الفصل الرابع عشر
يجعلني ووكر أعيش في الحاضر؛ فهو لا يترك لي خيارًا. لكنه نتاج الماضي، مثل أي شخص آخَر.
إن تاريخ رعاية المتأخرين عقليًّا هو قصة معاناتنا مع اللامعقول، صراعنا مع ما يخيفنا، سعينا للتغلُّب على ما نواجِهه، وهناك دليل أثري على أن إنسان نياندرتال كان يرعى أفراد قبيلته من المعاقين بدنيًّا (أظن أن التأخُّر العقلي لم يكن ملحوظًا في ذلك الوقت)، بَيْدَ أن تلك اللحظات نادرة بلا ريب في مسار تاريخ الإنسان المتحضِّر، فشعارنا الذي نألفه أكثر هو «البعيد عن العين، بعيد عن القلب.» وصَلَ وأْدُ الطفل المعاق إلى ذروته عندما كانت الحاجة لذلك في أدنى مستوياتها؛ في ذروة مجد أثينا ونفوذها، وكان أفلاطون وأرسطو (لأسباب مختلفة) هما من أشارَا إلى ضرورة قتل المشوَّهين بعد ولادتهم مباشَرةً. وفي هذه الأثناء في إسبرطة كان من حق الأب أن يُنهِي حياة طفله الضعيف. وكان المعاقون عقليًّا يُربَّون في الظلام في روما؛ إذ كانوا يعتقدون أن هذا علاج لهم، على الأقل حتى اعترض على تلك الممارسة الجرَّاح الروماني سورانوس (باسم كهذا، كيف لا يكون طبيبًا؟) الأب الروحي لطب أمراض النساء وطب الأطفال. علاوةً على ذلك فقد أكَّدَ على أن دهن رأس المعاقين عقليًّا بزيت الزعتر ونبات الجُلنسرين لن يؤدي لشفائهم.
كان الكثير يعتمد على المكان الذي يعيش فيه. كره مارتن لوثر — الغريب السالف الذكر — المعاقين ونبذهم بوصفهم أقارب الشيطان، ولكن في فرانكفورت كان يُعيَّن للمعاقين عقليًّا مرافقون، وفي نورمبرج (على الأقل في فترةٍ ما) كان يُسمَح للمعاقين بالتجوُّل في الشوارع دون أن يمسهم أحد، وأن يطعمهم الجيران ويرعوهم. واتخذ تيكو براهي، أول عالم فلك معاصر (وأستاذ عالم الفلك الشهير كبلر) قزمًا لديه تأخُّر عقلي كرفيق له، وكان يستمع إلى همهماته كما لو أنها وحي سماوي. ولكن في بروسيا كان المجانين عادةً ما يُحرَقون أو يُسجَنون. فلم يستطع المجتمع على ما يبدو تحديد طريقة التعامُل مع الإعاقة العقلية (بدأت التفرقة بين الجنون والإعاقة العقلية في مطلع القرن السادس عشر، ولكن بصورة فردية فقط): فقد كان مشهد الفوضى الإنسانية لافتًا للنظر، ولكنه مرعب للغاية أيضًا حين نشاهده لمدة طويلة، والنتيجة — كما يؤكدها ميشيل فوكو في كتابه الرائع والمثير للجدل «تاريخ الجنون» — هي قمع الجنون بل أيضًا فكرة الجنون، بابتكار وسيلة العزل، والعزل طريقة لاحتواء المشكلة، وجعلها تحت سيطرتنا وبعيدة عن الأنظار. ما زلنا ننظم ونصنف و«نحل» الإعاقة العقلية منذ بداية عصر العقل على الأقل؛ حين قرَّرَ ديكارت أنه موجود فقط لأن عقله قادر على التفكير والاعتقاد بأنه موجود. ولكن في سياق جعل المشكلة تبدو كأنها تختفي بالتظاهر باحتوائها وحلها، فقد نجح المجتمع في احتواء خوفه من الإعاقة وحصره، رعبنا من إمكانية التفاعل البدني معها. وكان يُعَدُّ الجنونُ والتأخُّرُ العقلي الشديد وأيضًا الفدامةُ حالاتٍ وجوديةً؛ فكان يُنظَر إلى الجنون على أنه نظير للعقل، ولكن ليس كمرضٍ يحتاج إلى علاج؛ فالجنون، كما يقول فوكو، «لا يتعلَّق بالحقيقة في العالم، ولكنه يتعلَّق بالإنسان والحقيقة المتعلِّقة بنفسه التي يمكنه إدراكها.» فووكر أراني ما لم أكن أريد أن أراه — حاجاته العديدة، ليس فقط حدود إمكانياتي، ولكن أيضًا القدرات الكامنة فيها والعطف — وأيضًا ما لم أكن أراه لولاه؛ كقدرته على جعل أية لحظة تمرُّ بنا ذكرى لا تُنسَى، وقدرتي على تقدير أهميتها. لا يريد أحد منَّا أن يكون مجنونًا، ولكنْ هناك أهداف عديدة لوجود حالات الجنون في حياتنا، بوصفها طريقًا للتأمُّل الذاتي الصعب. ففي عالم ما قبل العلم، عصر شكسبير وسرفانتس، حين كان لكلٍّ من الفن والخيمياء والمنطق والوحي السماوي والخبرة نفس المكانة، كان الجنون كرمح مباشِر في ظلام الوجود الإنساني. الإنسان الذي وُلِد للألم والحزن، فقط ليواجِه … الموت! ماذا كان يمكن أن يعني كابوس الوجود؟ وحتى تأمُّلُ الغرض منه كان يتطلَّب رؤيةً خاصةً ووجهة نظر عميقة، فالجنون والمرض العقلي كانا كسيارات مسرعة عبر هذا النفق، وكان عدم الاتزان العقلي مبررًا حتى تكون غريبًا، وتفكِّر بطريقة غير تقليدية؛ فقد كان يُسمَح للحمقى في مسرحيات شكسبير، أو المجانين في سفينة الحمقى، بالحديث عمَّا يدور في عقولهم وبإظهار تفاهة أهداف حياتنا اليومية وحالات الإنكار الصريحة التي نعيش فيها في حياتنا اليومية؛ فهم لا يستطيعون إخفاء ذلك لأنهم متخلِّفون عقليًّا. وفي أوروبا في العصور الوسطى أُجبِرَ المجانين الهائمون على وجوههم على العيش خارج أسوار المدن، ولكنهم كانوا يُدعَون من آنٍ لآخَر لتسلية السكان؛ لكي يكشفوا عن شكل حياة المواطنين. هناك أوقات كنتُ أتأمَّلُ فيها دار رعاية ووكر الموجودة في ضواحي المدينة التي أعيش فيها، وأقول في نفسي: الأمر ليس مختلفًا جدًّا.
لكنَّ المجانين والمتأخرين عقليًّا كانوا يَتَحَدَّون النظام الاجتماعي، كما يؤكِّد فوكو، وقيَّمَهم المجتمعُ بناءً على ذلك (وهو ما يعني أنه يمكن «فهمهم») ثم قَمَعَهُمْ («تعامَلَ معهم» وعزَلَهم). أحيانًا كانت تحيِّرني رؤية فوكو للتاريخ والحضارة بوصفهما محركين للقمع الإنساني، وعادةً ما كنتُ أرى فيها مبالغة كبيرة، ولكني فهمت وجهة نظره أخيرًا: فإذا حصلت على إشباع كبير من مجرد وجودي مع ووكر، من مجرد إجباري على أن أكون كما أنا، سأسهم بشكل أقل في السباق المحموم للرأسمالية الغربية التي تقوم على قِيَم اتِّبَاع القطيع والنجاح بأي ثمن، والسير وفق معايير الآخَرين، والتركيز على تحقيق النتائج الذي أدَّى، على سبيل المثال، إلى الأزمة المالية العالمية في عام ٢٠٠٨. ويؤكِّد فوكو أننا نفضِّل الوضع الراهن؛ لذا نسعى إلى «علاج» أو «مواجهة» الجنون.
