الفصل الثاني عشر
في حجرتي قبل وقت العشاء، ظهر ووكر هناك فجأةً. غالبًا ما يقفز إلى ذهني مثلما يفعل الصديق الذي لم أره منذ مدة طويلة وأتذكره فجأةً، فاتحًا باب ذاكرتي. سألت نفسي ماذا كان يريد، وهو الذي يبعد عني آلاف الأميال عبر المحيط.
اشتريت له كرة سحرية بمناسبة الكريسماس الثاني عشر له، وهي عبارة عن «مصباح زينة للغد» يشبه كرة بلورية ويستجيب للمس والصوت والموسيقى، إن أوصلته بالكهرباء ولمست الزجاج، فستجد ومضات مثل ومضات البرق تتصارع داخل الكرة، كثيفة وبيضاء ومتوهجة تقريبًا حيث لمستَ بأصابعك، هذا إلى جانب الأشعة القرنفلية والأرجوانية المنبعثة من مركز الكرة. أدركتُ أن ووكر سيحبها، وقد أحَبَّها بالفعل، بمجرد أن ملَّ من الزينة التي على شكل سمكة قشرها معدني، ذات لونين أحمر وأخضر، والتي كان قد نزعها من شجرة الكريسماس ولعب بها بيديه لمدة يومين على التوالي.
في النهاية حين وجَّهَتْ هايلي انتباهه إلى الكرة السحرية، ظلَّ يلعب بها لمدة ساعتين. (بدأ ينتابني القلق من أنها قد تُؤدِّي لإصابته بنوبة.) أحاط الكرة بيديه مستندًا على الغطاء الواقي للذراعين، ولم يتحرك لمدة خمس دقائق في المرة الواحدة، واقترب من الأضواء المتحركة بشكل سريع بجسارة، مثل زيوس صغير يحاول تفجير الأرض من تحته بشعاع واحد كثيف.
اتخذت جوانا في هذا الكريسماس منحًى آخَر؛ إذ أحضرت له مجموعة من الألعاب الصغيرة، منها: كرة مليئة بسائل متلألئ، وقبعة رَجُلِ ثلجٍ مصنوعة من الخشب كثيرة الخطوط ومستديرة، قد يلفها في يديه يومًا ما لعدة ساعات دون توقُّف. وكانت هديتها الأخيرة غريبة فعلًا؛ فقد كانت مصنوعة من اللباد، وطولها ست بوصات، وهي مثلث برتقالي في أحد أطرافه كرة زينة مزغبة خضراء، وأربع سيقان خضراء وزرقاء بارزة من قاعدتها وتعمل كأَرْجُل، وخِيطَ وجهٌ رزين وجاد ولكنه تجريدي بمثلث أخضر أصغر، خِيطَ بدوره بمثلث برتقالي أكبر. وكان الشيء الغريب كلُّه في الظاهر سلسلة مفاتيح كبيرة، ويشبه مزيجًا من جزرة ومشط وكائن غريب.
قلتُ لها: «ما هذا؟» أخرجَتِ الهدية من كيسها لتُرِيها لي لحظة دخولها من الباب.
«لا أدري، وليس لديَّ فكرة فعلًا، وقلتُ للشاب الذي عند ماكينة الدفع: «لا أدري لماذا أشتري هذا!» فردَّ عليَّ: «الجميع يقولون ذلك.» وقلتُ: «فعلًا، هل تبيع منه الكثير؟» قال: «طوال اليوم».» كانت سعيدة جدًّا بهذا الشيء.
«إنه جذَّاب، ولكنه غريب تمامًا.» قَلَّبتُ هذا الشيء في يدي.
قالت: «أعتقد أن هذا ما يرى صانعوه أنه يميِّزه ويجعل الناس يُقبِلون على شرائه.» ثم بَدَتْ على وجهها نظرة مختلفة، لحظة فارغة من الإدراك، وهي نظرة أعرفها تمام المعرفة.
«أظن أنني اشتريته؛ لأنه يذكِّرني بووكر: جذَّاب، ولكن يصعب فهمه.»
***
كان العَشاء محور اليوم في دار رعاية لا سيمانس. كان مستواي في اللغة الفرنسية ضعيفًا جدًّا، ولكن في هذه الدار لم يكن هذا يهمُّ؛ فقد كنتُ شبه أبكم مثلهم، غير قادر في أغلب الأحيان على توضيح ما أقول.
كان الجميع في لا سيمانس يأخذ العشاء بطريقة جدية. كان هناك ورد على المنضدة، وكان المساعدون، باعتبارهم فرنسيين، يتعاملون مع الطعام بجدية؛ حيث تُقدَّم الطواجن وأنواع الحساء والسلاطات على المائدة في أطباق تقديم جذَّابة، وجميعها كان شهيًّا، وكان يُقدَّم الخمر دائمًا، حتى للنزلاء، إذا كان نظامهم العلاجي يسمح بذلك. كثيرًا ما يكون هناك ضيوف (مثلي)، وهم مرحَّب بهم ويُشرَب نخبهم. وكانت تبدأ دائمًا الوجبات بطقس معين؛ إذ كان يمسك بعضنا بأيدي البعض ونتلو صلاة الشكر، وكان هذا العمل في حد ذاته، إمساك بعضنا أصابع البعض، لحظة طويلة من القلق بالنسبة إليَّ؛ كنتُ أشعر بالارتباك وأنا أمسك بيد شخص لا أعرفه، وأبدو سخيفًا لشعوري بالارتباك. والأيدي! سواء كانت متيبسة أو بدينة أو غريبة الشكل أو جافة أو رطبة أو رخوة أو عميقة في راحة اليد، كانت كلها يمسك بعضها بعضًا. ليس هناك وعي ذاتي هناك؛ فقد كانت كلُّ يدٍ عالَمًا في حدِّ ذاتها.
كانت يد جيجي صغيرة، وكان عليَّ أن أضغط بأصابع يدي اليمنى على قبضته اليسرى الصغيرة، وفتح جان كلود يده ثم ضحك وهو يأخذ يدي ويمسكها، ولكن قبضته كانت ضعيفة، كما لو أنه نسي أن يديه مرتبطة بذراعيه. حاولت أن أكون متسامحًا بشأن هذا، وأحيانًا ما كان ينسى أن يترك يدي أيضًا.
