القُرآن
•••
ألفاظ إذا اشتدت فأمواج البحار الزاخرة، وإذا هي لانت فأنفاس الحياة الآخرة، تذكُرُ الدنيا فمنها عمادها ونظامها، وتصف الآخرة فمنها جنتها وضِرَامها، ومتى وعدتْ من كرم الله جعلت الثغور تضحك في وجوه الغيوب، وإن أوعدت بعذاب الله جعلت الألسنة تُرعَد من حمى القلوب.
ومعانٍ بَيْنَا هي عذوبة تَرويك من ماء البيان، ورقَّة تَسْتَرْوح منها نسيم الجنان، ونور تبصر به في مرآة الإيمان وجهَ الأمان … وبينا هي ترفُّ بندى الحياة على زهرة الضمير، وتخلق في أوراقها من معاني العبرة معنى العبير، وتهُبُّ عليها بأنفاس الرحمة فتَنِمُّ بسر هذا العالم الصغير … ثم بينا هي تتساقط من الأفواه تساقُط الدموع من الأجفان، وتدع القلب من الخشوع كأنه جنازة ينوح عليها اللسان، وتمثل للمذنب حقيقة الإنسانية حتى يظن أنه صنف آخر من الإنسان — إذا هي بعد ذلك إطباق السحاب وقد انهارت قَواعده، والتمعَتْ ناره، وقصفت في الجو رواعده، وإذا هي السماء وقد أخذت على الأرض ذنبَها، واستأذنت في صدمة الفزع ربَّها، فكادت ترجف الراجفة تتبعها الرادفة، وإنَّما هي عند ذلك زجرةٌ واحدة؛ فإذا الخلق طعام الفناء وإذا الأرض «مائدة».
•••
•••
لا جَرَمَ أن القرآن سرُّ السماء، فهو نور الله في أفق الدنيا حتى تزول، ومعنى الخلود في دولة الأرض إلى أن تدول، وكذلك تمادى العرب في طغيانهم يعمهون، وظلت آياته تلقَف ما يأفِكون، فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون.
(١) فصل
بَيدَ أنه لا بد لنا من صدر نبتدئ به القولَ في تاريخه وجمعه وتدوينه وقراءته حتى تكون هذه سببًا إلى الكلام في لغته وبلاغته، ثم إعجازه في اللغة والبلاغة؛ لأن بعض ذلك يريد بعضَه، ونحن نستعين الله ونستمده ونستكفيه، فإن في يده مفتاحَ هذا الباب المغلق، وما زال الناس قديمًا يأخذون في ناحيته ويختلفون إليه ويعتزمون في ذلك، وقليلٌ منهم من وصل، وقليل من هؤلاء من اتصل، فاللهمَّ عَونَكَ وتيسيرَك.
(٢) تاريخ القُرآن وجمعُه وتدوينه
أُنزل هذا القرآن مُنَجَّمًا في بضع وعشرين سنة، فربما نزلت الآية المفردة، وربما نزلت آيات عدَّةٌ إلى عشر، كما صح عن أهل الحديث فيما انتهى إليهم من طرق الرواية، وذلك بحسب الحاجة التي تكون سببًا في النزول، وليثَبَّت به فؤاد النبي ﷺ فإن آياته كالزلازل الروحية، ثم ليكون ذلك أشدَّ على العرب وأبلغ في الحجة عليهم، وأظهر لوجه إعجازه، وأدعى لأن يجري أمره في مناقلاتهم ويثبت في ألسنتهم ويتسلسل به القول.
ولولا نزوله متفرقًا: آية واحدة إلى آيات قليلة، ما أفحمهم الدليل في تحديهم بأقصر سورة منه؛ إذ لو أنزل جملة واحدة كما سألوا لكان لهم في ذلك وجه من العذر يُلبِس الحقَّ بالباطل، وينفِّس عليهم أمر الإعجاز، ويهون في أنفسهم من الجملة بعضَ ما لا يهون من التفصيل؛ لأنهم قوم لا يقرءون ولا يَتدارَسون، ولكنَّ الآية أو الآيات القصيرة تنزل في زمن يعرفون مقداره بما ينزل في عَقبها ثم هم يعجزون عن مثلها في مثل هذا الزمن بعينه، وفيما يربي عليه ويُضعِف، وعلى انفساح المدة وتراخي الأيام بعد ذلك إلى نفس من الدهر طويل — أمر هو يشبه في مذهب الإعجاز أن يكون دليل التاريخ عليه، وأنه ليس في طبعهم ألبتةَ لا قوةً ولا حيلةً، فإن العجز عن صنع المادة لا يثبت في التاريخ إلا إذا ثبتت مدة صنعها على وجه التعيين بأي قرينة من القرائن التاريخية.
وقد كان ابتداء الوحي في سنة ٦١١ للميلاد بمكة، ثم هاجر منها النبي ﷺ في سنة ٦٢٢ إلى المدينة، فنزل القرآن مكيًّا ومدنيًّا. وقد اختلفت الروايات في آخر آية نزلت وتاريخ نزولها، وفي بعضها أن ذلك كان قبل موته — عليه الصلاة السلام — بأحد وثمانين يومًا، في سنة إحدى عشرة للهجرة، وأي ذلك كان فإن مدة نزول القرآن تُوفي على العشرين سنة، وإنَّما هي الحكمة التي أومأنا إليها في مذهب إعجازه، وحكمة أخرى معها: وهي استدراج العرب وتصريف أنفسهم بأوامره ونواهيه على حسب النوازل وكفاءَ الحادثات؛ ليكون تحوُّلهم أشبه بالسنة الطبيعية كما ينمو الحي من باطنه. وسيقع تفصيل هذا المعنى فيما يأتي:
أما علي بن أبي طالب، فقد ذكروا أن له مصحفًا جمعه لما رأى من الناس طيرةً عند وفاة النبي ﷺ. وفي الفهرست لابن النديم أنه رأى عند أبي يعلى حمزة الحسيني مصحفًا بخط عليٍّ يتوارثه بنو حسن، ونحن نحسب ذلك خبرًا شيعيًّا؛ لأنه غير شائع …
وهذا الذي فعله أبو بكر كأنما استحيا به طائفة من القراء الذين استَحَرَّ بهم القتل بعد ذلك في المواطن التي شهدوها، ولم يعْدُ به ما وصفنا، ولذا بقي ما اكتتبه زيدٌ نسخة واحدة، وهو قد تتبع ما فيها من الرقاع والعُسب واللخاف ومن صدور الرجال، إنما ائتمنه أبو بكر لأنه حافظ، ولأنه من كتبة الوحي، ثم لأنه صاحب العَرْضَة الأخيرة؛ وربما كان قد أعانه بغيره في الجمع والتتبع؛ فإن في بعض الروايات أن سالمًا مولى أبي حذيفةَ كان أحد الجامعين بأمر أبي بكر، أما الكتابة فهي لزيد بالإجماع.
وبقيت تلك الصحف عند أبي بكر ينتظرُ بها وقتها أن يحين، حتى إذا توفي سنة ١٣ﻫ صارت بعده إلى عمر، فكانت عنده حتى مات، ثم كانت عند حَفصة ابنته صدرًا من ولاية عثمان، ويومئذ اتسعت الفتوح وتفرَّق المسلمون في الأمصار، فأخذ أهل كل مصر عن رجل من بقية القراء.
فأهل دِمَشق وحمص أخذوا عن المقداد بن الأسود، وأهل الكوفة عن ابن مسعود، وأهل البصرة عن أبي موسى الأشعري — وكانوا يسمون مصحفه لباب القلوب — وقرأ كثير من أهل الشام بقراءة أبيِّ بن كعب، وكانت وجوه القراءة التي يؤدَّى بها القرآن مختلفة باختلاف الأحرف التي نزل عليها، كما سيمر بك، فكان الذي يسمع هذا الاختلاف من أهل تلك الأمصار — إذا احتوتهم المجامع أو التقوا في المَوَاطن على جهاد أعدائهم — يعجب من ذلك أن تكون هذه الوجوه كلها على اختلاف ما بينها في كلام واحد، فإذا علم أن جميع القراءات مُسندة إلى رسول الله ﷺ وأنه أجازها، لا يمنع أن يَحيكَ في صدره بعض الشك وأن ينطويَ منها على شيء إذا هو كان قد نشأ بعد زمن الدعوة وبعد أن اجتمع العرب على كلمة واحدة، فلا يلبث أن يجري ذلك الاختلاف مجرى مثله من سائر الكلام، فيرى بعضَه خيرًا من بعضه، ويظن منه الصريحَ والمدخولَ والعالي والنازل، والأفصح والفصيح، وأشباه ذلكَ، ويعتد ما يراه في القرآن من القرآن، وهذا أمر إن هو استفاض فيهم ثم مَرَدُوا عليه خرجوا منه ولا ريب إلى المناقضة والمُلَاحَاة وإلى أن يردَّ بعضهم إلى بعض هذا يقول: قراءتي وما أخذت به، وذلك يقول: بل قراءتي وما أنا عليه! وليس من وراء هذا اللجاج إلا التكفير والتأثيم، ولا جرَمَ أنها الفتنة لا تفتأ بعد ذلك من دم.
قلنا: وكلام زيد نصٌّ قاطع في أنه كان يحفظ القرآن كله، لم يذهب عنه شيء منه؛ إذ كان يعرض ما في الصحف على ما رُبط في صدره وثبت في حفظه، ثم هو نصٌّ كذلك على أن زيدًا كان لا يكتفي بنفسه؛ بل يذهب يستعرض الناس حتى يجد من يؤدي إليه، كيلا ينفرد هو بالحفظ خشيةَ أن يكون موضع ظِنَّة، وإن كان الصحابة — رضي الله عنهم — قد أجمعوا على الثقة به، فلم يُثبت ما أثبته إلا بشاهدين: أحدهما من حفظ غيره، والآخر من حفظه.
وإنما أراد عثمان بذلك حَسْم مادة الاختلاف؛ لأنه أمرٌ يَمُدُّ مع الزمن وتنشعب الأيام به، وهو إن أمن في عصره لم يَدْر ما يكون بعد عصره، وقد أدرك أن العرب لا يستمرون عربًا على الاختلاف والفتوح، وأن الألسنة تنتقل، واللغات تختلف. ثم هو رأى ما وقع في الشعر وروايته، وأن الاختلاف كان بابًا إلى الزيادة والابتداع، فلم يفعل شيئًا أكثر من أنه حَصَّن القرآن وأحكم الأسوار حوله، ومنع الزمن أن يتطرَّق إليه بشيء، وجعله بذلك فوق الزمن.
وهنا أمر لا مذهبَ لنا دون التنبيه عليه، وذلك أن جمع القرآن كان استقصاءً لما كتب، واستيعابًا لما في الصدور، فكانوا لا يقبلون إلا بشهادة قد امتحنوها، أو حلف قد وثقوا من صاحبه، وإلا بعد العرض على من جمعوا وعرضوا على رسول الله ﷺ فإن الصحابة كانوا يحسنون التهجِّي، وقد يكتبون ما يقرءون على وجه من وجوه الكتابة، أو يكتبون بحرف من القراءات، كالذي رواه ابن فارس بسنده عن هانئ قال: كنت عند عثمان — رضي الله تعالى عنه — وهم يعرضون المصاحف، فأرسلني بكتِف شاة إلى أبي بن كعب فيها «لم يَتسَنَّ» و«فأمهل الكافرين»، و«لا تبديل للخلق» قال: فدعا بالدواة فمحا إحدى اللامين، وكتب «لِخَلق الله» ومحا «فأمهل» وكتب «فمهل» وكتب «يَتسَنَّهْ» ألحق فيها هاءً، والقراءة على هذا الرسم.
فذهب جماعة من أهل الكلام ممن لا صناعة لهم إلا الظن والتأويل واستخراجُ الأساليب الجدَلية من كل حكم وكل قول إلى جواز أن يكون قد سقط عنهم من القرآن شيء، حملًا على ما وصفوا من كيفية جمعه، وهو باطل من الظن؛ لما علمته من أنباء حَفَظته الذين جمعوه وعرضوه، ثم لما رأيت من تثبتهم في ذلك حتى جُمعت لهم الصحة من أطرافها، ثم لإجماع الجمِّ الغفير من الصحابة على أن ما بين دفتي المصحف هو الذي تلقوه عن رسول الله ﷺ لم يأته الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا اقتطع منه الباطلُ شيئًا.
ونحن فما رأينا الروايات تختلف في شيء من الأشياء فضلَ اختلاف، وتتسَنَّم في الرد والتأويل كل طريق وعْر؛ كما رأينا من أمرها فيما عدا نصوصَ ألفاظ القرآن، فإن هذه الألفاظ متواترة إجماعًا لا يَتدارأ فيها الرواة، مَن علا منهم ومَن نزل، وإنما كان ذلك لأن القرآن أصل هذا الدين وما اختلفوا فيه إلا من بعد اتساع الفتن؛ وتألُّب الأحداث، وحين رجع بعض الناس من النفاق إلى أشد من الأعرابية الأولى، وراغ أكثرهم عن موقع اليقين من نفسه، فاجترءوا على حدود الله وضربتهم الفتنُ والشبهات مقبلًا بمدبر ومدبرًا بمقبل. فصار كل من نزع إلى الاختلاف، يريد أن يجد من القرآن ما يختلف معه أو يختلف به، وهيهات ذلك إلا أن يَتَدسَّسَ في الرواية بمكروه يكون معه التأويل والأباطيل، وإلا أن يفتح الكلمة السيئة ويبالغ في الحمل على ذمته والعُنف بها في أشياء لا تُرَدُّ إلى الله ولا إلى الرسول، ولا يعرفها الذين يستنبطون من الحق، بل لا يعرفون لها من الحق وجهًا.
وعلى هذا الحديث يُخَرَّج في رأينا كل ما رووه مما حسبوه كان قرآنًا فرفع وبطلت تلاوته على قلة ذلك إن صح؛ لأنه يكون وحيًا، وليس كل وحي بقرآن، على أن ما ورد من ذلك ورد معه اضطرابهم فيه وضعف وزنه في الرواية، وأكبر ظننا أنها روايات متأخرة من مُحدَثَات الأمور، وأن في هذه المحدثات لَمَا هو أشد منها وأجدى بشؤمه. ولو كان من تلك شيء في العهد الأول لرويت معها أقوال أخرى للأئمة الأثبات الذين كان إليهم المفزعُ من أصحاب رسول الله ﷺ، وهم كانوا يومئذ متوافرين، وكلهم مُقرِنٌ لذلك قويٌّ عليه؛ وكانوا يعلمون أن المراء في القرآن كفر ورِدَّة، وأن إنكار بعضه كإنكاره جملة، وقد أجمعوا على ما في مصحف عثمان، وأعطوه بَذلَ ألسنتهم في الشهادة، أي قوَّتَها، وما استطاعت من تصديق.
ونحن من جهتنا نمنع كل المنع، ولا نعبأ أن يقال إنه ذهب من القرآن شيء، وإن تأوَّلوا لذلك وتمحَّلوا، وإن أسندوا الرواية إلى جبريل وميكائيل، ونعتد ذلك من السوءة الصلعاء التي لا يَرحَضُها من جاء بها ولا يغسلها عن رأسه بعد قول الله: لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ أفترَى باطلهم جاءه من فوقه إذن؟
وثبت أن عمر — رضي الله عنه — شك في حديث فاطمة بنت قيس، بل شك في حديث عمار بن ياسر في التيمُّم لخوف الوهم، مع أن عمارًا ممن لا يتهم بتعمُّد الكذب، ولا بالكذب وهلةً؛ لصحبته وسابقته مع رسول الله ﷺ ولذلك أذن له عمر في رواية هذا الحديث مع شكه هو في صحته.
وبعدُ فما تلك الردة التي كانت بعد وفاة رسول الله ﷺ والفتن التي تعاقبت، والأحداث التي استفاضت، والانشقاق الذي ارفضَّت به عصا الإسلام — بأقل شأنًا ولا أضعف خطرًا من هذا كله ومِثْلِه معه من ضروب الأقاويل؛ حتى لا يقتحم مجترئ ولا يستهدف مُفْتَرٍ ولا يبالغ مبطل ولا ينحرف متأوِّل، وحتى لا يُروى من أشباه ذلك دقيق أو جليل؛ وإنَّما قياس الباطل بالعلم الحق، وقياس الظن باليقين الثقة، وأنت تعلم أن كل ما رووه لم يأت من قِبَل الإجماع، وليس له من هذه الحجة مادة ولا قوة، ولو أن الأمر كان إلى الرأي والنظر لقلنا: لعله ولعلنا، ولكنها الرواية وملاكها، والأدلة واشتراكها وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ الله عَلَىٰ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ.
(٣) القراءة وطرق الأداء
وهذا الفصل مما نتأدَّى به إلى الكلام في لغة القرآن، فهو سبيلنا إليها في نَسَق التأليف؛ إذ القراءة والأداء أمران يتعلقان باللفظ ويُبنيان على وجوه اللغة التي قام بها.
وليسَ من همِّنا فيما نأتي به إلا أن نقضي حق التاريخ اللغوي، منصرفين ما وَسعنا الانصراف عن الجهة الفنية التي هي جانب من علمي القراءات والتجويد، فإن الكلام في هذه الجهة يتسع، وهو غير ما نحن فيه، وما زالت الجهة الفنية من كل علم هي فرع من أصله في التاريخ.
وإذا تم هذا النظم للقرآن مع بقاء الإعجاز الذي تحدَّى به، ومع اليأس من معارضته، على ما يكون في نظمه من تقلب الصور اللفظية في بعض الأحرف والكلمات بحسب ما يلائم تلك الأحوال في مناطق العرب، فقد تمَّ له التمام كله، وصار إعجازه إعجازًا للفطرة اللغوية في نفسها حيث كانت وكيف ظهرت ومهما يكن من أمرها: ومتى كان العجز فطريًّا فقد ثبت بطبيعته، وإن لجَّ فيه الناس جميعًا؛ لأنه شيء في تلك الفطرة يُفهم منه صريحًا ثم لا تنكر هي موضعه منها وموقعه، وإن كابرت فيه الألفاظ وبالغت الأهواء في جَحْده والانتفاء منه مراءً ومغالبة.
ذلك فيما نرى هو السبب الأول الذي من أجله اختلفت بعض ألفاظ القرآن في قراءتها وأدائها اختلافًا صحَّ جميعُه عن رسول الله ﷺ وصحت قراءته به، وهو كان أعلمَ العرب بوجوه لغتها، كما سيأتي في موضعه؛ إذ لا وجه عندنا للاختلاف الصحيح إلا هذا، فإن القرآن لو نزل على لفظ واحد ما كان بضائره شيئًا وهو ما هو إحكامًا وإبداعًا، فهذه واحدة.
وحكمة أخرى، وهي تيسير القراءة والحفظ على قوم أميين لم يكن حفظ الشرائع مما عرفوه فضلًا عن أن يكون مما ألفوه.
وثالثة تلحق بمعاني الإعجاز، وهي أن تكون الألفاظُ في اختلاف بعض صورها مما يتهيأ معه استنباط حكم أو تحقيق معنًى من معاني الشريعة، ولذا كانت القراءات من حجة الفقهاء في الاستنباط والاجتهاد، وهذا المعنى مما انفرد به القرآن الكريم، ثم هو مما لا يستطيعه لغويٌّ أو بياني في تصوير خيالٍ فضلًا عن تقرير شريعة.
ومن أعجب ما رأيناه في إعجاز القرآن وإحكام نظمه: أنك تحسب ألفاظَه هي التي تنقاد لمعانيه، ثم تتعرف ذلك وتتغلغل فيه فتنتهي إلى أن معانيه منقادةٌ لألفاظه، ثم تحسب العكس وتتعرفه متثَبتًا فتصير منه إلى عكس ما حسبت، وما إن تزال مترددًا على منازعة الجهتين كلتيهما، حتى ترده إلى الله الذي خلق في العرب فطرة اللغة، ثم أخرج من هذه اللغة ما أعجز تلك الفطرة؛ لأن ذلك التوالي بين الألفاظ ومعانيها، وبين المعاني وألفاظها، مما لا يُعرف مثله إلا في الصفات الروحية العالية؛ إذ تتجاذب روحان قد ألَّفت بينهما حكمة الله فركبتهما تركيبًا مَزْجيًّا بحيث لا يجري حكم في هذا التجاذب على إحداهما حتى يَشملهما جميعًا.
