشعب المعين في العصر المعين سليمة سوية وكانت المواهب عند أصحابها صادقة مع نفسها، مخلصة لوسائلها وأهدافها.
تلك — إذن — هي الكرة التي ألقى بها من ألقاها وأخذ الأعضاء المجتمعون ينظرون بلمحات سريعة إلى ضروب الإنتاج في مجالات الفن والأدب والفكر لعلهم يقعون بينها على وشيجة القربى التي تضمها جميعًا في أسرة واحدة يدور أفرادها في أفلاك مختلفة بالطبع، لكنها مع ذلك تدور حول محور واحد فلما أن غامت الرؤية أمام أبصارهم وخُيِّل إليهم أنهم في الحقيقة إنما ينظرون إلى مفردات لا تربطها صلة الرحم، قال منهم قائل: ولماذا لا يكون هذا التفكك الذي نراه بين المنوعات مما ينتجه رجال الفن والأدب والفكر في حياتنا أمرًا طبيعيًّا يشير إلى حقيقة قائمة بالفعل، وهي أن مصر تجتاز الآن مرحلة البحث عن ذاتها الضائعة، ويوم أن تستردها يتحقق لنا من تلقاء نفسه ذلك الكيان الواحد الموحد الذي نلتمسه في أعمالنا اليوم فلا نراه.
وعند هذه الوقفة انفضت اللجنة وانصرف الأعضاء، ولست أدري إن كان الموضوع ما زال عالقًا في وعيهم يناقشه ويحلله كلٌّ على انفراد، لكنني أعلم عن نفسي أنني منذ ذلك اليوم شغلت نفسي — آنًا بعد آنٍ — بمشكلة فرعية هي فكرة «الذات» بالنسبة للفرد الواحد وبالنسبة للأمة كلها ماذا تعني؟ إنه حتى ذروة الذروة من رجال الثقافة في حياتنا قد قذفوا بالفكرة قذفًا وكأنهم وصلوا بها إلى حل يستريحون إليه حين قالوا عن مصر إنها تبحث اليوم عن «ذاتها»، فما هي في الحقيقة تلك «الذات» التي نبحث أو لا نبحث عنها؟ أم يا ترى يجمل بنا أن نلف الغموض فيما هو أغمض منه ثم نأوي إلى مخادعنا لنستريح؟ إن فكرة البحث عن ذواتنا هي بغير شك عالقة في مناخنا، وربما كان ذلك في ذاته دليلًا على وجود نوع من القلق في صدورنا نتأزم به، وتضطرب له نفوسنا باحثة له عن حل يزيحه عنَّا، لكن كان ينبغي أن نتناول الفكرة — فكرة البحث عن الذات — بجدية واهتمام طالما هي كالسحابة المتجهمة في سمائنا ولا نكتفي بمجرد ذكرها ذكرًا عابرًا في حديث مذاع أو في مقال مكتوب.
ولست أدعي أن ما سوف أعرضه هنا من رأي ورؤية في شأن ذلك الركن الغائب في حياتنا الثقافية كلها، هو الصواب الذي لا يأتيه باطل، بل إنه مجرد رأي ومجرد رؤية نتجت عن مداومة التفكير فيما قد زعمناه لأنفسنا في اجتماع اللجنة التي أسلفت ذكرها من أن العلة في تفكك الأوصال في كياننا الثقافي اليوم إنما ترجع إلى أن مصر تجتاز مرحلة البحث عن ذاتها، فقبل أن تحكم على قول كهذا بالصواب أو بالخطأ يجب أن نقف عند كلمة «ذات» لنعلم ما قوامها؟ وإلا فكيف يتاح لنا الزعم بأن مصر تبحث أو لا تبحث عن «ذاتها» إذا لم نكن على علم كافٍ بطبيعة تلك «الذات» التي هي موضوع البحث؟
كانت الصورة التي وردت إلى خاطري واستعنت بها في الإجابة عن هذا السؤال هي أنني تصورت دائرة من حبات القمح، أي إن محيط الدائرة هو من تلك الحبات موضوعة في تجاور وقلت لنفسي إنه في حالة كهذه لو سُئلنا: أين في هذا التكوين الدائري ما هو «ذات» وأين ما هو أعراض لحقت بتلك الذات دون أن تكون جوهرها؟ فإن الجواب عن سؤال كهذا يكون أن الشكل الدائري في هذه الحالة هو بمثابة «الذات»، أما كون محيط الدائرة حبات من القمح فهو حقيقة فرعية لأننا نستطيع أن نستبدل بحبات القمح حبات أخرى من أرز أو ذرة أو شعير، بل أن نستبدل بها خرزات أو صخرات أو أن نرسم مكانها محيطًا بالطباشير أو ما شئنا فيبقى لنا «الكيان» قائمًا كما هو ولا يتغير منه إلا ملحقاته وحواشيه، كما يغير إنسان معين ثيابه ويظل هو هو الإنسان الذي كان قبل أن تتغير الثياب. وإذا كان ذلك كذلك خلصنا منه إلى نتيجة هامة وهي أن «ذات» الشيء هي «الإطار» أو «الشكل» أو «طريقة ترتيب العناصر» وليس المضمون الذي يجيء ليملأ ذلك الإطار ثم يذهب مع الزمن ليجيء مضمون آخر فيحل محله حشو لذلك الإطار.
