أعجاز نخلٍ خاوية
قلتها يومًا، وأقولها اليوم مرة أخرى، وهي أن مصر في مرحلتها التاريخية الراهنة، ليست هي مصر التي عرفها التاريخ في معظم مراحله؛ كلا، ولا هي مصر التي سوف تكون — بإذن الله — بعد حين لن يطول؛ إذ هي في عصر يتوسط بها بين مصرين: مصر التي عهدناها، ومصر التي سوف نحياها، وحديثي هنا ثقافي حضاري قبل أي شيء آخر، فقد كانت مصر — من هذه الناحية — مثلًا رائعًا للبلد الذي يعرف كيف يحافظ على الأصول ويغير في الفروع، فقد لبثت مصر هي مصر دائمًا، دون أن يحول ذلك بينها وبين أن تنضو عن نفسها حضارة ذهب زمانها، لترتدي ثوب حضارة جديدة، ومع الحضارة تأتي ثقافة، أو مع الثقافة تأتي حضارة — إذا شئت — فالعلاقة بينهما هي علاقة الجسد والروح التي تحل فيه: الحضارة مجسدات والثقافة قيم وأذواق تسري في عروقها.
فما فرغت مصر من عصرها الأول، الذي كانت فيه مبدعة الحضارة لنفسها ولغيرها، حتى أخذت حضارات أخرى تتوالى عليها، فلا تكاد تتلقى حضارة منها حتى تمسك بزمامها وتنزل منها منزل الصدارة، وهذا هو جانب من معنى عبارة نرددها بحق وصدق، إذ نقول عن مصر إنها «مقبرة الغزاة»، فهؤلاء الغزاة ومعهم غزواتهم، يفنون في أرضها، لتحيا هي، وسر ذلك هو أن الغزوات غالبًا ما كانت حاملات لحضارات استُحدثت، فتصادف في المصري إنسانًا واثقًا بنفسه وبتاريخه، فيأخذ ما يتلقاه، ويتمثله، وسرعان ما يبرع فيه حتى ليحتل منه مكان الريادة، كالذي حدث في حالات اليونانية والرومانية والمسيحية والإسلامية، وكالذي أوشك أن يحدث شيء منه أمام الحضارة الحديثة وثقافتها، لولا نكسة انتكسناها، فولينا وجوهنا — من الذعر — نحو ظهورنا، وكأننا هممنا أن نجعل سيرنا إلى الوراء.
والسؤال مطروح أمامنا جميعًا، نسأل به: ماذا أصابنا؟ وهل يمكن أن نعود بالمصري إلى حيث كان؟ إنه سؤال طرحته هيئات علمية، وطرحه أفراد، وحاول الجميع — مخلصين — أن يجدوا الجواب، وكان السؤال يوضع — عادةً — في هذه العبارة: كيف نحقق إعادة بناء الإنسان المصري؟ وهي عبارة تتضمن أن خللًا ما قد أصاب بناء المصري في شخصيته، فما هو؟ وكيف نعالجه ليعود المصري سيرته الأولى؟ وكنت بين من حاولوا الإجابة أكثر من مرة، في أكثر من مناسبة وكانت الإجابة في كل مرة تدور حول محور أساسي، هو أن مصر تجتاز اليوم مرحلة، هي نفسها المرحلة التي يجتازها العالم كله، فتتعرض خلالها لما يتعرض له العالم كله، من جهة، ثم تنفرد وحدها بظروف خاصة بها، من جهة أخرى، فأما الجانب الذي تشارك فيه سائر أقطار الأرض، متقدمها ومتخلفها على السواء، فهو ذلك القلق الذي يسببه السير في طريق مجهول، فعصرنا هذا — منذ ختام الحرب العالمية الثانية بصفة خاصة — هو عصر انتقال بين حضارتين، عرفنا إحداهما؛ لأنها هي التي سادت الدنيا خلال القرن الماضي وأوائل هذا القرن، وأما الحضارة الأخرى التي ننتقل إليها فلا نعرف عنها إلا بشائر ومقدمات، لكن تفصيلاتها لم تزل مجهولة، انتقلنا