هذا حين كان الاختلاف مما تقتضيه الفطرة اللغوية ومذاهبها، فلما انتَقَضت هذه الفطرة، واختبلت الألسنة بعد اتساع الفتوح، وانسياح العرب في الأقطار، ومخالطتهم الأعاجمَ — لَم يعد لذلك الاختلاف وجه يتصل بحكمة من الرأي، بل صار كأنه دُرْبةٌ لإفساد هذا الأمر واختلاف المادة نفسها على وجهٍ يُنكِرُ من حقيقتها بما يضيفُ إليها أو يخلط بها أو يغيِّر منها، وإلى هذا نظر رسول الله ﷺ حين عُرِضَ عليه القرآنُ العرضةَ الأخيرة، وما كان يعلم أنها الأخيرةُ لولا ما علَّمه الله، فاختار قراءة زيد بن ثابت صاحب هذه العرضة، وبها كان يقرأ وكان يصلي إلى أن انتقل إلى جوار ربه؛ ومن ثم اختارها المسلمون بعده، وكتبوا القرآن عليها زمن أبي بكر كما مرَّ، ثم تركوا للناس أسانيدهم؛ إذ كانت الفطرة سليمةً بعدُ.
(٤) القُرَّاء
يرجعُ عهدُ القراء الذين أقاموا الناسَ على طرائقهم في التلاوة إلى عهد الصحابة — رضي الله عنهم — فقد اشتهر بالإقراء منهم سبعة: عثمان، وعليٌّ، وأُبَيٌّ، وزيدُ بن ثابت، وابن مسعود، وأبو الدَّرداء، وأبو موسى الأشعري؛ وعنهم أخذ كثير من الصحابة والتابعين في الأمصار، وكلهم يُسنِدُ إلى رسول الله ﷺ. فلما كانت أواخر عهد التابعين في المائة الأولى تجرَّد قومٌ واعتنَوا بضبط القراءة أتمَّ عناية، لِما رأوا من المساسِ إلى ذلك بعد اضطراب السَّلائق، وجعلوها علمًا، كما فعلوا يومئذ بالحديث والتفسير، فكانوا فيها الأئمة الذين يُرحَلُ إليهم ويؤخَذُ عنهم؛ ثم اشتهر منهم ومن الطبقة التي تَلتْهُم أولئك الأئمة السبعة الذين تُنسَبُ إليهم القراءات إلى اليوم، وهم: أبو عمرو بن العلاء شيخُ الرُّواة المتوفَّى سنة ١٥٤ﻫ، وعبد الله بن كثير المتوفى سنة ١٢٠ﻫ، ونافعُ بن نعيم المتوفى سنة ١٦٩ﻫ، وعبد الله بن عامر اليَحصُبي المتوفى سنة ١١٨ﻫ، وعاصمُ بنُ بَهْدَلة الأسَدي المتوفى سنة ١٢٨ﻫ، وحمزةُ بن حبيب الزيات العِجلي المتوفى سنة ١٥٦ﻫ، وعلي بن حمزة الكِسائي إمام النحاة الكوفيين المتوفى سنة ١٨٩ﻫ.
وقراءات هؤلاء السبع هي المتفقُ عليها إجماعًا، ولكلٍّ منهم سَنَد في روايته، وطريقٌ في الرواية عنه؛ وكل ذلك محفوظ مثبَت في كتب هذا العلم.
وأول من تتبع وجوهَ القراءات وألَّفها وتقصَّى الأنواعَ الشاذة فيها وبحث عن أسانيدها من صحيح ومصنوع: هارونُ بن موسى القارئ النحوي المتوفَّى سنة ١٧٠ﻫ، وكان رأسًا في القراءة والنحو، ولكن أولَ من صنف فيها إنما هو أبو عبيد القاسمُ بن سلَّام الراوية المتوفى سنة ٢٢٤ﻫ، وكان أول من استقصاها في كتاب. ويقال إنه أحصى منها خمسًا وعشرين قراءة مع السبع المشهورة.
(٥) وُجوه القِرَاءة
كذلك نشأت القراءات الغريبة في رأينا، فإن هذا الشاذ وهذا الضعيف وهذا المنكر مما لا نحسبه كان معروفًا متلقًّى بالإسناد الذي لا مغمز فيه وإن لم يقرأ به أصحابه إلا على أنه معروف مُوثَّق الأسانيد.
ولا بد أن تكون قد شذت وجوه كثيرةٌ من القراءات قبل مصحف عثمان، وخاصةً فيمن يقرأ من عَرَب الأمصار ومن الأوشاب المستضعفين الذين لم تخلُص فطرتهم ولم تَتَوَقَّح طباعهم، وكلُّ أولئك قد كان لهم في أحيائهم من يُقرئهم القرآن، فإن كان قد وقع أمر من ذلك لأصحاب القراءات ومن يتتبعون وجوهها فأخذوا به لأنه عن متقدم يُسنده أو يَزعمه صحيحًا عمن يُسنده فذلك أيضًا قولٌ ومذهب.
أما اشتراط موافقة العربية على أي وجوهها: فذلك إطلاق يناسب ما قدمناه من أمر الفطرة، ومن أجله كان صحيحًا أن لا يُعول أئمة القراءة في أمر الجواز على ما هو أفشى في اللغة وأقيسُ في العربية، دون ما هو أثبتُ في الأثر وأصحُّ في النقل؛ لأن العرب متفاوتون في خلوص اللغة وقوة المنطق فإن قرأوا فلكل قبيلٍ نهجه.
وأما اشتراط صحة الإسناد، فهو أمر ظاهر ما دامت القراءة سنة متبعة، وكثيرًا ما ينكر بعض أهل العربية قراءة من القراءات؛ لخروجها عن القياس، أو لضعفها في اللغة؛ ولا يحفل أئمةُ القراءة بإنكارهم شيئًا؛ كقراءة من قرأ فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئْكُمْ بسكون الهمزة، ونحوها مما أحصوه فى كتبهم.
وأول من اشتهر من القراء بالشواذ؛ وعُني بجمع ذلك واستقصائه وإظهاره دون الصحيح؛ أبو الفضل محمد بن جعفر الخزاعي في أواخر المائة الثانية؛ فقد جمع قراءة نسبها إلى الإمام أبي حنيفة — رحمه الله — ومنها: إِنَّمَا يَخْشَى اللهُ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءَ، وقد أكذبوه في إسناده، وجعلوه مثلًا بينهم في القراءات الموضوعة المردودة.
أما بعد هؤلاء الرءوس، وبعد أن انطوت أيامُهم، فإن القراءة قد استوثقَ أمرها ولم يعد للشاذ وجه ولا أقيم له وزن؛ إذ كانت قد دُونت العلوم في اللغة العربية وفي القراءات، وأخمَلَ الناسُ أهلَ الشواذ، الخلفاءُ والأمراءُ فمن دونهم، واعتقدوا لهم السوءَ والإثمَ، ورأوا أمرهم الفتنة التي لا يُستقالُ فيها البلاء؛ فما زالوا بهم حتى قطعَ الله دابرهم وغابرهم.
هذا، وقد أورد ابنُ النديم في كتابه «الفهرست» أسماء كثير من أهل الشواذ في كثير من الأمصار، فارجع إليه إن شئت أن تستقصي فيما لا يفيد.
(٦) قراءة التَلحِين
ومما ابتدع في القراءة والأداء، هذا التلحين الذي بقيَ إلى اليوم يتناقله المفتونةُ قلوبُهم، وقلوبُ من يعجبهم شأنهم، ويقرءون به على ما يشبه الإيقاع وهو الغناء التقيُّ … ومن أنواعه عندهم في أقسام النغم: «التَّرعيد» وهو أن يرعد القارئ صوته، قالوا كأنه يرْعَد من البرد أو الألم، «والترقيص» وهو أن يروم السكوتَ على الساكن، ثم ينقر مع الحركة كأنه في عَدْو أو هَرْولة، «والتطريب» وهو أن يترنم بالقرآن ويتنغَّمَ به فيمدَّ في غير مواضع المدِّ ويزيد في المد إن أصاب موضعه، «والتحزين» وهو أن يأتي بالقراءة على وجهٍ حزين يكاد يُبكي مع خشوع وخضوع، ثم «الترديد» وهو رد الجماعة على القارئ في ختام قراءته بلحن واحد على وجه من تلك الوجوه.
أي ما فيها، وكان ابن أعين يُدخل الشيء من ذلك ويخفيه، حتى كان الترمذي محمد بن سعيد في المائة الثالثة، وكان الخلفاء والأمراء يومئذ قد أولعوا بالغناء وافتَنُّوا فيه، فقرأ محمد هذا على الأغاني المولدة المحدثة، سلخها في القراءة بأعيانها.
وقال صاحب جمال القراءة: إن أول ما غُنِّي به في القرآن قراءة الهيثم «أما السفينة» كما تقدم، فلعل ذلك أول ما ظهر منه.
وكان في الصحابة والتابعين — رضي الله عنهم — من يُحكم القراءة على أحسن وجوهها ويؤديها بأفصح مخرج وأسراه، فكأنما يُسمع منه القرآنَ غضًّا طَريًّا؛ لفصاحته وعذوبة منطقه وانتظام نَبَراته، وهو لحن اللغة نفسها في طبيعتها لا لحن القراءة في الصناعة، على أن كثيرًا من العرب كانوا يقرءون القرآن ولا يُعفون ألسنتهم مما اعتادته في هيئة إنشاد الشعر، مما لا يخل بالأداء، ولكنه يعطي القراءة شبهًا من الإنشاد قريبًا؛ لتمكُّن ذلك منهم وانطباع الأوزان في الفطرة، حتى قيل في بعضهم: إنه يقرأ القرآن كأنه رَجز الأعراب.
وبالجملة فإن التعبد بفهم معاني القرآن في وزن التعبد بتصحيح ألفاظه وإقامة حروفه على الصفة المتلقاة من أئمة القراءةِ المتصلةِ بالنبي ﷺ.
وقد عدَّ العلماءُ القراءةَ بغير هذا التجويد لحنًا خفيًّا؛ لأن المختص بمعرفته وتمييزه هم أهل القراءة الذين تلقوه من أفواه العلماء، وضبطوه من ألفاظ أئمة أهل الأداء.
(٧) لغة القرآن
وهذه حكمة بالغة في سياسة أولئك الجفاة وتألُّفهم وضمِّ نَشَرِهم، فإن هذا القرآن لو لم يكن بلسان قريش ما اجتمع له العرب ألبتة ولو كانت بلاغته مما يُميت ويحيي، ثم كانوا لا يَعْدون في اعتبارهم إياه أنه ضَرب من تلك الضروب التي كانت لهم من خوارق العادات، كالسحر والكهانة وما إليهما، وهو الذي افترته قريش؛ ليصرفوا به وجوه العرب، ويُميلوا رءوسهم عن الإصغاء إلى النبي ﷺ فقالوا: ساحر، وكاهن، وشاعر، ومجنون، وتقوَّلوا من أمثال ذلك يبتغون به أن يحدثوا في قلوب الناس لهذا الأمر خفة الشأن؛ وأن يهوِّنوا عليهم منه بما هوَّنته العادةُ، وهم كانوا أعلم بعادات القوم وما يبلغُ بهم، حين قعدوا يصُدُّون عن سبيل الله ويبغونها عوجًا.
وههنا أصل آخر، وهو أن القرآن لو نزل بغير ما ألِفَه النبي ﷺ من اللغة القرشية وما اتصل بها، كان ذلك مَغمزًا فيه؛ إذ لا تستقيم لهم المقابلة حينئذ بين القرآن وأساليبه وبين ما يأثُرونه من كلام النبي ﷺ فيهوِّن ذلك على قريش، ثم على العرب، فيجدون لكل قبيلة مذهبًا من القول فيه، فتنشقُّ الكلمة، ثم يصير الأمر من العصبية والمشاحنة والبغضاء إلى حالٍ لا يلتئم عليه أبدًا، ولو أن شاعرًا من شعرائهم ظهر فيهم بدين خيالي وأقامهم عليه، لكان من الرجاء والاحتمال أن يستجيبوا له دون صاحب القرآن الذي ينزل عليه بلغة غير لغة قبيلته.
وإنما وطَّأنا بهذا النَّبْذِ من القول؛ لأن طائفة من الناس يذهبون إلى أن القرآن لو هو قد نزل على النبي ﷺ بغير القرشية، لكان ذلك وجهًا من إعجازه تُلتمَس به الحجة ويستبين الظفر، ولخلَّى عنه العرب فتْرَةً وعجزًا، وهو زعم لا يقول به إلا أحد رجلين: من لا يدري كيف يقول، أو من يقول ولا يبالي أن يدري أنك مطلعٌ منه على جهل وَسفَه.
ولما كان الوجه الذي أقبل به القرآنُ على العرب وجهَ تلك البلاغة المعجزة، فقد كان من إعجازه أن يأتيهم بأفصح ما تنتهي إليه لغاتُ العرب جميعًا، وإنما سبيل ذلك من لغة قريش. وهذه اللغات وإن اختلفت في اللحن والاستعمال، إلا أنها تتفق في المعنى الذي من أجله صار العرب جميعًا يخشعون للفصاحة من أي قبيل جاءتهم، وهذا المعنى هو مناسبةُ التركيب في أحرف الكلمة الواحدة، ثم ملاءمتُها للكلمة التي بإزائها، ثم اتساقُ الكلام كله على هذا الوجه حتى يكون كالنغم الذي يُصب في الأذن صبًّا، فيجري أضعفهُ في النسق مجرى أقواه؛ لأن جملته مُفْرغة على تناسب واحد.
وقد استوفى القرآن أحسن ما في تلك اللغات من ذلك المعنى، وبان منها بهذه المناسبة العجيبة التي أظهرته على تنوُّعه في الأوضاع التركيبية مظهرَ النوع الواحد، وهي مناسبة معجزة في نفسها؛ لأن التأليف بين المواد المختلفة على وجهٍ متناسب ممكن، ولكن التأليف بينها على وجه يجمعها ويجمع الأذواق المختلفة عليها كما اتفق للقرآن، أمرٌ لا يقول بإمكانه من يعرف معنى الإمكان، وسنفصل ذلك في موضع هو أملكُ به متى انتهينا إلى القول في حقيقة الإعجاز.
قال بعض العلماء: وقد جاءت في القرآن ألفاظ من لغات أخرى كقوله: لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ؛ أي لا ينقصكم بلغة بني عبس، ونقل الواسطي في كتابه الذي وضعه في القراءات العشر أن في القرآن من أربعين لغة عربية، وهي: قريش، وهذيل، وكنانة، وخثعَم، والخزرَج، وأشعر، ونمير، وقيس عَيلان، وجُرهُم، واليمن، وأزد شَنوءة، وكندة، وتميم، وحمير، ومَديَن، ولَخم، وسعد العشيرة، وحضرموت، وسَدوس، والعمالقة، وأنمار، وغسَّان، ومِذحج، وخُزاعة، وغَطَفان، وسبأ، وعُمانَ، وبنو حنيفة، وثعلب، وطي، وعمر بن صَعصَعَة، وأوس، ومُزينة، وثَقِيف، وجذام، وبَلي، وعُذرة، وهوازن، والنَّمِر، واليمامة. ا.ﻫ.
ولا سبيل إلى تحقيق ذلك؛ لدروس هذه اللغات وتداخلها وتقطع أسباب المقارنة بينها وبين لغة قريش التي مضوا على استعمالها بعد القرآن وأطبقوا عليها، والعلماء إنما يذكرون من أكثر هذه اللغات في القرآن الكلمة والكلمتين، إلى الكلمات القليلة؛ وانظر أين يقع مبلغ ذلك من لغة بجملتها؟
وربما استعمل القرآن الكلمة الواحدة على منطق أهل اللغات المختلفة، فجاء بها على وجهين، لمناسبةٍ في نظمه: كَبرَاء، وبريء، فإن أهل الحجاز يقولون: أنا منك بَرَاء، لا يَعْدُونها، وتميم وسائر العرب يقولون: أنا منك بريء، واللغتان في القرآن، وكذلك قوله: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ، وقوله: وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ فإن الأولى لغة قريش؛ يقولون: أسريت؛ وغيرهم من العرب يقولون: سَرَيْتُ، وهذا بابٌ من اللغة لم يقع إلينا مستقصًى؛ ولكن علماء الأدب ربما أشاروا إلى بعض ألفاظه في كتبهم، كما تصيب من ذلك في الكامل للمبرد وغيره.
وبالوجوه التي أومأنا إليها تختلف القراءات على حسب الطرق التي تجيء منها؛ فالناقلون عمَّن قرأ بلغة قبيلة ينقلون بتلك اللغة في الأكثر، ولذا قيل: إن القراءات السبع متواترة فيما لم يكن من قبيل الأداء. وأما ما هو من قبيله كالمدِّ والإمالة ونحوها فغير متواتر، وهو الوجه المتَقَبل.
ولقد أحصى علماء القراءة في كتبهم ما ورد من ألفاظ القرآن على أحد تلك الوجوه، ومن قرأ بها كلها أو بعضها من الأئمة، وهي عناية ليس أوفى منها، ولا يعرف من مثلها لغيرهم ولغير أهل الحديث في أمة من الأمم، غير أنهم — عفا الله عنهم — أسقطوا من كتبهم كلَّ ما يتعلق بالنسبة التاريخية في اللغات نفسها، إلا ما لا حَفْلَ به، وقد أشبعنا القول من هذا المعنى ومن الحسرة عليه في باب اللغة من التاريخ. ولكن القول نَهِمٌ لا يزال يشرَه فيسيل به لُعاب القلم … كلما توهَّم لذة الفائدة وطعمها!
(٨) الأحرف السَّبعة
قال: فهذه الوجوه السبعة التي بها اختلفت لغاتُ العرب قد أنزل الله باختلافها القرآن متفرقًا فيه؛ ليعلم بذلك أن من زَلَّ عن ظاهر التلاوة بمثله أو من تعذر عليه تركُ عادته «اللغوية» فخرج إلى نحوٍ مما قد نزلَ به فليسَ بمَلوم ولا معاقَب عليه؛ وكل هذا فيما إذا لم يختلف في المعاني. ا.ﻫ.
وهو قول حسن يُحمل به الحديث على معنى القراءات التي هي في الأصل فروق لغوية، وإن كان بعض الأحرف قد قرئ بسبعة أوجه وبعشرة، نحو: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ووَعَبَدَ الطَّاغُوتَ.
ثم أشار أفصح العرب ﷺ بظهر كل حرف وبطنه وحده ومطلع كل حد، إلى حقيقة هذا الإعجاز، فإن ظاهر القرآن على أي لغة قرئ بها من لغات العرب إنما هو ظاهر تلك اللغة بعينها، ولكن باطنه صورة السماء في الماء، ومُسمياتٌ إلهية لا تنال وإن نيلت الأسماء، ثم إن لكل لغة في امتزاجها بالقرآن حدًّا يقف عنده أهلها، وهو الحد الذي تبتدئ منه الجنسية اللغوية، ولكل حد من هذه الحدود مطلع يُصْعَدُ منه إلى مرتقى هذه الجنسية التي كان القرآن أخص مقوماتها، وذلك في جملته إنما هو الإعجاز كله، والهدى كلُّه، والكمال كلُّه.
ولسنا ننكر أن هذا التأويل قد يكون بعيدًا بدقائقه عن مُتناول أذهان العرب، ولا أن فيه شيئًا من الكد، ولكنه على كل حال قريب ممن ورثوا العرب في لغتهم وقصَّروا عنهم في فهم حقائق الإعجاز بتقصير الفطرة فيهم. ثم لا بد أن يكون العربُ قد فهموا الحديثَ على نحو مما يؤديه تفسيره الذي ذهبنا إليه؛ إذ لا يعرفون من الحرف وظهره وبطنه؛ والحد والمطلع غيرَ الصفاتِ التي تتعلق باللغة، ولأمرٍ ما كان كلامُ النبوة خالدًا كأنه قيل في كل عصر لأهله وقبيله، وكأن هذا الزمان إنما هو شاهدٌ يجيء بالبيِّنة على صحة تأويله.