بحلول أواخر القرن السادس عشر وُضع توصيف كمي للإعاقة العقلية لأول مرة: فالشخص الأبله هو من كان لا يستطيع عدَّ عشرين بنسًا، ولا يعرف أمه أو أباه، ولا يعقل مصلحته. وفي عام ١٨٠١، وضع فيليب بينيل، الأب الروحي للطب النفسي، الأسس الخاصة بالتعامل مع المعاقين عقليًّا؛ فحيث إنه لم يكن هناك أمل كبير في علاج المتخلفين عقليًّا، وجَبَ الوفاء بمتطلباتهم الجسدية، وهذا أقل ما يقدِّمه المجتمع لهم. (من بين ٣١٩٥١ طفلًا دخلوا دار إيواء الأطفال اللقطاء بباريس من عام ١٧٧١ إلى ١٧٧٧، حوالي ٢٥ ألفًا، أو ٨٠ في المائة منهم، ماتوا خلال عام.) ولم يكن بينيل تقليديًّا؛ إذ فضَّلَ العمل في مجال الطب على العمل في الكنيسة، بعدما أُصِيب صديق حميم له بالجنون، بَيْدَ أن رغبته في مساعدة الأفراد المختلين عقليًّا من خلال محاولة تفسير سلوكهم وتنظيم أحوالهم والسيطرة على تصرفاتهم أدَّت أيضًا إلى بعضٍ من أكثر الظروف غير الإنسانية في تاريخ أوروبا. ففي سالباتير، المصحة العقلية المشهورة في باريس التي كان يديرها بينيل، كانت تلبس خمسة آلاف امرأة سترات فضفاضة مصنوعة من الخيش، وتنام كلُّ خمس منهن في سرير واحد، وكان طعامهنَّ اليومي عبارة عن قدح من العصيدة وأوقية من اللحم وثلاث شرائح من الخبز، وكان يعيش ما يزيد على ألف شخص «ضعيفي العقل» في جناح واحد بمفردهم. وفي بيكاتر، وهي مصحة عقلية أخرى في باريس لكنها أكثر فظاعةً، كان يشرف عليها بينيل أيضًا، كان يعيش المجرمون جنبًا إلى جنب مع المعاقين عقليًّا، وغالبًا ما كان يُقدَّم لهم الطعام، بحكم الضرورة، والسلاح في وجوههم. غير أن هذه الرؤية في التعامل مع الجنون طمأَنَتِ الأوروبيين، بنفس الطريقة التي طمأَنَ بها إنشاء السجون كثيرًا من الناخبين الأمريكيين خلال السنوات الثلاثين الماضية، بأن مجتمعهم منظَّم وآمن وعادل، وأصبح عزل المعاقين عقليًّا هو الشائع؛ فقضى واحد من كل مائة مواطن من مواطني باريس بعض الوقت في مصحة عقلية.
لم يتوقف الأمر على بينيل في فرنسا، فبحلول عام ١٨٩٠ زاد عدد الأفراد في المصحات العقلية الأوروبية إلى أكثر من الضعف. يقول فوكو: «ظهر حدٌّ فاصل جديد مما جعل التجربة التي كانت مألوفةً جدًّا في عصر النهضة — العقل غير المعقول، أو الجنون العاقل — مستحيلة.» أنا لا أرغب في تصوير الإعاقة العقلية بطريقة رومانسية، ولكني أدركُ ما يعنيه هذا الجمع بين الكلمات المتناقضة؛ فهو طريقة لمحاولة فهم ووكر ونفسي، بالاستماع إلى ولد لا يستطيع الكلام، بالسير وراء ولد ليس له اتجاه معروف.
بدأت تبزغ ببطء رؤية بديلة للإعاقة تتعارَضُ مع رؤية المؤسسات العاقلة التي كانت تقوم على العزل والبيروقراطية والرغبة في السيطرة على المعاقين عقليًّا. ففي إيطاليا، منع فينتشنزو كياروجي استخدام السلاسل مع نزلاء المصحات العقلية قبل أن يفعل ذلك بينيل بما يقرب من عقد، وكتب كياروجي يقول: «احترام الفرد المصاب بالجنون بوصفه إنسانًا يُعَدُّ التزامًا طبيًّا وواجبًا أخلاقيًّا ساميًا.» والسعي من أجل تحقيق هذا — معاملة المعاقين عقليًّا بوصفهم أفرادًا، متساوين مع بقية أعضاء المجتمع ومساهمين فيه مثلهم، بغضِّ النظر عن قلة أو دقة إسهامهم، وعن عدم رغبتنا في فهم ماهية ذلك الإسهام — هو السعي الذي لم يكتمل في تاريخ الإعاقة العقلية. لا ينكر أحدٌ التقدُّمَ الكبير الذي يتمُّ إحرازه؛ فقد شهدت المائة والخمسون عامًا الماضية وحدها تحسُّنًا كبيرًا في النواحي المادية لحياة أناس مثل ووكر. فباستير وليستر ونظرية جرثومية المرض، وماري كوري وأشعة إكس، وفيركو وخلاياه، ودراسات جريجور مندل عن الوراثة، وداروين ونظرية التطور، وفرويد والعقل الباطن، وحتى علم الجينات؛ أسهم كل هذا في فهم المعاقين عقليًّا، كما فعل التعليم العام والتعديلات القانونية الحديثة حول حق المعاقين في توفير حياة كريمة لهم. بَيْدَ أننا ما زلنا نرى أن «النتائج» هي المقياس الوحيد المؤكد للنجاح الإنساني، وما زلنا نرتكب الأخطاء حتى نحافظ على وهمِ أننا نحقِّق نتائج. ففي وقت قريب، عام ١٩٦٤، اشترى جان فانيه بيتًا صغيرًا لرجلين من المعاقين عقليًّا لأن الظروف في المصحات العقلية (في فرنسا، وهذا هو الغريب) أصابته بالانزعاج. ومنذ عام فقط قابلت ليندا بروسين على الغداء في أحد الأيام في تورونتو، وشرحَتْ لي كيف أن أختها كارولين المتأخرة بدنيًّا وعقليًّا والتي في الثلاثينيات من عمرها، لا تزال تعيش في البيت مع والدَيْها، اللذين يبلغان من العمر الآن أربعة وستين عامًا، ولا يزالان يسعيان من أجل إيجاد طريقة تحيا من خلالها كارولين حياة سعيدة من دونهما. وبالنسبة إلى والدَيْ بروسين، فإن الترتيب لمشاهدة فيلم في السينما في ليلة الجمعة يُعَدُّ أمرًا معقَّدًا مثل التخطيط للذهاب في إجازةٍ لمدة أسبوعين.
قالت بروسين: «النموذج المطروح الآن يقوم على فكرة الدمج، والفكرة تشير إلى دمج المعاق في المجتمع، ولكن سيتوقَّف هذا عند حدٍّ معين؛ لأن أختي لن تكون قادرة أبدًا على أن تكون جزءًا من المجتمع. على سبيل المثال، من الواضح جدًّا أنها مختلفة من الناحية البدنية، فإذا أخذتها إلى صالون تصفيف الشعر، فسينظر إليها الناس نظرات استغرابٍ، فهل هذا عادل بالنسبة إليها؟ أليس من المعقول أن نتوقَّع لها أن تحصل على قَصَّة الشعر التي تريدها دون تلك النظرات الغريبة؟» قضينا ثمانية عشر عامًا في محاولة دمج أشخاص مثل ووكر في المدارس العامة، ثم في سن الثامنة عشرة، حين يصلون إلى نهاية المرحلة الثانوية، نخرجهم إلى مجتمعٍ لا يعرف شيئًا عن الدمج. سينجو ووكر من هذا المصير؛ لأنه ليس صالحًا من الأساس «للدمج» في المجتمع.