ويحسن بنا قبل أن ننتقل بحديثنا من هذه النقطة إلى التي تليها أن نزيد ما قلناه وضوحًا؛ إذ ربما يصدم القارئ أن يقال له إن «ذات» مصر التي نبحث عنها إنما هي مجرد صورة مفرغة من محتواها الحضاري والثقافي؛ فلنضرب أمثلة توضح ما نريده: إذا طُلب منَّا أن نميز بين ما هو جوهري في المسرحية اليونانية القديمة ومسرحية شكسبير ومسرحية العصر الحاضر، فهل نجيب على ذلك بأن نعرض مضمونات مسرحيات سوفوكليز ويوربيد ثم مضمونات المسرحيات التي كتبها شكسبير ثم مضمونات عدد نختاره من مسرحيات عصرنا؟ أو أن نجيب بمثل قولنا إن البطل في المسرحية اليونانية ترسم الأقدار مصيره والبطل في مسرحية شكسبير يرسم مصيره تركيبه النفسي وطريقة سلوكه والبطل في المسرحية الحديثة ترسم الظروف المحيطة به مصيره؟ إننا إذا رأينا أن الإجابة إنما تكون بمثل هذه الخصائص في التكوين لا بسرد الحوادث الداخلية في مضمون المسرحيات ذاتها، كنا بمثابة من يقول إن المميز هو في «الإطار» لا في المضمون الذي يملؤه.
وإذا طُلب منَّا أن نوضح الفرق في نظام الحكومة بين بريطانيا والولايات المتحدة فهل تكون الإجابة بأن نعين الأشخاص الذين يؤلفون الحكومة في كل من البلدين أو يكون بأن نشير إلى الفوارق في «الشكل»، كأن نقول: إن بريطانيا ملكية والولايات المتحدة الأمريكية جمهورية، ثم نأخذ في ذكر تفصيلات الشكل في الحكومة الملكية في الأولى وتفصيلات الشكل الجمهوري في الثانية؟ إننا إذا أجبنا على هذه الصورة الثانية كانت إجابتنا دالة على أن موضع السمة المميزة هو في الإطار لا في المضمون.
وإذا طُلب منَّا أن نفرق بين الدولة الأموية من جهة والدولة العباسية من جهة أخرى، فقلنا إن أهم فارق بينهما هو أن الدولة الأموية جعلت مبدأها «العروبة» بمعنى أن يكون الحكم في أيدي عرب خُلَّص، في حين جعلت الدولة العباسية مبدأها — ظاهريًّا على الأقل — هو الإسلام بمعنى أن يُشرَك في الحكومة مسلمون من غير العرب كالفرس وغيرهم. وإذا كان هذا الفارق أساسيًّا في التمييز بين الدولتين من حيث المبدأ كان المعول هو على «الشكل» أكثر منه على ما يملأ ذلك الشكل من أشخاص معينين أو من أحداث معينة.
