«وإذا الموءودة سُئِلَت»!
في سرحة من سرحات فكري، التي تعاودني كلما خلوت إلى نفسي، وإني لأخلو إليها ألف مرة في النهار الواحد، شأن من فرغ وفرغت حياته من أثقالها، وهي السرحات التي كلما عاودت، شطحت بذاكرتي في ذلك المستودع العجيب الرهيب، مستودع النفس وما حوته من مخلفات ماضيها، أقول إنه في سرحة من تلك السرحات التي ينصرف فيها الإنسان إلى دخيلة نفسه، حتى لتصبح العين وكأنها مغمضة عمَّا حولها، والأذن وكأنها صُمَّت لا تسمع الصوت، رأيتني وجهًا لوجه مع تلك الفتاة، التي كنت قد التقيت بها على صفحات التاريخ، ولم أكد أنظر إلى شبحها في ثوب أبيض كأنها القديسة في طهرها وصفائها، حتى تذكرت في وضوح ناصع، متى وأين التقيت بها، ووقفت معها طويلًا طويلًا، إنها «هيبا شيا» الإسكندرانية، نذرت حياتها — على قصر تلك الحياة — للفلسفة، فهي في ذلك فريدة في تاريخ الفكر، فذاكرتي الآن لا تسعفني باسم آخر لامرأة ذكرها تاريخ الفلسفة على صفحاته، لكنها كانت كذلك فريدة في مصرعها على أيدي رجال قساة غلاظ القلوب يحملون على أعناقهم رءوسا خاوية إلا من الهوس وأخلاط الجنون.
كانت «هيبا شيا» هي التي جاءتني بها سرحة فكري هذه المرة، رأيتها ماثلة أمامي في رزانتها الرصينة، ففتحت العين وأرهفت الأذن وكأنما سمعتها تقول: لقد دعوتني، فها أنا ذا.
قلت: لا، لم أدعك، ولا توقعت قدومك، فربما استدعاك ما كنت أفكر فيه.
قالت: وفيمَ كنت تفكر؟
قلت: في رجل الشارع، لكن دعينا الآن مما كنت أفكر فيه، ولنا إليه عودة، أما الآن فقصي عليَّ ما أصابك، إنني أعلم شيئًا عنه، أضاع منه النسيان شيئًا وأبقى شيئًا.
قالت: وكيف عرفت ما عرفته عن مأساتي، وبيننا خمسة عشر قرنًا، فأنا من أهل القرن الخامس الميلادي، وأنت من أبناء القرن العشرين؟
قلت: قرأت عن مأساتك فيما كتبه شيخ المؤرخين الإنجليز «إدوارد جيبون»، ذلك المؤرخ الذي كان يكتب التاريخ بقلم الأديب، يرسم الصور بقلمه فتحيا ويحيا معها القارئ، فكان قلمه للأحداث هو نشور لها بعد دثور.
قالت: كانت مأساتي مروعة دامية، وأعجب ما فيها أن جنايتي عند أولئك القساة هي اشتغالي بالفلسفة وعلوم الرياضة، ولقد أوقعوا بي ما أوقعوه باسم الدين.
قلت: هيه يا فتاتي، حدثيني، فأمسنا يبدو كيومنا، والإنسان هو الإنسان لا يغيره الزمان، حدثيني يا فتاتي عما حدث.
قالت: أراد بي ربي ألا ألهو مع اللاهيات فشغلت نفسي بالدراسة، ودفعني هواي إلى أن تكون الفلسفة موضع حبي، ولعلك تعلم أن الفكر الفلسفي والفكر الرياضي قرينان؛ لأنهما شبيهان في طريقة البدء وفي منهج السير.