بمجرد أن انتهت صلاة الشكر، قَدَّمَ المساعدون سلطانيات من العصيدة الخضراء لمَن لديهم صعوبة في الأكل، وهي جرعتهم الليلية من الألياف والفيتامينات، أما بقيتنا فتناولوا خضراوات أكثر صلابةً. كان الجميع يرتدون بيجامات: يرتدي جان كلود بيجامة مخططة، وفوقها روبًا وبريًّا مخططًا، وترتدي فرانسين على كرسيها المتحرك روبًا قرنفليًّا. ويرتدي جيجي بيجامة بأقدام ماركة دكتور دينتنز، وبرنس حمام مخطَّطًا أصغر حول جسمه المحنيِّ، ولكنه غير محكم الربط دائمًا، ويجر خلفه الحزام مثل مهمة منسية. وبالطبع لورينزو، محب القطارات الإيطالي الذي لا يتكلم، كان يلبس روبًا رائعًا ذا شريط حريري لتزيين حواشي الثياب وأشرطة مضفرة على الأكمام، شكل من أشكال الترف المثير لرجل ذي إعاقة عقلية، وقد بقي ساكنًا في وسط الحجرة، بلا حراك، وأذرعه ممتدة، ينتظر مترقِّبًا كالعادة. ولكن ماذا كان ينتظر؟ الشيء الذي لا سبيل لمعرفته. وفي رأيي، كان لا يختلف عن أيٍّ منَّا. وبهذه الطريقة حَوَّل النزلاء الحياة في دار الرعاية إلى مسرح، وكل ما كان عليك فعله، حتى تعجب بعمق الأداء، هو أن تشاهد باهتمام، وتفكِّر فيما تشاهده.
تعاقَبَ الحوار على المائدة: حين تجشَّأَ جان كلود، وهو ما كان يفعله باستمرار، امتعض جاري ويب ومزح، أو على الأقل أصدر صوتًا بهذا المعنى، ويبدو أن جان كلود أعجبه ذلك. ارتجل جاري في هذه اللحظة، مستخدمًا قدراته كممثل سابق. وفي وقت تناول التحلية — الأيس كريم وصوص الشوكولاتة — انتهى الأمر بجيجي إلى أن أصبح له شارب من الشوكولاتة. وعلى الفور بدأ جاري الحديث: «آه، لديك شارب! أهلًا سيدي، هل أنت غراب؟ هل أنت كورني؟» (كان يقصد بيير كورني الكاتب المسرحي الفرنسي الذي عاش في القرن السابع عشر، والذي كان له شارب داكن مميَّز وعنفقة.) «لعلك أحد المهاجمين المكسيكيين! نعم، سانشو! فيلم المواجهة!» وجعل جاري أصابع يده على شكل مسدس وتظاهَرَ بأنه يطلق النار على جيجي. فضحك كلُّ مَن كان حول المائدة، وهم ينظرون إلى جيجي مثار المزحة. كان جيجي يحملق في جاري، ووجهه لم يتحرك، ثم بهدوء شديد بدأ يُحدِث ضوضاء مثل الهواء المتسرِّب من البالون. كان يضحك!
الطريقة التي كان يغيظ بها جاري جيجي لم تكن تختلف عمَّا يفعله صديقان غير معاقَين إذا تجشَّأ أحدهما أو لطَّخَ وجهه بالشوكولاتة. كان هناك ارتباط بين جاري وجيجي: ربط له صدرية الطعام، وأعطاه علاجه وأطعمه، ومزح معه، ودائمًا ما كان يجلس إلى جواره، ويحممه، ويساعده على النوم. كان يرى بعض المساعدين السخريةَ المهذَّبة من عادات النزلاء أمرًا غير صحيح، ولكن النزلاء كانوا يستمتعون بها جدًّا، وأحبوا أن يكونوا موضع الاهتمام والمرح: لم يكن لديهم أي أوهام بشأن الطريقة التي كانوا يبدون عليها، وما كانوا لا يستطيعون فعله. قال جاري: «أقدِّم كلَّ ما لديَّ.»
وهذا أغرب شيء: حتى في الثلاثة الأيام والنصف التي قضيتها في ترولي-برويل، فإن هؤلاء الرجال والنساء المحطمين قد علَّموني أمورًا كثيرة.
على سبيل المثال، هناك مخبز رائع في القرية، مخبز يبعد حوالي خمس دقائق مشيًا من المكان الذي كنتُ أقيم فيه. ذهبت في صباح يومين متتاليين لشراء خبز فرنسي وتناوُل فنجان قهوة، ولكني كنت أعدل عن هذا ولا أدخل المخبز. من الصعب وصف مقدار الألم النفسي الذي سبَّبَه لي هذا الفشل البسيط؛ فلغتي الفرنسية ليست بالمستوى الجيد، وكان سيجعلهم هذا يسخرون مني: أرهبني الأمر ككل. أدركتُ أني خائف من كل شيء؛ خائف من الاستحمام، خشيةَ إيقاظ الجميع، وخائف من النزول لتناول طعام الإفطار. (بحلول الساعة التاسعة صباحًا كان المنزل يعج بالأصوات؛ أصوات أنين عالية وطويلة، وأصوات صياح تشبه صوت القطارات، وأصوات تدل على التعجب والصدمة وأصوات تصفيق.)
لكنَّ شيئًا ما بشأن الطبيعة المتواضعة للحياة في دار الرعاية هَوَّنَ عليَّ الأمر؛ ففي صباح اليوم الثالث لي في لا سيمانس، استيقظت مبكرًا واستحممت في الحمام الذي يوجد في نهاية الردهة من حجرتي. كان هذا أول استحمام لي منذ ثلاثة أيام — في حمام صغير به مرحاض، والدُّش متواضع جدًّا، ومع ذلك بَدَا هذا قمة الرفاهية. أدركت ساعتها كم يعني الاستحمام لجان كلود وجيرارد ولورينت وجيجي، وووكر؛ جرعة منتظمة من السعادة، والشعور في أجسامهم المضطربة بأنهم يمتلكون في الوقت الراهن شكلًا بدنيًّا منتظمًا.
