عصر الضمير الغائب
لست في الحق أدري، أكان هو «الوعي» الذي غاب عن الناس ثم عاد إليهم أو لم يعد، أم هو «الضمير» الذي طُمس ليختفي ولو إلى حين؟ أم أنهما — الوعي والضمير معًا — يطفوان على سطح حياتنا حينًا، أحدهما أو كلاهما، ثم يتواريان حينًا آخر، أحدهما أو كلاهما؟ هذه الاحتمالات كلها ممكنة الحدوث! أي إنها قد تكون صحيحة ومتحققة، وقد لا تكون، إلا احتمالًا واحدًا منها، وهو أن تكون ضمائر الناس في أرجاء العالم، ومصير جزء من العالم، مستيقظة لما يقولونه ويفعلونه؟ مما ترى جزءًا منه منشورًا في الصحف وغير الصحف، وأما التسعة والتسعون جزءًا الباقية من المائة، فيدخرونها ليجعلوها موضوعات لأسمارهم كلما اجتمعوا يسمرون.
وقبل أن أمضي في الحديث، قد يكون من المفيد لنا، أن نقف وقفة قصيرة شارحة، نبين بها ما نراه فرقًا بين «الوعي» من جهة و«الضمير» من جهة أخرى، فأما «الوعي» فهو إدراكنا لما حولنا، فوعيك قائم في يقظتك، غائب في نعاسك، أو ما يشبه تلك الحالة غيبوبة الإغماء أو التخدير، وإن الوعي ليغيب بدرجات تتفاوت عمقًا، لكنه لا ينعدم إلا مع الموت، وأما «الضمير» فشيء آخر، فليس كل ذي وعي ذا ضمير حي بالضرورة، واسمه وحده يدل على شيء من خصائصه، فهو دائمًا «مضمر» في صاحبه، كما تضمر تروس الساعة في غلافها، بحيث تحرك العقارب لنراها في مواضعها من وجه الساعة، أما هي فتظل في مخبئها، ولست في حاجة إلى القول بأنني قد أردت بهذا التشبيه أن أقول إن الضمير مؤلف من قطع معدنية — أو غير معدنية — ركب بعضها مع بعض، وحفظت في ركن معين معلوم من الجسم، كلا، بل الأمر في بساطة، هو أن أولئك الذين يتولون عملية التربية للإنسان، طفلًا وصبيًّا وشابًّا، إنما يبثون فيه يومًا بعد يوم أن الفعل الفلاني جائز وأما الفعل الفلاني فلا يجوز، وهكذا حتى ينشأ عند الفرد «ذوق» عام يستطيع به في كل موقف يعرض له، أن يحكم بما يجوز فعله وما لا يجوز، على أن هنالك مَن يرون بأن هذه القدرة عند الإنسان على التمييز بين الجانبين، هي جزء لا يتجزأ من فطرته، يولد بها، ثم تأخذ في الظهور كلما نما الإنسان واتسعت مداركه، وسواء أكانت المسألة مرهونة بتربية الفرد على أيدي من يتولون أمر تربيته، أم كانت فطرة مغروزة في جبلة الإنسان، فالنتيجة واحدة بالنسبة إلى ما يهمنا في هذا الحديث.
والذي يهمنا بالدرجة الأولى هنا هو أن الإنسان ينطوي في دخيلة نفسه على «دفة» كدفة السفينة توجهها، أو قل إنه ينطوي على «رقيب» يجيز لصاحبه شيئًا ولا يجيز له شيئًا آخر، لكنه رقيب — لسوء حظ الإنسان — يشبه مجلس الأمن في هيئة الأمم المتحدة، ليس لديه قوة التنفيذ، فهو قد يقرر بأن فعلًا معينًا من دولة معينة، غير مشروع لها، ولا هو مقبول من سائر الدول، فلا تأبه الدولة المعنية بالقرار، ويكتفي مجلس الأمن عندئذٍ بالأسف، وهكذا يكون الضمير مع صاحبه، فهو يقرر له متى يصح الفعل ومتى يبطل، فإما اهتدى صاحبه بهدي ضميره، وإما رفض أن يهتدي فيحيا وكأنه بلا ضمير، أو كأن ذلك الضمير قد غاب عن صاحبه إلى حين، لا يدري كم يقصر أو يطول.