ولو أن هذا الحديث قد جاء في تأويله نصٌّ عن النبي ﷺ يعيِّن المراد منه، لما اختلفت أقوال العلماء فيه، وما داموا قد اختلفوا فدعنا نختلف معهم ونأخذ بالأشبه والأمثل مما يوافق القرآن نفسه، وقد أنزله الله الذي أنزل السَّكينةَ في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانًا مع إيمانهم. فإن ذهبتَ مذهبنا؛ وإلا فخذ مما أحببتَ أو دَعْ!
(٩) مفردات القرآن
وفي القرآن ألفاظٌ اصطلح العلماء على تسميتها بالغرائب؛ وليس المراد بغرابتها أنها مُنكرة أو نافِرة أو شاذة، فإن القرآن منزَّه عن هذا جميعه، وإنما اللفظة الغريبة ههنا هي التي تكون حسنة مستغربَة في التأويل؛ بحيث لا يتساوى في العلم بها أهلُها وسائر الناس.
وجملة ما عدوه من ذلك في القرآن كله: سبعمائة لفظة أو تزيد قليلًا؛ وجميعها روي تفسيره بالسند الصحيح عن ابن عباس — رضي الله عنهما — وهو ذلك المعجم اللغوي الحي الذي كانوا يرجعون إليه، كان — رحمه الله — يقول: الشعر ديوانُ العرب، فإذا خفيَ علينا الحرفُ من القرآن الذي أنزله الله بلغة العرب رجعنا إلى ديوانها فالتمسنا معرفة ذلك منه.
ومنشأ الغرابة فيما عدوه من الغريب أن يكون ذلك من لغات متفرقة، أو تكون الألفاظ مستعملةً على وجه من وجوه الوضع يخرجها مُخرَجَ الغريب: كالظلم، والكُفر، والإيمان، ونحوها مما نُقل عن مدلوله في لغة العرب إلى المعاني الإسلامية المحدَثة، أو يكون سياق الألفاظ قد دل بالقرينة على معنًى معين غير الذي يُفهم من ذات اللفظ، كقوله تعالى: فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ أي فإذا بيَّنَّاه فاعمل به.
وكذلك عدَّ العلماء في القرآن من غير لغات العرب أكثر من مائة لفظة، ترجع إلى لغات الفُرس والروم والنَّبَط والحبشة والبربر والسريان والعبران والقِبط، وهي كلمات أخرجتها العرب على أوزان لغتها وأَجْرتها في فصيحها فصارت بذلك عربية، وإنما وردت في القرآن؛ لأنه لا يسدُّ مسدَّها إلا أن توضع لمعانيها ألفاظ جديدة على طريقة الوضع الأول، فيكون قد خاطب العرب بما لم يُوقفهم عليه، وما لا يدركون بفطرتهم اللغوية وجه التصرف فيه، وليس ذلك مما يستقيم به أمر ولا هو عند العرب من معاني الإعجاز في شيء؛ لأن الوضع يعجز أهله، وهم كانوا أهل اللغة.
ولذا قال العلماء في تلك الألفاظ المعربة التي اختلطت بالقرآن: إن بلاغتها في نفسها أنه لا يوجد غيرها يُغني عنها في مواقعها من نظم الآيات، لا إفرادًا ولا تركيبًا. وهو قول يحسن بعد الذي بيناه.
ومن ألفاظه ما يسميه أهل اللغة بالوجوه والنظائر، والأفراد.
أما الوجوه والنظائر: فهي الألفاظ التي وردت فيه بمعانٍ مختلفة: كلفظ الهدى، فإنه فيه على سبعة عشر وجهًا: بمعنى؛ الثبات، والدين، والدعاء، ونحوها. ومن هذه الألفاظ: الصلاة، والرحمة، والسُّوء، والفتنة، والرُّوح وغيرها، وكلها مما يتبسط في استعماله بوجوه من القرائن وسياسة القرينة في العربية شريعةٌ من شرائع الألفاظ.
وأما الأفراد: فهي ألفاظ تجيء بمعنًى مفرد غير المعنى الذي تستعمل فيه عادة. ولابن فارس في إحصاء هذا النوع كتاب قال فيه: كل ما في القرآن من ذكر الأسف فمعناه الحزن، إلا قوله: فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فمعناه: أغضبونا، وكل ما فيه من ذكر البروج فهي الكواكب، إلا قوله: وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ فهي القصور الطوال الحصينة، وكل ما فيهِ من ذكر البَرِّ والبحر؛ فالمراد بالبحر: الماء، وبالبر: التراب، إلا قوله: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ فالمراد به البرية والعمران، وعد من مثل ذلك هو وغيره أشياء؛ فهذا ما يسمونه في لغة القرآن بالأفراد.
(١٠) تأثير القرآن في اللغة
لا نتكلم في هذا الفصل عن الوجوه اللغوية التي ابتدعها القرآن في الكلام فصارت من بعده نهج الألسنة والأقلام، ولا عن وجوه تأثيره باللغة: فإن لكل من ذلك موضعًا هو أملكُ به، وإنما نقصُّ لك طرفًا من القول في هذه اللغة كيف ظهرت في آياته للزمان، حتى لا يظَنَّ أنها لغةُ عصرها، وكيف بهرت بغاياته في البيان حتى ليقال إنها لغة دهرها، وكيف جاوز بها قدرها الطبيعي بعد أن صار هو من قَدْرها.
وأنت إذا صبغت يدك بهذا الفن من القيافة اللغوية، وحاولت أن تستخرج من لغة القرآن ما يصف لك العرب على أخلاقهم وطباعهم ومبلغهم من العلم؛ فإنك تحاول محالًا، وتكابر فيما يأبى عليك وما ليس لك في الحيلة إليه غيرُ المكابرة، حتى إن الذي لا يعتقد مستبصرًا أن هذا القرآن من عند الله إذا هو نظر فيه وأثبت حقيقته وقوي على تمييزها وكان ممن ينزلون على حكم النظم والمعرفة، فإنه لا يجد مناصًا من ردِّ التاريخ والتكذيب له، ثم الإقرار بأن هذا القرآن إنما هو أثر من لغة قوم جاوزوا في الحضارة حدَّ أهلها من سائر الأجيال، وبلغوا من أحوال المدنية أرقى هذه الأحوال، وكانوا من العلوم في مقام معلوم؛ لأن هذا الماء الصافي الذي يترقرق في عبارته، وهذا النظم الجيِّد الوثيق، وما اشتمل عليه من بدائع الأوصاف، وما فيه من روائع الحكمة، ثم ما احتوى عليه من إشارات السماء إلى الأرض، وضراعة الأرض للسماء، إلى ما حلَّه من معضلات الاجتماع، وكشفه من وجوه السياستين النفسية والقومية، لا يكون ألبتة في لغة أمة قد أناخت بها أخلاق البداوة في ساقة الأمم حتى عبدت الأصنام، ولم تعرف من الشرائع غير شريعة الإلهام، وما ملكها من ملوك الدهر غيرُ سلطان الأوهام.
وما دام ذلك قد تحققَ في المعاني، وكانت هي سبيلًا إلى الاستدلال عليه؛ فالاستدلال بالألفاظ ومسابقتها لتلك المعاني في الدقيق والجليل أيسر وأسهل.
ومن المعلوم بالضرورة أن القرآن قد جمع أولئك العربَ على لغة واحدة، بما استجمع فيها من محاسن هذه الفطرة اللغوية التي جعلت أهلَ كل لسان يأخذون بها ولا يجدون لهم عنها مَرْغَبًا؛ إذ يرونها كمالًا لما في أنفسهم من أصول تلك الفطرة البيانية، ومما وقفوا على حد الرغبة فيه من مذاهبها دون أن يقفوا على سبيل القدرة عليه. ومن شأن الكمال المطلوب إذا هو اتفق في شيء من الأشياء — كهذا الكمال البياني في القرآن — أن يَجمع عليه طالبيه مهما فرقت بينهم الأسبابُ المتباينة، والصفات المتعادية؛ ولولا ذلك ما سهل أن تنقاد الجماعات في أصل تكوينها منذ البدء انقيادًا يكون عنه هذا الأثر الوراثي في طاعة الأمم لشرائعها؛ ثم لملوكها وأمرائها، مع ما تُسام الأمة لذلك في باب من أبواب الإمرَةِ والحكم والتسلط. كما أن من شأن النقصِ إذا تمثل في شيء أن يزيد في تفريق من يفترقون عنه إذا توهموه، حتى تتسعَ بينه وبينهم الغاية.
ومن أعضل الأمور وأشدها التباسًا أن يكون امرؤٌ من الناس قادرًا على أن يقيس ببيانه، أو علمه بمذاهب البيان — قدرة أقوام وعجزهم في أمْرٍ معنوي كاللغة، متى كانت مذاهبُهم إلى أنواع من الاختلاف في القدرة والعجز، وخاصةً إذا كان أمر اللغة فيهم إلى السليقة والفطرة، فإن من ينتصب لذلك وإن أرادَ أن يُقسِط، وحاول أن لا يحُولَ — فهو لا بد مخطئ تعيينَ المَراتِب في المقدار الفاضل، وتعيين ما يقابلها في المقدار المفضول، ثم مخطئ في تمييل الحكم بين المقدارين، ولا يجيء من رأيه إلا بما تعرض فيه الخصومة أو تطول؛ لأن قياس مثل ذلك من الفطرة لا يتهيأ إلا بعمل يحتوي كلَّ دقائقها وما يمكن أن تبلغ إليه من الكمال المطلق الذي هو الحدُّ الأعلى في طبيعة تركيبها، ومثل هذا لا يكون ألبتة من إنسان ينزل على حكم هذه الفطرة نفسها؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، ولأن قابل الكمال لا يكون في نفسه حدًّا للكمال. ومن أجل هذا كان رسول الله ﷺ مع أنه أفصح ذي لسان وأبلغُ ذي لُبٍّ، لا يقاس كلامه بالقرآن، ولا يقع منه إلا كما يقع سائر الكلام، مع أنه بين كلام الناس الغايةُ التي ليس بعدها ما يقال فيه إنه بعدها، كما ستقف عليه في موضعه.
فيلزم من ذلك أن يكونَ القياسُ الذي أشرنا إليه أمرًا فوق الطبيعة وليس فوقها إلا أمر الله، وهو القائل عز وجل: وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ.
وينبغي لك أن تطيل النظر في قوله تعالى: غَيْرَ ذِي عِوَجٍ وتقف على موقع هذا الفصل من الآية، وتتأمل لفظة «العِوَج» فضل تأمل، فإنك لا تثير دفائنها البيانية إلا إذا حملتها على ما ذهبنا إليه. فتراها تصف القرآن بأنه فطرةُ هذه الفطرة العربية نفسها. وإنها لكلمة من الوصف الإلهي ترجح في موقعها بالكلام الإنساني كله.
فقد وضح لك أنه لولا القرآن وأسراره البيانية ما اجتمع العرب على لغته، ولو لم يجتمعوا لتبدَّلت لغاتهم بالاختلاط الذي وقع ولم يكن منه بُدٌّ، حتى تنتقض الفطرة وتختبل الطباع، ثم يكون مصير هذه اللغات إلى العفاء لا محالة؛ إذ لا يخلفهم عليها إلا من هو أشد منهم اختلاطًا وأكثرُ فسادًا، وهكذا يتسلسل الأمرُ حتى تستَبْهِم العربية فلا تُبِينُ — وهي أفصح اللغات — إلا بضربٍ من إشارة الآثار، وتنزل منزلةَ هذا «الهيرُغليف» الذي قَبَرَه المصريون في الأحجارِ وأحيَتْه هذه الأحجار.
وذلك، معنى من أبين معاني الإعجاز؛ إذ لا تجده اتفق في لغة من لغات الأرض غير العربية، وهو لم يتفق لها إلا بالقرآن، ولقد كان أسلوبه البياني الذي جمع له العرب هو الذي اقتضى ما أحدثه العلماء بعد ذلك من تتبُّع اللغات وتدوينها ورواية شواهدها، والتحمُّلِ لها؛ فكان صنيعهم صلة بين اللغة وبين العلوم التي أفرغت عليها من بعد؛ لأن لغة من اللغات لا تحيا ولا تموت إلا بحسب اتصالها بمادة العلم الذي به حياة أهلها وموتهم، وهي لا يلبسها العلم إلا إذا كانت قشيبة محكمة، لا تضيق عن ألواحه وفروعه ولا يخلقها الاستعمال.
وإنما شباب هذه الحياة اللغوية أن تكون اللغة لينةً شديدة كما يكون كمال الإنسان بقوة الخَلْق والخلُق. وهذا وجه لو لم يُقِمْها عليه القرآن لما استقامت أبدًا، ولا وقفت على طريقه، ولا تلاقى فيه آخرُها بأولها؛ لِمَا أومأنا إليه، وسنزيد هذا لمعنى بيانًا إن شاء الله.
ويبقى وجه آخر من تأثير القرآن في اللغة، وهو إقامة أدائها على الوجه الذي نطقوا به، وتيسير ذلك لأهلها في كل عصر، وإن ضعفت الأصول واضطربت الفروع، بحيث لولا هذا الكتاب الكريم لما وجد على الأرض أسود ولا أحمر يعرف اليوم ولا قبل اليوم كيف كانت تنطق العرب بألسنتها وكيف تقيم أحرفها وتحقق مخارجها.
وهذا أمرٌ يكون في ذهابه ذهابُ البيان العربي جملتِه أو عامته، لأن مبناه على أجراس الحروف واتساقها، ومداره على الوجه الذي تؤدَّى به الألفاظ، وأنت قد ترى الضعفاء الذين لا يُحكِمون منطقَهم وما يصنعون بالأساليب المدمَجة والفِقَر المتوثِّقة إذا هم تعاطوها فنطقوا بها، حتى ليصير معهم أجودُ الكلام في جزالته وقوة أسرِه وصلابة معجمِهِ إلى الفسولة والضعفِ، وإلى البرد والغثاثةِ، كأنما يموت في ألسنتهم موتًا لا رحمة فيه.
لا جَرَم أن اللغة التي يذهب منها ذلك لا يُنطَق بها إلا على الحكاية السقيمة، ولا جرم أن بعض السقم يدفعُ إلى بعضه، وأن جملة ذلك تفضي إلى الموت.
فهذه معانٍ سامية غريبة انفردت بها العربية، ولولا القرآن ما كانت فيها وما تنبغي لها بكلام غيره؛ إذ ليس في غيره ما يبلغ أن يكون حدًّا للكمال اللغوي في الفطرة، فيتعلق بمثل أثره في العرب وأحوالهم وتاريخهم، أو يقع من ذلك على مقدار مقسوم، أو يكون له فيه حق معلوم.قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا.
صدق الله العظيم، ومن أصدق من اللهِ قيلًا؟
(١١) الجنسيَّة العربية في القرآن
ذلك بعضُ ما تناصَرتْ عليه الأدلة واجتمعت على صحته، من تأثير القرآن في اللغة وما أصلح الله لأهلها في هذه البقية، حفظًا لكتابه، وإظهارًا لوجه من وجوه إعجازه الخالدة؛ ولكن هذا القرآن يهدي للتي هي أقومُ، وحسبُه معجزةً ما نقول فيه من صفة الجنسية العربية التي جعل الأمم أحجارًا في بنائها والدهرَ على تقادُمه كأنه أحد أبنائها، وأقام منها مغضلةً سياسية، في الأرض وضعُها ونقدها، وفي السماء حَلها وعَقْدها، وشَدَّ بها المسلمين فهم إذا ائتلفوا انضموا كالبنيان المرصوص، وإذا تفرقوا سطعوا في تيجان الممالك كالفصوص، وما إن يزالوا في التاريخ مرةَ أصوله، ومرة فصوله، وإن لم يقوموا أحيانًا بالدين، قام بهم هذا الدينُ إلى حين، وإن لم يكن لهم اليوم المشهود، فلا يؤخر إلا لأجل معدود، وكيف وقد جمعهم الكتاب الذي أُنزل من السماء فكان مثال آدابها، وانتشر في الأرض فكان خِلْعة شبابها، ودعا إليه الناسَ على اختلافهم فكأنما كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَىٰ إِلَىٰ كِتَابِهَا.
ونحن فقد نعلم أن هذه المعجزة ليست إلى اللغة في مَرَدِّها من الفائدة، فإنما هي ترمي إلى وحدة سياسية تكون كالنبض لقلب هذا العالم كما سيأتيك. بَيْدَ أن سبيل ذلك من اللغة، فإن القرآن تنزَّلَ من العرب منزلة الفطرة اللغوية التي يساهم فيها كل عربي بمقدار ما تهيَّأ له من أسبابها الطبيعية؛ إذ كان بما احتواه من الأساليب، وما تناوله من أصول الكمال اللغوي، وما دار عليه من وجوه الوضع البياني — قد هَتَك الحوائل ومحا الفُروقَ التي تُبينُ قرائحَ العرب اللغوية بعضها من بعض، فاجتمعت منه على الكمال الذي كانت تتخيله ولا تألو عما يدنيها إليه معالجةً واكتسابًا؛ ولو أنهم تمالأوا طوالَ الدهر على أن يهذِّبوا من لغتهم ليبلغوا بها مبلَغَ الكمال الوضعي، على النحو الذي جاء به القرآن، لما ازدادوا إلا تعاديًا في الرأي وتباعدًا عما يجنحون إليه إذ تنزع كلُّ فطرة إلى منزعها في كل قبيل، فيزيد الناقص منهم نقصًا فطريًّا وهو يحسبه كمالًا، ويبعد الكامل عن حقيقة ما يلتمسه من الكمال بعد أن يرى غيره قد حسبه نقصًا؛ لأن الفطرة لا تنقاد إلا بالإذعان، ولا تُذعن إلا لما يكون في حد كمالها المطلق، وليس في تاريخ العرب اللغوي من ذلك بالتحقيق قبلَ القرآن ولا بعده غير القرآن.
تلك سياسة هذا القرآن في جمع العرب لمذاهب الأقدار وتصاريف التاريخ. رأى ألسنتهم تقود أرواحهم، فقادهم من ألسنتهم، وبذلك نزل منهم منزلة الفطرة الغالبة التي تستبدُّ بالتكوين العقلي في كل أمة. فتجعل الأمة كأنما تحمل من هذا العقل مفتاحَ الباب الذي تَلِجُ منه إلى مستقبلها؛ فإن كل أمة تستفيد عقلها الحاضر من ماضيها، لتُفيد مستقبلها من هذا العقل بعينه، فلما استقاموا له أقامهم على طريق التاريخ التي مرَّت فيها الأمم، وطرحت عليها نقائصَها فكانت غبارَها، وأقامت فضائلها فكانت آثارَها؛ فجعلوا يبنون عند كل مرحلة على أنقاض دولة، ويرفعون على أطلال كل مذلَّة صولة، ويخيطون جوانب العالم الممزق بإبر من الأسنة، وراءها خيوط من الأعنَّة؛ حتى أصبح تاريخُ الأرض عربيًّا، وصار بعدَ الذِّلَّة والمسكنة أبيًّا، واستوسَقَ لهم من الأمر ما لم تروِ الأيامُ مثل خبره لغير هؤلاء العرب، حتى كأنما زُوِيَتْ لهم جوانب الأرض، وكأنما كانوا حاسبين يمسحونها؛ لا غزاةً يفتحونها؛ فلا يبتدئ السيف حسابَ جهة من جهاتها حتى تراه قد بلغ بالتحقيق آخره، ولا يكاد يشير إلى «قُطْر» من أقطارها إلا أراك كيف تَدور عليه «الدائرة».