بعد الاستحمام ارتديت ملابسي ومشيت في القرية، عبر موقع بناء صغير؛ إذ كانت لآرش تقيم مقرين جديدين، محوِّلة مبنيين قديمين إلى مقرين جديدين لها. (في الآونة الأخيرة، عدلت الحكومة الفرنسية من متطلبات البناء بالنسبة إلى المعاقين، وقد أصبح التوافق مع تلك المتطلبات يمثل تحدِّيًا ماليًّا صعبًا.) كنا في بداية فصل الربيع؛ كانت البراعم في حجم كرات قدم صغيرة جدًّا على الأشجار، وكانت بومة تنعب. أوضح لي جاري أن أفضل روتين في هذا المكان هو أن يبدأ الشخص بشراء شيء للأكل من المخبز، ويذهب به إلى الفندق المجاور لتناول فنجان قهوة. وهناك شيء عليك تذكره، «حين تدخل قُلْ: «أيها السيدات والسادة» (باللغة الفرنسية)؛ بهذه الطريقة على الأقل لن يعتبروك سائحًا فظًّا تمامًا.» جلست في الميدان، أستجمع قواي، وكان هناك بعض الشباب في محطة الحافلات بجواري يدخِّنون. كيف أصبحت أخاف من كل شيء؟ الاستحمام، شراء الخبز متحدِّثًا باللغة الفرنسية، والدخول إلى فندق ريفي صغير؛ أخاف أن أبدو متأخرًا، غير قادر على استخدام اللغة، أخاف مما قد يَظُن بي الناس.
لا يساور ووكر القلق أبدًا من أيٍّ من ذلك.
دخلت المخبز، وكانت هناك بالفعل إحدى نزيلات لآرش، شابة نحيفة صوتها عالٍ متباطئ، وتعاني من تأتأة؛ كما لو أن جسمها ما كان له أن يتكافأ قطُّ مع عقلها، ومع ذلك نجحت في شراء طعام الإفطار لدار الرعاية كلها. دخلتُ المعركة، وبسبب لغتي الفرنسية، انتهى بي الأمر إلى شراء ضعف ما كنتُ أحتاج لأكله من الخبز! ظَنَّتِ البائعة أني أريد شراء رغيفين، ولم أعرف كيف أَثنِيها عن ذلك، ولكني استطعت على الأقل تناوُل طعام الإفطار. انطلقت ومعي الخبز إلى الشارع المؤدِّي إلى الفندق، وأنا أدخل من عتبة الباب، قلت بالفرنسية: «صباح الخير، أيها السيدات والسادة.» وكان يجلس على البار رجلان فرنسيان ضخمان يرتديان سترات جلدية، فنظَرَا إليَّ كما لو أنني مجنون عابر.
لكن انتهى الموقف بسلام، ولم يحدث شيء.
أدرك كيف أن هذا الأمر لا قيمة له على ما يبدو، وكيف أنه أمر هين: يطلب إنسان فنجان قهوة باللغة الفرنسية! ولكن جيجي وجان كلود، وابني ووكر، هم مَن علَّموني كيف أقوم بهذا الأمر اليسير، وعلَّموني ألا أشعر بالخجل، وليس هذا بالإنجاز الصغير على الإطلاق، حتى إن كاتب المقالات ويندول بيري أَلَّفَ قصيدة عن هذا الموضوع:
***
في سن الثمانين، كان فانيه يستعد ليطوي صفحة حياته، وأبدى تحفُّظه على الجوائز والتكريم، ولم يكن يريد أن يُلقَّب بلقب خبير. في صباح اليوم التالي، قال لي: «لا أريد مكانة أكثر مما أنا عليه بالفعل، وأريد أن أكون أقل من ذلك.» لم يكن يريد أن يشعر بالمرارة، كما يفعل كثير من كبار السن الذين «يشعرون بالضيق بسبب فقدانهم للقوة»، ويظل الناس يفكِّرون أنهم من المفترض أن يتصرَّفوا بطريقة أو بأخرى، أن يعتقدوا بشيء أو بآخَر، أن يؤمنوا بإله أو بآخَر، ولكن «ليس عليك أن تفعل شيئًا. عليك محو «عليَّ أن …» كُنْ كما أنت، ودَعِ الحياةَ تسير، وما هو مكتوب سيحدث. وأعظم خوف يخشاه الإنسان هو الخوف من القوة، الخوف من الفشل، الخوف من الذنب. أن نكون مذنبين. من ماذا؟ مخالفة القانون. ولكن أي قانون؟ لا نعلم.»
قلتُ: «أوه، لذا فالشعور بالذنب لا مفر منه!»
«نعم، هذه هي المشكلة. هناك نص مهم حقًّا في سِفْر التكوين، وهو واحد من أقدم الكتب التي لدينا عن بدايات البشرية. في مرحلةٍ ما انفصل آدم وحواء عن الرب، وتتبعهم الرب وقال: «أين أنتما؟ إنه أنا، الرب. أين أنتما؟» ولم يقل: «لا فائدة فيكما.» لم يقل سوى: «أين أنتما؟»
أجاب آدم: «خِفت لأني كنتُ عاريًا؛ فاختبأت.» بالتالي، هناك خوف وتعرٍّ واختباء. ما معنى هذا التعرِّي؟ معناه أننا كائنات فانية، سواء راقَ لنا هذا أم لا، لسنا مَن نتحكم في الأمور. لذا، فالحقيقة الكلية للبشر هي قبول النفس كما هي.»
قلتُ فجأة: «ووكر، لا يستطيع الكلام. لديَّ لغة أتواصل بها معه، وهي عن طريق الطقطقة، وهو يعرفها، وأحيانًا يستجيب.» استعرضتُ قليلًا من هذه اللغة.
قال فانيه: «هو يطقطق، وأنت تطقطق، وأسمي هذا مشاركة للمشاعر والأفكار. أنت بحاجة إليه، وهو بحاجة إليك، وأنت لا تقوم بشيء له، أنت معه فقط. الطقطقة! أحب هذا التعبير؛ لذا عندما تكون مع ووكر وتقومان بالطقطقة، فكلٌّ منكما ممتنٌّ للآخَر، ولك أن تتخيَّلَ كم هو ممتنٌّ لك؛ لأنك أبوه وتنظر إليه. وأنت ممتنٌّ له؛ لأنه ينظر إليك، إلى الطفل الذي بداخلك، ولا ينظر إليك بوصفك شخصًا ما كتَبَ أفضل شيء أو آخَر، بل ينظر إليك كما أنت فعلًا في أعماق كينونتك.»
لا أقصد أن هذه هي الطريقة الوحيدة لفهم ولد معاق إعاقة شديدة، لكن فانيه هو مَن قال هذه الأشياء. أحيانًا أجدها معقولة، وفي أحيان أخرى كانت تبدو أفكارًا خاصة برجل يتمتع بعقيدة دينية راسخة لا أشاركه فيها.