وما أنا ذات يوم في ساعة الضحى، وبينما كنت منتقلة في عربة أطوي بها الطريق في مدينة الإسكندرية، أنعم بزرقة البحر تحت زرقة السماء، والهواء منعش جميل، إلا وقد دهمت العربةَ جماعةٌ اشتد بهم الهوس والجهل معًا، فحسبوني خارجة على الدين، فلا هم يعرفون حرفًا مما أدرسه، ولا هم يأخذون بكلمة مما يوصي به الدين، فانتزعوني من العربة انتزاعًا، وخلعوا عني الثياب عنوةً وقسرًا، ودفعوا بجسدي العريان على الأرض، وشدوني إلى حبل، ثم جروني جرًّا على حصباء الطريق، حتى لقد تسلخ ونُهش وكادت تظهر العظام مما كان يكسوها، فلما بلغوا بي إلى حيث أرادوا، وجدت رؤساءهم في انتظاري، وأقاموا من أنفسهم ما يشبه المحكمة الدينية لمحاكمتي.
وعبثًا حاولت الكلام، فالبدن منهوك القوى، والطغاة لا يصغون، والحكم مقرر سلفًا، فانقضوا عليَّ بالسكين ذبحًا، وأشعلوا نارًا، وأخذوا يكشطون ما بقي من لحمي بمحارات مسنونة الأطراف، ويقذفون في النار بالأشياء شلوًا شلوًا، وبقطع اللحم قطعة قطعة، وكان بعضها يُلقى في اللهب وهو لم يزل يرتعش ببقية من حياة.
قلت: يا لهول المأساة، هل لكِ أن توجزي فلسفتك في عبارات قليلة، لأوازن بين الجريمة والعقاب؟
قالت: أتقول «جريمة» عن فكر فاحص باحث دءوب؟ لا، لا، إنه لا جريمة هناك، وما كانت فلسفتي إلا صدًى للفلسفة التي سادت الإسكندرية منذ نحو قرنين! فلقد كانت الإسكندرية — ولا بد أن تكون على علم بذلك — نقطة التقاء الشرق والغرب في كل شيء، من تبادل السلع في دنيا التجارة، إلى تبادل المذاهب الفكرية في دنيا الفلسفة، وكانت الإسكندرية كذلك، هي التي رفعت لواء الفكر، بعد أن وهنت دون حمله مدينة أثينا، وكان قد جاءنا فيما جاءنا من اليونان فلسفة أفلاطون، فأخذناها، لكننا طبعناها بطابع مصري أصيل، كشأن مصر دائمًا في عصور قوتها، وماذا يكون الطابع المصري الأصيل، إن لم يكن هو التدين والتصوف؟ وهكذا مزجنا الأفلاطونية اليونانية، بجرعة قوية من الدين والحس الصوفي، فكان لنا بذلك ما يسمونه بالأفلاطونية المحدثة، وكان حقها أن تسمى بالأفلاطونية المصرية، والفضل في إبداعها هو لذلك الأسيوطي «أفلوطين» الذي كان قد جاء إلى الإسكندرية من موطنه أسيوط في صعيد مصر، جاء يطلب العلم واكتساب الحكمة، ولست أنا إلا تابعة من أتباعه.
قلت: الحق أني لا أجد في تلك الرؤية الفكرية ما يستحق العقاب.
قالت: أبدًا، أبدًا ليس فيها ما يعاب، فهي رؤية تؤكد وحدانية الله ودوامه ومشيئته، بالنسبة إلى مخلوقاته المتعددة المتغيرة الفانية، ثم هي تقدِّم تفسيرًا معقولًا لخلق الله للعالم، إذ تشبه ذلك بالشمس يفيض عنها الضوء.
قلت: لا تحزني يا فتاتي، فالذين — واللائي — اغتالهم الجهل والتعصب كثيرون في التاريخ، وتحضرني الآن قصة ذلك المتصوف التقي الورع عبد الله بن حباب، الذي جاءت حياته بعد حياتك بمائة عام أو يقرب منها إذ فاجأته جماعة من الخوارج بمثل ما فاجأتك الجماعة المتهوسة التي رويت لي حكايتها.