هذه الأخطاء كثيرة، وما زالت الخدمات الطبية المخصَّصة للمعاقين قليلة في مدينة ساسكتون بساسكاتشوان، حتى إنه كان على جوليا وودزورث، البالغة من العمر عشرين عامًا والمصابة بمتلازمة القلب والوجه والجلد والتي تعيش مع أمها بام وأبيها إريك؛ الانتظار مدة «ثلاث سنوات» لتحديد موعد مع عيادة الأسنان لعلاج أسنانها. قالت بام وودزورث: «أشعر في كل مرحلة من مراحل حياة جوليا كأن علينا أن نكون نحن الرواد، ولكني لم ألحظ تطوُّرًا حقيقيًّا في بعض الخيارات الخاصة بالمعاقين.» تبعد ساسكتون مائة ميل فقط شرق ويلكي بساسكاتشوان، حيث خنق روبرت لاتمير عام ١٩٩٣ ابنته تريسي، المصابة بالشلل الرباعي والبالغة من العمر اثني عشر عامًا؛ لأنه لم يَعُدْ يتحمل رؤيتها وهي تعاني، وحُكِم عليه بالسجن المؤبَّد لارتكابه قتلًا من الدرجة الثانية. وقالت بام وودزورث لي في نفس اليوم الذي لم يحصل فيه لاتمير على إطلاق سراح مشروط: «إننا نتعاطف، كأسرة، كثيرًا مع آل لاتمير.» (وأُلغِي الحكم ومُنِح إطلاق سراح مشروطًا بعد شهور.) وأضافت: «السؤال الكبير الذي ما زال يدور في ذهني هو: لماذا لا تُحاكَم مقاطعتنا؟ ما فعله هذا الأب كان بسبب شعوره باليأس، فتلك الأسرة لم تكن تحصل على الدعم المطلوب. أعتقد أننا جميعًا، بصفتنا أعضاء في مجتمع مدني، قد ساهمنا في موت تريسي.»
الآن المسئولون في أونتاريو، الذين يديرون نظام الرعاية الصحية في المكان الذي أعيش فيه، حريصون على أن يبدون كأنهم يبذلون أقصى ما في وسعهم للقضاء على فترات الانتظار لإجراء الجراحات؛ فإذا أردتُ تركيب ركبة جديدة حتى أتمكَّنَ من التزلُّج بصورة أفضل، يمكنني الحصول عليها في غضون ستة أشهر، وإذا عرفت الطبيب المناسب، يمكنني إجراء الجراحة في غضون أسبوعين؛ فلماذا إذن يستغرق الأمر سبع سنين من البحث والطلب والاستجداء من أجل إيجاد مكان محترم يجد ابني فيه رعاية مناسبة، ويشعر فيه بإنسانيته؟
في تلك الأيام، هناك حلم يقظة كثيرًا ما أتخيَّله؛ حيث أرى أن ووكر وأمثاله يعيشون في مجتمع مثل مجتمعات مؤسسة لآرش بمعاونة المساعدين، وهو مكان جميل في بقعة جميلة تطل على البحر أو الجبال، لأنه في هذا المكان، ليس فقط القادرون ماديًّا هم مَن يستطيعون النظر إلى هذه المشاهد الخلَّابة، ولكن أيضًا الذين قد يحتاجون إلى الجمال أكثر؛ لأنهم فقدوا كثيرًا منه في حياتهم. وفي حلمي، يمتلك هذه القرية ويسكنها المعاقون، وفقًا لرؤيتهم وإيقاعهم ومعاييرهم للنجاح؛ ليس المال أو النتائج، ولكن الصداقة والألفة والصحبة. وفي حلمي، نحن — الطبيعيين — من يجب عليهم أن «يندمجوا» في مجتمعهم، وأن يتكيفوا مع إيقاع حياتهم ومكانهم. يمكنني ترك هذا المجتمع، يمكنني العودة إلى حياتي الأكثر ضغوطًا وطموحًا وحتى الأكثر إثارةً، ولكن يمكنني أيضًا العودة للعيش مع ووكر، كما يعيش ووكر؛ ببطء ودون أي مساعٍ أخرى غير أن يعيش على طبيعته.
ولأنه في حلمي «يرغب» الكثير من الناس — الملحنون، والكُتَّاب، والفنانون، والطلاب، والحاصلون على درجة الماجستير في إدارة الأعمال الذين يحاولون الحصول على درجة الدكتوراه في نفس التخصُّص، والباحثون والمديرون الذين هم في إجازة طويلة — في زيارة مجتمع ووكر والعيش فيه لفترات زمنية ممتدة في المرة الواحدة. يمكننا نحن أيضًا الاستمتاع برفاهية العيش في قرية ووكر لبضعة أسابيع أو شهور في المرة الواحدة، في غرف جميلة حيث المناخ يساعدنا على إنجاز عملنا وفننا ودراساتنا. والتزامنا الوحيد سيكون محاولةَ الاندماج في عالم المعاقين بتناول الغداء والعشاء معهم، وبتحميم أحدهم مرةً في الأسبوع. وفيما يتبقَّى من وقت، نستطيع التفكير والكتابة والرسم والتأليف الموسيقي والتحليل والحساب، ولكن عندئذٍ سيكون المعاقون قد أنجزوا عملهم، وحقَّقوا أهدافهم، وغيَّروا نظرتنا إلى العالم، وسنكون قد استفدنا منهم أكثر بكثير مما أفدناهم، ولكنهم لن يمانعوا ذلك. وسيكون ووكر قد قدَّمَ مساهمته للمجتمع، بمجرد كونه هناك. كما قلتُ، هذا حلم.
***
مرت عدة أشهر بعد إجراء ووكر للاختبارات الوراثية الخاصة به قبل أن أتوقَّف عن كراهية علم الوراثة. لم أكره كيت روين، فعزلها للجينات المرتبطة بمتلازمة القلب والوجه والجلد يُسهِّل تشخيص المتلازمة؛ مما يعني أن البدء في التدخُّل العلاجي المبكِّر يمكن أن يحدث في أقرب وقت. ولم أكره حقيقة أن إيجاد علاج وراثي لأعراض تلك المتلازمة تبعدنا عنه أجيالًا، أو حتى أن الدكتورة روين كانت هي الوحيدة التي قابلتُها وأكَّدت أن جين تلك المتلازمة سيكون له دور في علاج مرض السرطان.
ما كرهته هو فكرة أن حياة ابني اختُزِلَتْ خطأً في حرف من سلسلة حروف طولها ثلاثة مليارات حرف، في نيوكليوتيد واحد صغير. وكانت تلك الحتمية التي يتسم بها علم الوراثة هي ما يضايقني، وقد قابلت علماء وراثة بارزين كان لديهم نفس الشعور. كتب كريج فينتر، رائد الأعمال الذي ساعَدَ في إنشاء مشروع الجينوم البشري، وأحد الأشخاص القلائل الذين خضع الجينوم الخاص بهم لتحديد التسلسُل الخاص به على نحوٍ كاملٍ، يقول في هذا الشأن في سيرته الذاتية التي بعنوان «فك شفرة حياة»: «لم تصنعنا الجينات، جسدًا وعقلًا.»
في جامعة أكسفورد، هناك عالم وراثة شهير اسمه دينيس نوبل — مؤلِّف كتاب «موسيقى الحياة: علم الأحياء فيما وراء الجينوم» — ذهب أبعد من ذلك؛ إذ قال إنه من الممكن من الناحية التجريبية أن نحدِّد ارتباطَ جينٍ معيَّنٍ بحدوث طفرة ما، كما توصَّلَتْ روين وزملاؤها من الباحثين، «لكن خلاف ذلك، إذا تصوَّر الناس من خلال هذا الأمر أنه بالإمكان تحديد وظيفة ذلك الجين، فهذه قفزة إلى نتيجة غير صحيحة.» لقد اتضح أن تركيب الجينوم البشري أبسط بكثير من المتوقَّع، ولكن علم وظائف الجينات في البشر — طريقة عمل الجينات الفعلية — أكثر تعقيدًا بدرجة كبيرة مما يتصوَّره أي أحد.