شعرت بالارتياح لكلام فانيه بشأن قيمة ووكر، بَيْدَ أن الجهد الذي بذلته في محاولة الإيمان به كان في بعض الأحيان شاقًّا.
***
وفي وقت لاحق من ذلك اليوم، يوم نجاحي في الشراء من المخبز، قابلتُ بالمصادفة فرانسين، والتي كانت تتعرض للشمس على كرسيها المتحرك، وكانت تنتظر في المسار المؤدي من لا سيمانس إلى الطريق، في حين كانت تقف ليدي، المساعدة الجميلة من جنوب فرنسا، على بُعْد خمسة عشر قدمًا، تكنس الحديقة. قلتُ لفرانسين (باللغة الفرنسية): «كيف حالك؟» ولمستُ كتفها، وقبل أن أتركها وجدتها تمسك يدي، ثم ذراعي؛ فقد كانت قوية، وقد جذبت وجهي إلى وجهها. صحيح أنها مصابة بشلل تشنجي، ولكن فمها كان مفتوحًا، وكان يصدر أصواتَ زمجرةٍ، ثم أخذت نبرتها تعلو أكثر فأكثر، واقترب فمها من أذني، وأسنانها كانت بها تشوهات وفجوات كبيرة، وظننت أنها على وشك أن تعضني، ولم أعرف ماذا أفعل؛ لذا عانقتها وقبَّلْتُها. وحين نظرتُ إلى أعلى، وجدتُ ليدي تراقبنا، فقلتُ بلغتي الفرنسية الرديئة: «آسف، لعلي ضايقتها!»
قالت ليدي: «لا، هذا جيد، فهي تحب الرجال.» ثم عادتْ إلى كنس أوراق الأشجار.
***
قبل أن يبلغ ووكر عامه الثاني، نادرًا ما كنت أفكِّر فيه دون التفكير أيضًا في الموت؛ موتي في الغالب، ولكن أحيانًا موته. بالليل بعدما ينام، «إذا» نام، أو في منتصف الليل إذا كنت مستيقظًا ونام هو، أرى السنوات ممتدة أمامنا لا تتغير. كنت أتساءل إذا ما كانت ستتاح لي الفرصة لفعل أي شيء غير رعايته؛ أتساءل إذا ما كانت رعاية ووكر ستؤدِّي لتآكُل ومحو حبي لزوجتي في النهاية. كنتُ أتصور أين ذهبت كل مشاعر قلقي، والأشياء الحزينة التي كانت تنتج عنها.
لكن كان قلقي الأساسي من الموت؛ من الرحيل بسرعة، قبل أن تتاح لي الفرصة لترتيب المستقبل، ومعرفة ماذا سيحدث له بعد ذلك. تساءلت إذا كان موته سيكون مصدر ارتياح بالنسبة إلي، وإذا كان موتي أيضًا سيمثِّل ذلك له أيضًا. كان المال مصدر قلقي المستمر، كأني بوادٍ ضيق عميق؛ لأني لا أريد لجوانا أن تتحمل العبء المزدوج المتمثل في رعاية ووكر وحدها وتوفير دخل للأسرة بمفردها في حالة وفاتي قبلها، اشتريت بوليصة تأمين رهني، وكان يعني هذا دفع ٥٠٠ دولار كل شهر، وقد كان يصل راتب أولجا والألبان الصناعية الخاصة بووكر إلى أكثر من ٤٠ ألف دولار سنويًّا. (ولسنوات عدة كانت تبلغ فاتورة تلك الألبان ٨٠٠ دولار شهريًّا، بما يساوي أربعة أضعاف تكلفة الألبان الصناعية التي يحصل عليها الطفل العادي، وهو مبلغ لم تكن تغطيه المزايا في عملي؛ فالطعام في نهاية الأمر لا تتم تغطيته. كنت أنفق ٨٠٠ دولار أخرى شهريًّا على البقالة التي كنَّا نشتريها لبقية العائلة، والتي كانت تكفينا تمامًا. وتبلغ تكلفة الألبان الصناعية لووكر الآن ١٢٠٠ دولار شهريًّا؛ لأن تلك الألبان، وفق وصف مصنعها، «سابقة الهضم» للأطفال الذين يعانون من الارتجاع.) وتكلفة الأدوية والأدوات الطبية وحتى رسوم انتظار السيارة في مستشفى الأطفال المرضى (على الأقل ٩ دولارات كل مرة نكون فيها هناك) كلها تضاف إلى الأعباء المعتادة التي تضيفها الأسر إلى الخطة الصحية. ومن المفيد دائمًا متابعة متى ترتفع مزايانا إلى أقصى مستوياتها: في منتصف شهر أغسطس؟ أو هل سنتمكن من أن يحدث هذا في شهر سبتمبر هذا العام؟ بعد ثلاث سنوات من انتقال ووكر إلى دار الرعاية، ما زلت أسدِّد الديون المتعلِّقة به.
في الليالي العصيبة على وجه الخصوص، أو إذا أمطرت السماء بشدة، أو في الغالب بعد مرات الجدال العنيفة التي كانت تحدث بيني وبين زوجتي من حين لآخَر — وقد أرهقنا النوم القليل وشعورنا بالخجل من أنفسنا بسبب فشلنا مع هذا الولد الغريب — كنت أسأل نفسي: أليس الأشجع أن أقضي على حياتي وحياة ووكر معًا؟ صحيح أنني لم أكن مقتنعًا بالانتحار كوسيلة للهروب من المشاكل، ولكن اليأس من الحياة في المستقبل، ورعاية ووكر، يمكن أن يجعلني أفكِّر فيه. يمكنني الانتحار بتناول هيدرات الكلورال أو أدوية أخرى بجرعات كبيرة، ويمكن أيضًا بالقفز بالسيارة من أماكن مرتفعة، أو بإلقاء نفسي في بحيرة.