قالت: ومن هم الخوارج، ومن هو عبد الله بن حباب؟
قلت: لقد نزل على العالمين بعد عهدك بأقل من قرن واحد، دين الإسلام، وكان محمد — عليه الصلاة والسلام — هو في ذلك نبي الله ورسوله، وبين أصحابه كان عبد الله بن حباب، الذي بلغ من حبه للإسلام أن علق كتاب الله حول عنقه بخيط ليظل الكتاب على صدره، وأما الخوارج فهم جماعة اجتمعت فيها متناقضات، فبينما هم يوصلون في عبادة الله ليلهم بنهارهم، حتى لقد كانت جباههم تتقرح من كثرة السجود على الرمل والحصى، كانوا من غلظة القلب على من يخالفهم في الرأي، بحيث لا يترددون في قتل المخالف، والنقطة الأساسية عندهم في اختبار من يصادفونه من المسلمين، هي رأيه في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وهو الذي «خرجوا» على طاعته، حين اعتقدوا أنه لم يلتزم كتاب الله في نزاع قام حول الخلافة، فمن وجدوه من المسلمين مواليًا لعلي، قتلوه، فاسمعي ما جرى من حوار قصير بين نفر من هؤلاء الخوارج، وعبد الله بن حباب، وقد كان عبد الله هذا مع زوجته في داره، حين سمع صوتًا آتيًا من الطريق، عرف منه أن رجالًا من الخوارج، يجوبون الحي ليفتكوا بمن وجدوهم مخالفين لهم في الرأي، فخرج عبد الله بن حباب ومعه امرأته، ليلوذا بالفرار حتى لا يصيبهما السوء، لكنهما ما كادا يخرجان من دارهما، حتى أمسك بهما هؤلاء الرجال، ودار الحوار الآتي:
وبعد هذا الحوار المقتضب القصير دفعوه هو وزوجته إلى شاطئ نهر قريب، فأضجعوه، فذبحوه، ثم اتجهوا إلى امرأته الحبلى، فبقروا بطنها.
وكانت تلك الفظاظة والفظاعة وقسوة القلب وغلظة الكبد، هي أيضًا باسم الدين، كالذي حدث لك في مأساتك يا هيبا شيا.
إن رسالات السماء يا فتاتي إنما نزلت رحمةً للعالمين، لكنه الإنسان وما يكمن في صدره من غرائز الحيوان، هو الذي يضيق به الأفق فلا تقوى طبيعته على حمل الرسالة حتى وهو مؤمن بها فيما يظن، فالجماعة التي اغتالتك على نحو ما فعلت، ربما جاءت لتتربص بك، بعد أن أدت شعائر الصلاة في الكنيسة، إذ تقول رواية التاريخ، إن القديس كيرلس، راعي كنيسة الإسكندرية وقتئذٍ، كان هو مدبر الاغتيال، صادرًا في تدبيره ذاك عن إيمانه الديني كما صورته له روح التطرف، وكذلك كان الخوارج الذين فتكوا بالصحابي الورع عبد الله بن حباب، يصدرون في فعلتهم عن إيمانهم الديني كما صورته لهم روح التطرف، فالعلة — إذن — يا هيبا شيا هي في التربية الدينية وعلى أي صورة ينبغي أن تكون.
وفي صفحات التاريخ عشرات الأمثلة بعد عشرات، أمثلة للجريمة حين تجيء عند مقترفها نتيجة نية هي في حقيقتها نية طيبة؛ إذ ماذا أنت قائلة في سلوك يسلكه صاحبه، معتقدًا أنه إنما يتحرك بدافع من ضميره الديني، فمصدر الخطأ — كما ترين — هو في تربية لم تحسن التوجيه، فتركت الناشئ ينشأ على خلل في موازين التقويم، فيحسب حسنًا ما ليس بالحسن، ولو حدثتك عما يحدث الآن في عصري الذي أعيش فيه، وهو كما تعلمين. يجيء بعد عصرك أنت بخمسة عشر