والأكثر أهمية، كما يؤكِّد نوبل، أن فهم البشر بوصفهم نتاج الجينات وحدها، من النيوكليوتيدات فما فوق، يُعَدُّ تسخيفًا للأمور. أخبرني بالتليفون من جامعة أكسفورد ذات صباح: «تُعَدُّ التداعيات الاجتماعية والأخلاقية لفهم الإنسان على أنه مجرد نتاج للجينات فما فوق عميقة.» كان يتحدَّث بلكنة إنجليزية فصيحة لافتة. وأضاف: «يبدو لي أن أحد الآثار الأساسية التي ظهرت نتيجةً لجاذبية فكرة كون الإنسان نتاج الجينات وما فوق الخاصة بعلم الوراثة، هو أنه كما يكشف أسرار الجسم البشري، فهو يجرِّده من إنسانيته.»
فيما يخص العقل — الشيء الدقيق الغريب الذي كنتُ أبحث عنه في جسم ولدي، لأحصل فقط على بعض المعلومات المشتتة — فقد أكَّدَ دكتور نوبل أنه لا علاقةَ له بالجينات، وهي وجهة نظر خلافية، ولكن نوبل كان مصرًّا عليها، وأوضح قائلًا: «على مستوى الخلايا العصبية والجزيئات المرتبطة بها، فالعقل ليس له أية علاقة بها؛ فأنت لا يمكنك حتى فهم فكرة القصدية دون فهم الشبكات الاجتماعية التي نوجد فيها، ودون تواصل بعضنا مع بعض. وفي رأيي إننا سنجد أن العقل يقع خارج الجسم، في الشبكات العصبية للحياة الاجتماعية والثقافية.» وكان يتبنَّى رؤية «البوذيين والطاويين، الذين يعتنقون فكرةَ أن العقل ليس شيئًا، بل عملية.»
قال لي روديريك ماكينيس مساء أحد الأيام: «الجينوم البشري مخزن رائع لكنه سرِّي للمعلومات.» كان ماكينيس يعمل رئيس قسم الوراثة في المعاهد الكندية للأبحاث الطبية، وهو رجل طويل وودود، ويملأ رأسه شعر بني، ومكتبه مليء للسقف بالبحوث العلمية والكتب وصور أسرته. وخارج مكتبه، الذي في الدور العلوي لمركز أبحاث جديد في وسط مدينة تورونتو، كان يَنكبُّ عشرات من باحثي الوراثة على أجهزة الكمبيوتر. وبينما كان ماكينيس يتحدَّث، كان ينظر في الأبحاث والمجلات العلمية وكتاب «الوراثة في الطب» (الطبعة السابعة)، وهو أحد المراجع الرئيسية في هذا المجال، والذي شارَكَ في تأليفه، وأدهشني على غير العادة أن طبيبًا يرجع إلى كتاب له، ولكنه اعترَفَ صراحةً أن السرعة التي تتطوَّر بها المعلومات، وتعقُّد ما تشير إليه تلك المعلومات، أمرٌ يجعل من المستحيل استيعاب المجال على إجماله، ويجعل التقدُّم في المجال العلاجي نادرًا. وأشار إلى أن فقر الدم المِنْجَلِي هو أول مرض جزيئي (أو «جيني») عرفه العلماء، ويعود هذا إلى عام ١٩٤٩. وبعد ستين سنة مضت، لم يُكتشَف له علاج بعدُ. ويتفق علماء الوراثة بصفة عامة بشأن عدد الجينات المشفرة للبروتينات في الجينوم البشري — والتي تبلغ ٢٥ ألفًا تقريبًا — لكن هناك على الأقل ٣٢ ألف جين آخَر غير مُشفَّر يوجِّه جينات أخرى إلى ما ينبغي أن تفعله؛ فهناك نُظُم للتغذية الراجعة ضمن نُظُم التغذية الراجعة، وهناك اكتشافات وبيانات جديدة تُنشَر كل يوم. وحتى الجينوم نفسه لم يحدِّد العلماء تسلسله بالكامل. قال: «لا تزال هناك مناطق لا نستطيع تحديد تسلسُلِها؛ لأنها معقَّدَة.»
أقنعني ماكينيس بالتدريج أن مشكلتي ليست مع علم الوراثة، ولكنها مع طبيعة المرض الوراثي، وقال: «هناك أمر يتعلَّق بالمرض الوراثي والأطفال، وهو الطبيعة الدائمة له، والمشاعر المرتبطة بالطفرات؛ فلحظةَ أن تُصَابَ به، لن تُشفَى منه. أما الأمراض الأخرى، فلا تدوم معك مدى الحياة، وأرى أن الطبيعة العنيدة للمرض الوراثي هي ما تجعله يسترعي الانتباه. وتتغير خطة المرض الوراثي.» ثم توقَّف لبرهة وأضاف: «فهو يتغيَّر بناءً على التغيير الذي يحدث للأفراد المصابين به.» وكان المرض الوراثي يبدو كشكلٍ قاسٍ جدًّا من أشكال القدر؛ فمعظم أطباء ووكر كانوا يقولون: «أراك بعد أسبوع أو أسبوعين.» بينما يقول اختصاصي الوراثة الذي يتابعه: «أراك بعد سنتين.»
وماذا عن عقل ووكر؟ هو غير قابل للإصلاح، من وجهة نظر علم الوراثة. قال ماكينيس: «يحتوي المخ على ٢٠ مليار خلية عصبية، وتُجري كل خلية عصبية ألفَ اتصال، ويتصل بها عشرة آلاف خلية أخرى، ومن غير المحتمل أن نفهم المخ على مستوى الخلايا العصبية الفردية، وربما سيتعيَّن علينا النظر إليه بطريقة علماء الفيزياء الفلكية عند محاولتهم فهم مليار نجم.»
أجد هذا مريحًا على نحوٍ غريب. أرجع بظهري للوراء متكئًا على شيء، وأحملق في الومضات العشوائية لعقل ووكر وأتأمَّل.
أواصل الحديث إلى الفضاء الأسود الذي به نقط بيضاء، أواصل الحديث إلى ووكر. وبالطبع ليس ووكر وحده مَن بحاجة إلى مواصلة السماع إليَّ وأنا أتكلم، فأنا الذي يحتاج إلى مواصلة الحديث إلى ووكر، وأخشى مما سيحدث إذا توقَّفْتُ عن ذلك.
***
كما اتضح فيما بعدُ، حاولت مرة أخيرة استكشاف عقله، فتقدَّمت لعمل أشعة رنين مغناطيسي على مخه، وهي صورة عميقة لمخه، وبعد ستة أشهر طلبوا منَّا الحضورَ الساعة الثامنة صباحًا إلى قسم الرنين المغناطيسي في مستشفى الأطفال المرضى بتورونتو، المكان المألوف لنا. يقع قسم الرنين المغناطيسي في القبو الواسع للمستشفى، في نهاية ردهة طويلة جدًّا، وكان لون الحوائط بيج أو أصفر أو أزرق فاتحًا، مثل حوائط جميع المستشفيات.
كنتُ أنا وووكر أول الحاضرين، وبحلول الساعة الحادية عشرة والنصف، أي بعد ثلاث ساعات ونصف، كنَّا لا نزال بانتظار الطبيب. في الأحوال العادية يشعر المرء بالسخط حين ينتظر الطبيب لمدة ثلاث ساعات ونصف مع أن الموعد محدَّد سلفًا، وذلك حتى إن كان لديه طفل طبيعي. لكن ثلاث ساعات ونصف من الصراخ الحاد والضرب لطفل معاق تجربة تجعل الآباء يصيحون في وجه موظَّفِي الاستقبال، ولكن لم يصل هذا الفهم بعدُ إلى عقول مسئولي المستشفيات، حتى أفضل مستشفى أطفال في البلاد.