كانت إحدى خيالات الموت السرية أن أضع ووكر في حقيبة ظهر لحمل الأطفال أمتلكها، من ماركة سناجلي، وآخذه إلى أعلى جبال جنوب كندا في الشتاء، وهو أحد الأماكن المفضَّلة لديَّ على وجه الأرض، ونرقد عند منحدر جليدي، وهكذا تنتهي حياتنا هناك بهدوء بسبب الانخفاض الشديد في درجة حرارة الجسم. تصوَّرتُ المغامرة بتفاصيلها الكاملة، وكيف أختار لحظة وجود جوانا في السينما وهايلي في المدرسة، وكيف أُخرِجه من المنزل ثم إلى المطار، مع كل أشيائه وكل أدوات التزلج. لكن لسوء الحظ، أخرج مجردُ التفكير ذلك التخيُّلَ عن مساره؛ إذا نجحت في تنفيذ هذا الكابوس اللعين، والوصول إلى المطار ومعي ووكر وأدوات التزلج، فلن أَدَع أحدًا يموت، ولا حاجة لي بقتل نفسي. لم يكن هذا بالضبط ما كان يعنيه نيتشه حين قال: إن التفكير في الانتحار ينقذ كثيرًا من الأرواح، ولكنه يمكن أن يفعل في حالتي.
على أي حال، لم يكن باستطاعتي فعل ذلك؛ بسبب هايلي، وبسبب جوانا وبسببي، وبسبب ووكر أيضًا؛ لأنهم كانوا يريدون مني أن أستمر معهم، ولأنهم كانوا يريدون قدوة حسنة؛ الأنشودة الأساسية لأب سليم الطوية.
من حين لآخَر، كانت تطرأ على ذهني فكرة أكثر تطرُّفًا: يمكنني أن أستغرق تمامًا في رعاية ووكر. كانت تستهويني هذه الفكرة بعض الشيء، وهو شعور محتوم خانق ومريح، وأعتقد أن كثيرًا من الأمهات، ولا سيما الأمهات الوحيدات، تطرأ على أذهانهن تلك الفكرة؛ ليس هذا نوعًا من التفاؤل أو التشاؤم، وإنما الاستسلام بكل بساطة. على الأقل بهذه الطريقة كان يمكنني تجنُّب الشعور بالاستياء من عمليات التبديل المخيفة الخاصة برعاية ووكر بيني وبين زوجتي، وكان سيصبح أحدنا مسئولًا بالكامل عنه في نهاية الأمر؛ فرعاية ووكر كانت تستنزف كل جهد ووقت، لدرجة أنني طوال الوقت الذي لم أكن أرعاه فيه، كان عليَّ أن أقوم بمهام حياتي الأخرى؛ كالنوم والعمل والمهام والأعمال الروتينية ودفع الضرائب والرد على المكالمات التليفونية، دَعْ عنكَ الأمور الضرورية والطارئة المتعلقة برعايته. وبغض النظر عمَّنْ كان يتولَّى رعاية ووكر، فالشخص الآخَر بحكم الاضطرار كان يقوم بالمهام الحياتية الأخرى؛ ولذا تشعر دائمًا كما لو أنك تقوم بهذا وحدك، وهذا يجعلك تشعر بالاستياء.
هل تعرف أيَّ شيء عن هذا الأمر؟ كنتُ في تلك الليالي الصعبة أشك في أن أحدًا كان يعرف بما يجري لنا أو يشعر بوطأة معاناتنا؛ تيقَّنْتُ من أننا كنَّا بمفردنا. من الصعب توضيح شعورنا عند فشلنا في تعليم ووكر النوم أو الكلام أو الأكل أو التبوُّل أو حتى النظر إلينا؛ هل يمكن أن تتخيَّل حجم هذا الفشل؟ أدرك أن هذا غير معقول، ولكننا شعرنا بالمسئولية عنه. أنت لا تستطيع التحكُّم في مشاعرك، في منتصف الليل في الشرفة الخلفية للمنزل الصغير القديم في وسط المدينة، والذي يسطع في فِنائه الخلفي الضوء الأبيض الفلورسنتي القادم من مطبخ الأسرة الصينية التي تسكن في المنزل المجاور لنا مثل كشاف الإضاءة الغامرة في معسكر اعتقال، وفرانكنشتاين الصغير نفسه نائم في الدور الثالث، ذاك الدور الذي يشبه قمة إيفرست في الوصول إليه في بعض الليالي. مرَّتْ ليالٍ كنتُ فيها في أشد حالات التعب، والإرهاق، والإنهاك، والضعف، والتي كنت أشرع فيها في الضحك بينما كنت أمشي بتثاقل عبر الردهة، وكنت أستمر في الضحك لعدة دقائق في المرة الواحدة، كأني شخص مجنون، وشعرت بأنني مثل كلب مدرَّب جيدًا يدرك أنه لا يمكنه تعلُّم هذه المهارة الجديدة الأخيرة. يا إلهي! أنا متعب تمامًا: أتذكر جيدًا رفع رجلي بيدي اليسرى، الواحدة تلو الأخرى، كما لو أنهما قطعتا خشب كبيرتان، جِذْلَا شجرة ثقيلان، وأنا أصعد السلم، وأستند إلى الدرابزين بيدي اليمنى من أجل الحصول على القوة. أتذكر ما كنتُ أفكِّر فيه حينها: «لم أعد أستطيع القيام بهذا أكثر من ذلك.» كان عمري حينئذٍ ٤٤ سنة.
في إحدى الأمسيات كنتُ مُنهَكًا جدًّا لدرجة أني سقطت من على دَرَج السُّلَّم وووكر بين ذراعي؛ حيث انزلق كعبي من على حافة درجة من درج السلم، فوقعت على ظهري، حينها تملَّكَ مني الخوف على ووكر وجعلني أحبس أنفاسي، وعندئذٍ أحطْتُه بقوةٍ بذراعي وجعلت من نفسي مزلجة، وانطلقنا لأسفل وهو على صدري، حتى اصطدمنا بشيء في نهاية السلم. ضحكَ وأحب ذلك، وأنا كذلك. كان مصدرًا للمتاعب، وكثيرًا ما كان المخرجَ منها أيضًا.
***
بعد ثلاثة أيام ونصف، غادرت لآرش وعادت الحياة لروتينها المعتاد هناك، فللحياة اليومية هناك إيقاع منتظم وتوجُّه محدد، مهما بَدَا غير تقليديٍّ. كان أمامي وقت كبير للتفكير.
ذهبت إلى فرنسا؛ لأنني كنتُ أريد أن أعرف إن كانت هناك وسيلة معقولة ومريحة لجعل ووكر يحيا في هذا العالم، لأرى بنفسي إن كان من الممكن ليس فقط إيجاد بيت يأويه بعد مماتي، أو حلٍّ خاصٍّ لحاجاته، ولكن أيضًا إيجاد مجتمع وأسرة يمكن أن يعتبر نفسه جزءًا منهما، أو حتى وسيلة للتحرر والاستقلال عنَّا. وهذه هي الفكرة الأكثر تطرُّفًا.