قرنًا، أقول إني لو حدثتك عما يحدث في عالمي اليوم، من جرائم هي أبشع الجرائم، يصدر فيها مقترفوها عن أسمى المعاني، إذ يصدرون عن العقيدة الدينية كما صُوِّرت لهم وتصوَّروها، أو عن روح وطنية، أو غير ذلك من الدوافع النبيلة في ذاتها، لكنها كثيرًا ما توضع في غير مواضعها الصحيحة فيكون ما يكون، لو حدثتك عن ذلك لما صدَّقتِ أذنيكِ! ويكفيني أن أذكر لك طرفًا مما يحدث في بلد عربي حبيب، هو لبنان، فهل سمعت يا هيبا شيا في عصرك وقبل عصرك عن بلد ينتحر كله باسم الدين؟ إنك لو أمعنت النظر في مأساة لبنان، لرأيت أن كل شاب ممن يحملون السلاح، ويلقون بالقنابل، إنما هو ينطوي على معنى من الإيمان أو من الوطنية، أو من الانتماء، لو أخذته مجردًا وحده، وجدته معنًى شريفًا، لكنه وُضع في سياق مغلوط فأصبح شيئًا آخر، لم تسمع الدنيا بأبشع منه، ثم انظري إلى ضرب آخر من الانتحار الجماعي، في الحرب بين بلدين مسلمين يريد أحدهما أن يُفني الآخر، وانظري إلى ما يفعله الجيش الجمهوري في إيرلندا، يستحلون التقتيل والتخريب مدفوعين في ذلك بمزيج من الدوافع الوطنية والدينية، وأما ما يحدث بدوافع السياسة في يومي هذا، فقولي عنه ما شئت لأنك لن تعرفي كيف تبالغين في القول، حتى إذا تعمدت المبالغة، لأن الواقع في جرائم السياسة يفوق كل خيال، حتى بين أبناء الوطن الواحد، ومكمن النكبة في جرائم السياسة، هو في الخلط بين فكرة الغايات وما يؤدي إليها من وسائل؛ إذ يصور الجنون القاسي لأصحابه، أنه ما دامت الغاية شريفة، فكل وسيلة هي بعد ذلك جائزة، حتى لو كانت تلك الوسيلة هي أن تعذِّب إنسانًا من البشر، فضلًا عن أن ينال التعذيب جماعات من مواطنيك، قد يعدون بعشرات الألوف أو بمئاتها.
أتعرفين يا هيبا شيا ماذا حدث بالأمس؟ لقد كنت قد ذكرت منذ قريب عن تعذيب الطغاة لشاب عربي، وأن عيني قد دمعتا حين قرأت النبأ؛ لأنني إذ كنت أقرؤه، تخيلت أني هو ذلك الشاب فيما لقي من إهانة وهوان على أيدي أعدائه، فجاءني كتاب من مؤلفه، ومع الكتاب خطاب فيه بضعة أسطر قليلة تشيع فيها نبرة السخرية من رجع تدمع عيناه لحادثة كهذه، وحوله ما هو أفجع وأبشع مما لقيه ألوف المواطنين من صنوف التعذيب، والكتاب المرسل هو سجل لبعض ما عاناه مؤلفه، أو ما شهد غيره وهم يعانون، وهذا هو الكتاب في يدي، أقرأ عليك صفحة واحدة من صفحاته، لتسمعي إلى أي حد بعيد يمكن أن تذهب قسوة مواطنين بمواطنيهم، تحت لواء «الأهداف الوطنية العليا»، فاسمعي، ولن أقول لك متى كان هذا ولا أين؟
قررت إدارة السجن ذات يوم ضرب جميع المعتقلين، فأصدر قائد السجن أمرًا بصرف خمسين عصًا لكل معتقل، احتفاءً بذكرى … ولقد نُفِّذت فينا العقوبة بصورة مخزية، فقد أُمرنا جميعًا بربط عصابات على أعيننا، ثم الحبو على أرجلنا وأيدينا، شأننا شأن القرود والكلاب، وأُمرنا بالزحف هبوطًا على درجات السلم إلى ساحة السجن، ثم طُرحنا على ظهورنا، وأُمرنا برفع أرجلنا لنتلقى تحية الذكرى.