في النهاية حضرَتْ طبيبة تخدير شابة كانت ترتدي اللباس الطبي الأزرق الملكي المعتاد، وأبلغتني أنها تريد تقريرًا حديثًا من طبيب القلب الذي يعالج ووكر قبل إجراء التخدير العام المطلوب له لإجراء أشعة الرنين المغناطيسي.
قلتُ بداهةً: «لم يطلب أحدٌ مني ذلك. وعلى أي حال، اختفَتْ نفخة قلبه منذ سنوات، وهي غير موجودة فعليًّا.»
قالت: «ما زلتُ أحتاج إلى تقرير حديث.»
«ولكنه كان هنا منذ شهر لتنظيف أسنانه، وقاموا بتخديره في ذلك الوقت؛ بإمكانك البحث عن ذلك في سجله.»
«هذا غير كافٍ.»
«بإمكانك الاتصال بطبيب الأسنان، فهو طبيب هنا في المستشفى، وأنا متأكِّد أنه سيوضِّح الأمر.»
«لا أستطيع الاتصال بطبيب الأسنان.»
لذا ذهبنا إلى البيت، وانتظرنا خمسة أو ستة أو سبعة أسابيع لتحديد موعد آخَر لإجراء أشعة الرنين المغناطيسي، وفي هذه الأثناء حصلتُ على نسخة من استمارة موجودة بالفعل في ملفه، وهي استمارة دَوَّنَ فيها طبيب القلب كلَّ ما كنتُ أعرفه بالفعل، ويعرفه كل طبيب آخَر أيضًا، أن نفخة قلب ووكر لا تأثير لها، وحينئذٍ توصَّلْتُ إلى نتيجة مفادها أن طبيبة التخدير الشابة أخافها مجرد النظر إلى ابني الصغير غريب الشكل؛ أفزعها ولم تَدْرِ إلى أي درجة هو غير طبيعي.
انتظرنا ثلاث ساعات مرة أخرى، وحجرة الانتظار كانت أكثر ازدحامًا هذه المرة، وأكثر لفتًا للنظر: تقرأ بنت كفيفة تبلغ من العمر خمس سنوات بصوتٍ عالٍ من نسخة مكتوبة بطريقة برايل من الإنجيل، من سِفْر الأمثال. وفي النهاية، أدخلتنا ممرضة أنا وووكر إلى حجرة أخرى، ثم إلى حجرة أخرى، ثم إلى حجرة أخرى، وفي النهاية خدَّروه وأجرَوا له أشعة الرنين المغناطيسي.
بعد ثلاثة أسابيع تمكَّنْتُ من إقناع طبيب أشعة وأعصاب بأن يخبرني ماذا وجد، كان اسمه رايبود، وهو رجل فرنسي، بشرته مسمرَّة وأنيق ودقيق، وكانت من عاداته إجمال معلومات كثيرة في كلمات قليلة، وهي عادةٌ تُربِك غير المتخصِّص في علم الأعصاب مثلي، لدرجة أني بدأت أفكِّر تدريجيًّا أنني بحاجة أيضًا إلى إجراء أشعة رنين مغناطيسي.
لم يكن ووكر مصابًا بورم ليفي عصبي، وكان لديه غمد مياليني كافٍ لخلاياه العصبية، وقال الطبيب: «توجد مشكلاته على المستوى الوظيفي، وليس الفسيولوجي.» تكمن المشكلة في أنه بينما يعلم أطباء الأعصاب الكثير عن فسيولوجيا المخ (يرجع هذا إلى حدٍّ كبير إلى أشعة الرنين المغناطيسي)، فإنهم لا يزالون يعرفون القليل جدًّا عن كيفية عمل المخ من الناحية العصبية الكيميائية.
سألتُ: «هل هناك أي أمور غير طبيعية في مخه؟»
«نعم، الكثير.»
«هل تعرف ما تأثير هذا؟»
«لا، فأنت إما لديك مخ طبيعي أو مخ غير طبيعي، وقد يعني المخ غير الطبيعي موهبة كبيرة أو تأخُّرًا شديدًا.»
قلتُ: «هل ووكر موهوب بشدة؟» أقرُّ أني قلت هذا من باب السخرية.
ردَّ علي الدكتور رايبود بجدية: «لا.»
استمرت المحادثة على هذا النحو. فرايبود كان رجلًا لطيفًا، ومتعاوِنًا كذلك، ولكن كانت هناك أوقات كنتُ أريد فيها فتح مخه الذي كان يلتزم بالحَرفية الشديدة، ربما بفأس صغيرة. بالطبع لم يكن هذا خطأه؛ فهو كان يريد فقط الالتزام بما كان يعلم، ولا يريد أن يلجأ إلى التخمين، بَيْدَ أنه دون التخمين، كان يصعب سبر غور مخ ووكر.
ثم عرَضَ عليَّ صورةً لأشعة الرنين المغناطيسي الخاصة بابني.
وهي صورة أبيض وأسود للجسم الثَّفَنِيِّ؛ وهو شبكة من مادة بيضاء تربط بين النصفين الأيسر والأيمن للمخ، ويعرف أطباء الأعصاب — هذه عبارة نسمعها كثيرًا من أطباء الأعصاب، وهم علماء يتَّسِمون بالشجاعة — القليلَ نسبيًّا عن الجسم الثَّفَنِيِّ، ويمكن أن تعيش الجرابيات من دون هذا الجزء، وقد ثبت أن البشر يعيشون بطريقة طبيعية مع وجود تلف كبير في تركيبه، ولكن بصفة عامة الثدييات تحتاج إليه. وأضاف رايبود: «هو يتكوَّن من محاور عصبية — تُكَوِّن حزمٌ من المحاور العصبية الأليافَ العصبية التي توصِّل النبضات الكهربية بعيدًا عن جسم الخلية العصبية — مائة مليار محور عصبي، ويرتبط بكل جزء من أجزاء المخ، ما عدا الجزأين الخاصين بالرؤية وأطراف الأصابع.» في البداية عرض أمامي الطبيب منظرًا جانبيًّا لقطاع عرضي لجسم ثَفَنِيٍّ طبيعي؛ بَدَا فيه الجزءُ الذي استطعت رؤيته مثلَ بحيرة هلالية الشكل، أو بالون طويل على شكل حيوان في سهل أبيض.
ثم عرضَ عليَّ صورة أشعة لووكر مشيرًا للجسم الثَّفَنِيِّ، والذي لم يكن يبدو مثل بحيرة أو بالون على شكل كلب دشهند، بل كان يشبه مجرًى رفيعًا لتيار به بركة صغيرة في نهايته، أو محلاقًا، أو برعمًا وحيدًا من نبات البازلاء. إنه جزء من عَرْض الجسم الثَّفَنِيِّ الطبيعي.
من الصعب وصف تأثيرها السيئ والسريع عليَّ، وأدركت أني ألهث قليلًا. «إذن هذا يعني أن هناك نقصًا في الاتصال في مخ ابنك، على وجه التحديد يؤثِّر هذا في تنسيق الوظائف بين نصفَي المخ.» والجسم الثَّفَنِيُّ هو إنترنت المخ؛ فمخ ووكر مشترِك في خدمة إنترنت رديئة دائمًا ما تتعطل، وتخطئ في توصيل الرسائل، فعقله غير منظَّم على نحوٍ لا أمل في إصلاحه.