وإذا طُلِب منا أن نفرِّق بين «التصوير» في الفن المعاصر والتصوير في الفن كما عرفته العصور السابقة، فقلنا إن المميز الأساسي هو أن الفنان المعاصر لا يلتزم بشيء بالنسبة إلى ما هو واقع في الطبيعة الخارجية، بينما الفنان في العصور السابقة برغم رؤيته الذاتية لما يصوره إلا أنه كان على درجة كبيرة من الالتزام بالأشكال كما هي في الواقع الخارجي. وإذا نحن أقمنا التفرقة على هذا الأساس كنَّا بمثابة من يعول على الإطار أكثر مما يعول على مضمونه؛ واختر لنفسك شخصين من أقربائك أو أصدقائك وحاول أن تلتمس الفوارق بين الشخصية في أحدهما والشخصية عند الآخر، تجد أنك قد انتهيت إلى اختلاف بينهما في الإطار أو في ترتيب الأولويات عند هذا وعند ذاك، كأن تقول — مثلًا — إن أحدهما لا يهتم بكسب المال اهتمامه بالراحة والمتعة، بينما الآخر يهلك نفسه في سبيل كسب المال — مهما يصبه من عناء، وأنت في هذه الحالة تفرِّق بينهما على أساس الشكل لا على أساس الحوادث الجزئية الفعلية في حياة كل منهما.
وأظنه قد بات واضحًا ما أردته حين قلت إننا إذ نبحث عن «الذات» المصرية فالذي نبحث عنه هو: كيف يكون ترتيب الأولويات بين مختلف القيم أكثر مما يكون القيم نفسها. لماذا؟ لأننا إذا عولنا على «القيم» في ذاتها فالأغلب أن تجد التشابه شديدًا بين شعوب الأرض جميعًا، وبهذا تضيع منَّا المعالم المميزة لشخصية هذا الشعب أو ذاك، فكل شعوب الأرض تعتز بعقائدها الدينية، وكل شعوب الأرض تلتزم الانتماء إلى الأسرة وإلى الوطن، وفضلًا عن ذلك فإننا إذا أخذنا في اعتبارنا تاثير البيئة في أهلها وجدنا تشابهًا بين الشعوب التي تسكن بيئات متشابهة وبين الشعوب التي تؤدي عملًا متشابهًا كالمزارع أينما كان والصانع أينما كان.
لكن الموقف يتغير إذا جعلنا البحث عن شخصية شعب معين منصبًّا على الإطار، كما قلت، لا على ما يملأ الإطار من تفصيلات الحياة الفعلية، بمعنى أن ننظر كيف يرتب الشعب الذي جعلناه موضع البحث، كيف يرتب أولوياته.
وهنا تبرز الفروق بين الشعوب واضحة، كما تبرز التطورات التي تطرأ على شخصية الشعب الواحد في مراحل تاريخه، والمثل الذي نسوقه لذلك هو مثل مصر في التغيرات التي طرأت على ملامحها في مرحلتها التاريخية الحاضرة، وهي نفسها التغيرات التي نعنيها حين نقول عن مصر إن رؤيتها لذاتها قد اكتنفها ضباب ولهذا فهي في حالة البحث عن ذاتها، ومِن ثَم فقد كثرت بيننا الأحاديث والمناقشات والدراسات حول ما أسميناه بإعادة بناء الإنسان المصري.
فما الذي حدث للمصري بحيث دارت حوله الأحاديث بيننا وكثرت المناقشات والدراسات وقلنا عنه إنه قد انبهمت أمامه معالم الطريق؟ الإجابة عندي بناء على التحليل الذي قدمته هي أن تغيرًا حدث في ترتيب الأولويات بين مختلف القيم التي أقام عليها ولا يزال يقيم عليها المصري بنيان حياته، وأعني أن المصري لم يكفر اليوم بقيمة آمن بها بالأمس، بل القيم في نسيج حياته هي هي، وأما التغير الطارئ فهو في «الإطار» الذي رُتبت فيه تلك القيم، فبعض القيم التي كانت لها المكانة العليا هبطت درجتها في سلم التقويم وبعضها التي كانت لها مكانة أقل من أخواتها ارتفعت منزلتها وصعدت في سلم التقويم.