وما أظن مرجع ذلك إلى غير القرآن؛ بل أنا مستبصر في صحة هذا المعنى، مستيقن أنه مذهب التعليل إلى الحقيقة بعينها؛ لأن القرآن هو صفَّى تلك الطباع، وصَقَلَ جوانب الروح العربية، حتى صارت المعاني الإلهية تتراءى فيها وكأنها عن معاينة. فكأنما كان العرب يقطعون الأرض في فتوحهم؛ ليبلغوا طرفًا من أطراف السماء فينفذوا إلى ما وعدهم الله ويتصلوا بما أعد لهم.
ولو لم يكن القرآن قد سلك إلى ذلك مسلكه من الفطرة اللغوية في نفوسهم حتى استبدَّ بها في مستقَرِّها، وصرَّفها في وجوه معانيه، ما بلغ من القوم رأيًا ولا نية، ولأوشك أن يكون في مقاماتِ البيان عندهم وما يَهتف به شعراؤهم وخطباؤهم ما يذهب به جملة ويمسح أثره في القلوب، ولا يدع له مَساغًا إلى ما وراء السمع؛ لأن هؤلاء تنفث عليهم ألسنتُهم بأفصح الفصيح وأبين البيان في رأي العرب، وإن لم يكن كلامهم بتلك المنزلة، ولكن الحميَّة والعصبية واللُّحمة ومؤاتاة الهوى، كلُّها فصيح وكلها بيان، وليس الشأن في اللغة وألفاظها ومعانيها، وإنما الشأن فيما يمكن أن تفهمه النفس من كل ذلك؛ وهي لا تفهم إلا ما يكشف عن طبائعها ويبين عن أخلاقها وعاداتها، ولولا اختلاف النفوس في هذا الفهم ما رأيتَ اللغة الواحدة عند أهلها كأنها في المعنى لغاتٌ متباينة؛ فربَّ كلمة من لغة رجلين وإذا سمعاها رأيتها كأنما هي ليست من لغة أحدهما، فلا تبلغُ منه ولا تمسه، كأن تكون كلمةً من باب الحفاظ يسمعها عزيزٌ وذليل، أو لفظة من باب الكرم يُلقَّاها جوادٌ وبخيل.
وأنت إذا أنعمت على تدبر هذا المعنى، وأطلتَ تقليب الرأي فيه، وكان لا يعتريك من الخواطر إلا ما أحكمه العقلُ — فإنك واجدٌ منه سبيلًا إلى وجه من أبين وجوه الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم، فهو قد سفَّه أحلام العرب، وخلع آلهتهم، وقمع طغيانهم، واشتدَّ عليهم بالعنف محضًا بعد اللين ممزوجًا، حتى جعلت دماؤهم كأنما ترقرق في بعض آياته، ثم لم يهدأ عنهم، بل ردد ذلك وكرره، وعمهم به، وأرسله في كل وجه، وقرع أنوفهم؛ وهاج منهم حمية الجاهلية، وجاراهم في مضمار المخاطرة، وإلى حد المقارعة على عزة العشيرة وكثرة الحصى؛ وهم القومُ الذين كانت لهم كل هَتْفة كأن الأرواح هواء في صوتها، فلا يُهْتَف بها حتى تنهض الأجسام لموتها، ولا تسيرُ على الأرض بالرجال، حتى تطير إلى السماء بالآجال؛ ثم لم يمنعهم ذلك وما إلى ذلك أن ينقادوا ثم ينقادوا!
لا جرم أنها كانت الفطرةَ اللغويةَ لا غير؛ وإلا فما بال هؤلاء العرب قد خرجوا من تاريخهم بعد الإسلام كأنما نزعوا جلدتهم نزعًا، على حين كانت لهم الأمور المطمئنة، والصفاتُ المتوارَثَة؛ من أخلاقٍ شبُّوا عليها، وعادات ينازعون إليها، وطبائعَ هم بها أخصُّ وهي بهم أملك، ولم يكونوا مقطوعين عن التاريخ، بل كان لهم ماضٍ كأحسن ما تَكْلَف به الأمم، وكانوا عليه أحرص ما تكون أمة على ماضيها — كما نصفه في غير هذا الموضع — فلا الزمانُ تولَّاهم بعمله وهَدَم في أرضهم بمقدار ما بنى أو قريبًا من ذلك، ولا هم ورثوا طباعًا من طباع وأخلاقًا من أخلاقٍ وخرجوا من ماضيهم كما تخرج أمة من أمة في سلسلة طويلة الذَّرْع من حلقات الأجيال التي هي درجات النشوء في تاريخ كل مجتَمَع، ولا رأيناهم فيما وراء ذلك كالشعوب التي تَمْخَضُها الحوادث مخضًا شديدًا، وتتعاورها بالحروب والفتن، فتهدمها أنقاضًا وتبنيها أنقاضًا ولا تبدَّل منها إلا الشكل الاجتماعي، وإلا هيئة الوضع، والأمة بعد ذلك هي هي كيف هُدِمت وكيف بُنيت: لا تزال على أعراقها وأخلاقها. وربما عصفت الثورةُ الكبرى بأمة من الأمم، وألحَّت عليها بالفتن دائبةً، ثم تسكن العاصفة، وتقَرُّ الزلزلة، وتطمئن الأرض وأهلها، ولا يكون من جدَاء ذلك كله إلا اصطلاح لغوي في تاريخ الأمة لا يُغني من الحق شيئًا؛ كان تكون الأمة غريرةً جاهلةً مستبدًّا بها على وجه من الاستبداد، ثم تصير بعد الثورة غريرة جاهلة أيضًا، ولكن في استبداد على وجه آخر!
فالقرآن الكريم بتمكنه من فطرة العرب على وجهه المعجز، قد نزل منهم منزلةَ الزمان في عمله وآثاره؛ لأن الذي أنزله بعلمه وقدَّره بحكمته إنما هو خالقُ الزمن نفسه، فهَدَم في نفوس العرب، وكان هدمُه بناءً جديدًا جعل الأمة نفسَها قائمةَ على أطلال نفسها، وبذلك أحكم عمل الوراثة الذي تعمله في الغرائز والطباع، إذ تبني بالهدم، وتقيم التاريخ من أنقاض التاريخ؛ وهذا هو الفرق بين العمل الإنساني والعمل الإلهي، وبين شيء يسمَّى ممكنًا وشيء يسمَّى معجزًا.
بلى، ولقد يُخيَّل إليَّ أن ألفاظ القرآن كانت تَلبَس العرب حتى تتركهم كالمعاني السائرة التي لا تزال تطيف بالرءوس. فما بين العقل وبين أن تلجه هوَادة، ولا بين الوهم وبين أن تَصدَعَه منزلة، وكل ما يجيء من قبل الطبع وعلى حكم الفطرة لا يراه أهلُه نظرًا يقبلونه أو يردُّونه، ولكنهم يرونه ضرورةَ مقضِيَّةً ليس لهم على حالٍ بدٌّ من قبولها، وإلا فأي قوم كان هؤلاء الجفاة وهم لم يستصلحوا أنفسهم إلا بما يفسد جماعتهم، ولم يأبوا أن يرأموا لذُلِّ غيرهم إلا ليضربَ بعضهم الذلة على بعض، ولم يتخذوا السيف نابًا إلا ليأكلهم، ولا الحرب ضِرْسًا إلا لتمضغهم، وكانوا أهل جزيرة واحدة وكأنهم في تناكُرِهم أهلُ الأرض كلها من قاصيةٍ إلى قاصيةٍ.
ثم ما عسى أن يكون أمرُهم إذا هم قَرَعُوا صفاة الأرض والحال فيهم ما علمتَ، إلا ما يكون من أمر الحصاة يُقرَعُ بها الطَّوْدُ الأشمُّ ثم تنحدر عنه بصوت كالأنين، إن يكن منها فهو لَعَمرُك استخذاء، وإن كان من الجبل فهو لَعَمْري استهزاء.
فأما التوفيق بين مذاهب قلوبهم؛ فبالدين الطبيعي الذي جاء به القرآن ولو نزعت الطبيعةُ الإنسانية إلى غير معانيه لكانت طبيعة شر وإن ظنت منزعها إلى الخير. وأما التأليفُ بين ألسنتهم فيما ذهب إليه من المعنى العربي الذي حفظه القرآنُ على الدهر، ببقائه على وجهه العربي الفصيح لفظًا وحفظًا وأداءً، لا يجد إليه التبديل سبيلًا، ولا يأتيه الباطل موجِّهًا أو محيلًا، ولا يدخلُه التحريف كثيرًا أو قليلًا، بحيث كأنه عقدةٌ لغوية لا تَتَحَلَّل منها الألسنة المختلفة أبدًا؛ وهذا من أرقى معاني السياسة، فإن الأمم إن لم تكن لها جامعة لسانية، لا يجمعها الدين ولا غير الدين إلا جمع تفريق؛ وجمع التفريق هذا هو الذي يشبه الاجتماع في الأسواق على البَيَاعات وعروض التجارة ونحوها، فإن سوق الأمم تتاجر فيها الأديان والأهواء وتكدح فيها المصالح والمفاسد، وفيها كذلك التغريرُ والخِطار، والكذب والخداع، ولكلٍّ من أهلها شرعةٌ ومنهاج.
فبقاء القرآن على وجهه العربي، مما يجعل المسلمين جميعًا على اختلاف ألوانهم، من الأسود إلى الأحمر، كأنهم في الاعتبار الاجتماعي وفي اعتبار أنفسهم جسمٌ واحد ينطق في لغة التاريخ بلسان واحد، فمن ثمَّ يكون كلُّ مذهب من مذاهب الجنسية الوطنية فيهم قد زال عن حيِّزه، وانتفى من صفته الطبيعية؛ لأن الجنسية الطبيعية التي تقدَّر بها فروض الاجتماع ونوافله إنما هي في الحقيقة لون القلب لا سَحْنَةُ الوجه.
وقد ورث المسلمون عن أوليتهم هذا المعنى: فلا يُعلم في الأرض قومٌ غيرهم يعتصمون بحبل دينهم وأيديهم في الأغلال، ويجنحون إليه بأعناقهم وهي في ربق الملوك من الإذلال. ويخصونه بقلوبهم حتى يكون أملك بها وأغلب عليها ولا يحتملون فيه سخطة، ولا يؤثرون عليه رضى، ولا يعدلون به عدلًا، ويتبرَّمون بكل ضيق إلا ما كان من أجله، ويرضون المحنة في كل شيء إلا فيه، ثم هم لا يرون أنفسهم المؤمنة في إحساس الفطرة، ومذهب الطبيعة إلا أنها بقيةٌ سماوية في الأرض تباين كل ما فيها «أي الأرض» ويشبه بعضها بعضًا بالصفة والخاصة أنَّى وُجدتْ: وكيف اتفقت وعلى أي حالة كانت، وهذا كلُّه مشاهدٌ فيهم على أَتَمِّه وأبلغه، بعد كل ما رهقهم بالعجز عن مداولة الأيام، وصدمهم من أهل الاستبداد بكل محنة من الآلام، وتورُّدهم من الزمان بكل سفه يعدُّ في السياسة من الأحلام.
على أنهم لا يعرفون أصل ما يحسونه، ولا يتصلون إلى سببه، وكأنما تقطَّع ما بينهم وبين أسلافهم، وقد بقي القرآن على ذلك معروفًا مجهولًا، ينفعهم بما عرفوا منه ولا يضرونه بما يجهلون فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ ۖ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا.
كما أنها تستبقي طاعة المغلوبين الذين أعطوا للفاتحين عن أيديهم، وانطرحوا في غَمَرِهم وكانوا أهل ذمتهم لانتحالهم العربية طوعًا أو كرهًا، ثم بقائها في ألسنتهم على نسبةٍ بينة من الفصيح مهما ركَّت ومهما رذُلت؛ ولولا القرآن وأنه على وجهٍ واحد وهيئة ثابتة، ما بقيت العرب، ولا تبيَّنت النسبةُ بين فروعها العامية؛ بل لذهب كلُّ فرع بما أحدثَ من الألفاظ، وما استجدَّ من ضُروب العبارة وأساليبها، حتى يَتَسَلَّل كلُّ قوم من هذه الجنسية إن كانوا من أهلها أو من أهل ذمتها، ثم لا تستحكم لهم بعد ذلك ناحيةٌ من الائتلاف، ولا يستمرُّ لهم سبب من الارتباط، ويوشك أن لا يستقبلوا بعد من قادة الأمم وحيتان الأرض إلا مَن يستدبرُهم راعيًا أو ملتهمًا. ثم يمكَّن لهم من دينهم، ثم لا يثبتون عليه إلا ريثما يتحوَّلون في استلحاقهم بالأمة التي وثَبَت بهم وإن مضوا في ذلك على العزيمة والتشدُّد، فإنه لا عزيمة لقلب خذله اللسان، ولا تشدُّد للسان خذله القلب، ولا استقلال لشعب تخاذلت ألسنتهم وقلوبُهم، وتلك سنةٌ من السنن لِيَمِيزَ الله الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا. ومَن للأمم بمثل هذا الاستعمار اللغوي الذي لم يتهيأ إلا للقرآن، وهو بعد زمام السياسة مهما جمحت في الأرض.
ولقد نرى اليوم هذه التوراة وهذه الأناجيل وما يقرأها بلغتها الأصلية إلا شِرْذِمة قليلة من اليهود وغير اليهود الذين يعيشون على أحلام الذاكرة … ولا نُرَيَنَّ أن ذلك استبقاء، فلولا أن الشذوذ لا يتخلَّف كأنه قاعدة مُطَّردة ما قرأها منهم أحد. ثم استبدَّت الألسنة واللغات بهذه الكتب، فلا هي شريعة ولا هي جنسية جامعة، وإنما نراها في كل أمة من الأمة نفسها، ولذا سهلَ على كثير منهم أن ينبذوها، وصار أكثرهم لا يتدارَسُونها ولا يقرأون فيها إلا إذا أرادوا الاستغراق في رؤيا تاريخية، والعارف العارف من يثبت فصولها ومعانيها، أو يعرف ذلك فضلَ معرفة.
وانظر كم ترى بين صنيع القبائل الجرمانية «الغوط» وبين صنيع العرب، فإن أولئك أغاروا على إيطاليا في القرن الخامس للميلاد وانتقصوها من أطرافها، ولم يكن إلا أن ملكوها حتى ملكتهم؛ إذ تركوا أهلها وعادتهم من اللغة — وغير اللغة — ثم أخذوا يتحضَّرون من بَداوة ويستأنسون إلى الحضارة الرومانية، حتى رغبوا في العلم، فاستجادوا المهرَةَ من علماء الرومان، ونصبوهم لوضع الكتب وتأليفها، فوضعها لهم هؤلاء باللغة اللاتينية، وهم قرأوها بها وأقرُّوها عليها، فذهبت غوطيتهم وذهبوا على أثرها، وأدالت اللغةُ الرومانية لأهلها منهم، فأخذتهم رجفة التاريخ فأصبحوا في الرومانية جاثمين كأن لم يَغنوا في لغةٍ قبلها! ألا فأقبِل أنت على هذا المعنى وتدبَّرْه حتى تُحكم ما وراءه، فلقد تركوها آيةً بينة!
وبعد؛ فهذا الذي أمسكه القرآن الكريم من العربية لم يتهيأ في لغة من لغات الأرض ولن تتلاحق أسبابُه في لغة بعد العربية. وهذه اللغة الجرمانية انشقَّت منها فروع كثيرة في زمن جاهليتها، واستمرت ذاهبة كل مذهب، وهي تثمر في كل أرض بلونٍ من المنطق، وجنس من الكلم، حتى القرن السادس عشر للميلاد؛ إذ تعلَّق الدين والسياسةُ معًا بفرع واحد من الفروع، هو الذي نُقلت إليه التوراة، فاهتزَّ ورَبا وأوْرَق من الكتب وأزهرَ من العقول وأثمر من القلوب، وبعد أن صار لغةَ الدين صار دينَ التوحيد في تلك اللغات المتشابهة، وبقيت هي معه إلى زَيْغٍ حتى انطوت في ظله، ثم ضَحَى بنوره فإذا هي في مستقرها من الماضي، ونُسيت نسيانَ الميت.
وقد كان بَسَقَ من فروع الجرمانية فرعان: الإنكليزي والهولاندي، وكلاهما استقلَّ حتى ضرب في الأرض بجِذر، ثم أنافَ الإنكليزي حتى صار ما عداه من ظله، وهذا إلى فروع أخرى قد انشعبت في الأصل الجرماني، كالأسوجي والأيسلندي وغيرهما.
واللاتينية، فقد استفاضت في أوروبا حتى خرجت منها الفرنسية والطليانية والإسبانية وغيرُها، وكان منها علمي وعاميٌّ بلغة العلم ولغة اللسان، ثم أنت ترى اليوم بين تلك اللغات جميعها وبين ما تخلَّف منها في مناطق هذا الجيل، ما لا تعرف له شبيهًا في المتباعدات المعنوية، حتى كأن بين اللغةِ واللغة العدَمَ والوجود.
فالعربية قد وصلها القرآن بالعقل والشعور النفسي، حتى صارت جنسيةً، فلو جُنَّ كل أهلها وسخَوا بعقولهم على ما زَينت لهم أنفسهم من الإلحاد والسياسة كجنون بعض فتياننا … لَحَفِظها الشعور النفسي وحده، وهو مادةُ العقل بل مادة الحياة؛ وقد يكون العقل في يد صاحبه يضنُّ به ويسخو، ولكن ذلك النوع من الشعور في يد الله، وهذا من تأويل قوله سبحانه:إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ.
(١٢) آدابُ القرآن
ونحن الآن تلقاء نوع آخر من الإعجاز الأدبي، وهو ضريبُ تلك المعجزة السياسية التي أومأنا إليها في الفصل المتقدم، وسنقولُ فيه على وجه من الإيجاز والتحصيل؛ فإن آداب هذا الكتاب الكريم إنما هي آداب الإنسانية المحضة في هذا النوع أنَّى وجدت وحيث تكون. إذا لم يُراوِغ الناسُ معنى الإنسانية في أنفسهم، ولم يتمنوا فيها الأمانيَّ الباطلة، ولم يصدموها بالعَنَت بين كل رغبة ورغبة وبين كل رأي ورأي؛ لا نرى أن أمة تفضُل حتى تضيق هذه الآداب عنها، أو قبيلًا يلتوي حتى تكون منه بمقصِر، أو قومًا يصلحون حتى لا تصلح لهم، فإنها بعد آداب الفطرة التي لا تتغير في هذا الخلق، على ما بين طوائفه من التباين، وعلى الضروب المختلفة من أسباب هذا التباين وعلله، مما ترجع جملته إلى تنوع الصور النفسية العامة التي تنشأ من الأفكار والعادات وما إليها من الأجزاء التاريخية التي تجتمع منها الأمم، وتنشأ منها قواعدُ الحكم وضوابطُ الاجتماع ونحوُها من الكليات التي يتألف تاريخ الأمة من آثارها.
ولا شيء يشبه نظامَ هذه الفطرة في تسويتها بين الناس على ما وصفنا من أمرهم، إلا نظامُ الجاذبية في تأليفه بين الأجرام المتفاوتة وإمساك جملتها على اختلاف ما بينها وتباعدها فيما وراء ذلك؛ وليس نظام الجاذبية في التسبب لإصلاح العالَم الكبير إلا شبهًا من الفطرة النفسية، ولا نظامُ هذه الفطرة في الإنسان الذي هو العالم الصغير إلا شبهًا من تلك الجاذبية، وكلاهما يغني شأنًا أراده الله من خلق السموات والأرض، إِنَّ الله يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَ.