استطعتُ رؤية كل شيء في أشعة الرنين المغناطيسي؛ لسانه واللوزتين والحلق والفقرات وجمجمته الصغيرة وظلال مخه الضعيف غير المكتمل. كانت هذه هي صورته تمامًا؛ إذ أراني حالة عقله، كما كانت، ولكن بصورة غير مباشِرة، بالاستنتاج والاستدلال، موضِّحًا لي الأشياء المفقودة فيه، الظلال المتبقية لما حجب الضوء. ولد أستطيع رؤيته في الغالب في حالة هدوء، أرى فيه ما تبقَّى منه فقط. مثل الحب أحيانًا، ومثل كل شيء يتضح للمرء بعد فترة لدهشته أنه مهم، ومثل النظر إلى خريطة، خريطة قديمة غريبة من حقبة أخرى، أو حتى أبعد من ذلك؛ من فترة زمنية أخرى. لا يوجد كنز للأسف، فقط تساؤلات، في أشعة رنين مغناطيسي لمخ.
لا بد أني تهت في صور الأشعة، وبالتدريج أدركتُ أن رايبود كان يتحدَّث، وأسماء أجزاء المخ التي كانت تبدو أنها ترجع إلى العصور الوسطى كانت تنساب بيُسْرٍ من فمه بينما كان يعرض صورًا أخرى لرأس ووكر، فلووكر تجاويف دماغية نخاعية كبيرة، ولكنها داخل النطاق الطبيعي. «خمسون في المائة من المخ مادة بيضاء، وليس لديه أكثر من ذلك، ويمكن أن أقول: إن المخ الأمامي صغير إلى حدٍّ ما.» وللحُصَين، ولا سيما الفص الصدغي الإِنْسِيُّ، أخاديد أو تجاعيد قليلة للغاية. إن المادة الرمادية للمخ هذه، السطح المجعد، هو المكان الذي ينشأ فيه محتوى أفكارنا والارتباطات التي نقوم بها (مثل الذكرى الخاصة برائحة مسحوق اللبن الصناعي، والصورة الذهنية لوجه ووكر وهو يبكي)، وتوصِّل المادة البيضاء المحتوى هنا وهناك (تجعلني رائحة مسحوق اللبن الصناعي أرى ووكر في مخيلتي). علاوة على ذلك، أوضح رايبود أن لدى ووكر مادة رمادية أقل من معظم الناس؛ لذا فحتى لو كان نظام توصيل المعلومات سليمًا عنده، فمن المرجح جدًّا أن يكون محتواه بدائيًّا من الأساس. «فالمخ — اعترف رايبود أنه قال عنه «المخ» لكي تكون هناك مسافة بينه وبين الطفل الذي كان يصفه — صغير للغاية.» وفيما عدا ذلك، كان من الصعب وصف المشكلة؛ فرغم كل المشكلات الفسيولوجية التي أظهرتها أشعة الرنين المغناطيسي، فالمشكلة الوظيفية في مخ ووكر ونشاطه الكهربائي المهدر، كانا غير مرئيين.
أجَّلْتُ فحص مخ ووكر إلى النهاية، على أمل أنه قد يكشف ووكر لي، ولكن لم يكن لدى مخه ما يقوله لي عمن هو ووكر وكيف يبدو له العالم، أكثر مما عرفته بنفسي. وأفصحت لي صور الأشعة المتقدمة أقل مما أستطيع معرفته في عشر دقائق في صحبته، ولم تعطنا هذه الصور أي معرفة متقدمة أو تبين تفاصيل دقيقة. فهي تقرير فني وافٍ عن أجزاء المخ، وليس منبع عدم فائدتها لنا أنها غير معمقة بما يكفي. قال رايبود، على سبيل القياس: «يمكن لمشكلة واحدة فقط أن تتسبَّب في إيقاف شبكة الإنترنت بالكامل.» وقارَن الصور الموجودة على شاشة الكمبيوتر — أنا لا أختلق هذا — بصور مخ كلب.
«للكلب نفس الذاكرة ونفس الذكاء الانفعالي اللذان لديك، ولكنه لا يستطيع تشغيل كمبيوتر، ولا يمكنه إجراء العمليات الحسابية أو فهم السياق جيدًا؛ فليس للكلاب هذه الفصوص الجبهية الأمامية.»
قلت له: «ولكن ووكر لديه تلك الفصوص.»
علمتُ بعد عدة أسابيع من الدكتور روبرت مان، طبيب الأعصاب الذي كان يعالج ووكر، أن العيوب العقلية لووكر كانت موجودةً في الغالب في الخلايا العصبية، على المستوى العصبي الكيميائي؛ أي المستوى الذي لم يستطع العلم التوصُّل إليه، ناهيك عن فهمه. وقال مان: إن هناك بعض الأدلة الجديدة التي تشير إلى أن بعض الأطفال الذين لديهم وجوه مشوَّهة لديهم جذوع مخية غير طبيعية، مما ينتج عنه حدوث مشكلة في آلية امتصاص السيروتونين؛ مما يُصعِّب عليهم الشعور بالسعادة، وربما يُصعِّب عليهم عملية التعلُّم. وقال مان: «لكننا لا نعلم الكثير عن المخ — تكرَّرت هذه العبارة مرة أخرى — فلا نستطيع رؤية المسارات العصبية بسهولة. وهناك أنواع كثيرة من التغيُّرات العصبية الكيميائية في مخ ووكر، وهذا هو المسار التالي الذي علينا أن نسلكه.» إن طبيعة المخ تعوق الأبحاث العلمية التي تُجرَى حوله. أوضح مان أن مادة المخ لزجة جدًّا مثل الجيلي بحيث يستحيل تشريحه في حالته الطبيعية، كما أن المواد الكيميائية التي تجعله قابلًا للتجزئة تغيِّر المواد العصبية الكيميائية داخله. وبسبب الحاجز المخي الدموي للجسم، لا تظهر هذه المواد العصبية الكيميائية في عينات الدم. وحتى سائل النخاع الشوكي، وهو طريقة أخرى محتملة لدراسة المواد العصبية الكيميائية في المخ، يغيِّره التخدير الضروري لسحب السائل في المقام الأول. يبدو الأمر كما لو أن مخ ووكر لا يريد أن يخضع للدراسة.
كان دكتور مان رجلًا تبدو عليه علامات الشباب في الأربعينيات من عمره، وكان يرتدي ملابس غير رسمية، ولديه مكتب على حافة المدينة، لم يكن بعيدًا جدًّا عن دار الرعاية التي كان يعيش فيها ووكر، وكثيرًا ما كان يُستدعَى إلى تلك الدار؛ فقد كان كثير من النزلاء يعانون من نوبات. في الغالب لم يكن يعاني ووكر من هذه النوبات، ولكنَّ إيذاءَه لنفسه كان يمثِّل لغزًا. قال مان: «في رأيي إنه يمثِّل حاجة ملحة لإحداث شعورٍ ما، سواء أكان سارًّا أم غير سار، أرى أن هناك علامات على شعوره بالإحباط.» ولكن كان هذا تخمينًا.
قلتُ: «يبدو أنه حالة ميئوس منها.»
قال مان: «لا توجد حالة ميئوس منها بالنسبة إليَّ؛ فإذا قابلتَ طفلًا يسير بكرسيٍّ متحرك وجعلته يبتسم، فأنت قد قمتَ بعمل رائع. وليس مطلوبًا منك أن تكون بطلًا.»
كانت زوجته قد ماتت بالسرطان في بداية زواجهما، وقد كَرَّسَ نفسه الآن لدراسة مخ الأطفال المعاقين. فانتقلت حياته من مسألة لا حلَّ لها إلى أخرى.
***
من دون مخ يمكن فهمه، هل كان ووكر ولدًا يمكن فهمه؟ وإذا لم يكن بالإمكان فهمه، فما قيمته؟ كنت أتحدَّث عن ذلك طوال الوقت في البيت، ولكن جوانا لم تلحظ ما أقصده. كان ووكر على ما هو عليه وحسب، وكانت هي أمه. ومن دون وجود ووكر في البيت طوال الوقت، يستنفد كل دقيقة من حياتها، بدأت جوانا الكتابة مرة أخرى، والاهتمام أكثر بهايلي، وممارسة الرياضة؛ لذا كنت أتساءل عن التأثير الذي تركه الولد المفتقد في عقلها، وفي جسدها. لجأتِ اضطراريًّا إلى الكلمات المتقاطعة، والسودوكو، وبرين إيدج، وأحجية الصور المقطوعة الضخمة المكوَّنة من ألفَيْ قطعة للوحة مونخ «الصرخة»، أي تسلية تتطلَّب انتباهًا شديدًا. وحاولتُ أنا قراءة كتاب فوكو «تاريخ الجنون»، وكنت أشاهدها خفيةً من الغرفة المقابلة، وأتساءل في نفسي هل كانت تشعر بالملل.