وإذا كان مثل هذا المجتمع ممكنًا، فكيف كان يمكن تبرير التكلفة؟ لم تكن العاطفة سببًا كافيًا تاريخيًّا. وهل يمكن لوجود مثل هذا النوع من المجتمع أن يوفِّر أيضًا فائدة ملموسة وكبيرة لنا جميعًا — نحن غير المعاقين؟ أردت معرفة إن كانت لحياة ووكر قيمة، واتضح لي أن لها قيمة بالفعل، وأكَّد فانيه ذلك.
سبق «جيل لو كاردينال» خطوة للأمام في هذا الشأن، وأثبت ذلك بالأدلة.
***
يعمل لو كاردينال أستاذًا متفرِّغًا لدراسات الاتصالات والمعلومات في جامعة كومبين للتكنولوجيا، وقد ألَّفَ العديدَ من كتب الإدارة القيمة في فرنسا، بَيْدَ أنه بدأ حياته المهنية مهندسَ كمبيوتر في الذكاء الاصطناعي، يصمِّم برامج روبوتية خاصة باتخاذ القرار لصناعة التنقيب عن النفط. وكل يوم أربعاء، كان يصطحب زوجته إلى الغداء في أحد مقرات لآرش في كومبين حيث كانت تعمل.
قال لي «لو كاردينال» في إحدى الليالي على العشاء في بيته: «لم أكن مساعِدًا جيدًا، ولكني كنت مستمعًا جيدًا.» أدهشَتِ العفويةُ الظاهرة لمجتمع لآرش لو كاردينال؛ طريقة تحقيقها لطموحات مجموعة متنوعة من الناس الذين لديهم قدرات مختلفة. ويرى لو كاردينال أن كل ما حقَّقَه من نجاح بوصفه كاتبًا ومحلِّلَ نُظُم يرجع إلى «أشياء تعلَّمَها في لآرش.»
كما هو متوقَّع من شخص وظيفته تحليل عملية معقَّدَة إلى أجزائها المكوِّنة لها، ثم توجيه إحدى الآلات لتكرار هذه الإجراءات، بدأ لو كاردينال في تحليل مؤسسة لآرش، فأعَدَّ قائمة بكل «المساهمين» في أي مقر لها؛ النزلاء والمساعدين والمديرين والآباء الذين لهم تأثير على نوعية الحياة ولهم حصة في الناتج، ثم فرز حاجاتهم ومدخلاتهم إلى وجهات نظر واضحة، ثم قَسَّمها بشكل فرعي وفق نقاط الالتقاء بين وجهات النظر هذه، وأضاف إلى هذا الفهم المنهجي ما استطاع تمييزه من آمال كلٍّ منهم ومخاوفهم وتوقعاتهم وأي إغراءات لديهم لتدمير النظام، ثم درس ما توصَّل إليه من نتائج.
اندهش لو كاردينال من النتيجة التي توصَّلَ إليها؛ حيث وجد أن مؤسسة لآرش قدمت ذكاءً جماعيًّا أكبر من مجموع أجزائها؛ إذ أدَّى التفاعل بين الأسوياء والمعاقين إلى ظهور وجهات نظر أكثر تعقيدًا من أيٍّ منهما على حدة. وبالنظر إلى إقامتي القصيرة في لا سيمانس، أستطيع رؤية تلك الديناميكية على أرض الواقع، مثلًا بَدَا جيجي فاقدًا للشعور بشكل أو بآخَر، حتى إني وجدته يضحك على عُروض جاري، وكانت استجابته تحفز جاري، وتدفعه إلى الاجتهاد أكثر من أجل إقامة علاقة جيدة مع النزلاء. وحين قابلتُ فرانسين على كرسيها المتحرك مصادفةً وأمسكتْ بذراعي وقرَّبَتْ وجهي من وجهها، رددت عليها بمعانقتها وتقبيلها، ولمحت أنها كانت تحب الرجال. ظننتُ أن فرانسين ليست لها احتياجات، واتضح لي عكس ذلك؛ إذ كان بإمكاني أن أُشبِع رغبتها بقليل من العطف. واكتشفَتْ فرانسين أنها يمكن أن تشعر بالراحة، إذا عبَّرَتْ عمَّا تريد حين تحتاج إليه. ولم يتضح هذا بالنسبة إلى كلٍّ منَّا إلا حين تعامَلْنَا معًا في تلك اللحظة بوصفنا متساويين.
قال لي لو كاردينال: «ما وجدته مدهشًا هو نموذج التعقيد … أنا متأكد من أن العقل، العقل النشط، جزء من التعقيد؛ هي سمة جديدة غير مخطَّط لها تنتج من التعقيد. وليس ذكاء النظام في أجزائه، ولكنه في التعقيد ذاته، في العملية التي يتفاعل بها الناس. بالمثل، يقدِّم أيُّ مجتمع في لآرش سمات جديدة ليست في أجزائه المنفصلة، مثل الاعتماد المتبادل والمساواة التامة. ومن هذه السمات الجديدة الاحترام الكامل والمتبادَل بين أذكى الأشخاص وأكثرهم إعاقةً.»
سألتُه: «هل يمكن أن تجد تعقيدًا في عقل معاق؟ يبدو هذا غير منطقي.»
رد لو كاردينال: «نعم يمكن ذلك، إذا كان لديك مجتمع.» والتقط قطعة من الخبز المرقق، وبعض الزبد على سكين، ثم قال: «إذا أردْتُ بسط الزبد، فستنكسر قطعة الخبز.» وفعل ذلك، فانكسرت قطعة الخبز كما قال. «ولكن إذا استخدمت قطعتَيْ خبز كي تدعم كلٌّ منهما الأخرى، فلن تنكسرا. لقد اكتشفتُ الفرق بين الضعف والهشاشة، فعكس الضعف القوة، وعكس الهشاشة الصلابة. فليس الضعف هو قضية المعاقين؛ فهم ليسوا ضعفاء على الإطلاق، لكن الهشاشة موضوع آخَر، وهو أمر يمكن علاجه بالتعاون.»