فمن أهم الخصائص المميزة للذات المصرية — ولقد سبقت لي الكتابة عنها في مناسبات كثيرة — عمق الشعور الديني، وكان أن تبعه عند المصري اتساع النطاق الذي يتعامل فيه مع «الغيب» إما بالإيمان الرشيد أحيانًا، وإما بتهاويم الخرافة أحيانًا أخرى؛ ثم يجيء بعد ذلك في خصائص المصري قوة انتمائه الأسري وهو انتماء لا يقف معه عند حدود «الأسرة النواة» كما يصفها كثيرون من كُتَّاب الغرب اليوم، بمعنى الوالدين والإخوة، بل يوسع المصري من حدود الأسرة التي يشتد به الانتماء إليها لتشمل كذلك أبناء العمومة والخئُولة ومن يتصل بهم، ثم يتميز المصري بحبه لأرضه ليس فقط من حيث هي أرض يزرعها، بل من حيث هي كذلك أرض يتصل بها ولادةً ونشأةً وذوي قربى. ولقد تفرع عند المصري من عمق إيمانه الديني وقوة انتمائه لأرضه وأهله حب يشبه الحب الصوفي للعمل الذي يؤديه، زراعة كانت أو صناعة أو غير الزراعة والصناعة. وأعني بالحب الصوفي هنا حبًّا للشيء في ذاته ولذاته لا للأجر الذي يترتب عليه، اللهم إلا إذا أُريد بالأجر أجر من الخالق جل وعلا يوم يكون الحساب؛ فلم يكن زارع الأرض في مصر يشقى وكل ما يملأ رأسه هو كسب الرزق آخر الأمر، بل كان يضاف إلى ذلك في نفسه شيء من «العشق» للأرض والفخر بها إذا كثرت خيراتها، ولا بد لنا ونحن نذكر خصائص المصري كما عُرف بها من النظر إلى علاقته بالحاكم كيف كانت، فسواء استطاع المصري أو لم يستطع منذ انتهى به عهد الفراعنة حتى هذا القرن العشرين أن يترجم الحاكم الأجنبي ليصنع منه ابنًا من أبناء مصر فهي حقيقة تاريخية تبقى قائمة، وهي أنه طوال تلك العصور تعاقبت على مصر حكومات لم يكن الحكام فيها من أصلاب مصرية خالصة، ولذلك كان من الطبيعي أن ينظر الشعب إلى حكَّامه أولئك مستخدمين العبارة الجميلة التي قالها في هذا الصدد سعد زغلول «نظرة الطير للصائد، لا نظرة الجند للقائد»، ومِن ثَم كان الشعور الغالب على المصري بإزاء حاكمه هو شعور الحذر المشوب بالخوف، ونتج عن ذلك الشعور انعدام المصارحة بين الطرفين، فكل طرف منهما يحاور الآخر ويداوره ويراوغه ويمالئه، وإذا لزم الأمر وجاءت الفرصة غدر به.
تلك هي بعض السمات البارزة في «الذات» المصرية كما عُرفت خلال تاريخها الذي تلا عهد الفراعنة، والذي حدث في عصرنا الحاضر وأسميناه انحرافًا عن الذات المصرية الأصيلة ليس هو أن زالت تلك الخصائص أو زال بعضها وبقي بعضها الآخر، بل هو أن تغير ترتيب الأولويات بينها، فقلت أهمية ما كان له أهمية كبرى، وزادت أهمية ما لم يكن له في ترتيب الأهمية إلا قدر قليل، وإذا نحن وُفِّقنا إلى تحليل صحيح لما قد حدث من ارتفاع وانخفاض في سلم القيم الذي عشنا على أساسه دهرًا طويلًا، كانت لنا بذلك صورة دقيقة للانحراف الذي وقع.
وفي هذا أقول على سبيل الاجتهاد الذي لا أضمن له الصواب: إن من القيم التي هبطت درجة أو درجات صفة حب المصري لأرضه، فقد زال جزء كبير من ذلك العشق الصوفي بين الزارع وأرضه، وهل كان يمكن فيما مضى أن يرضى صاحب أرض في مصر أن «تُجرَّف» أرضه لتتحول تربتها إلى طوب للبناء؟ لقد كانت تلك التربة في إحساس المصري كأنها قطعة من جسده الحي. وهل كان يمكن كذلك لزارع أن يهمل أرضه؟ تلك كانت تعد من الغرائب التي يتندر بها الرواة إن حدثت، لكنها لم تكن تحدث لأن ما بين المصري وأرضه كان كالذي بين العاشق الصوفي وما يتعلق به.