وأتحدث هنا عن العالم في مجموعه، ومصر جزء منه، فأقول إنه يجتاز مرحلة لعلها حتمت بالضرورة أن يغيب عنه ضميره، أو أن هذا الضمير هناك، يأمر بالقبول وبالرفض، لكن أوامره تذهب مع الريح إلى حيث لا يدري، وأرى أن بلادنا قد شاركت سائر الدنيا في كثير من غيبة الضمير، أو من وجوده وجودًا أشل، حتى ليخيل إليَّ أننا إذا أردنا أن نصف عصرنا هذا بصفاته المميزة، لوجدنا قائمة طويلة من تلك الصفات، فهو عصر العلم الذي تصحبه تقنيات، وهو عصر الفضاء وغزوه، وهو عصر الحرية لشعوب كثيرة كانت مقيدة بقيد المستعمرين، وهو عصر كذا وعصر كيت، ثم هو عصر الضمير الغائب، ومِن ثَم فقد انطلقت الشياطين من قماقمها، ففي كل يوم ألف من حوادث العنف، الذي يخطف الطائرات براكبيها، ويمسك بالرهائن الأبرياء، ويلقي في الطريق بقنابل لا يعرف مَن الذين سيلقون بها حتفهم، إلى آخر ما أعرفه وما لست أعرفه من أعمال العنف، إن كانت لها آخر، ولا عجب أن يكون هذا العصر كذلك عصرًا للخوف والقلق، والاغتراب وما يدور هذا المدار.
ولكن هذا العصر بكل ما فيه هو عصرنا الذي نعيش فيه، قد تعرض لما تعرض له بسبب كونه عصرًا انتقاليًّا بين حضارتين، إحداهما سادت إلى أوائل هذا القرن العشرين، والأخرى قد يرجى لها أن تسود في القرن الحادي والعشرين، وعصور الانتقال الحضاري تشبه إلى حد ما فترة المراهقة في حياة الفرد الواحد، إذ هي فترة تنقل صاحبها من الصبا إلى الشباب، فلا هو صبيٌّ مع الصبيان يلهو كما يلهون، ولا هو شاب نضج واكتمل، يعمل في ميادين الإنتاج كما يعمل الشباب، ومن هذه الطبيعة الانتقالية لتلك المرحلة، يتعذر جدًّا أن يحدد المراهق معالم ذاته، بل ويتعذر ذلك التحديد على من يتولونه بالرعاية، وذلك لأنه — بالفعل — يجتاز مرحلة يبحث فيها عن ذاته، أي إنه يبحث فيها عن خصائص — يختص بها — تتفق مع قدراته وميوله من جهة ويتميز بها عن سائر الناس من جهة أخرى، ومثل تلك المرحلة الرجراجة المتميعة التي لم يتبلور لها شكل بعد، ولا ظهر لها لون، نرى المرحلة الراهنة التي تجتازها شعوب الأرض جميعًا، في انتقالها من حضارة كانت، إلى حضارة أخرى بدأت بشائرها ولم تكتمل بعد ظهورًا.
لكن ما لنا الآن وسائر الدنيا وشعوبها، إن الذي يهمنا هو مصر في المقام الأول، فمصر هي أنت وأنا، وولدك وولدي، إنها طعامنا وشرابنا ومأوانا، إنها ماضينا وحاضرنا ومستقبل حياتنا، إنها ليست معنًى من تلك المعاني النظرية المجردة التي تتبادلها أذهان مع أذهان، كلما أراد المفكرون لأنفسهم شيئًا من رياضة العقل، لا بل هي — مصر — رئاتنا وأنفاسها، قلوبنا ونبضاتها، تقلنا فوق أرضها، وتظللنا بسمائها، فهذه الأرواح من جوها، وهذه الأجساد من تربها، (كما قال أبو العلاء المعري) فلئن كانت مصر تشارك أرجاء العالم غيبة ضميره، في هذه المرحلة الانتقالية من تاريخه، فليس حديثنا عن الأرجاء الأخرى في ذلك شبيهًا بحديثنا عن مصر فيه؛ لأن حديثنا عن تلك الأرجاء البعيدة عنا، هو كحديثنا عن القنابل الذرية التي أُسقطت في ختام الحرب العالمية الثانية، على هيروشيما وناغازاكي، نرويه خبرًا من الأخبار، وأما حدثينا عن مصر فمتصل شريانه ووريده بنبض القلب وتنفس الرئتين … والضمير في مصر اليوم غائب غيابه في سائر أنحاء الدنيا.