أدرك لو كاردينال أنه توصَّلَ إلى نظرية جديدة وراديكالية للإدارة، وهي التي قام عليها العديد من الكتب المشهورة منذ ذلك الحين. وفي كتابه «ديناميكيات الثقة»، يطبِّق لو كاردينال الدروس التي تعلَّمَها من التعامل مع المعاقين ليضع نظريةً يحدِّد فيها لماذا يمتلك بعض الناس ثقة أكبر من غيرهم، وكيف يمكن بناء الثقة بالنفس. وقد ساعَدَ الكتاب في التأسيس للدراسة العلمية للثقة. ومن أحد روَّاد العلم الجديد مارتن سليجمان، عالم النفس من كاليفورنيا، والذي بدأت شهرته من دراساته عن العجز المكتسَب في سبعينيات القرن العشرين.
قال لو كاردينال: «ما كنَّا نتعلَّمه كان جديدًا تمامًا … دائمًا ما يقول المعاقون: «هل لي أن أثق بك بقدر حاجتي إليك؟» وهذا هو سؤالهم المحوري. ولحظة حل مشكلة الثقة، يصبح من السهل الدخول في عالم المعاقين واكتشاف ماذا يمكنهم تعلُّمه وإنجازه.»
منذ ذلك الحين أخذ لو كاردينال يطبِّق الاكتشافات التي توصَّل إليها في لآرش بشأن تقييم الخطر، وبناء الثقة بأية مجموعة — فكرته القائمة على أن الثقة والتعلُّم ينبعان من الاعتراف المتبادَل بالاحتياج المتبادَل — على المشكلات الأخرى. وعمل لمدة ست سنوات في روسيا البيضاء، حيث طُلِب إليه البحث عن أسرع الطرق فاعليةً لتعليم النساء المقيمات بالقرب من تشيرنوبل ألا يقدمن لبنًا مشعًّا لأُسرهنَّ. وبَدَا الأمر أصعب مما كان يبدو عليه؛ إذ كيف تمنع الناس من تناول طعام رئيسي — ولا سيما إذا كان الأمر يتعلَّق بلبن ينتجنه بلا تكلفة في مزارعهن — بسبب كارثةٍ وقعت منذ ثلاثين عامًا؟ كانت حكومة روسيا البيضاء قد جرَّبت مَنْع شرب اللبن، ولكن لم يجدِ الأمر نفعًا.
بدأ لو كاردينال مع امرأة واحدة، وشرع في توفير «ثقافة الرعاية» التي كانت ستطور «الوعي الذاتي بالخطر» الخاص بها، ثم استخدم أساليب بناء الثقة المستمَدَّة من مؤسسة لآرش لمدِّ تأثير تلك المرأة التي اختارها إلى بقية النساء في المجتمع. وحين بدأ لو كاردينال المشروع، في بلدة يقطنها ١٢٠٠ شخص و٣٥٠ طفلًا، كان يحصل الطفل فيها عند تناوُله لإناءٍ من اللبن في المتوسط على ألفَيْ وحدة بيكريل من التلوُّث الإشعاعي. (ويُعتبَر مستوى ١٠٠ وحدة بيكريل مقبولًا، أو على الأقل غير ضار.) وبعد ست سنوات، قَلَّلَ لو كاردينال وفريقه متوسط الجرعة من اللبن إلى جرعة تحتوي على ٥٠ وحدة بيكريل لكل طفل. وتوسَّع المشروع منذ ذلك الحين ليشمل حماية أكثر من ٦٠٠ ألف شخص.
لكن لم يَدْعُني لو كاردينال إلى العشاء ليمدح نفسه، بل أراد أن يخبرني أنه يمكنني استخدام المبادئ نفسها مع ووكر. «بالنسبة إلى ووكر، وهو شخص مصاب بإعاقة عقلية شديدة، تكمن الصعوبة في إيجاد «أقرب منطقة للتعلُّم». ففي بعض المناطق نستطيع بسهولةٍ تعلُّم أشياء جديدة، ثم هناك منطقة قريبة حيث يمكنك التعلُّم مع بذل بعض الجهد، وهناك منطقة أخرى لا يمكنك التعلُّم فيها مطلقًا؛ لذلك من الصعب إيجاد المنطقة الأقرب بين المنطقتين الثانية والثالثة، ولكن لو تعامَلْتَ مع الموقف على نحوٍ صحيحٍ، يمكنك تحديدها.» وإذا تمكَّنْتُ من إيجاد تلك المنطقة، فلعلي أستطيع تعليم ووكر بعض المهارات المهمة.
قال لو كاردينال: إن المسألة تكمن في تحديد شيء يهتم به ووكر — على سبيل المثال، الخروج للتنزُّه، الذي يحبه أكثر من أي شيء آخَر — ثم توفير الأدوات التي تسمح له بإيضاح هذه الرغبة. كنَّا بحاجةٍ إلى إشارة أو رمز. أضاف: «باكتشاف رمز محدَّد، حتى ولو كان يوصل أيسر المفاهيم، من الممكن للمعاقين أن يعبِّروا عن أنفسهم حول موضوعات تهمهم؛ لذلك يمكن فجأةً، بكلمة أو إشارة واحدة، أن يكون بينك وبين ووكر تناغُم؛ حميمية وتقارب. أما مع وجود ألف كلمة، فلا يمكن أن يحدث تناغُم بينك وبينه؛ لأن هناك خيارات أكثر من اللازم.»
كان ووكر يثق بي بالفعل؛ لذا فقد تجاوزنا أول المتطلبات. وكانت الخطوة التالية تتمثَّل في تحديد منطقة التعلُّم الأقرب له بتعليمه الإشارة بنعم أو بلا؛ وهو شيء لا يمكنه فعله حتى الآن.
أوضحتُ للو كاردينال أن تعلُّمَ كيفية الإشارة ﺑ «لا» قد تكون الأيسر له؛ إذ «كان معتادًا على هز رأسه، وما زال يحركه جانبيًّا، ولكن «نعم» — الإيماءة التي تدل على الموافقة، أو على الاندماج — ما زالت تستعصي عليه.»
قال لو كاردينال: «عليك أن تجد هذا الشيء.» وكانت نبرته جادة وملحة. «صحيح أن هذا صعب، ولكنه ممكن دائمًا، وقد يستغرق هذا الأمر عامًا، ولكنه حيوي ومهم جدًّا، ولا بد من وجود إشارة قوية يمكن لأي أحد أن يقرأها، ليس أنت أو زوجتك فقط؛ لأنها فرصته الأولى للتعبير عمَّا يحب. ليس: هل تحب التفاح أم البرتقال؟ فقط: هل تريد برتقالًا؟ لا. تفاحًا؟ نعم. إنها الحرية، هي الخطوة الأولى له ليكون حرًّا، الخطوة الأولى له ليختار. هذا مدخله لكي يستخدم ذكاءه، حتى لو كان ذكاؤه قليلًا؛ فهو السبيل لمستقبله، وهو ضروري.»