هل كانت هناك جدوى من مساعدة ووكر في طفولته للبقاء على قيد الحياة حين أدرك الأطباء مدى صعوبة حياته؟ وإذا كان الأمر كذلك، فإنهم لم يذكروا ذلك قطُّ. على العكس من ذلك تمامًا؛ ففي واقع الأمر، في الأيام الأولى من حياة ووكر، حين كان يجاهِد من أجل زيادة وزنه والبقاء على قيد الحياة، لم أتلقَّ من الأطباء سوى التشجيع على بذل المزيد من الجهد، وما زالت كلمات طبيب الأطفال، نورمان ساوندرز، ترن في آذاني: «نريد فعلًا لهذا الولد أن يعيش، أليس كذلك؟» واتضح أننا فعلًا نريد ذلك، على الرغم من أنني لم أكن متأكِّدًا من ذلك في ذلك الوقت.
دكتور بروس بلومبرج، عضو فريق أطباء الوراثة أول مَن شخَّصوا حالة متلازمة القلب والوجه والجلد، يقدِّم استشارات إلى الآباء بشأن مشكلات وراثية مشابِهة على مدار ثلاثين عامًا، معظمهم في مستشفى كايزر بيرمننت في أوكلاند بكاليفورنيا، ويقرُّ بأن التفاؤل هو الموقف الافتراضي لمهنته. تصوَّر معي المشهد كالآتي: الوالد شديد الجزع لطفل معاق إعاقة شديدة، أنهكه البحث في شبكة الإنترنت طوال الليل وتملَّك منه الخوف، وحياة الطفل الصغير غير مستقرة ومعلَّقة لم يتحدَّد مصيرها بعدُ. قال لي بلومبرج: «في أغلب الأحيان، لكي أحقِّق نقطة توازن، أحتاج إلى نقل نظرة متفائلة إلى الآباء، وأن يكون الآباء في الوقت نفسه متعلِّقين بالأمل. وأيسر لك أن تنقل تلك النظرة، وأيسر لك أن تبتسم. ومرت عليَّ هذه الأمور مع المرضى. فهذا أمر صعب؛ لذا في رأيي يختار الأطباء سياسة الهروب من المصارحة بالحقيقة أحيانًا.» فإذا لم يستطع الطبيب حلَّ المشكلة، فعلى الأقل يُهوِّنُ الأمر على الآباء ويطمئنهم. لكن إذا حثَّ بلومبرج الآباء على الاستمرار مع مثل هذا الطفل، فإنه يخاطِر بالحكم عليهم بالعيش الدائم في جحيم.
لكن هذه المعضلة مصطنعة أيضًا. قال لي بلومبرج في ذلك الصباح في مكتبه في أوكلاند: إن المشكلة الحقيقية تكمن في عدم استعدادنا لقبول أن حياة الطفل المعاق لها قيمة حقيقية كما هي؛ لا سيما إذا تطلَّبَتْ هذه القيمة أن تبحث عنها بشتى الطرق. وأضاف: «كثيرًا ما تجد الأسر تربيةَ طفل معاق نعمة، على الرغم من الصعوبات التي تلاقيها. فهي تُنشِئ علاقات جديدة، وتُظهِر قدرات جديدة، المهم أن تتخلَّى عن فكرة الطفل المفترض وتقبل بالطفل الحالي.»
بلومبرج على علم بالمأساة الطبية؛ فلقد أُصِيبت إحدى عينيه بالعمى وهو ولد صغير، بينما كان يساعد والده في رش الأسمدة، وكافح لكي يصبح طبيبًا ويحصل على أعلى الدرجات العلمية من بعض أفضل الجامعات في العالم. قال: «إنه لتكبُّر منَّا أن نفترض أن هذه الحالات أدنى من الحالة الطبيعية. فإذا كان مُعامل ذكائك ٦٠، فهذه تُعَدُّ إعاقة كبيرة في مجتمعنا، ولكن إذا كنت عامل مزرعة من المهاجرين، فهذا لا بأس به، بل هذا كثير أيضًا. مَنْ يقول إذن بأن حالة النشوة غير اللفظية التي تصفها في ابنك، هي حالة أدنى من الحالة الطبيعية؟ مَنْ يقول هذا؟ إنه لتكبُّر منَّا كبير أن نرى أن القدرة على الوعي بما حولنا هي أهم شيء؛ فليست هي كل ما يهم، فشجرة السكويا ليست قادرة على الإحساس بما حولها، ولكن لها أهميتها، وليس هناك أروع من هذا، ولا يتطلَّب الأمر مني التفكير فيها حتى أقف مشدوهًا أمامها. أنا لا أريد أن أقلِّل من صعوبة تربية الطفل المعاق، لكن هذا يشير إلى الوضع الذي وصلنا إليه كمجتمع، حيث يخلق تصرفنا على هذا النحو إعاقة خطيرة في هذه المواقف. ولكن من الخطأ تمامًا التفكير فيهم على أنهم «أقل» منَّا، فليس هناك أحد أقل أهمية من الآخر. هم فقط مختلفون عنا، فليس الأمر يتعلَّق بالعقول الكبيرة فقط، ولكن بالأرواح العظيمة أيضًا.»
***
يعتقد جان فانيه أننا في كل مرة نقابل شخصًا ما مصابًا بإعاقة شديدة، فإنه يسألنا سؤالين: هل تراني إنسانًا؟ هل تحبني؟ ويرى فانيه أننا كلما قابلنا المعاقين في أماكنهم، تتطور إجاباتنا. في البداية نخاف من مظهرهم وسلوكهم، ثم نتحول إلى الشفقة بشأنهم، ثم ننتقل إلى مرحلة مساعدتهم واحترامهم، ولكننا لا نزال نراهم أقل منَّا؛ حتى نمر في النهاية بخبرة «التعجُّب والشكر»، و«نكتشف، من خلال الاقتراب من المعاقين وإقامة علاقة حقيقية معهم، أنهم يغيِّروننا.»
في المرحلة الأخيرة والعليا للوعي التي يصفها فانيه، «نرى وجه الرب داخل المعاق؛ فوجودهم علامة من علامات الرب، الذي اختار «الحمقى ليخزي الأقوياء والمتكبرين ومَنْ يُسمُّون أنفسهم حكماءَ عالمِنا». ومَنْ نراهم ضعفاء ومهمَّشين هم في الواقع الأكثر قيمةً وقوةً بيننا؛ فهم يقربوننا أكثر من الرب.»