وضعف إيمان المصري بالعمل الذي يؤديه، فبعد أن كان الشعور السائد أثناء العمل هو إشباع العامل ﻟ «مزاجه الفني»، أصبح السائد شعورًا بالملل. كان العامل أثناء أدائه لما يؤديه يحس بكبرياء السيادة على المادة التي يخضعها لصنعته، فأصبح العامل أثناء أدائه للعمل الذي يؤديه يحس بذلة من أُكره على عمل يمقته. وأما صفة الانتماء الأسري فربما يكون ما أصابها هو شيء من ضيق مجالها حتى كادت أن تنحصر بصاحبها في حدود «الأسرة النواة». وفي مقابل القيم التي نزل قدرها على سلم الدرجات هنالك جوانب صعد قدرها واتسع مداها، منها ذلك الجانب الذي قلنا عنه إنه قد يتبع الشعور الديني وهو يتبعه بصورة سوية أحيانًا وبصورة فيها انحراف أحيانًا أخرى، وأعني به التعامل مع الغيب في شئون الحياة الجارية، وعندما يتخذ ذلك التعامل صورته المنحرفة يجيء مشوبًا بالخرافة، فتُعلَّل الأمور بغير أسبابها وتبث قوة فيما ليس بذي قوة، أو تنزع القوة مما هو قوي الفعل والأثر؛ ومثل هذه الوقفة الشعورية المنحرفة قد ارتفعت في حياتنا عدة درجات لتأخذ لها مكانًا في الصدارة.
كذلك طرأ تحول في صلة الشعب بالحكومة، فلم تعد العلاقة بينهما علاقة الحذر المشوب بالخوف، وهي العلاقة التي كانت فيما مضى تُنتِج في الناس رياءً ونفاقًا ومراوغة، فقد زال كثير جدًّا من دواعي الحذر الخائف لا ليزول تبعًا لذلك الرياء والنفاق والمراوغة تجاه الحكومة، بل بقيت هذه الصفات كلها مع تغير في هدفها؛ إذ أصبحت وسيلة ناجحة في كسب المنافع بعد أن كانت فيما مضى وسيلة لدرء الخطر.
وبهذه التغيرات في ترتيب القيم داخل إطارها طرأ على المصري ما طرأ من اختلاف. وهنا ينشأ سؤال جديد ذو أهمية بالغة ولم أسمع به مثارًا في حلقات البحث بين طائفة المثقفين، وهو: أيكون علاجنا للتغير الذي طرأ على «الذات» المصرية هو بالضرورة «إعادة» لتلك الذات إلى ما كانت عليه من قبل؟ بعبارة أخرى: أهو حتم محتوم أن يبقى الفرد الواحد أو الأمة الواحدة على «الذات» بعينها وبعناصرها ومقوماتها مهما اختلفت الظروف فذهبت عن الناس حال وجاءت إليهم حال جديدة؟ ألا يجوز أن نرى عند النظر الفاحص أن المصري إذ هو بحاجة يقينًا إلى أن تُبَّث فيه روح غير الروح التي تسوده الآن، والتي لخصها لي أحسن تلخيص الأستاذ الدكتور أنور عبد الملك ونحن نسمر بالحديث معًا ذات يوم، إذ قال: إن مجمل ما طرأ على المصري من تغير هو أنه بعد أن كانت تحركه عوامل من داخل بلده، أصبحت تحركه عوامل تمسك بخيوطها قوى من خارج بلده. أقول إن المصري اليوم إذ هو بحاجة إلى روح جديدة تُبَّث فيه، فلا أظنها ضرورة محتومة أن يجيء ذلك عن طريق العودة به إلى ما قد كان لأن بعض ما قد كان ربما لم يعد صالحًا للحياة الجديدة التي نبتغيها.