يسأل القرآن الكريم عن الموءودة إذا سُئلت، بأي ذنب قُتلت؟ وعلى هذا الضوء الهادي، نسأل عن الذبائح البشرية في أرجاء العالم كله اليوم، بأي ذنب ذُبحت، وعن المعذبين في معتقلات العالم المتخلف وسجونه، يلقون من التعذيب ما يشيب له الولْدان، بأي ذنب عُذِّبوا، وسيكون الجواب في هذا كله هو أنهم أصحاب رأي وعقيدة، وبعد هذا ترانا إذا صرخنا بكل ما تحتمله الحناجر من صراخ، دعوةً للناس أن يراعوا حقوق الإنسان، قيل لنا في سخرية العابثين: ما الجديد في الدعوة إلى حقوق الإنسان، هذا شيء نعرفه من زمان، وهو مسطور في تراثنا، فكأنما يُطلب من الجائع ألا يشكو من الجوع؛ لأن أسماء الطعام مكتوبة في الكتب.
أمسكت عن حديثي إلى هيبا شيا، لأنني لم أعد أرى صورتها ماثلة أمامي، وإذا بصوتها يسألني: حدثني عمَّا كان يدور في خواطرك، عندما استدعيتني من مخزون الذاكرة، فلقد قلت لي لحظة ظهوري، إنك كنت تفكر في رجل الشارع، فكان هذا الخاطر عن رجل الشارع هو الذي شدني من مخبئي، فما علاقتي برجل الشارع حتى ليكفيك أن تذكره فأستيقظ في ذهنك وأنجذب إلى وعيك؟
أجبتها قائلًا: لا عليكِ من هذا، وإذا شئتِ الحق، فالصلة بينكِ وبين رجل الشارع لم تكن عندي، بل سمعتها تتردد على ألسنة زملاء أعزاء، فهم الذين ربطوا بينكِ وبين رجل الشارع.
قالت: كيف؟
قلت: ألست موصولة بالفلسفة حتى لقد ذُبحت من أجلها؟ فذِكْرك يذكِّر بالفلسفة، وذِكْر الفلسفة عند الزملاء الأعزاء يذكِّر برجل الشارع، وهم يقولون في ذلك إن رجل الشارع يعيش «الفلسفة»، إذن فهو فيلسوف مع الفلاسفة، وينتج عن هذه الرابطة ألَّا نعلم الفلسفة إلا ورجل الشارع في أذهاننا. هذا ما يقوله الزملاء الأعزاء.
قالت هيبا شيا: لكنهم وقعوا في خلط شديد، أليس كذلك؟
قلت: نعم، لقد خلطوا بين أطراف الموقف خلطًا لم يكن يجوز الوقوع فيه؛ فالناس «يعيشون الضوء» و«يعيشون الصوت» و«يعيشون الكيمياء» و«يعيشون النبات» … نعم إن هذه الأشياء كلها تقع في صميم حياتهم اليومية، لكن أحدًا لا يجرؤ على القول إنه بناءً على ذلك يجب أن يكون لرجل الشارع مشاركة في علم الضوء، وفي علم الصوت، وفي علم الكيمياء، وفي علوم النبات والحيوان، وحقيقة الأمر هي أن الطريق بين رجل الشارع والعلوم (ومن بينها الفلسفة إبداعًا ودراسةً) هو طريق صاعد هابط، بمعنى أن موضوعات العلم إنما تأخذ مادتها مما هو واقع، ثم تصعد العلوم بهذا الواقع إلى مستوى الدراسة النظرية التي لا يضطلع بها إلا العلماء، ثم تهبط نتائج تلك الدراسة العلمية إلى دنيا التطبيقات العملية، أي إلى الدنيا التي يعيش فيها رجل الشارع، فنحن إذ ننادي بوجوب أن تأخذ الفلسفة في اعتبارها دراسة الأفكار الشائعة في دنيا الناس، محاطة بالغموض، فيكون من واجبات دارس الفلسفة أن يتناولها بالتحليل والتوضيح، لا نعني بذلك أن يشارك رجل الشارع في الدراسة والتحليل، العلماء وحدهم ينتجون العلم، ورجل الشارع يستخدم في حياته العملية ما أنتجوه.
قالت هيبا شيا: إن أصدقاءك الأعزاء قد ذبحوا الفلسفة ذبحًا، أو قل إنهم خنقوها بتراب الشارع.
فتلوت خاشعًا: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ؟ وكانت هيبا شيا عندئذٍ قد اختفت من مخيلتي صورةً وصوتًا، فتركت مقعدي، وأويت إلى فراشي لأدخل في نعاس الليل.