من حضارة انعقدت فيها السيادة بلا منازع، للرجل الأبيض الأوروبي والأمريكي، إلى حضارة بدأت كتابها بصفحة جديدة من حيث تلك السيادة اللونية، ولم يعد أحد يجادل الآن في إزالة الفوارق بين الألوان، اللهم إلا أن تكون تلك الفوارق مكتومة في الصدور، ونتج عن هذه الثورة اللونية ثورة أخرى حققت الحرية للشعوب الملونة وغير الملونة، التي كانت مغلوبة على أمرها، وأصبح الجميع سواسية في عضوية الأمم المتحدة، اللهم إلا بقية هامة ما زالت باقية في امتياز للدول الكبرى في مجلس الأمن، وانتقلنا من حضارة تصنع الآلة ليستخدمها الإنسان في النقل وفي الانتقال، وفي الصناعة والزراعة والحرب … إلخ، إلى حضارة أخرى تصنع آلات أمهات تلدن آلات، وكان بين «الفراخ» المتولدة ما حقق المذهلات، وماذا تقول في أجهزة تقوم بمعظم ما كان يتميز به العقل البشري دون سائر كائنات الأرض والسماء؟ ثم ماذا تقول في أجهزة تغزو أجواز الفلك؟ لقد كان بعض المشتغلين بالفكر الفلسفي (في بريطانيا على وجه الخصوص) إلى عهد قريب جدًّا، إذا ما تناولوا موضوع «الممكن» و«المستحيل» ليروا خصائص كل من الحالتين، يضربون أمثلة لما هو مستحيل، كان منها رؤية الإنسان للوجه الآخر من القمر، إذ من المعلوم أن القمر يواجه الأرض بأحد نصفيه دون نصفه الآخر الذي يظل دائمًا مختفيًا عن الأرض وسكانها، ولم يكن يخطر لأحد منهم أن الإنسان على وشك أن يدور بمركبته حول القمر نفسه — فضلًا عن نزوله ليطأه بقدميه — فيرى بعينيه ذلك النصف الذي كان خافيًا عن أبصارنا منذ كان في العالمين قمر وأبصار.
نعم، إننا ننتقل إلى حضارة جديدة، قائمة على أسس جديدة، لم نعلم من حقيقتها وطبيعتها إلا البشائر والطلائع، ومن أراد صورة مفصلة بعض الشيء عن تلك البشائر والطلائع، فليقرأ كتابًا ممتازًا في ذلك أصدره الأستاذ الدكتور حازم الببلاوي بعنوان «على أبواب عصر جديد»، وفي اجتيازنا لهذه المرحلة الانتقالية بين الحضارتين، لا مندوحة لنا — في مصر وغير مصر من سائر أقطار الأرض — عن التخبط في الطريق؛ إذ انبهمت أمامنا الفواصل بين الصواب والخطأ في كل الميادين، وإلا فمن منا يستطيع القول وهو موقن بما يقوله: ما هو أفضل نظام للحكم؟ ما هو أفضل نظام في دنيا الاقتصاد؟ ما هو أفضل نظام للتعليم؟ وهكذا يمكنك المضي بأسئلة كهذه عن كل وجه من وجوه الحياة الإنسانية، فإذا بك أمام عشرات الإجابات المتضاربة، والسبب واضح، وهو أن الإنسان لم يعرف بعد طبيعة العصر الذي نحن في حالة انتقال إليه، فكأننا نعيش على تجارب نجريها كل يوم تفشل تجربة فنجرب أخرى.
في هذا الضباب الحضاري — ويلحق به ضباب ثقافي — تشارك مصر بقية العالم، لكنها تعود فتنفرد وحدها بظروف جديدة خاصة بها، لا أقول إنها ظروف تضيف إلى الضباب ضبابًا أكثف، بل هي ظروف فعلت بنا أكثر من ذلك؛ لأنها مالت بنا نحو أن نترك المسيرة الحضارية بضبابها وصفائها، لننكص على أعقابنا قافلين إلى مولد التاريخ.