وانعكس غياب الضمير عندنا في ظواهر كثيرة، منها أنه لم تعد في حياتنا قواعد ضابطة، كبر الأمر أو صغر، فمثلًا، بكم يكون الانتقال في إحدى سيارات الأجرة من الجيزة إلى الزمالك؟ ثلاثة جنيهات في تقدير السيارة الأولى — من سيارتين متجاورتين — وبجنيه واحد في تقدير السيارة الثانية، وبات محرمًا على طالب الانتقال أن يسأل: أليس في كل سيارة عداد يضع القاعدة، ويضبط التعامل بين الناس؟ لا، لا، هذه العدادات وأمثالها من ضوابط القانون قد أصبحت خرافة من خرافات الأولين … وكم يكون راتب الجامعي إذا عمل في إحدى الشركات، إنه ثلاثون أو أربعون جنيهًا عند إحداها، وثلاثمائة أو أربعمائة (وقد تبلغ ألفًا) عند الأخرى، فإذا سألت عن القاعدة الضابطة لهذه الرواتب هنا وهناك؟ أهي الخبرة. وليس عند أحد من متخرجي العام الجامعي الواحد، خبرة يزيد بها على أخيه، أهي درجة النجاح؟ لا أبدًا، فالممتاز منهم قد يكون نصيبه العشرات، ومن دونه قد يكون نصيبه المئات؟ إذن فما هو الضابط؟ كلا، محرم عليك هذا السؤال؛ لأن الحقيقة المقررة الآن هي ألَّا قواعد ولا ضوابط، والمسألة كلها «شطارة» في شطارة! ولن أترك هذا الموضع من حديثي قبل أن أزيدك علمًا بهذه «الشطارة» ما أصلها وما فعلها؟ إذ قد لا تعلم أن أصل اللفظة هو أولئك الذين كانوا في الماضي يشطرون جيوب الضحايا لسرقة ما فيها؟ فالشاطر هو لص في أكثر الحالات.
وكم تتقاضى «أمينة المنزل»؟ (وهذه التسمية عندي أفضل من قولنا خادمة وشغالة) إن أحدًا لا يدري أي رقم تنفرج به شفتاها عند النطق بالجواب، فالأمر في ذلك مرهون بالمصادفات، إنه خمسون جنيهًا مرة، ومائة جنيه مرة أخرى، وأكثر من ذلك أو أقل من ذلك مرة ثالثة، فلم يعد هناك «هامش» تنحصر فيه احتمالات التقدير، بحيث يكون فيه حد أعلى وحد أدنى، وكم سوف يتقاضاني — يا ترى — نجار دعوته لإصلاح باب انكسر مفصله؟ اللهم إنه لا يعلم ذلك إلا أنت يا علَّام الغيوب، أما نحن البشر فلا بد لنا من انتظار ما ينطق به النجار عند «النطق بالحكم»، فقد يكون خمسة جنيهات، وقد يكون عشرين، وكم يكون هذا، وكم يكون ذلك؟ إننا لا ندري شيئًا — نحن البشر — قبل النطق بالأحكام؛ لأنه لا قواعد، وقد اختفت القواعد حين غابت الضمائر عن أصحابها، فباتت حياتنا سفينة بلا سُكَّان (وسُكَّان السفينة في اللغة هو دفتها) ومع غياب الضمائر وانقلاب السفينة، غاب الذوق، وغابت الرحمة، وتعرضت إنسانية الإنسان نفسها للضياع.