وقد خرج الناس من أصل واحد ولا تزال طبيعةُ الحياة فيهم واحدة، فكل ما أمكن أن يرجع إلى النفس الإنسانية ونظامها فهو في أصله وطبيعته شيء واحد وجنس متميز، وإنما الذي يتغير في الإنسان مظاهرُ فكره، إذ هو يستمدُّ هذا الفكر مما يتقلب عليه من الحوادث، ومما يُريغه من الأمور؛ وذلك شيء ليس في الناس على قدر واحد ولا صفة معينة ولا أمر مستقر، لا يُغادِرُ الدهر أن يزيدَ بسبب وينقص بسبب، والناس بعد ذلك متفاوتون فيه بالزيادة والنقص جميعًا. فما كان من الآداب الاجتماعية ناشئًا من العادة التي هي بعضُ مظاهر الفكر، فهو كالعادة نفسها: يدور معها ويتغير بحسبها؛ وما كان منها راجعًا إلى طبيعة النفس التي هي مصدرُ الفكر، فهو يشبه أن يكون طبيعةً نفسيةً للاجتماع الإنساني، وعلى مقدار ما فيه من قوة المُلاءَمة لطبيعة النفس أو ضعف هذه الملاءمة يكون ضعف الحياة الأدبية فيه أو قوَّتُها.
غير أن الآداب تحتمُ على الفرد أن يكون أبدًا مع الحق، لا مع الحالة التي تسمى حقًّا في لسان من تنفعه وباطلًا في لسان من تضره، إذ الحق في اعتبار الآداب ما كانت فيه مصلحة الإنسانية نفسها باعتبار النظام الذي يعمها، لا مصلحةُ جزء منها باعتبار النظام الذي يخصه؛ ومبدأ الإنسانية قائم على أن الله لم يخلق إلا صنفًا واحدًا من الناس، ولكن مبدأ كل أمة سياسية أنها هي ذلك الصنف الواحد.
فلولا الآدابُ النفسية في طبائع الإنسان، وما تمكِّنه من صلات الناس بعضهم ببعض، وما تَعطفُ منهم جماعة على جماعة، وما تُطلِقُ من حدِّ المساواة، وما تحدُّ من معنى الحرية، لكانَ وجهُ الأرض قد تغيَّر بما يشملها من الفوضى الإنسانية، ولَانْتَقَض أمرها، ثم لكانت الشرائعُ نفسُها أشد في إفسادها من الفساد كله، ثم لصارت كل أمة كأنها جنس من الحيوان: في قيامه بنفسه، وانفراده بنوعه، وتميزه بالعداوة لغيره، فههنا آكلٌ وهههنا مأكول؛ فإذا العالَم قد أوْدَى وقُطِعَ دابر القوم الذين ظَلموا.
والشريعة في الجملة لا تعدو أن تنزل من كل مجموع من الناس منزلة المرشد المصرِّف للأفعال على جهة بينةٍ من الحكمة، وطريقةٍ لائحةٍ من المنفعة؛ فهي في الحقيقة عقلُ هذا المجموع الذي يعقل به وينقاد لأمره، ثم هي بعد ذلك من المنزلة في نفسها بحسب ما تبلغه من الوفاء بأسباب السعادة، والكفاية بحاجات الاجتماع، إلى سائر ما تشبه فيه العقلَ الإنساني شَبهًا تامًّا ونعتًا محققًا، ولكن الآداب تتنزَّلُ من المجموع منزلةَ النفس الإنسانية التي بها الحياة، والتي هي الكفيلة دائمًا بتحقيق النسبة بين العقل وبين أغراضه المعقولة وبين الأشياء التي هي مادةُ هذه الأغراض.
من أجل ذلك كانت آداب القرآن ترمي في جملتها إلى تأسيس الخُلق الإنساني المحض الذي لا يضعفُ معه الضعيفُ دون ما يجبُ له، ولا يقوى معه القوي فوق ما يجب له، والذي يجعل الأدبَ عقيدة لا فكرًا إذ تبعث عليه البواعث من جانب الروح، ويجعل وازعَ كل امرئ في داخله، فيكون هو الحاكم والمحكوم، ويرى عينَ الله لا تنفكُّ ناظرة إليه من ضميره.
وبَيِّنٌ أن الاجتماع إنما هو شيء روحاني، وأن الأمة لا تجتمع إلا بقوة من قوى التجاذب الروحي، تبنى عليها الأغراض الاجتماعية التي هي المبادئ الأولى في الحياة، وعلى حسب الصفة الروحانية التي يقوم بها الاجتماع، ثم قوة المادة الروحية فيها، يكون أمرُ هذا الاجتماع إلى القوة أو الضعف، وإلى الثبات أو الاضطراب، وإلى أن يكون مستحصدًا أو مُنْتَكِثًا، وعلى قدر ما يفقد من صفته يفقد من نفسه، فإذا زالت تلك الصفة وانسلخ منها تَعاورته صفاتُ المادة فصار كالشيء المادِّي الذي تعمل فيه كلُّ الأسباب الظاهرة تركيبًا وتحليلًا، فلا يتصل الفرد بغيره من الأفراد اتصالًا ثابتًا لا تنفصم عروته، ثم لا يكون من الأفراد إلا مجموع فرد إلى فرد على هذه الصفة عينها، وما من شعب منحط إلا وهو مثالٌ لهذا لاجتماع المادي الذي يمتاز أكثرَ ما يمتاز بالصفة العددية وما كان من أسبابها مما هو علة الضم، والضم وحده لا يغني في الاجتماع شيئًا.
وأنت إذا تدبرتَ هذه القوة الروحية في آداب القرآن الكريم، واعتبرتها بمأتاها في الطباع، ومَساغها إلى النفوس، واشتمالها على سنن الفطرة الإنسانية، فإنك تتبين من جملتها تفصيلَ تلك المعجزة الاجتماعية التي نهض بها أولئك الجفاة من العرب فنفضوا رمال الصحراء على أشعة الشمس في هذا الشرق كله؛ فحيثما استقرت منها ذرة وقع وراءها عربي! بل نفضوا أقدامهم على عروش الممالك، وهم كانوا بين داعٍ للصنَم وراعٍ للغنم، وعالِمٍ على وَهْم، وجاهلٍ على فهم، وبين شيطان كأنه لخبثه مادة لوجود الشيطان، وإنسان كأنه لشره آلة لفناء الإنسان، فما زالوا يبسطون تلك الجزيرة حتى بلغت أضعافها، وما زالوا بالدنيا حتى جمعوا إليهم أطرافها.
وليس من دليل في التاريخ على أن هذه الأرض شهدت من خلق الله جيلًا اجتماعيًّا كذلك الجيل الأول في صدر الإسلام، حين كان القرآن غضًا طريًّا، وكانت الفطرة الدينية مؤاتية، وكانت النفوس مستجيبة، على أنه جيلٌ ناقضَ طباعه، وخالف عاداته، وخرج مما ألف، وخُلق على الكبر خلقًا جديدًا، ومع ذلك فإن الفلسفة كلها والتجارب جميعًا، والعلوم قاطبةً، لم تنشئ جيلًا من الناس ولا جماعة من الجيل ولا فئة من الجماعة كالذي أخرجته آداب القرآن وأخلاقه من أصحاب رسول الله ﷺ في علوِّ النفس، وصفاء الطبع، ورقة الجانب، وبسط الجناح، ورجاحةِ اليقين، وتمكُن الإيمان، إلى سلامة القلب، وانفساح الصدر، ونقاء الدِّخلة وانطواء الضمير على أطهر ما عسى أن يكون الإنسان من طهارة الخلق، ثم العفة في مذاهب الفضيلة، من حُسن العصمة، وشدة الأمانة، وإقامة العدل، والذِّلَّة للحق، وهلمَّ إلى أن تستوفي الباب كله.
وهذا على كثرة عديدهم، وترادُفِ تلك الآداب فيهم، وتظاهرها على جميعهم، واستقامتهم لها بأنفسهم؛ وإنما يكون مثل الرجل الواحد منهم في الدهر الطويل، وفي الجيل بعد الجيل، وإنه على ذلك ليكون في الأرض نادرة الفلك؛ بل يجعل هذه الأرضَ مثالَ السماء؛ لأنه في نفسه مثال الملَك.
وماذا تريد من علوم الأخلاق وعِبَر الاجتماع وفلسفةِ التربية وآداب السلوك وما إليها مما يُبتغَى ذريعةً في كل وجه من إصلاح الإنسانية إذا كانت كلُّ هذه إنما تَلتمس الناقصَ أو المعوجَّ أو الفاسدَ أو الضالَّ، فتتمه وتقيمه وتصلحه وتتنصَّحُ إليه على طريق من الجدَل والمدافعة والبرهان، إن هي أغنت في قليل لم تُغن في كثير، وإن أقنعت العقل لم تبلغ من القلب مبلغًا ولا تؤخذ إلا على أنها ثِقافٌ ودُرْبة وتمكين، وما كل الناس يُحسن أن يقوم على نفسه بنفسه هذا القيام، وهي بعدُ وإن كانت علمًا غير أنها بسبيل ما عداها من العلوم التي تنقص منها التجربة ويَشُوبها الاجتماع ويُفسد عليها الظن والتأولُ، فكل كتاب من كتبها خيالُ رجل كامل على الحقيقة؛ ولكنك إن ذهبت تلتمس ذلك الرجلَ في عالم الحس العلمي الذي يتأدب بتلك الكتب، ويكون في الواقع هو صورتها وتكون هي معناه — لم تقع على اسمه ولو سألت ملائكة «اليمين» جميعًا؛ إلا أن تُصيب ذلك في الفرط والندرة.
وإنما انفردت آدابُ القرآن الكريم في ذلك الجيل الذي عرفتَ من خبره بالأسلوب الذي تناولها فيه، مما يشبه في صفة البيان أن يكون وحيًا يوحى إلى كل من يفهمه ويقفُ عنده متثبتًا بحال من الرأي، وفحص من النظر وبإدمان التأمل، وأخذِ النفس بالتردد في أضيق ما بين الحرف والحرف من مسافة المعنى لدقة النظم وإبداع التركيب، إلى ما يبهر الفكرَ ويملأ الصدر عجبًا؛ وهذا تفسير ما جاء في الأثر من أن «من قرأه فقد استدرَجَ النبوة بين جنبيه غير أنه لا يُوحى إليه».
وذلك — أي ما وصفناه من شِبه الوحي — ظاهرُ التحقيق فيمن تدبَّر القرآن من أهل الذوق في اللغة والبَصَر بأسرارها والمعرفة بوجوه الخطاب والحُنكة في سياسة المنطق، فكيف به في قوم كالمضرية من هذه العرباء: تَنبع اللغةُ من ألسنتهم، وتجري الفصاحة على ما أجرَوها، وتنزل البلاغة على حقوقها وعلى أماكن حظوظها من حُكمهم ورضاهم، وهم بعد ذلك منَ هم في تصريف القول والافتنان فيه، وسَعَة الحيلة في التأتي لإبرازه واجتماعه على الغاية، حتى تعودَ الجملةُ الطويلة لفظًا واحدًا، والمعنى البعيدُ لحظًا قريبًا، وحتى تصير حروفهم كنَبْض البرق في اشتماله ما بين أقطار السموات، على أنه إشارة ودون الإشارة؛ ثم كيفَ بذلك في قوم كأولئك العرب وهم كانوا من حِس الفطرة بحيث يفسخ البيانُ عَقدَ طباعهم، وَينقُض قواهم المبرَمَة، ويُرْخِي معاقِدَهم الوثيقة؟ بل كيف به يومئذ، وقد كانوا يأخذونه عن لسان أفصح خلق الله منطقًا، وأصحهم أداءً، وأجملهم إيماءً، وأبدعهم في الإشارة، وأبينهم في العبارة، وهو ﷺ كان بينهم مظهرَ خطابِ الله لأولي الألباب، وتفسير كل ما في القرآن من الأخلاق والآداب.
بذلك استطاع القرآن أن يؤلف من العرب — وكانوا نَشْرًا لا نظام لهم — أكبرَ جماعةٍ نفسية عرفها تاريخ الأرض، وكان عملها في الأرض وفي تاريخها على حساب ذلك في روعته وغرابته وقوته وفائدته؛ إذ وَجَدَت من آداب القرآن قلبًا اجتماعيًّا عامًّا استولى على ما فيها من التصور والفكر والإدراك والاعتقاد، وأحالها كلها فكرًا واحدًا يستمدُّ قوته من الخُلُق الذي قام به لا من العقل الذي ينشأ عنه؛ وليس يخفى أن العقل هو مظهرُ تاريخ الأمة، ولكن الخلُق دائمًا لا يكون إلا مصدر هذا التاريخ، فلا جَرَمَ لم يثبت تاريخ أمة من الأمم إذا لم يكن قائمًا على هذا الأصل المستحكم وكانت الأمة غير ذات أخلاق.
وإنما صحَّ هذا لأن الصفات الأخلاقية ليست إلا قطعة العمل التي ينسجها الفرد من خيوط أيامه في ثوب التاريخ الذي تحوكه الأمة لنفسها من أعمار أبنائها. والخلق هو بطبيعته مادة هذا النسيج في الأمة كلها؛ لأنه وحده الذي يحقق الشبَهَ بين طبقات هذه الأمة نازلها وعاليها من قاصيه إلى قاصيه، فهو في الفرد صفة الأمة وفي الأمة حقيقة الفرد.
ولا يشتد القرآن الكريم في شيء فيجيء به على العزيمة القاطعة التي لا مَساغَ للعذر فيها ولا وجه للتعلل عندها، كما تعرف ذلك منه في الأخذ بالأخلاق الاجتماعية، فإنه لم يجعل في أمرها على الناس هُوَيداء ولا رُوَيداء، بل أمضاها وأعلنها ورفع من شأنها وجعلها من عزائمه، حتى لا يشك فيها من عسى أن يشك في غيرها، ولا يرتابَ من ربما كانت الرِّيبة من أمره، وحتى إنه لما وصَفَ النبي ﷺ بأبلغ الصفات وأشرفها وأسناها، لم يزد على قوله: وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ.
وهذا الأصل — أصل المساواة — هو الذي كشفه القرآن بقوله — عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ الله أَتْقَاكُمْ. فانظر كيف أبان عن المساواة الطبيعية التي لا يملك بحال من الأحوال أن يفترق فيها الجنس الإنساني كله وهي الخلق من «الذكر والأنثى»؟! وكيف وصف الغاية الاجتماعية للناس شعوبًا وقبائل بأنها «التعارُف»، لم يزِد على هذه اللفظة التي لا تشذُّ عنها فضيلةٌ من فضائل الاجتماع قاطبة ولا تجد رذيلة اجتماعية يمكن أن تدخل في مدلولها، ولن تجدها إلا منصرفةً عنها في الغاية.
ثم تأمل كيف أقام هذا الأساس الأدبي العظيم، فجعل أكرَم الناس المتساوين جميعًا في الحالتين الفردية والاجتماعية، هو أتقاهم، أي أعظمهم خلقًا، لا أوفرهم مالًا، ولا أحسنهم حالًا، ولا أكثرهم رجالًا، ولا أثقبُهم فهمًا، ولا أعلمُهم علمًا، ولا أقواهم قوة ولا شيء من ذلك وأشباه ذلك مما لا يتفاضل به الناس على التحقيق إلا في إدبار الدولة واضطراب الاجتماع وفساد العمران، ويكون مع ذلك كأنه دُرْبة لهم أن يتباينوا بعد هذه الفضائل المشوبة بالرذائلِ صِرفة لا شَوبَ فيها!
ولا يمكن أن تفسر «التقوى» على التحديد والتعيين في كلمة تستوعب كل معانيها وما يتصل بها إلا كلمة واحدة، هي «الخلُق الثابت»، ومهما أدرتَها على غير هذه الكلمة من أسماء الفضائل كلها فإنك لا تجد اسمًا واحدًا يلبسها لا فاضلة عنه ولا مُقصِّرًا عنها.
لا جَرَمَ أن هذا الأصل الاجتماعي الذي انشعب من المساواة كما رأيت في نظم الآية، هو الأصل الذي انشعبت منه كل فضائل المساواة والحرية، وأنه لذلك مقدَّم على الإيمان؛ إذ لا إيمان لمن لا تقوى له، وأنه يقضي بكل أنواع الحرية التي تفيد الاجتماع، وكلها مقرر بأصوله في القرآن الكريم، غير أن الذي ننبه عليه من فضيلة التقوى أو الخلق الثابت في القرآن؛ أنه جعل أبعد الأشياء عن موافقة الطباع الموروثة وما لا بد للنفس الإنسانية في التخَلق به من الكدِّ والمعالجة ومن شدة الاعتصام في مدافعة أخلاقها وعاداتها الحيوانية التي هي أصل الفطرة وغريزة الجِبِلة — أن هذا كله هو في وصف الفضيلة وجماع الأمر لا يزيد عن كونه «أقرب للتقوى»، وذلك في قوله تعالى: وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ والشنآن: العداوة والغضب وما في حكمهما، وهذا على أنها من «قومٍ» لا من فرد كما ترى في الآية الكريمة؛ فينطوي في هذه الإضافة الحرب والاستعمار وغيرهما فتأمَّلْه.
ثم اعتبرَ القرآن أن خير الأمم على الإطلاق إنما هي الأمة التي تتبسط في مناحي الاجتماع على هذا «الخلق الثابت»، فإن مرجع التقوى في مظاهرها الاجتماعية إلى شيئين: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ وهما المبدأ والغاية لكل قوانين الآداب والاجتماع، ثم مرجعهما في حقيقة نفسها إلى شيء واحد: وهو الإيمان بالله؛ فالأمة التي تكون لأفرادها فضيلة التقوى، تكون لها من هذه الفضيلة صفات اجتماعية مختلفة يؤدي مجموعها إلى صفة تاريخية واحدة، وهي أنها خير أمة. على هذا جاء قوله تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ ﺑالله، فتأمَّل كيف قَدَّمَ وأخر؛ فإنك لا تجد هذا النسق إلا ترتيبًا لمنازل الفضيلة الاجتماعية الكبرى تجعل الأمة في نفسها خير أمة، وبالحريِّ لا تجد هذا الترتيب إلا نسقًا في وصف الآداب الإسلامية التي جعلت أهلها الأولين حين اتبعوها وأخذوا بها خير أمة في التاريخ، بشهادة التاريخ نفسه.
- (١) استقلالُ الإرادة وقوتها، وهذا هو الذي يكون عنه «الأمر بالمعروف»٧٣ لا يكون بدونه ألبتة.
- (٢)
استقلال الرأي وحريته، ويكون منه «النهي عن المنكر»، ولا يمكن أن يكون بغيره.
- (٣)
استقلال النفس من أسر العادات والأوهام، بالنظر والفكر في مصنوعات الله، ولا يكون الإيمان إيمانًا على الحقيقة بدونه، ثم هذا الإيمان هو الذي يُسند الركنين المذكورين آنفًا ويشدُّهما ويقيم وزنَهما الاجتماعي، فيبعث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بثقة إلهية لا يعترضها شيء من عوارض الاجتماع التي تَعتَري الناسَ من ضعف الطباع الإنسانية، كالجبن والنفاق، والخَلَابة والمؤاربة، وإيثار العاجِلةِ ونحوها مما ينقِم الناسُ بعضهم من بعض، وإذا اعترضها من ذلك شيء لا يقوم لها ولا يصدها عما هي بسبيله. فإن كل هذه الصفات ليست من الإيمان بالله ولا تتفق مع صحة الإيمان؛ بل هي أنواع من العبادة للقوي والعزيز والمستبد، وللشهوات والنزعات وما إلى ذلك. ومتى كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير راجعين إلى الإيمان بالله دخلا في الأهواء الإنسانية، فتجيء بها علةٌ وتذهب بها علة، فيعود أمر الإنسانية إلى التأكل والمهارشة والنزاع الحيواني؛ فإن الحيوان في كل ما يسطو به إنما يأمر بمعروف هو معروفه وحده وينهى عن منكر هو منكره وحده.
اللهم إنه دينُكَ الذي شَرعته بكتابك المعجز، بل دين الإنسانية الذي قلت فيه: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَﻟكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ.