ثم لم تكفنا تلك الردة الحضارية العامة، فزدناها تخليطًا وعسرًا، بأن أقمنا أمام الأبصار نموذجًا جديدًا للإنسان الناجح في حياته (والنجاح في قاموسنا القومي معناه منصب كبير أو مال كثير) ويتلخص ذلك النموذج الجديد في برنامج سهل على من اتسعت حيلته، وهو برنامج شعاره: أكبر ناتج ممكن، بأقل جهد ممكن، فلم يعد النجاح مكفولًا لمن يحملون الأثقال، ويحطمون الصخر، ويلهثون وتتفصد أجسادهم عرقًا، لا، فتلك صور من الماضي، حين كان الخبراء الحكماء يضحكون على الأبناء بقولهم: من طلب العلا سهر الليالي، أو ربما بقيت تلك الحكمة الخالدة، مع تغيير في مضمون كلمة واحدة من كلماتها، هي كلمة «سهر» وكان الذي أوحى بالشعار الجديد، أمثلة لا تعد ولا تحصى، لأفراد بلغوا ذروة الجاه، إذا قيس الجاه بالمناصب ونفوذها، أو بلغوا ذروة من الثراء لم يكن أحد يسمع قبل اليوم بمثلها، فثراء المصري حتى الأمس القريب، كان يقاس بعشرات الألوف أو بمئاتها، أما لغة الملايين فلم تكن معروفة في اللغة العربية بأسرها، فالألف هو أقصى ما استعدت له لغتنا باسم خاص، لا بل إن «الملايين» الدخيلة على حياتنا، قد كثرت حتى أهينت، فاختير لها اسم الأرانب.
وإذا لم يكن العمل المنتج هو الذي يصل بصاحبه إلى «النجاح» بالمعنى الذي نعرفه له، وهو مناصب النفوذ والثراء، فما هي الوسيلة في ظل الشعار الجديد؟ إنها وسيلة غاية في البساطة، تتلخص في: الكلمة المناسبة، تقولها في اللحظة المناسبة، للشخص المناسب، فإذا وفقت في ذلك، وجدت نفسك بين غمضة عين وانتباهتها، صاحب النفوذ الذي يهيمن ويسيطر ويكسب المال، وما دام هذا هو النموذج القائم أمام الأبصار، فلا بديل أمام الشباب الساعي إلى حياة ناجحة (بمعنى النجاح في قاموسنا القومي) سوى أن يتجه بمعظم جهده لا نحو مزيد من كد وكدح وعناء في دنيا العمل، بل إلى البحث عن تلك «المناسبات الثلاث» التي هي: الكلمة المناسبة، في اللحظة المناسبة، للشخص المناسب، وهو طريق يؤدي بنا حتمًا إلى اختلال العدالة من جهة، وإلى ضعف الإنتاج (المادي والعلمي) من جهة أخرى، أما اختلال العدل، فلأن من لا يستحق ستكون له السيادة على من يستحق، وأما ضعف الإنتاج بكل أنواعه، فلأن الزمام حين تمسك به أيدٍ غير قادرة، ضلت سواء السبيل، وأضلت، ثم هي فوق ذلك تُحدث في نفوس العاملين مرارة ويأسًا واستهتارًا وتراخيًا.
كان ذلك أو ما يشبهه هو ما كنت أقدمه جوابًا على السؤال المطروح، الذي نسأل به: ماذا أصابنا؟ وهل يمكن أن نعود بالمصري إلى حيث كان. لكنني — في الحق — حين كنت أقول شيئًا كهذا، لم أكن أخلو من قلق باطني؛ لأنني لم أكن أجده قولًا يشمل فئات الشعب جميعًا، فهنالك ملايين ممن لا يزالون يعملون «مصريين» كما كانوا، أو «مصريات» كما كنَّ، فانظر إلى المرأة المصرية، زوجة وأمًّا، سواء أكانت في الريف أم كانت في المدينة، وقل لي كم منهن قد انحرفن عن الجادة بمغريات المناصب والثراء. إن الأم المصرية في رعاية أبنائها لا تعرف إلا شيئًا واحدًا، هو التضحية بكل ما يتعلق بشخصها في سبيل أطفالها، وإذا قصرت في التماس الطرق الصحيحة لقصور في تعليمها ودرجة وعيها، فليس الذنب ذنبها، ولا هو وليد الظروف الجديدة بشعارها الجديد، ونسبة ضخمة من الرجال العاملين، لا يزالون على إخلاصهم المعهود، وإذن فلعلها فئة لا تبلغ ربع السكان، هي التي أصابها السوء، ومع ذلك فهي حقيقة لا ريب فيها، سواء أكان السوء مقتصرًا على الربع أو ينقص عن ذلك أو يزيد، وتلك الحقيقة هي أننا نشعر جميعًا بأن مناخًا جديدًا يسودنا في حياتنا، هو ذلك الذي أشرنا إليه، فما يزال السؤال قائمًا: لماذا؟ وكيف؟
وخطرت لي خاطرة، مرت كلمعة البرق حتى كادت تفلت وتختفي مع أنها خاطرة تحمل إليَّ فكرة جديدة، تزيل عني كثيرًا من القلق الذي كان ينتابني كلما أجبت بإجابتي تلك عن السؤال المطروح، لشعوري الغامض بأنها إجابة ناقصة، وخلاصة الفكرة الجديدة، هي أن المصري في هذه المرحلة الزمنية من حياته قد أصابه انقسام فصل جانب «الفرد» من كيانه عن جانب «المواطن»، وكان الناتج هو أنه ظل كما كان دائمًا «فردًا» يتميز بما يتميز به من حسنات، لكنه أصيب في جانب «المواطن» من شخصيته، فلم يعد ذلك المواطن الصالح الذي كان، ومعنى هذا التحليل هو أن موضع الشكوى لا يشمل «المصري» بكل وجوده، بل يشمل المصري بجزء من ذلك الوجود، وهو الجزء الذي «يواطن» به الآخرين من أبناء الوطن الواحد.