ولولا غياب الذوق لما وقع ما حكاه لي صديق بيني وبينه أوثق الروابط، إذ حكى أن إحدى جامعاتنا خارج القاهرة، اتصلت به ملحة عليه أن يستجيب لرغبة الطلاب في الاستماع إليه محاضرًا، وقد كان إلحاحها بالخطابات مرة، وبالهواتف مرة أخرى نتيجة لاعتذاره المتكرر، وما كان اعتذاره إلا لضعفه في شيخوخته، ولكثرة معوقاته، لكنه لبى الدعوة آخر الأمر، وسافر إلى هناك بسيارته وتم اللقاء بينه وبين الطلاب في محاضرة عامة وفي مناقشات سبقتها ولحقتها، وبالطبع لم يكن له بد من قضاء ليلته في الفندق الذي دعي للمبيت فيه، فلما أصبح عليه الصباح، وأراد العودة، أبلغه مضيف الفندق بأن خطاب الجامعة إليه، يحتم عليه ألا يقدم إلى الأستاذ الزائر إلا طعام الإفطار فقط، وأظنه وضع تحت كلمة فقط خطين غليظين لئلا تفلت من عين القارئ، وأما أن الأستاذ سافر على حسابه الخاص، وأما أنه بحكم الضرورة كان لا بد له من غداء وعشاء، فذلك ما لم ترد الجامعة الداعية أن يؤخذ في حسابها، ذلك ما حكاه لي الصديق، فلم يسعني ساعتها، إلا أن أصيح في وجه الهواء: يا ناس يا هوه اسألوا في أقطار الدنيا جميعًا، هل رأت أستاذًا جامعيًّا، هرم وشاخ في أستاذيته ولبى الدعوة بعد إلحاح ضاغط يعامل من إحدى الجامعات بمثل هذه المهانة والإهانة؟ فماذا نقول إلا أن الضمائر قد غابت عن أصحابها؟
ذلك عن الذوق الذي جف عوده وذوى، وأما غياب الرحمة فلا أطلب منك إلا أن تقرأ صحيفة يومية واحدة، في يوم واحد، فأنت لا بد واقع فيها على عدة حوادث تكشف عن قسوة القلوب كم بلغت بالناس، وعلى غلظ الأكباد وما قد وصل إليه التعامل بعضنا مع بعض، وقد كنا قبل الآن نتوهم أن تلك الفظاظة يعرفها ناس في غير بلادنا، وأما في مصر فأبناؤها يحنو بعضهم على بعض حنان الأشقاء في أسرة واحدة، ونعم، وألف نعم لقد كانت تلك هي مصر التي كانت ولم يبقَ إلا دعاء ضارع إلى المولى عز وجل أن يعود بمصر إلى ذاتها، وإلا فهل عرفت مصر قبل الآن فتاة تذبح خمسة أطفال، لتأخذ ما فوق أجسادهم من ذهب وفضة؟
لقد أصدرنا من القوانين أشدها صرامة، ومن «اللوائح» أدقها تفصيلًا، وأعددنا لجوامح الخيل اللجم والشكائم لكننا أرخينا قبضاتنا أربعة عشر عامًا فأصبحت تلك القوانين واللوائح، وتلك اللجم والشكائم جميعًا كالليث الهرم قابعًا في عرينه لا يخرج لصيده، أو قل إننا كالآباء الحمقى الذين يخزنون عصا التأديب الرادعة أو هم لا يزيدون على التلويح بها أمام صغارهم يتوعدونهم العقاب ثم لا يعاقبون فيجيء على العصا يوم محتوم، تصبح فيه مثارًا للسخرية أكثر منها أداة للوعيد، وهكذا القانون قد بات مجمدًا كأن لم يكن ولما كانت الحرية تابعة للعدالة، فإذا كانت عدالة، كانت الحرية مرغمة على الظهور.
وما دامت العدالة بيننا قد ذهبت مع اختفاء القانون.
رأيت الطفل الرضيع يصفع حاضنته.
«رأيت الحياة الكريمة قد تفككت منها الأواصر.»
لا يا صاحبي، نشدتك الله ألا تهيل على الدولة تبعات فوق تبعاتها.
فإذا كان ما نطلبه من الدولة قوانين رادعة تزجر أصحاب الضمير الميت، فالقوانين هناك، ولكنها — كما قال شكسبير على لسان «الأمير» في مسرحية «دقة بدقة» — كالليث الهرم، رابضًا في عرينه، لا يبرحه في سبيل صيده، ومع ذلك فالقانون لا يغني عن الضمير؛ فالإنسان بالقانون «يخشى» ولكنه بالضمير «يختشي»؛ القانون صوت زاجر يأتي إلى الإنسان من خارجه وأما الضمير فصوت زاجر من الداخل، القانون يفرض نفسه على الإنسان فرضًا، بقوة الشرطة والتهديد بالسجن أو التغريم؛ فأما الضمير فينبع تشريعه من نبع باطني في الإنسان نفسه، وعقابه عذاب التأنيب، وثوابه الطمأنينة بالرضا، الإنسان أمام ضواغط القانون هو كالجماد أو الحيوان أمام ضواغط السنن التي خلقت عليها، وأما أمام الضمير وأوامره فالإنسان ينفرد في الكون سيدًا يرتفع إلى رتبة الملائكة، ومع ذلك كله، فما أكثر ما يجد الإنسان في قوانين الدولة ثغرات للمراوغة والهرب، وأما الضمير إذا رصد صاحبه، فأين منه الفرار والنجاة؟ ونشدتك الله يا صاحبي مرة ثالثة، لا تلقِ بهمومنا على «الظروف»! إن حفر الطريق، وما ألقي على قارعته من أكوام الحديد والرمل والزلط، ليست مبررًا للكفر بالوطن، لأن الوطن — وأقولها وأعيدها — هو أنت وأنا وهم وهنَّ، الوطن هو نحن، وهل يكفر الإنسان بنفسه ثم يحق له أن يعيش؟ لا، يا صاحبي، إننا نعيب زماننا والعيب فينا، كما قال أبو العلاء، وليس الخطأ، أي عزيزي بروتس كائنًا في طوالع نجومنا، بل الخطأ كامن في جوانحنا. كما قال شكسبير أيضًا في مسرحية «يوليوس قيصر».