أجرى لو كاردينال تجارب سأل فيها أطفالًا معاقين لا يستطيعون الكلام عن أكثر الأجهزة التكنولوجية التي يفضِّلونها. ما الإجابة الأكثر شيوعًا التي قالتها الأغلبية الساحقة؟ لم تكن الكمبيوتر، ولا الآي بود، بل كان الشيء الذي يريده الأولاد هو كرسيًّا متحركًا كهربائيًّا. لماذا؟ قال لو كاردينال ناقلًا ما قالوه: «لأني بذلك أتمكَّن من الاقتراب من الناس الذين أحبهم، والابتعاد بعيدًا عمَّن لا أحبهم.» فالثقة تولِّد الرغبة، والرغبة تولِّد الفطنة، والفطنة تولِّد الكرامة. لو اختار ووكر شيئًا ما، فإنه يتحمل بعض المسئولية عن نفسه، ويمكنه التحكم في جزء من مصيره، وأن يصبح أقرب إلى الإنسان العادي. ولا يجب حتى أن يكون اختيارًا بالمعنى الحقيقي للاختيار، بل يكفي فقط أن يكون له شكل الاختيار.
قال لو كاردينال: «عليك أن تعطي لووكر حريته، وحين يتعلَّم الإشارة، إذا سمحتَ لي بمعرفة ذلك، فإن ذلك سيسرني جدًّا، سيسرني جدًّا، وسأعطيك عنوانَ البريد الإلكتروني الخاص بي لكي تبلغني.»
أحاول تعليم ووكر الإشارة الخاصة ﺑ «نعم» منذ ذلك اليوم، أي منذ أكثر من عام. وأحيانًا أشعر بأنه يتحسَّن.
***
سوف أتذكر لزمن طويل جلوسي مع جيل لو كاردينال والحديث إليه في بيته في كومبين، ونحن نتناول يخنة الكاسولي اللذيذة رغم بساطتها، التي أعدتها لنا زوجته دومينيك. وكنا كما لو أننا نجلس في مكان سري نتحدث بشأن خريطة أحد الكنوز، التي لم يكن يعرف عنها أحد غيرنا شيئًا حتى الآن. وكانت أفكاره من الروعة ما جعلها لا تُنسَى. وكونها نشأت بوحي من أشخاص مثل ووكر جعلها من الصعب أن تُنسَى، حتى لو كانت «ثوريةً»؛ لأنها تتعلَّق بكيف يمكن لضعفنا أن يتحوَّل إلى شيء مثمر وناجح، ليس للمعاقين فقط، ولكن لغير المعاقين أيضًا، وهذا شيء اكتشفته من المعاقين، حين أخبروني أنه ينبغي لي ألا أخفي العيوب التي بداخلي.
قال لو كاردينال، بعد فترة توقُّف قصيرة عن الكلام: «وقد غيَّرَني هذا؛ لأنه في عالم قائم على التنافس، عليك أن تخفي ما لديك من ضعف أو خطأ؛ إذ سيحاول شخص ما أن يهاجمك حين يكتشف هذا الضعف، سيحاول أن يستغل الضعف. فحين يلعب لاعبان في فريقين مختلفين، سيحاول كلٌّ منهما هزيمة الآخَر، وهذا ما لا يختلف فيه المعاقون عنهم مطلقًا؛ فهم يحترمون نقاط ضعفنا المتبادلة.» فالمرء ينكشف من خلال حاجته، ولا داعي لمحاولة إخفاء هذا.
هناك بطل آخَر من أمثال لو كاردينال، وهو جاك دو بوربون-بوسيه — الدبلوماسي الفرنسي ورئيس الأكاديمية الفرنسية الذي ابتعد عن السياسة ليصبح كاتبًا — عبَّرَ عن ذلك بوضوح بقوله: «عدوُّ الحبِّ الاعتزازُ بالذات.» ودو بوربون-بوسيه كان صديقًا لشارل ديجول، كما كان جورج فانيه، والد جان فانيه، وكان كلا الرجلين على علمٍ بأمر ابنة ديجول المعاقة آن، التي وُلِدت وهي مصابة بمتلازمة داون. وكان معروفًا عن ديجول أنه رجل متحفِّظ، فيما عدا تعامله مع آن. وقد ماتت آن عام ١٩٤٨ في سن العشرين. وبعد جنازتها، واسى الرئيس زوجته وهما يغادران بعيدًا عن قبر آن قائلًا: «الآن، هي مثل الآخَرين.» وكان ديجول يحمل صورة آن أينما ذهب بعد ذلك، حتى إنه ادَّعَى أن الرصاصة التي أُطلِقت عليه في محاولة الاغتيال الفاشلة عام ١٩٦٢ أوقفها إطارُ الصورة، التي كانت مسندة في ذلك اليوم بالمصادفة على رف النافذة الخلفية لسيارته. وبعد عشرين سنة، دُفِن ديجول بجوار ابنته، وهو أمر أجده مثيرًا للحزن بدرجة كبيرة.
على الرغم من أن كلمة «محزن» ليست الكلمة المناسبة، أو ليست كافية، فهي تعبِّر ولو على نحو بسيط عن شعوري تجاه الأمر؛ فكرة رغبته المتواصلة غير المتبادلة في الوصول إليها، والتي تحقَّقت بشكل محتوم في النهاية: الشكل الكئيب والهزيل لوحدتنا وتوقنا الإنساني وقد كشفت عنه طفلته الضعيفة.
تعلمت كل هذا، من خلال جيل لو كاردينال، وجان فانيه، ومن جوهر ووكر.
لذا ربما تسامحني لأني اعتقدت، في يوم ما، أن لوجود ووكر هدفًا في مشروعنا التطوري، وأنه شيء أكبر من محاولة فاشلة للطفرة والتنوُّع، ولأني فكَّرتُ — على ما يبدو أنه بلا جدوى — أنه إذا لاحظنا ونسخنا و«انتخبنا» نموذجه، فقد يكون خطوة (صغيرة جدًّا) نحو «تطوُّرٍ» أخلاقي مَرِن وأكثر تنوُّعًا في أفراد قليلين من الجنس البشري، وقد يكون الهدف من وجود المعاقين عقليًّا مثل ووكر أن يحرِّرونا من العقم الصارخ لنظرية البقاء للأصلح.