انظر إلى المصريين «أفرادًا» في حياتهم الخاصة، بين ذويهم ومع أصدقائهم، تجدهم كما تريد لهم أن يكونوا، وكعهدك بهم، أوفياء متعاونين يخلصون الود ويصدقون النصيحة، ثم انظر إلى كثرة منهم في ميادين العمل والتعامل، تجدهم قد تهاونوا فيما عرفوا به من صفات من تواد وتراحم وتعاون وإخلاص؛ العامل يريد الأجر الفادح بلا عمل، والزميل يراوغ ويخادع، لا يزال المصريون على امتلائهم بالقيم المصرية الأصيلة وهم فرادى، أعني وهم في دنياهم الخاصة، لكنهم في «المواطنة» قد أصبحوا وكأنهم أعجاز نخل خاوية، أو قل في اختصار: إن المصري في حياته الراهنة «صادق» وهو فرد، «كاذب» وهو مواطن.
فإذا أجريت الحديث بلغة النقد الفني، قلت إن قصيدة الشعر التي كانت محكمة البناء مبنًى ومعنًى ووزنًا وقافيةً (والقصيدة هنا رمز للمجتمع المصري) قد انهار بناؤها، وفصلت الشكل عن مضمونه، حتى أصبحت مجموعة مفردات وجمل لا نجد الوحدة العضوية التي تربطها معًا في وجود مشترك. هنا همست لنفسي: إننا لو عرفنا متى يكون الشاعر «صادقًا» عرفنا بالتالي متى يصدق المصري، لا في حياته الخاصة فحسب، بل كذلك في حياته التي يجتمع بها مع سائر الأفراد، وأحسب أننا لا نبعد عن الصواب إذا قلنا إن الغاية التي يتعلق بها الشعر ويتعلق بها الأدب بصفة عامة هي «الإنسان»، فالشاعر في حقيقته كشاف لطبيعة الإنسان التي قد تخفى عن العين العابرة، وحتى حين يتعلق الشاعر بالطبيعة الجامدة، كالجبل، والنهر، وأنجم السماء، فهو لا يتركها جمادًا كما هي بل يبث فيها حياة مثل حياته، ليبادلها الحديث، وليضفي عليها مشاعره وكأنها من الأناسي، حتى إذا ما تكاملت للشاعر العلاقة العاطفية التي تربطه بما حوله، كان مطالبًا بالصدق في التعبير، وليس الصدق المقصود هنا هو الصدق العلمي الذي يحلل الشيء الواقعي إلى مقوماته وتفاعلاته الحقيقية كما تقع في دنيا الأشياء، بل المطلوب هو صدق التعبير عما يجده في نفسه فعلًا إزاء ما يجعله محورًا لشعره.