عد ببصرك إلى السطرين الأخيرين من المقطوعة التي نقلتها إليك من «دقة بدقة»، تجد شكسبير يفتح أعيننا على حقيقة هامة، وهي أن «العدالة» أصل، و«الحرية» فرع من فروعها، فإذا قامت قائمة العدالة — كما قال — شدت وراءها الحرية شدًّا رغم أنفها، وذلك صحيح وواضح لو تأملت قليلًا؛ لأن العدالة أيًّا ما كان معناها (ويمكن فهمها بمعانٍ كثيرة) تتضمن وجود «الآخر»، وإلا فبين مَن تقيم التعادلَ الذي يوازن بين شتى الأطراف؟ إن «العدل» هو اسم من أسماء الله الحسنى، وهو الذي يتضمن معنى التوازن بين قوى الكون التي كانت لتصطرع ويهدم بعضها بعضًا لولا أن «العدل» سبحانه وتعالى يقيم لها موازينها، وما دامت العدالة تتضمن وجود «الآخر» فإن الحرية بعد ذلك إذا ما ظفر بها الإنسان، كانت حرية مقيدة بوجود الآخرين، ولقد قلت في مناسبة أخرى، إن العلة التي ينتهي إليها التحليل آخر المطاف، والتي تفسر ما أصابنا، وأصاب العالم كله بدرجات، هو أن كلًّا منا يتصرف وكأنه وحده في هذا البلد الكريم، وكأنه ليس إلى جانبه «آخرون»، واللحظة التي يتبين وجود الآخرين معه، هي نفسها اللحظة التي تقام فيها دعائم العدالة، ثم هي اللحظة كذلك التي يستقيم له فيها ضمير، ويصدق هذا القول على مستوى الأفراد داخل الوطن الواحد، وعلى الدول داخل العالم الواحد، على حدٍّ سواء.
إن تسلسل الحلقات يجري هكذا: عدل، فقانون وشرع، فضمير ينعكس على مرآته القانون والشرع، وبهذا الاتساق يسير الإنسان — أنَّى سار — وفي صدره محكمة، إنه يسير وفي صدره الرقيب والقاضي، وأما إذا تحطمت في أنفسنا تلك المرآة التي تعكس لنا على سطحها القوانين والشرائع، غامت الرؤية أمام أبصارنا، واختلط علينا الأمر بين حق وباطل، فإذا ما اهتدينا إلى الحق فبالمصادفة نهتدي، وإذا أضلنا الباطل فبالمصادفة نضل، لا، بل إنه إذا تحطمت في أنفسنا مرآة الضمير، تحطمت معها الوحدة التي تجعل كلًّا منا فردًا متماسك الشخصية، تماسكًا يجعل سلوكه مطردًا على نسق واحد، ويجعل من يعاملونه على بينة من حقيقة أمره، فيصبح كل شيء ممكنًا، فلا يدري أحد بماذا يفاجئه هذا الشخص أو ذاك، وهذا الشيء أو ذاك، ولا غرابة إن لعبت هذه الفوضى بخيال السابقين، فتصوروا للجن خاتمًا، إذا وجدناه وحككناه على نحو أو على آخر، قدمت لنا الدنيا كل ما نريده، وتختفي كل الفوارق بين الجائز والمستحيل.
وإنه ليبدو لي أن اللحظة التي ولد فيها «الضمير» لآدم — عليه السلام — ولبنيه من بعده — هي اللحظة التي عصى فيها ربه هو وزوجه، فأكلا من الشجرة المحرمة، استجابةً لوسواس الشيطان هاتفًا: … يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى؟ فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى.
وطرد مع الإنسان ضميره يفرق له بين الحق والباطل، مستلهمًا في ذلك الشرع والقانون اللهم إلا إذا تنكبت به الطريق فطغى عليه عصر غام فيه الأمر على ذلك الضمير فغاب.