تلك جملة من القول في الخُلق والعقل؛ فلما ضعفت أخلاق القرآن في نفوس أهله، لم ينفعهم العقل الذي أفادوه من استفاضة العلوم بينهم واستبحار فنونها، ولم يُغْنِ عنهم من الخُلق شيئًا، بل كان لهم ما تمَّ للدولة الرومانية في عصر الإمبراطر الأول، الذي ترجع إليه أسباب المجد لهذه الأمة في العلوم والآداب، إذ امتاز بطبقات من النوابغ فيه، وترجع إليه كذلك أسباب انحلال هذه الدولة واضمحلالها معًا؛ إذ كان لها يومئذ من ضعف الخُلُق أكثرُ مما كان لها من قوة العقل، والبناء إذا نهض وطال إلى ما لا يحتمله الأساس، فإنه يعلو، غير أن علوه لا يكون من بعدُ إلا سببًا في سقوطه!
وماذا أنت صانع بأحكم ما في الحكمة، وأبينِ ما في البيان، وأسد ما في الرأي، وأبدع ما في الأدب، وأقوم ما في النصيحة، وبما هو التامُّ الجامعُ لكل ذلك — إذا جعلتَ تملأ به مسامعَ الناس وأنت لا تصيب فيهم وجهًا من وجوه الاستهواء، ولا تملك إليهم سببًا من أسباب التأثير، ولا تقع منهم بالحكمة والبيان والرأي والأدب والنصيحة، وبما هو الزمام عليها — إلا في فنون من جهل الجهلاء ولَغَطِ العامة وأوهام السخفاء، وفي انتقاضِ الطباع واختلاط المذاهب، فلا تجد إلى قلوبهم مَساغًا: بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذَٰلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ.
لا جَرمَ كانت هذه علة العلل في أن القرآن الكريم لم يعد له من الأثر في أنفس أهلِه ما كان له من قبل، ولا بعضُ ما كان له؛ إذ لم يتدبروه بمثل القرائح التي أنزل عليها، أو بقريب منها في الذوق والفهم والبصر بمواقع الكلام، ولم يُجروه من ذلك على حقه؛ بل أصبحوا لا يَستَحُون من الله أن يجعلوا قراءةَ كتابه ضربًا من العبادة اللفظية يَرجون عند الله حسابها؛ ويبتغون في الأعمال ثوابها، ولا يشكُّون أنهم يستفتحون يوم القيامة بابَها، على أنهم يُخَادِعُونَ الله وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ.
- الأولى: تعيينُ النسبة الصحيحة في المساواة بين الإنسان والإنسان، حتى لا تكون القوة والضعف والسيادة والتعبد ونحوها من عوارض الاجتماع فاصلةً فصلًا طبيعيًّا بين فردٍ وفردٍ، وبين أُمة وأُخرى، فتقسم هذا الجنس أنواعًا متباينة بطبيعتها، ثم ينشقُّ النوع إلى أجناس، ثم كل جنس بعد ذلك إلى أنواع، ويعمل الزمن عمله في تمكين هذه الطباع بالوراثة، وفي توكيدها بما يستحدثه نظامُ الاجتماع في القبائل والشعوب، فإذا الأرض بعد ذلك غير الأرض، وإذا الإنسانُ مع تقادم الدهر غير الإنسان، وإذا طبيعةٌ ليس فيها لتنازع البقاء غير معنى واحد معكوس، وهو بقاء التنازع.
- الثانية: حياطة هذه النسبة الإنسانية فيما يُبْتَلَى به الإنسان من الخير والشر فتنةً، حتى لا يَحِيفَ القوي ولا يَستيئسَ الضعيف، ولِتنصرف رغائبُ الأمم على تباينها في السياسة إلى جهة واحدة من هذه النسبة المعينة، فلا تكون وقائع السياسة وأحداث الاجتماع، وما إليها من الهزَاهزِ، كالحروب ونحوها، إلا عملًا إنسانيًّا يُبتَغى به دفعُ اعتداء وإقرارُ حق وردُّ باطل وتقويمُ زيغ إلى أمثالها مما هو في حدود المَرحَمَة والمَبرَّة، وليس يعدو بحال من الأحوال أن يكون وسيلةً من وسائل الزجر والتأديب؛ إذ قد خلا من ابتغاء الهَلَكة ورغبة الفناء وإبادة الخضراء، وبَرئَ من معايب هذه السياسة الحيوانية التي لا تقوم لها قائمة إلا باعتراض الغَفْلة وانتهاز الضعف وبالكيد والمخاتلة، وتنزَّه مع ذلك عن دناءة المقصد وسِفَال الغاية وسوء الذريعة، وعن الخبث الإنساني في الجملة.
- الثالثة: حدُّ هذه النسبة في الإنسان بالقياس إلى القوة الأزلية، حتى يتحقق معنى المساواة فيها، فإن كل ما هو أدنى فهو سواءٌ في النسبة إلى ما هو أعلى وإن اختلف مع ذلك في نفسه وبان بعضه من بعض. ولولا هذا الحد لما أمكن أن يجتمع الناس على آداب يكون من غايتها أن تحوط الإنسانية فيهم؛ إذ يُبعدون هذه الإنسانية من قلوبهم إلى ما وراء إنكارها والتكذيب لها، فلا يبقى لآدابها وجه تعتَبرُ منه أو يؤخذ به في أمرها، ومن ثَم لا تكون الإنسانية إلا الغِلظة والفظاظة في الأقوياء، وإلا الذلة والمسكنة في الضعفاء، وتكون كل ذرة تسقط على الأرض من نعل القوي تفتح في الأرض قبرًا لرجل ضعيف، فلا تعمل في العمران يومئذ إلا آلات الهلاك والدمار، حتى يبقى الإنسان من الدنيا كأنه في جَهنم لا يموت فيها ولا يحيا٧٧ ولذا كانت الأديان الإلهية كلها متفقة في حد هذه النسبة التي أشرنا إليها، بل كان هذا الحد أساسَ الاعتقاد في جميعها؛ لأنه أساس كل نظام إنساني في الأرض.
وهذه الثلاثُ فإنما هي جماعُ ما تقول به الإنسانية المحضة في صفاتها الإلهية التي هي غريزة النفس وصِلة ما بين المخلوق والخالق، ولذا أمكن أن تكون فِطْرَتَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، وأن تكون من آداب كل عصر وجيل، لا تعترضُها حدودُ الزمن؛ ولا ينال منها تقلب الأيام؛ ولا تُغادِر الدهرَ أن يراها الإنسان من نفسه بحيث وضعها الله، وهي بعدُ أمهات الفضائل وأصلها الذي تنشق منه، وقد نرى هذه الفضائل الاجتماعية على اختلافها باختلاف أطوار الناس، وعلى تفاوتِ مقاديرها فيهم، كيف تلتقي إلى هذه الثلاث؛ وكيف تدور عليها حتى لا يُقطع على الرذيلة بأنها رذيلة إلا إذا كانت تعدو على جهة من تلك الجهات في سبيلها أو غايتها، فأما أن تكون في الأرض رذيلة لا تفسد شيئًا من ذلك ولا تُلمُّ به، فهذا ما لا يكاد يصح في عقل صحيح.
وكل الوسائل التي تعمل في النهضة الإنسانية فإنما هي ترجع إلى ثلاث كلمات تقابل تلك الثلاثَ أيضًا، وهي: صلةُ الحرية بالشريعة وصلةُ الشريعة بالأخلاق وصلةُ الأخلاق بالله. وعلى تفصيل هذه الثلاث جاءت آداب القرآن الذي لو بلغت الإنسانيةُ في وصفه بما وسعَها ما بلغت مثلَ قوله تعالى فيه: مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ الله ۚ ذَٰلِكَ هُدَى الله يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ، فانظر كيف يكون تصوير العاطفة وتأثيرها العصبي وما وراء تأثيرها.
لا غَرْوَ كان هذا القرآن من أجل ذلك إنما يصف جُمَلَ الآداب، أي الكليات الأدبية التي تلائم الفطرة في مختلف أزمانها، ولا يقرر الأخلاق تقريرًا وضعيًّا على أسلوب الكتب والمصنَّفات، فيصفها على أن لها قواعد وضوابطَ وأشباهَ القواعد والضوابط، مما هو مثار الاختلاف ومَبعثُ الفُرقة في مذاهب الحكماء، ومما لا تكون الآداب معه إلا معادةً على الناس في كل عصر بنوع من التنقيح وضَرْب من التغيير يناسبان اختلافَ كل عصر عن الذي قبله؛ بل إن المعجزة في هذه الآداب الكريمة أنها تقرر الأخلاق تقريرًا عامًّا، فيصفها القرآن على أنها هي القواعد لغيرها، والضوابط لما يُبْتَنى عليها، ويُوردها في أحسن الحديث؛ ويعترضُ بها وجوهَ القِصَص ويقلِّبها مع أغراض الكلام، ثم لا يكون في ذلك وجهٌ من وجوه الخلاف بينها وبين الفطرة الإنسانية، على ما في تلك الآداب من الإطلاق، وعلى أنها غيرُ ملحوظ فيها دولة بعينها أو أمة بأوصافها، أو نحو ذلك من ضروب الحدِّ والتعيين؛ فليس فيها من روح الزمن إلا روحُ الزمن كله بحيث لا يتأتى للفيلسوف ولا المؤرخ إلى أن يردها أحدهما أو كلاهما في جملتها إلى عصر بعينه لا تعدوه، أو يقصرها على حد تَقِفُها عنده الإنسانية وتتقدم بغيرها مما يقال فيه إنه الأصلح أو الأنفع، ولو أن الدهرَ قد فَنِيَ ثم نُزع من كل أمة شهيدٌ وعُرضت عليهم آدابُ القرآن فقابلوها بفضائل آدابهم، واعترضوا بعضَ ذلك ببعضه، ثم قيل هاتوا برهانكم عليها، لأقرَّ الزمن بألسنتهم جميعًا أنها الحق وأن الحق لله.
من أجل ذلك تجد الخطابَ الأدبيَّ مطلقًا في القرآن كله كأنه نظام إنسانيٌّ عامٌّ لا يراد به إلا حرية المنفعة للنوع كله، ثم الموازنة بين مقدار هذه المنفعة وبين مقدار الحرية التي تنال بها؛ ليكون كل شيء في نصابه الاجتماعي، فإن إطلاق الحرية عبث، وإطلاق المنفعة ضرر أو ضِرارٌ، ولو سُوِّغَت كلُّ أمة أن تُقَاِرف ما تريد بمقدار ما يهيئ لها ضعف غيرها من الحرية في بسط يدها لكان من ذلك فتنة في الأرض وفساد كبير.
وإن كل أمة اضطربت فيها الموازنة بين الحرية والمنفعة، فإنما يكون ذلك في حاضر تاريخها مبدأ العبودية لغيرها؛ وهذا الأصل أرقى ما انتهت إليه علوم الاجتماع لهذا العهد.
وما تدبَّر هذا القرآنَ أحدٌ قطُّ إلا وجده يطلق لكل إنسان — على القوة والضعف والعزَّة والذلة — إرادةً اجتماعية أساسها الفضيلة الأدبية؛ حتى لا تكون بطبيعتها إلا جزءًا من الشريعة التي هي في الحقيقة إرادةُ المجموع. ولقد كانت تلك الإرادة الاجتماعية هي الحُلْم السماوي الذي أطبقَ عليه الموت أعين الفلاسفة وحكماء الأرض جميعًا، ولم يتحقق في غير ذلك الجيل الذي كان المثال الصحيحَ لآداب القرآن؛ إذ تمكنت منه الفضيلة الأدبية بمقدار ما يأتي لها أن تتمكن من نفس الإنسان، وبلغت فيه ما يتفق لها أن تبلغ من الفطرة؛ فكانت أعمالُها مظاهرَ لتلك القوة التي سميناها «الإرادة الاجتماعية». ولو أن العلوم كلها والفلسفة وأهلها كانت لأولئك العرب مكان القرآن لما أغنت شيئًا من غنائه، ولا ردَّت عليهم بعضَ مَرَدِّه؛ فإن الفضيلة العقلية التي أساسُها العلم، لا تعطي غير الإرادة النظرية التي ربما اهتدى بها المرء وربما ضلَّ بها على علم، ولكن الفضيلة الأدبية تدفع إلى الإرادة العملية دفعًا؛ لأن هذه الإرادة هي مظهرها ولا سبيل لظهورها غير العمل. ومتى صحت إرادةُ الفرد واستقام لها وجه في الاجتماع، فقد صار بنفسه قطعةً من عمل الأمة، ولا بد أن تكون الأمة القائمة بأفراد من أمثاله قطعةً من عمل التاريخ الاجتماعي؛ وهذا بعينه هو الذي أنشأه القرآن في العرب من أنفسهم، وأنشأه من العرب في التاريخ، وهو وليهم بما كانوا يعملون.
ومثل تلك الإرادة التي وصفنا لا تكون ولا وجه لكونها إلا أن يجعل هذا القرآن للمرء مبدأً قبل أن يجعلَ له شريعة، ثم لا يقيم الشريعة إلا على هذا المبدأ، فيكون المرء محكومًا بيقينهِ وفكره لا بظنه ولا بعادته؛ وبذلك يكون بناؤه الإنساني قارًّا في حيزه الإنساني.
وأنه ليستحيل ألبتة أن لا يكون لأجهل الناس في قومه فكر اجتماعي ما دام له يقين ثابت في آداب المجموع.
هذا، وقد أمسكنا عن التفصيل والشرح وانتزاع الأمثلة القرآنية في كل ما تقدم، تَفاديًا من الإطالة واقتصارًا على غرض الكتاب، مما يُجزِئُ قليله في الدلالة على كثيره، فإن الدلالة على الكثير وإن لم تكن هي إياه غير أنها تعيِّنه وتَصِفُه، ومن ضَرَبَ بالحدود على فضاء واسع من الأرض فقد أظهره حتى لا يخطئَ النظرُ الهيِّنُ أن يُطبِّقه وَيستوعبه، وإن كان فيما وراء ذلك من تعرُّفِه وقياسِه واستخراج مبلغ ذرعه ما يبلغ العَنَتَ، أو ما ليس في العَنَت أبلغُ منه.
وبالجملة فإن القرآن إنما يريد بآدابه وعِظاته الإنسانَ الاجتماعي لا الصورة الإنسانية التي تخلقها العصورُ التاريخية والسياسية أصنافًا من الخَلقِ، أو تفتري عليها ضروبًا من الافتراء، فهو يريد كلَّ ما فيه من الآداب الاجتماعية على هذه الجهة لا يَعْدُوها، وليس فيه من آية في الأدب والأخلاق إلا وهو يُريغُ بها ناحيةً من هذا المقصد، ومن أجل ذلك بقيت روحُ آدابه في أنفس المسلمين لا تتغير في الجملة وإن تغيروا لها وانصرفوا عنها، كأنها فيهم طبيعة وراثية. ولقد كانت هذه الروح — ولم تزل — هي السبب الأكبر في انتشار الإسلام حتى بين أعدائه الذين أرادوا استئصاله، كالتتار والمغول وغيرهم ممن اشتدوا عليه ليخذلوه، ثم كانوا بعد ذلك من أشد أهله في نصرته والغضب له والدفع دونه، وهو الإسلامُ لا دعوةَ له من أول تاريخه إلى هذه الغاية، وإلى ما يشاء الله، إلا القدرةُ التي هي مظهرُ آدابه أو روحُ هذه الآداب؛ فحيثما وُجدَت طائفة من أهله وجدت الدعوة إليه، وإن لم ينتحلوها ويعملوا لها من عملهم، وإن لم يَتَسَخَّر هو من ورائهم الدعاة المنتَخَبين ولم يستحثهم للجَوْلة بالعطايا والمنالات، ولم يقتطعهم من الدنيا ليتَرَامَى بهم إلى غرضه في كل شرق، وتلك دلالة صريحة على أنه الدينُ الطبيعي للإنسانية؛ إذ تأخذ فيه النفسُ حق النفس بلا وساطة ولا حيلة في التوسط … وهي حقيقة زمنية لم يزل كل عصر يأتي الناس بدليلها، ولم يستطع أعداء الإسلام أن يكابروا فيها فكابروا في تعليلها!
(١٣) القرآن والعلوم
وللقرآن وجه اجتماعي من حيث تأثيرُه في العقل الإنساني، وهو معجزة التاريخ العربي خاصة، ثم هو بآثاره النامية معجزة أصلية في تاريخ العلم كله على بَسيط هذه الأرض، من لَدُنْ ظهر الإسلامُ إلى ما شاء الله، لا يذهب بحقها اليومَ أنها لم تكن من قبلُ إلا سببًا، فإن في الحق ما يَسَعُ الأشياء وأسبابها جميعًا.
وكل دين سماوي فإنما هو طَوْرٌ من أطوار النموِّ في هذا العقل الإنساني يستقبل به الزمن درجات جديدة في نشأته الأرضية؛ فما التاريخ كله إلا مِقياسٌ عقلي درجاته وأرقامُه هذه العصور المختلفة التي يستعين العقل منها مقدارَ زيادته من مقدار نقصانه.
وأما إن هذا القرآن معجزة التاريخ العربي خاصةً وأصلُ النهضة الإسلامية، فذلك بَيِّنٌ من كل وجوهه؛ غير أننا سنقول في الجهة التي تتصل بنشأة العلوم، إذ هي سبيل ما نحن فيه من هذا الفصل، وقد أومأنا إلى بدء تاريخ التدوين العلمي وبعض أسبابه في باب الرواية من الجزء الأول من تاريخ آداب العرب، فنقتصر هنا على موجز من أسباب النشأة العلمية.
قال أحد العلماء: «فاعتنى قوم بضبط لغاتهِ وتحرير كلماتهِ، ومعرفة مَخَارج حروفه وعددها، وعددِ كلماته وآياته وسُوَره وأحزابه وأنصافه وأرباعه، وعدد سَجداته، والتعليم عند كل عشر آيات؛ إلى غير ذلك من حصر الكلمات المتشابهة، والآيات المتماثلة، من غير تعرضٍ لمعانيه، ولا تدبُّر لما أُودع فيه فسمُّوا القراء.
واعتنى المفسرون بألفاظه، فوجدوا منه لفظًا يدل على معنًى واحد، ولفظًا يدل على معنيين، ولفظًا يدل على أكثر، فأجرَوا الأول على حكمه، وأوضحوا معنى الخفيِّ منه، وخاضوا في ترجيح أحد مُحتَمَلات ذي المعنيين أو المعاني، وأعمل كل منهم فكره، وقال بما اقتضاه نظره.
وتأملت طائفةٌ منهم معاني خطابه، فرأت منها ما يقتضي العموم ومنها ما يقتضي الخصوص، إلى غير ذلك، فاستنبطوا منه أحكام اللغة من الحقيقة والمجاز. وتكلموا في التخصيص والإخبار والنص والظاهر والمُجمل والمحكم والمتشابه والأمر والنهي والنَّسخ، إلى غير ذلك من أنواع الأقيسة واستصحاب الحال والاستقراء، وسموا هذا الفن: أصول الفقه.
وأحكمت طائفة صحيحَ النظر وصادقَ الفكر فيما فيه من الحلال والحرام وسائر الأحكام؛ فأسسوا أصوله، وفرَّعوا فروعَهُ، وبسطوا القولَ في ذلك بسطًا حسنًا، وسموه بعلم الفُروع، وبالفقه أيضًا.
وتنبه آخرون لما فيه من الحِكم والأمثال والمواعظ التي تُقلْقل قلوبَ الرجال، فاستنبطوا مما فيه من الوعد والوعيد والتحذير والتبشير وذكر الموت والميعاد والحشر والحساب والعقاب والجنةِ والنار — فصولًا من المواعظ وأصولًا من الزَّوَاجر، فسمُّوا بذلك الخطباء والوعاظ.
وأخذ قومٌ بما في آية المواريث من ذكر السِّهام وأربابها وغير ذلك — علمَ الفرائض، واستنبطوا منها من ذكر النصف والربع والسدس والثمن حسابَ الفرائض.
ونظر الكتابُ والشعراءُ إلى ما فيه من جزالة اللفظ، وبديع النظم، وحسنِ السياق، والمبادئ والمقاطع والمخالص والتلوين في الخطاب، والإطناب والإيجاز وغير ذلك، واستنبطوا منه المعاني والبيان والبديع.