فهنالك ثلاثة مواقف مختلفة نحو أي شيء نريد التحدث عنه، وليكن هو «النيل» مثلًا، الموقف الأول هو موقف الجغرافي الذي يصف المجرى والمنبع والمصب وكمية الماء والبلدان التي يمر عليها … إلخ … إلخ، وهذا هو موقف «العلم»، والموقف الثاني هو موقف الشاعر الرديء الذي تراه ينعت النهر بأي صفة يراها هو جذابة، إلا أن يقول عنه إنه نهر وفيه ماء، فقد يقول عنه إنه عسل أو لبن، يجري على أرض من زمرد وعقيق، فكل ما هو في الأسواق أغلى ثمنًا من الطين والماء، يكون عند الشاعر الضعيف الكاذب، أجدر بأن يصف به نهر النيل، من أن يصفه بما هو على حقيقته من حيث هو ماء يجري على أرض من صخر وتراب. وأما الموقف الثالث فهو موقف الشاعر الجيد الصادق، فالنيل أمامه مجرى ماء ينساب على الأرض، لكنه — كأي شاعر حق — لا يدعه جمادًا مواتًا، بل يؤنسنه، أعني أنه ينفخ فيه من خياله حياة الإنسان، ليحبه أو ليكرهه، ليزامله أو لينفر منه، أي إنه يصل نفسه به بروابط مشاعره الحقيقية نحوه.
ولسنا نقول عن الشعر الجيد الصادق، ولا عن أي فن من الفنون على إطلاقها، شيئًا كثيرًا، إذ نحن لم نذكر شرطًا أساسيًّا جوهريًّا لا يكون الفن فنًّا بغيره، ولا الأدب أدبًا بغيره، ألا وهو «الصورة» أو «الشكل» أو «الإطار» أو «القالب» الذي يقيمه الفنان أو الأديب ليضع بين جدرانه وحول دعائمه ما يريد أن يقوله.
وعلى ضوء هذا الذي ذكرناه عن قصيدة الشعر الجيدة الصادقة، نقول كذلك عن المجتمع السوي القوي النابض بالحياة، كما نتمنى لمصر اليوم أن تكون، وكما كانت في عصور عزها ومجدها، فأولًا نريد لمجموعة المواطنين أن يكون بينهم من الروابط والصلات، ما يجعل منهم جميعًا وحدة حيوية واحدة، وكأنهم أجزاء من شجرة واحدة، تختلف أجزاؤها بعضها عن بعض، لكن ليس لجزء منها غنى عن سائر الأجزاء، فليست جذور الشجرة هي أوراق وفروعها، ولكن لا حياة لتلك الأوراق والفروع لو لم تكن هنالك الجذور التي تمدها بالبقاء وبالحياة، وثانيًا لا بد أن تكون صلة المواطن بالمواطن الآخر كصلة الشاعر بموضوعاته، أي أن ينظر إليه على أنه «إنسان» وليس أداة صماء يستغلها لقضاء مصالحه، وثالثًا يجب أن يكون المواطن صادقًا في التعبير عما يشعر به إزاء الآخرين كصدق الشاعر الجيد، حين يقر وجود موضوعه كما هو على حقيقته، ثم يضفي عليه مشاعر من عنده كما يحسها، ولو توافرت لنا هذه الخصلة، لضمنا ألا ينافق بعضنا بعضًا في العلانية، ثم نتستر وراء جدراننا لنصب على الآخرين سيلًا من اللعنات.
قلنا إن المصري في مرحلته الحاضرة قد شطر نفسه شطرين: فرد جيد في ناحية، ومواطن سيئ في ناحية أخرى، وقصدنا بالسوء تلك الصفات نفسها التي تجعل من الشاعر إزاء موضوعاته شاعرًا رديئًا، ينظر إليها على غير حقيقتها أولًا، ثم يكذب في التعبير عن مشاعره نحوها، وذلك تمامًا هو بعض ما أصابنا إذ ننظر إلى من بأيديهم السلطان والجاه والمال على غير حقائقهم أولًا، ثم نكذب في التعبير عن مشاعرنا نحوهم، ولا نقول عنهم الحق كما نراه، إلا ونحن بمعزل عنهم نتبادل الأحاديث مع ذوينا وخلصائنا.