ليتني أومن برب فانيه. بَيْدَ أن الحقيقة أني لا أرى وجه الرب القادر في ووكر، بل أرى وجه ولدي، أرى ما هو بشري، جميلًا ومشوَّهًا في الوقت نفسه. فليس ووكر قديسًا ولا أنا كذلك، ولا أتحمَّل أن أراه يضرب نفسه كل يوم، ولكن يمكنني أن أحاول أن أفهم لماذا يفعل ذلك. وكلما اجتهدت في مواجهة قصوري بوصفي أبًا، قلَّت رغبتي في التفريط فيه، ليس فقط لأن بيننا رابطة مادية، وهي شيء بسيط ولكنه مهم، وليس فقط لأنه علَّمني الفرق بين المشكلة الحقيقية ومجرد الشكوى، وليس فقط لأنه يجعلني آخذ الأمور بجدية، ويجعلني أقدِّر الوقت وهايلي وزوجتي وأصدقائي، وكل الأشياء الجميلة التي ستزول يومًا ما. لقد بدأتُ أحبه فقط كما هو؛ لأني اكتشفتُ أني قادر على ذلك، ولأننا يمكننا أن نكون كما نحن: أبًا متعبًا وابنًا معاقًا، دون تغيير أو اعتذار، في الوقت الحاضر. وما زال الشعور بالارتياح الذي ينتج عن مثل هذه العلاقة يدهشني، فلا يوجد تخطيط مع هذا الولد، فأنا أذهب معه أينما ذهب. وقد يكون هو أثرًا مشوَّهًا لعملية التطوُّر من وجهة نظر عالم الوراثة، ولكنَّ له أقرانًا قليلين بحيث لا يستطيع تطوير ما أطلق عليه داروين نفسه في كتابه «أصل الإنسان» الميزاتِ التطوريةَ ﻟ «الغرائز الاجتماعية … والحب، وعاطفة التعاطف المهمة.» أشار معارضو داروين إلى أن الإنسان أضعف من القرود، وبالتالي ليست هناك طريقة منطقية تقول إنه من الممكن أن يكون نتيجةَ البقاء للأصلح، بَيْدَ أن داروين ردَّ عليهم بأن عملية التطور تتجاوز ذلك. قال: «علينا … أن نتذكَّر أن الحيوان ذا الحجم والقوة والشراسة الكبيرة، الذي — مثل الغوريلا — يمكنه أن يدافع عن نفسه أمام كل الأعداء، ربما لن يكون اجتماعيًّا: كان يمكن أن يضمن هذا فعليًّا اكتساب القدرات العقلية العليا في الغالب، مثل التعاطف وحب الأقران؛ لذا قد تُعَدُّ ميزة كبيرة للإنسان أن ينشأ من مخلوق ضعيف نسبيًّا.»
آمالي متواضعة: أن أدخلَ إلى عالم ووكر من حينٍ لآخَر وأحاوِل أن أفهمه، وأن أتعرف على عدد قليل من المعاقين عقليًّا (بدلًا من الاكتفاء بالسماح لهم باقتحام حياتي)، وأن أواجه خوفي من المعاقين الذين يمثِّلون لي «الآخرين»؛ ليس لعلاجهم أو حتى إنقاذهم، ولكن لمجرد أن أكون معهم حتى أتوقفَ عن رغبتي في تركهم والهروب خوفًا منهم. وبناءً على رؤيتي المتفائلة والواثقة هذه، آمل أن تمثل هذه الأمور خطوات قليلة نحو ما تَصَوَّرهُ عالم الأحياء التطورية جوليان هاكسلي حين كتب مقاله المشهور «الأخلاقيات التطورية» في عام ١٩٤٣؛ حيث كتب هاكسلي يقول: إن الرؤية الأخلاقية الجلية لنا بوصفنا بشرًا لن «تمنعنا من المعاناة بما نشعر أنه ظلم على يد الكون؛ كالتشوُّه الخِلْقي، والمعاناة غير المبررة، والكوارث المادية، والموت المبكر للأحباب، ويمثِّل مثل هذا الظلم الكوني عناد الحظ وعدم أخلاقيته في الحياة البشرية؛ فنحن قد نقلِّل بالتدريج مقداره ولكنَّا لن نلغيه بالتأكيد، فالإنسان هو وريث التطور، ولكنه أيضًا شهيده.
لكن ليس الإنسان فقط وريث الماضي وضحية الحاضر؛ فهو أيضًا العامل الذي من خلاله قد يكشف لنا التطوُّر عن احتمالاته الأخرى … فيمكنه وضع أخلاقه في قلب التطوُّر.»
وجه الرب! آسف، لا بل ووكر أكثر شبهًا بمرآة، تعكس الكثير، بما في ذلك خياراتي. بالنسبة إليَّ — يمثِّل هذا أعظم طريقة ومع ذلك أكثرها اتساقًا يمكن أن أراه بها، من بين الطرق الأخرى كلها: كضارب الرأس، وكلب البيجل، والمجنون مفرط الحركة الذي يسيل لعابه مع صوت بقبقة، والولد الفضولي لفترات متقطعة، والولد الجميل الحزين — ووكر مثل البرطمان الذي كتب عنه والاس ستيفنز:
أُدْرِك أنه لم يَعُدْ هناك الكثير، لم يَعُدْ هناك كثير من الضوء ينير لنا. بدأ يخفت بوضوح، ولكن هذا أقصى ما في وسعي.
***
انتظرنا لساعات مرة أخرى حين عدنا للجولة الثانية لإجراء أشعة الرنين المغناطيسي لمخ ووكر، ومرة أخرى آخذ ووكر في عربة الأطفال الحمراء الفاخرة صعودًا وهبوطًا عبر الردهات، صعودًا وهبوطًا وخارج الباب إلى الردهة الأطول وأعود، وأذهب إلى طاولة القهوة وأعود، ومرَّتْ ثلاث ساعات.
وفي النهاية تركت عربة الأطفال، وجلستُ ساندًا ظهري إلى الحائط الطوبي المصقول في الردهة المجاورة لغرفة الانتظار. وكان ووكر يقف على بُعْد قدمين مني، حيث يتحوَّل الحائط إلى ركن، وكانت أولجا في مكانٍ ما خلفه.
فجأةً أُغمِيَ عليه ووقع بين ذراعَيَّ مثل كومة الأطباق المنزلقة، ورأيته ينظر ويحاول ضرب نفسه. لا يوجد شك فيما كان يحدث؛ كان يعاني من نوبة، لقد سمعت قصصًا عن نوبات أُصِيب بها أطفال آخرون مصابون بمتلازمة القلب والوجه والجلد، وقد ظنَّ المساعدون في دار الرعاية التي كان يقيم بها في مرتين أنه ربما يكون قد تعرَّض لنوبة بسيطة، ولكني لم أَرَ شيئًا مثل هذا قطُّ، فيما يخص ووكر. بدأت عيناه ترتعشان وتتحركان ذهابًا وإيابًا مثل بندول الإيقاع، وبدأ ذراعاه في التشنُّج قليلًا، وقلبه الذي كنت أستطيع أن أشعر به عبر أرجلي، كان ينبض بسرعة مثل قلب طائر أبي الحناء، وكان يحاول النظر إلى عينيَّ، بَدَا مرعوبًا.
عرض عليَّ أحد الآباء من الرواق المساعدة قائلًا: «هل تحتاج إلى مساعدة؟» ولكني أومأت برأسي بالرفض. كنت أعرف كيف أتصرف، كان عليَّ هدهدة جسمه الضعيف داخل جسمي القوي، والانتظار معه حتى تمر الرعشة، وأن أكون معه حين تجدني عيناه القلقتان مرة أخرى. ومرت دقيقتان، لم يحدث هذا من قبلُ. انطلاق عشوائي ومُطلَق للخلايا العصبية: هذا هو التفسير الطبي للنوبة.
لكن لم يكن هذا ما كان يشغل بالي، حملته بين ذراعيَّ بهدوءٍ قدر ما استطعت، وفكرت أن الوضع سيكون على هذا النحو إذا مات، سيكون الوضع على هذا النحو. لم يكن هناك شيء يمكن أن أفعله، ولم أكن أخشى ذلك؛ فقد كنت قريبًا بالفعل منه بقدر المستطاع؛ لا يوجد فاصل بيني وبين ابني، لا فجوة ولا هواء، ولا توقُّع أو خيبة أمل، ولا فشل أو نجاح، فقط هو، الولد المغمى عليه، ورفيقي الصامت الضاحك أحيانًا، وابني. كنت أعرف أني أحبه، وكنت أعرف أنه كان يعلم هذا. كنت أحمل هذا الجمال بين ذراعي، وانتظرت أي شيء يمكن أن يحدث بعد ذلك. انتظرنا معًا.