انتهى تحصيلًا.
وإنَّما أوردنا هذا القول لنكشفَ لك عن معنًى عجيب في هذا الكتاب الكريم، فهو قد نزلَ في البادية على نبي أمِّيٍّ وقوم أميين لم يكن لهم إلا ألسنتُهم وقلوبهم، وكانت فنونُ القول التي يذهبون فيها مذاهبهم ويتواردون عليها، لا تجاوز ضروبًا من الصفات، وأنواعًا من الحكم، وطائفة من الأخبار والأنساب، وقليلًا مما يجري هذا المجرى، فلما نزل القرآن بمعانيه الرائعة التي افتنَّ بها في غير مذاهبهم، ونزع منها إلى غير فنونهم، لم يقفوا على ما أريدَ به من ذلك؛ بل حملوه على ظاهره وأخذوا منه حُكم زمانهم، وكان لهم في بلاغته المعجزة مَقنَعٌ، وما درى عربيٌّ واحد من أولئك لِمَ جعل الله في كتابه هذه المعاني المختلفة، وهذه الفنونَ المتعددة، التي يهيجُ بعضُها النظر، ويشحذ بعضها الفكر، ويمكنُ بعضها اليقين، ويبعث بعضها على الاستقصاء، وهي لم تكن تلتئم على ألسنتهم من قبل؛ بيدَ أن الزمان قد كشف بعدهم عن هذا المعنى، وجاء به دليلًا بينًا منه على أن القرآن كتاب الدهر كله — وكم للدهر من أدلة على هذه الحقيقة ما تبرح قائمة — فعلمنا من صَنيع العلماء أن القرآن نزل بتلك المعاني؛ ليخرج للأمة من كل معنى علمًا برأسِه، ثم يعمل الزمن عمله فتخرج الأمة من كل علم فروعًا، ومن كل فرع فنونًا إلى ما يستوفي هذا الباب على الوجه الذي انتهت إليه العلوم في الحضارة الإسلامية؛ وكان سببًا في هذه النشأة الحديثة من بعد أن استدار الزمان وذهبت الدنيا مُستدبرة، وأنشأ الله القرونَ والأجيالَ؛ لتبلغ هذه الحادثة أجلَها، ويتناهى بها القضاء، وإن من شيء إلا عند الله خزائنه، ولكنه — سبحانه وتعالى — يقول: وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ.
ثم قدم المهدي على مالك، وقد وضع أجزاء كتابه «المُوطأ» فأمر بانتساخها وقرِئت على مالك. إلى أن كانت سنة ١٧٤ﻫ فخرج الرشيد حاجًّا، ثم قدم المدينة زائرًا، فبعث إلى مالك فأتاه فسَمِع منه كتابه ذلك، وحضرهُ يومئذ فقهاءُ الحجاز والعراق والشام واليمن، ولم يتخلَّف من رؤسائهم أحد إلا وحضر الموسمَ مع الرشيد، وسمع وسمعوا من مالك موَطَّأهُ كله، ثم أنكروا عليه مسألة فناظروه فيها، حتى إذا كشَف لهم عن وجهها وأبان فيها طريق الرواية والتأويل صاروا إلى الرضى بقوله والتصديق لروايته والتسليم لتأويل ما تأوَّل.
وقد أوردنا في باب الرواية من التاريخ أن أبا علي الأسواري القاصَّ البليغ، فسَّر القرآن بالسِّيَر والتواريخ ووجوه التأويلات، فابتدأ في تفسير سورة البقرة، ثم لبث يَقصُّ ستًّا وثلاثين سنة، ومات ولم يختمه، وكان ربما فسر الآية الواحدة في عدة أسابيع لا يَني ولا يتخلف، وليس في هذا الخبر شيء من المبالغة أو التزيُّد، بل عسى أن يكون الأمر مع أهل التحقيق والاطلاع أبلغ منه، وهذه كتب التفسير التي عدها صاحب «كشف الظنون» وسرد أسماءَها في كتابه، تبلغ ثلثمائة ونيفًا، والرجل إنما عد بعضها كما يقول، وأنت فلا يذهبنَّ عنك أن كل كتاب منها فإنما هو في المجلدات الكثيرة إلى مائة مجلد، وإلى ما يفوت المائة أحيانًا، فقد رأينا في بعض كتب التراجم أن أبا بكر الإدفوي المتوفى سنة ٣٨٨ﻫ صنَّف «كتاب الاستغناء» في تفسير القرآن في مائة مجلد، وكان منفردًا في عصره بالإمامة في أنواع من القراءات والعربية وفنون كثيرة من العلم، وذكر الفيلسوف «أرنست رِنان» أنه وقف على ثَبت يدل على أنه قد كان في إحدى مكاتب الأندلس التي أُحرقت تفسير للقرآن في ثلاثمائة مجلد، وذكر الشعراني في كتابه «المِنن» تفسيرًا قال إنه في ألف مجلد.
وهذا كله غير ما أُفرِد بالتصنيف من الكتب والرسائل التي لا تحصى في مسائلَ من القرآن وفي مُشكلهِ وغريبه ومجازِه ومعانيه وضمائره وشواهده وأسلوبِ نظمه والمتشابه من آياته وأمثاله وحروفه وإعرابه وأسمائه وأعلامه وناسخهِ ومنسوخه وأسباب نزوله، إلى كثير من مثل ذلك مما حَفِيَت فيه أقلامُ العلماء، بحيث لا يعلم إلا الله وحده كم يبلغ ما وُضِع لخدمة كتابه الكريم؛ ولا يعلم الناس من ذلك إلا أنه معجزة من معجزات التاريخ العلمي في الأرض لم يتَّفق له في ذلك شبيهٌ من أول الدنيا إلى اليوم، ولن يتفق.
ولا جَرَمَ أن هذه العلوم ستدفع بعد تمحيصها واتصال آثارها الصحيحة بالنفوس الإنسانية إلى غاية واحدة، وهي تحقيق الإسلام، وأنه الحق الذي لا مريَةَ فيه، وأنه فِطرةُ الله التي فطرَ الناس عليها، وأنه لذلك هو الدين الطبيعي للإنسانية؛ وسيكون العقلُ الإنساني آخر نبي في الأرض؛ لأن الذي جاء بالقرآن كان آخر الأنبياء من الناس؛ إذ جاءهم بهذا الدين الكامل، ولا حاجة بالكمال الإنساني لغير العقول ينبِّه إليه بعضها بعضًا، ومن لا يُجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض!
وقد أشار القرآن إلى نشأة هذه العلوم وإلى تمحيصها وغايتها على ما وصفناه آنفًا، وذلك قوله تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ؟ ولو جمعتَ أنواع العلوم الإنسانية كلها ما خرجت في معانيها من قوله تعالى: فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ هذه آفاق، وهذه آفاقٌ أخرى، فإن لم يكن هذا التعبير من الإعجاز الظاهر بداهة فليس يصح في الأفهام شيء.
ذلك وإن من أدلة إعجاز هذا الكتاب الكريم أن يخطئ الناس في بعض تفسيره على اختلاف العصور؛ لضعف وسائلهم العلمية ولقِصَر حبالهم أن تعلقَ بأطراف السموات أو تحيطَ بالأرض، ثم تصيب الطبيعة نفسها في كشف معانيه؛ فكلما تقدم النظر، وجمعت العلوم، ونازعت إلى الكشف والاختراع، واستكملت آلات البحث، ظهرت حقائقه الطبيعية ناصعة حتى كأنه غاية لا يزال عقل الإنسان يَقطَعُ إليها، حتى كأن تلك الآلات حينما تُوَجَّه لآيات السماء والأرض توجه لآيات القرآن أيضًا وَالله غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَﻟٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ.
ذلك هو الأمرُ في العلوم الأولى: ثُمَّ الله يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ.
(١٤) سرائر القرآن
بعد أن صدرت الطبعة الأولى من كتابنا هذا خرج في الآستانة القديمة كتابٌ جليل للقائد العظيم والعالم الرياضي الفلكي المشهور الغازي أحمد مختار باشا — رحمه الله — أسماه «سرائر القرآن» وبناه على سبعين آية من كتاب الله تعالى فسَّرها بآخر ما انتهى إليه العلم الحديث في الطبيعة والفلك، فإذا هي في القرآن منْطِق السماء عن نفسها، لا يتكذَّبُ ولا يَزيغ ولا يلتوي، وإذا هي تثبت أن هذا الكتاب الكريم سبقَ العقلَ الإنساني ومخترعاته بأربعة عشر قرنًا إلى زمننا، وما ذاك إلا فصلٌ من الدهر، وستعقبه فصول بعد فصول.
ومعلوم أن الزمن تقسيم إنساني محض يلائم وجود الإنسان وفناءه عن هذه الأرض المحدودة بمادتها وأجلها، وإلا فليس في الحقيقة أزمان تبتدئ أو تنتهي، فإذا ثبت للقرآن المجيد سبقُه ما تتوهمه زمنًا وتقدُّمُهُ حدودًا من آخر حدود العقل الإنساني، على حين أنه أُنزل في حدودٍ غيرها بعيدةٍ ضعيفةٍ لا علم فيها ولا آلات علم — فحسبُك بذلك وحده برهانًا على أن هذا الكتاب جملةٌ من الأزَل تحوَّلت في معنًى ومنطق، وجاءت لغرض وغاية، ولامَسَت الناس لتكون فيهم سببًا لرسوخ الإيمان، ثم نظامًا للإيمان نفسه، ومتى رسخ الإيمان فقد رسخ العالم كله في النفس الإنسانية، وهذا عندنا من بعض السر فيما جاء في الكتاب الكريم من آيات السموات والأرض والنظر والاستدلال، ومن طُرُق التعبير النفسي بالأمثال والقصص ونحوها.
ثم إن في ذكر الآيات الكونية والعلمية في القرآن دليلًا على إعجاز آخر فهو بذلك يُومئ إلى أن الزمن متجهٌ في سيره إلى الجهة العلمية القائمة على البحث والدليل، وأن الإنسانية ذاهبة في أرقى عصورها إلى هذا المذهب، وأن الدين سيكون عقليًّا، وأن العقل هو آخر أنبياء الأرض، فوجود ذلك فيه قبل أن يوجد ذلك في الزمن بأربعة عشر قرنًا، شهادة ناطقة من الغيب لا يبقى عليها موضعُ شبهة، فإن أسفَرَ الصبحُ وبقي بعض الناس نيامًا لا يرونه وقد ملأ الدنيا فذلك من عَمَى النوم في أعينهم، وآخرون لا يرونه من نوم العمى في أعينهم والصبح فوق هؤلاء وهؤلاء. فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا.
وبعد أن وصف همم علماء الفلك والرياضة، ووسائلهم ومعرفتهم المسائل الدقيقة، عن الكواكب والشموس والعوالم، وعن حقيقة هذه الكرة التي نعيش عليها، وما أفاده المجتمع البشري من ذلك، قال: «وأفدنا نحن — معشر المسلمين — فوائد عظيمة خاصةً بنا؛ لأن هذه المخترعات والمستحدَثات وما أدَّت إليه من أدلة ونظريات — قد جاءتنا ببرهان جديد على إعجاز القرآن الذي نَدِينُ اللهَ عليه فقرَّت بذلك أعينُ المؤمنين، وذلك من فضل الله علينا وعلى الناس.» قال: «وسيرجع الفلكيون موحِّدين إذا علموا أن الأسرار العلمية التي يحسبونها جديدة، هي في القرآن كما ظهرت لهم، ومثَلٌ من ذلك أن العالِم الفلكي م. بوانكاريه قال في مقدمة كتابه المطبوع في سنة ١٩١١م وهو يبحث في دقة نظام هذه الكائنات وما فيها من مظاهر الكمال: «ليس ذلك من الأمور التي يمكن حملها على المصادفة والاتفاق، وأحسب أن القدرة التي لا أوَّلَ لها ولا آخر سنَّت للكائنات هذا النظام في عهدٍ ما على أن يستمر حكمه إلى الأبد، فأذعنت الكائنات لإرادتها راضية طائعة».» قال الغازي — رحمه الله: فأمعن أنت النظر في هذه الكلمات وسياقها، ثم اقرأ قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ، وتأمل ما في الآية من معانيَ ورموز؛ ثم تصور ما في ذلك من ذوق وجداني لأهل العلم والعرفان، وقل تبارك الله والمنةُ لله.»
وكتابُ سرائر القرآن ثلاثة فصول: الأول: في كيفية تكوين العالم ووجود الحياة، والثاني: في يوم القيامة أو خاتمة عمر الأرض، والثالث: في المباحث والآيات القرآنية المتعلقة بإعادة الخلق، وكل ذلك مطبقٌ على نظريات وآراء الحكماء الأولين والآخرين إلى عصرنا، ثم ما يؤيد حقيقة ما انتهوا إليه من آيات القرآن الكريم، وكان الغازي يفكر في هذا الكتاب خمسة وعشرين عامًا، فرحمة الله عليه كفاءَ ما أحسن إلى أمته.
(١٥) تفسير آية١٠٣
وقد رأينا أن نسوق هنا تفسير آية من القرآن الكريم أصبناه في بعض كتب الحكيم العلامة داود الأنطاكي المتوفَّى سنة ١٠٠٨ للهجرة، فُتح عليه به وهو في أضعف الأزمنة وأشدها انحطاطًا وفقرًا من الوسائل العلمية.
ولا تنسَ أن الآية أُنزلت على نبيٍّ أمِّيٍّ في قوم لا يعرفون كثيرًا ولا قليلًا من علم التشريح أو علم التكوين، ثم إنها كذلك ليس في صناعتها البيانية شيء مما تتحسن به البلاغة فيبين بنفسه ويجعل للكلام شأنًا في تمييزه واستخراج معانيه، كالاستعارة والكناية ونحوهما؛ ولكنها قائمة على دقائق التركيب العلمي والملاءمة بينها وبين دقائق التعبير؛ ففيها إعجازٌ في المعنى، ثم إعجاز في الصورة؛ مع أنها في غرضها وسياقِها مَظِنَّة أن لا يكون فيها من ذلك شيء؛ إذ هي عبارة علمية تُسْرَد سَردًا على التقرير والحكاية. وهذا مما يسمو بإعجازها سموًّا على حِدَةٍ، فإنه يضع فوق البلاغة ما تكون البلاغةُ في العادة والطبيعة فوقه.
وكل ما هذه سبيله من الآيات العلمية في القرآن الكريم فأنت لا بد واجدٌ فيه من قوة المعاني أكثر مما في العقل العربي من قوة الفهم وقوة التعبير؛ لتكون قوة الدلالة فيه يوم تتهيأ للأمم وسائلها العلمية دليلًا من أقوى أدلة الإعجاز.
أما الآية فهي قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ١٠٤ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ.
- أحدها: ما أشار إليه بقوله: فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً، أي حوَّلنا الدم جسمًا صُلبًا قابلًا للتفصيل والتخليط والتصوير والحفظ، وجعل مرتبة المضغة في الوسط، وقبلها ثلاث حالات وبعدها كذلك؛ لأنها الواسطة بين الرطوبة السيالة والجسم الحافظ للصور؛ وقابلها بالشمس،١٠٨ لأنها بين العلوي والسفلي كذلك، وجعل التي قبلها علوية؛ لأن الطور الإنساني فيها لا حركة له ولا اختيار، فكأنه هو المُتوَلِّيهِ أصالة، وإن كان في الحالات كلها كذلك لكن هو أظهر، فانظر إلى دقائق مَطاوي هذا الكتاب المعجز وتحويله العلقة إلى المضغة يقع في دون الأسبوع.
- وثانيها: مرتبة العظام المشار إليها بقوله: فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ
عِظَامًا، أي صَلَّبنا تلك
الأجسام بالحرارة الإلهية حتى اشتدت وقبلت
التوثيق والرَّبط والإحكام والضبط، وهذه مرتبة
الزُّهرة، وفيها تتخلق الأعضاء المنوية
المشاكلة للعظام أيضًا، ويتحول دم الحيض
غاذِيًا كما هو شأن الزهرة في أحوال
النساء.
وقوله: فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا أي حال تحويل الدم غاذيًا للعظام لا يكون عنهُ إلا اللحم والشحم وكل ما يزيد وينقص، وهذا شأن عطارد، تارةً يتقدم وتارة يتأخر ويعتدل، وكذا اللحم في البدن، وهذه المرتبة هي التي يكون فيها الإنسان كالنبات، ثم يطول الأمر حتى يشتد، ثم يتم إنسانًا يفيض الحياة والحركة بنفخ الروح، فلذلك قال مُعلمًا للتعجب والتنزيه عند مشاهدة دقيق هذه الصناعة: ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، وهذا هو الطور السابع الواقع في حَيِّزِ القمر.وفي هذه الآية دقائق:
- الأولى: عَبَّرَ في الأول بخلقنا، لصدقه على الاختراع، وفي الثاني بجعلنا لصدقه على تحويل المادة، ثم عبر في الثالثة وما بعدها كالأول لأنه أيضًا إيجاد ما لم يسبق.
- الثانية: مطابقة هذه المراتب لأيام الكواكب المذكورة ومقتضياتها للمناسبة الظاهرة وحكمة الربط الواقع بين العوالم.
- الثالثة: قوله فَكَسَوْنَا وهي إشارة إلى أن اللحم ليس من أصل الخلقة اللازمة للصورة؛ بل كالثياب المتخذة للزينة والجمال؛ وأن الاعتماد على الأعضاء والنفس خاصة.
- الرابعة: قوله تعالى: ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ سماه بعد نفخ الروح إنشاءً؛ لأنه حينئذ قد تحقق بالصورة الجامعة.١٠٩
- الخامسة: قوله خَلْقًا ولم يقل إنسانًا ولا آدميًّا ولا بشرًا١١٠ لأن النظر فيه حينئذ لما سيُفاضُ عليه من خِلَع الأسرار الإلهية، فقد آن خروجه من السجن وإلباسُه المواهب، فقد يتخلق بالملكيات فيكون خلقًا ملكيًّا قدسيًّا، أو بالبهيمية فيكون كذلك، أو بالحجرية إلى غير ذلك؛ فلذلك أبهمَ الأمرَ وأحاله على اختياره وأمرَ بتنزيهه على هذا الأمر الذي لا يشاركه فيه غيره.
وفي الآية من العجائب ما لا يمكن بسطه هنا، وكذلك سائر آيات هذا الكتاب الأقدس: ينبغي أن تُفْهم على هذا النمط. انتهى كلام الحكيم المفسر.
وأنت لو عرضتَ ألفاظَ هذه الآية على ما انتهى إليه علماء تكوين الأجنة وعلماء التشريح وعلماء الوراثة النفسية، لرأيت فيها دقائق علومهم، كأن هذه الألفاظ إنما خرجت من هذه العلوم نفسها، وكأن كل علم وضع في الآية كلمته الصادقة، فلا تملك بعد هذا أن تجد ختام الآية إلا ما خُتِمت هي به من هذا التسبيح العظيم فَتَبَارَكَ الله!
(١٦) إعجاز القرآن «فصل»
وهذا هو الغرضُ الذي أدرنا إليه الكلامَ في كل ما مرَّ من هذا الباب جهةً إلى جهةٍ، وأرَغْنا معانيه فصلًا إلى فصل، وخُضنا في ضروبه معنًى إلى معنى، وقد وقَّفناك منه على وجوه عدة، من سرٍّ كان مكتومًا، وخَبْءٍ كان مجهولًا، ومقطع من الحق كان مشتبهًا، وكلها خارجٌ عن طوق الإنسان عندما يتعاطى وعندما يتوهم وعندما يتثبَّت، وكلها لم يشهده الزمن إلا مرة واحدة.