ولو اقتصر هذا الانقسام الخطير في شخصية المصري وهو يجتاز المرحلة الراهنة من تاريخه على ميدان السياسة، لقلنا إنه راسب من رواسب ذلك التاريخ، حين كان المصري ينطوي على حياته الخاصة التماسًا للأمان؛ إذ كان على يقين بأن رأيه في الشئون العامة، لا يعود عليه إلا بالوبال إذا هو أغضب السلطان، لكن ذلك الانقسام الخطير الذي أشرنا إليه، قد يكون له أصداء قوية الرنين في شتى المجالات الحيوية، كالتعليم والاقتصاد، بل والحياة الدينية نفسها، بمعنى أن يحتفظ الفرد برأيه الحقيقي، لا يفصح عنه إلا في مجالسه الخاصة — ذلك إن فعل — وأما في دنيا العلانية فهو إما يمسك لسانه ويزم شفتيه (وذلك أهون الشرور) وإما ينطق بما يعلم أنه كذب اكتسابًا للقبول والرضا، فكانت النتيجة أن بسط ذلك الانقسام جناحيه العريضين على رقعة فسيحة من حياتنا، ففي دنيا العلم — مثلًا — هنالك زاوية منفرجة في شخص المتعلم، بين ما نقول عنه إنه تعلمه، وبين ما نعرفه أن يعلمه حقًّا، وهنالك زاوية أشد انفراجًا في حياتنا الاقتصادية والعملية، بين ما نقول إننا قد أنجزناه، وبين ما نعرف أنه حقًّا قد تم إنجازه، وهكذا إذا أنت تعقبت أوجه حياتنا من زواياها المختلفة، صدمتك تلك الزاوية التي هي منفرجة في أكثر حالاتها، بين ما نقول عنه إنه حقيقة واقعة، وما نعرف حقًّا عنه أنه بالفعل لم يقع، وفي التحليل الأخير لجميع تلك الحالات ستجد المصري الفرد لا يزال على أصالته الرصينة في حياته الخاصة، وأما في الحياة العامة، فليس هو ذلك المواطن الذي ينظر إلى الوطن نظرته إلى بيته، وينظر إلى سائر المواطنين نظرته إلى أبنائه وإخوته، هو في الحالة الخاصة مليء بمضمونه الإنساني، وهو في الحالة العامة خاوٍ أجوف وكأنه مع مجموعته أعجاز نخل خاوية.
وإذا كنت في هذا التحليل قد وقعت على الصواب، كان الطريق إلى العلاج مفتوحًا أمامنا، ومن أهم مداخل ذلك الطريق تهيئة الفرص الكثيرة التي تجمع مجموعات من المواطنين في عمل واحد مشترك، فذلك من أقوى الوسائل التي تذكِّر الفرد بأنه — إلى جانب فرديته — مواطن لآخرين، وهي فكرة كان الفقيه النافذ البصيرة «ابن تيمية» قد تنبَّه لها، مما جعله يؤكد أن «الأمة» الواحدة إنما تصير كذلك بالمشاركة بين أبنائها في فعل واحد، وكان حديث ابن تيمية هذا في سياق كلامه عن «الأمة الإسلامية» وما يمكن أن يوثق الروابط بين أفرادها.
ولفت نظري خبر عابر قرأته منذ قريب، وهو أن تمثال الحرية المقام عند مدخل نيويورك قد أصابه تلف، استدعى أن يُعلَن عن البدء في إصلاحه، وبالتالي عن منع زيارة الزائرين له، وكانوا يُعَدُّون كل يوم بعشرات الألوف، يصعدونه بسلم داخلي من قدميه إلى تجويف الرأس، والمهم هنا هو أنه تقرر أن يُنفَق على إصلاحه من تبرعات «الأطفال» الذين هم دون سن العاشرة أو نحو ذلك، وكان يمكن للدولة أن تدفع من مالها، لكن أولي الأمر يتصيدون كل مناسبة سانحة، فيتيحون الفرصة أمام مجموعات من أبنائها للمشاركة في فعل واحد؛ لأن ذلك هو الطريق إلى تماسك أفراد الشعب في كتلة متجانسة متعاونة، وقد نقول: إن أمريكا حديثة العهد، ومواطنوها جاءوا إليها من أركان الأرض جميعًا، فهم بحاجة إلى مشروعات كهذه تقوي بينهم الروابط، وأما نحن فما عذرنا؟ والجواب هو أننا — لأمر ما — قد أصابتنا العلة التي لا بد أن تكون مؤقتة وعابرة، ولكن ما ضرنا لو استطعنا أن نسرع بأعجاز النخل الخاوية إلى العودة لتمتلئ باللباب والثمر؟