وإنما الإعجاز شيئان: ضعفُ القدرة الإنسانية في محاولة المُعجز ومزاولته على شدة الإنسان واتصال عنايته، ثم استمرارُ هذا الضعف على تراخي الزمن وتقدمه؛ فكأن العالم كله في العجز إنسان واحد ليس له غيرُ مدته المحدودة بالغةً ما بلغت؛ فيصير من الأمر المعجز إلى ما يشبه في الرأي مقابلة أطول الناس عُمرًا بالدهر على مَدَاه كله. فإن المعمر دهرٌ صغير، وإن لكليهما مدة في العمر هي من جنس الأخرى؛ غير أن واحدة منهما قد استغرقت الثانيةَ؛ فإن شاركتها الصغرى إلى حدٍّ فما عسى أن تشركهما فيما بقي؟
ولسنا ندَّعي أننا أشرفنا على الأمَد وأوفينا على معجزة الأبد، فإن هذا أمر ضيق كثيرُ الالتواء لمن تلمَّس جوانبه، واقتحم مصاعبه، وما أشبه القرآن الكريم في تركيب إعجازه، وإعجاز تركيبه بصورة كلامية من نظام هذا الكون الذي اكتَنَفه العلماء من كل جهة، وتعاوَرُوه من كل ناحية، وأخلقوا جوانبه بحثًا وتفتيشًا. ثم هو بعدُ لا يزال عندهم على ذلك خَلقًا جديدًا، ومرامًا بعيدًا، وصعبًا شديدًا، وإنما بلغوا منه إذ بلغوا نزرًا تهيأت لضعفه أسبابه، وقليلًا عُرِفَ لقلته حسابُه، وبقي ما وراء ذلك من الأمر المتعذر الذي وقفت عنده الأعذار؛ والابتغاء المعجز الذي انحطَّ عنده قدرُ الإنسان؛ لأنه مما سمت به الأقدار.
(١٧) الأقوال في الإعجاز
واعلم أننا لسنا نلتمسُ بما نتأتى إليه من هذا الفصل، ونستأتي به تعبَ الكتابة في سَرْده، وما نصبنا له من استقراء مذاهب القوم وآرائهم — أن نقيم من ذلك برهانًا صحيحًا، أو نقدم رأيًا صريحًا، فإن هذا بعض ما لا يُطمِع فيه ولا يَردُّ التعبُ منه شيئًا على الباحث يكون فيه مطمع. فلقد أبعدَ القوم في المقايسة وأمعنوا في المذاكرة، وأطالوا في الخصومة، وفخَّموا ما شاءوا، ومضغوا من الكلام ما ملأ أفواههم، وجاءوا بما هو لعَمْري فلسفة ومنطق؛ بيد أنهم في كل ذلك إنما توافوا على صنيع واحد من الردِّ بعضهم على بعض؛ فمن فَلَجَ بحجته فقطع خصمه عن المعارضة، وأفحمه دون المناضلة كان الرأي في الإعجاز ما رآه هو، وكان أكبرُ البرهان على صوابه عجز خصمه عن تخطئته.
وهذه سبيلٌ من الكلام لا يزال أذاها حاضرًا، وسالكها حائرًا، فإنه ما يندفع إليها رأيان متناقضان إلا كان أقواهما معتبرًا صوابًا بحتًا، لا بقوته ولكن بضعف الآخر، وإن كان هو في نفسه خطأً صراحًا وفسادًا صِرْفًا أو جهلًا وإحالة.
وقد مضى أكثر المتكلمين من رءوس الفرق الإسلامية على أن لا يبالوا أن يُضرَبوا بآرائهم صَفحًا، ولهم في ذلك صلابة يوهِمون أنها صلابة أهل الحق وعنادٌ يلتبس باليقين على العامة وأشباه العامة من أتباعهم فلا تنفعهم نافعةٌ حتى يأخذوا بآرائهم وينتحلوها، ثم لا تكون لهم الخِيرَة من أمرهم بعد ذلك فيما يأخذون وما يَدَعون.
وقد أسلفنا في غير هذا الموضع أن كل فرقة انشعبت في الإسلام وانبسط لها ظل — فإنما هي عقلُ رجل ذكي واحد؛ بالغًا ما بلغ أتباعُها ومنتحِلو عقائدها؛ فإن نبغ في هؤلاء عقل آخر انصدعت الفرقةُ فخرجت منها فرقة ثانية، وهلم جرًّا.
فالمقِرُّ من أولئك كالمنكر من هؤلاء، ما دام سبيل جميعهم من صناعة الكلام، وعلى ناحية المكابرة، وما دام نفي الشك بقوة المنطق كأنه في المنطق إقرار اليقين بقوة الحق، فإن سقطت الشبهة وبَطلَ الاعتراض — ولو من عجز أو عِيٍّ أو ما هو في حكمها من عوارض المنطق — فذلك هو العلم المحضُ والرأي الصريح، وإلا فما دام للشبهة ظلٌّ، وللاعتراض وجهٌ — ولو من المعارضة والمكابرة — فلا قرار لذلك الرأي ولا ثبوت لذلك العلم، ولا يبلغ الجدال منهما رأيًا ولا علمًا.
وعلى هذه الجهة رأينا كل أقوالهم في إعجاز القرآن: لا يصنعون شيئًا دون أن يُنكر من ينكر ويدفَعَ من يدفع، فإما أن تتعارض الحجج الكلامية فيُسقِط بعضها بعضًا، وإما أن تقوى واحدة منهن فتُسقط الباقيات وتبقَى هي كلامًا من الكلام لا تصلح لنفي ولا إثبات.
وليس مَن طلب الحق ليعرفه كالذي يطلبه ليُعرَف به، فإن الأول يُنصف من نفسه كما ينتصف لها، ولكن الثانيَ خصم لا يُريده إلا جدلًا وله مع الجدل قوة الحرص على المؤاربة، وشدة الصريمة في المراوغة؛ كيما تنتهي إليه الحجة ويقف عنده البرهان فيكون له الصوت المردد، ويصير إليه مرجع القول في النحلة أو المذهب، فهو يَعتسف لذلك ولا جَرَم كل طريق، ويركب كل صعب، ويتحمل من كل وجه، ويتعنت بكل آية، وليس له همٌّ دون قوة الإقناع المنطقية، ودون الإفحام والتعجيز ومن ثم لا يبالي أن يتورد خصمه بالسفه، أو يقر له بالسخف، أو يتبسط على الباطل أو يحتجز دون الحق، ما دامت هذه كلها أدوات في صناعة الكلام، وما دام الكلامُ قادرًا بأدواته على أن يصنع الحق أو ما يسمى حقًّا، وإن كانت الصنعة فاسدة أو سقيمة، وكانت التسمية من خطأ أو ضلال.
من أجل ذلك قلنا إنه لا يستقيم لنا برهان صحيح مما نصبنا لاستقرائه في هذا الفصل، ولكن أكبر غرضنا منه أن ندل على تاريخ الكلام في القرآن وإعجازه؛ فإن ذلك واضح النسق بين السرد فيما تهيأ لنا من هذاه الآراء التي نؤديها كما هي: وفاء بحق التاريخ وتوفية لفائدة ما نحن بسبيله.
وأضاف إلى القول بخلقه أن فصاحته غير معجزة، وأن الناس يقدرون على مثلها وعلى أحسن منها، ولم يقل بذلك أحد قبله، ولا فشت المقالة بخلق القرآن إلا من بعده؛ إذ كان أول من تكلم بها في دمشق عاصمة الأمويين، وكان مَروان «ويلقب بالحمار» يتبع رأيه، حتى نسب إليه، فقيل مروان الجعدي.
ولم تظهر بعده فتنة القول بخلق القرآن إلا زمن أحمد بن أبي دُؤاد وزير المعتصم «سنة ٢٢٠ﻫ»، وكان أول من بالغ في القول بذلك عيسى بن صَبيح الملقب بالمُزدار الذي إليه تنسب المزدارية كما سيأتي.
ثم لما نجَمَت آراء المعتزلة بعد أن أقبل جماعةٌ من شياطينها على دراسة كتب الفلسفة مما وقع إليهم عن اليونان وغيرهم نبغت لهم شؤونٌ أخرى من الكلام، فمزجوا بين تلك الفلسفة على كونها نظرًا صِرفًا، وبين الدين على كونه يقينًا محضًا، وتغلغلوا في ذلك حتى خالف بعضهم بعضًا بمقدار ما يختلفون في الذكاء وبُعد النظر، فتفرقوا عشر فرق، واختلفت بهذا آراؤهم في وجه إعجاز القرآن اختلافًا يقوم بعضه على بعض، فيبدأ فارغًا وينتهي كما بدأ وإن كثر في ذات نفسه.
فذهب شيطانُ المتكلمين أبو إسحق إبراهيم النَّظام إلى أن الإعجاز كان بالصَّرفة، وهي أن الله صرف العرب عن معارضة القرآن مع قدرتهم عليها فكان هذا الصرف خارقًا للمادة. قلنا: وكأنه من هذا القبيل هو المعجزة لا القرآن.
وهذا الذي يروونه عنه أحد شطرين من رأيه، أما الشطر الآخر فهو الإعجاز إنما كان من حيث الإخبار عن الأمور الماضية والآتية.
وقال المرتضَى من الشيعة: بل معنى الصرفة أن الله سلبهم العلوم التي يُحتاج إليها في المعارضة ليجيئوا بمثل القرآن. فكأنه يقول إنهم بلغاء يقدرون على مثل النظم والأسلوب ولا يستطيعون ما وراء ذلك مما لبسته ألفاظ القرآن من المعاني؛ إذ لم يكونوا أهل علم ولا كان العلم في زمنهم، وهذا رأيٌ بيِّن الخلط كما ترى.
غير أن النطام هو الذي بالغ في القول بالصرفة حتى عُرفت به، وكان هذا الرجل من شياطين أهل الكلام، على بلاغةٍ ولَسَن وحسن تصرف، بيدَ أنه شب في ناشئة الفتنة الكلامية، فلم ينتفع بيقين. وقال فيه الجاحظ — وهو تلميذه وصاحبه وأخبرُ الناس به: «إنما كان عيبه الذي لا يفارقه، سوء ظنه وجَودَة قياسه على العارض والخاطر والسابق الذي لا يُوثق بمثله، فلو كان بَدَلَ تصحيحه القياسَ التمس تصحيح الأصل الذي قاس عليه، كان أمرُه على الخلاف، ولكنه كان يظن الظن ثم يقيس عليه وينسى أن بَدءَ أمره كان ظنًّا، فإذا أتقن ذلك وأيقن، جَزَم عليه، وحكاه عن صاحبه حكاية المستبصِر في صحة معناه؛ ولكنه كان لا يقول سمعت ولا رأيت، وكان كلامه إذا خرج مخرج الشهادة القاطعة لم يشكَّ السامعُ أنه إنما حكى ذلك عن سماع قد امتحنه أو عن معاينة قد بهرته.» ا.ﻫ.
قلنا: وهذا بعض ما ذهب بفضل بلاغته، وغطى على أثره، ونقض أمرَهُ عُروة عروة، وجعله في أكثر آرائه بعيدًا عما هو من غايته، مُدفعًا إلى ما ينزل عن حقه؛ حتى جاء رأيه الذي علمتَ في مذهب الصرفة دون قدره بل دون علمه، بل دون لسانه، وهو عندنا رأيٌ لو قال به صبية المكاتب وكانوا هم الذين افتتحوه وابتدعوه، لكان ذلك مذهبًا من تخاليطهم في بعض ما يحاولونه إذا عمدوا إلى القول فيما لا يعرفون ليُوهِموا أنهم قد عرفوا!
وإلا فإن من سُلبَ القدرة على شيء بانصراف وهمِهِ عنه، وهو بعدُ قادرٌ عليه مُقرِنٌ له، لا يكون تعجيزه بذلك في البرهان إلا كعجزه هو عن البرهان؛ إذ كان لم يعجزه عدم القدرة، ولكن أعجزه القدر وهو لا يغالب، والمرء ينسى ويذكر، وقد يتراجع طبعه فترة لا عجزًا، وقد يعتريه السأم ويتخوَّنه الملال، فينصرف عن الشيء وهو له مطيق، وذلك ليس أحق بأن يسمى عجزًا من أن يسمى تهاونًا، ولا هو أدخل فيما يحمل عليه الضعف منه فيما يحمل عليه فضل الثقة.
على أن القول بالصرفة هو المذهب الفاشي من لدن قال به النظَّام، يصوبه فيه قوم ويشايعه عليه آخرون، ولولا احتجاجُ هذا البليغ لصحته، وقيامه عليه، وتقلده أمره، لكان لنا اليوم كتب ممتعة في بلاغة القرآن وأسلوبه وإعجازه اللغوي وما إلى ذلك، ولكن القوم — عفا الله عنهم — أخرجوا أنفسهم من هذا كله، وكفوها مؤنته بكلمة واحدة تعلقوا عليها، فكانوا فيها جميعًا كقول هذا الشاعر الظريف الذي يقول:
ولم نرَ أحدًا فسَّر هذه الكلمة «الصرفة» كابن حزم الظاهري، فإنه قال في كتابه «الفِصَل» في سبب الإعجاز: «لم يقل أحد إن كلام غير الله تعالى معجز، لكن لما قاله الله تعالى وجعله كلامًا له، أصاره معجزًا ومنع من مماثلته قال: وهذا برهان كافٍ لا يحتاج إلى غيره.» نقول: بل هو فوق الكفاية، وأكثر من أن يكون كافيًا أيضًا؛ لأنه لما قاله ابن حزم وجعله رأيًا له، أصاره كافيًا لا يحتاج إلى غيره! وهل يراد من إثبات الإعجاز للقرآن إلا إثباتُ أنه كلام الله تعالى؟
وبعض الفِرَق، فإنهم يقولون: إن وجه الإعجاز في القرآن هو ما اشتمل عليه من النظم الغريب المخالف لنظم العرب ونثرهم، في مَطَالعه ومقاطعه وفواصله؛ أي فكأنه بدعٌ من ترتيب الكلام لا أكثر.
وبعضهم يقول: إن وجه الإعجاز في سلامة ألفاظه مما يَشين اللفظَ: كالتعقيد والاستكراه ونحوهما مما عرفه علماء البيان، وهو رأي سخيف يدل على أن القائلين به لم يُلابسوا صناعة المعاني.
وآخرون يقولون: بل ذلك في خُلُوِّه من التناقض واشتماله على المعاني الدقيقة.
وجماعة يذهبون إلى أن الإعجاز مجتمع من بعض الوجوه التي ذكرناها كثرة أو قلة، وهذا الرأي حسن في ذاته، لا لأنه الصواب، ولكن لأنه يدل على أن كل وجه من تلك الوجوه ليس في نفسه الوجه المتقبَّل.
أما الرأي المشهور في الإعجاز البياني الذي ذهب إليه عبد القادر الجُرجاني صاحب «دلائل الإعجاز» المتوفى سنة ٤٧١ﻫ «وقيل ٤٧٤ﻫ»، فكثير من المتوسِّمين بالأدب يظنون أنه أول من صنف فيه ووضع من أجله كتابه المعروف، وذلك وهمٌ، فإن أول من جوَّد الكلام في هذا المذهب وصنف فيه، أبو عبد الله محمد بن يزيد الواسطي المتولى سنة ٣٠٦ﻫ، ثم أبو عيسى الرُّمَّاني المتوفى سنة ٣٨٢ﻫ، ثم عبد القاهر، وهذا الرأي كان هو السبب في وضع علم البيان، كما نبسطه في موضعه من تاريخ آداب العرب إن شاء الله.
- (١)
الفصاحة في ألفاظه كأنها السَّلْسَال.
- (٢)
البلاغة في المعاني بالإضافة إلى مضرب كل مثل ومَسَاق كل قصة وخبر في الأوامر والنواهي وأنواع الوعيد ومحاسن المواعظ والأمثال وغيرها مما اشتمل عليه؛ فإنها مَسُوقة على أبلغ سياق.
- (٣)
صورة النظم، فإن كل ما ذكرهُ من هذه العلوم مَسُوق على أتم نظام وأحسنه وأكمله. ا.ﻫ.
ومحصل هذا المذهب أن الإعجاز في القرآن كله؛ لأن القرآن كله معجز، وهو معجز لأنه معجز.
وهذا برهان لم يكن لهم بدٌّ منه؛ فإن إنكار الإعجاز لم يقل به أحد من المتأخرين؛ وإنَّما وقع إليهم على هيئته في كتب الكلام وكتب التفسير التي يدرسونها؛ فهو رأيٌ ميت، لو أنكروه بكل دليل في العلم لم يزده ذلك موتًا في الأرض ولا في السماء.
فإن قلت: أتنكر أن ما زعموه هو الدليل على الإعجاز، وأنه لا ينهض دليلًا ولا يتماسك إذا نهضَ وأنه زعمٌ على الهاجس ورأي على ما يتفق، وأن مسألة الإعجاز لا تحل بصناعة الأقيسة ومُلابَسةِ الجدال، وأن هذه التقسيمات وَصلٌ لا يُغني وحَشوٌ لا يسمِن؟ قلتُ في ذلك: لَشَدَّ ما!
أما الذين يقولون إن القرآن غيرُ معجز، لا بقوة القدَر ولا بضعف القدرة، فقد ذكرنا من أمرهم طرفًا، وأشدهم بعد الجَعْد بن درهم: عيسى بنُ صَبيح المُزدارُ وأصحابه المزدارية، وكان عيسى هذا تلميذًا لبِشر بن المعتمر — من أكبر شيوخ المعتزلة وأفراد بلغائهم — ثم كان مبتلًى بجنون التكفير، حتى سأله إبراهيم بن السِّندي مرة عن أهل الأرض جميعًا فكفَّرهم، فأقبل عليه إبراهيم وقال: الجنة التي عَرضها السموات والأرض لا يدخلها إلا أنت، وثلاثة وافقوك؟ ومع هذا فكان الرجل من الزهد والورَع بمكان حتى لقبوه راهبَ المعتزلة.
وقد زعم أن الناس قادرون على مثل القرآن فصاحةً ونظمًا وبلاغة؛ وعلى ذلك أصحابه، وهو جنونٌ بلا ريب ليس أقبح منه إلا جنون الحسينية أصحاب الحسين بن القاسم العناني الذين يزعمون أن كتبهم وكلامهم أبلغ وأهدى وأبين من القرآن. وذلك زعم يكبر أن يكون جهلًا وسخفًا من قوم شاهدين على أنفسهم بالكفر، وإنما هو بعض ما يزينه شيطان النفاق وَلَيَعْلَمَنَّ الله الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ.
مؤلفاتهم في الإعجاز
على أن كتاب الباقلاني وإن كان فيه الجيِّد الكثير، وكان الرجل قد هذبه وصفاه وتصنَّع له، إلا أنه لم يملك فيه بادرة عابها هو من غيره، ولم يَتَحَاشَ وجهًا من التأليف لم يرضَهُ من سواه، وخرج كتابه كما قال هو في كتاب الجاحظ: «لم يكشف عما يَلتبِس في أكثر هذا المعنى». فإن مرجع الإعجاز فيه إلى الكلام، وإلى شيء من المعارضة البيانية بين جنسٍ وجنسٍ من القول، ونوع وآخر من فنونه، وقد حشر إليه أمثلة من كل قبيل من النظم والنثر، ذهبت بأكثره وغمرت جملته، وعدها في محاسنه وهي من عيوبه.
على أن كتابه قد استبد بهذا الفرع من التصنيف في الإعجاز، واحتمل المؤنة فيه بجملتها من الكلام والعربية والبيان والنقد، ووفى بكثير مما قصد إليه من أمهات المسائل والأصول التي أوقع الكلام عليها، حتى عدُّوه الكتاب وحده؛ لا يشرِك العلماء معه كتابًا آخر في خطره ومنزلته وبُعد غَوْره وإحكام ترتيبه وقوة حجته وبسط عبارته وتوثيق سَردِه، فانظر ما عسى أن يكون غيره مما سبقه أو تلاه.
وبالجملة فقد وضع ما لم يكن يمكن أن يوضع أوفى منه في عصره، بيدَ أن القرآن كتاب كل عصر، وله في كل دهر دليل من الدهر على الإعجاز ونحن قد قلنا في غير الجهات التي كتبت فيها كل من قبلنا، وسيقول من بعدنا فيما يفتح الله به؛ إن ذلك على الله يسير.
ومن أعجب ما رأيناه أن لابن سُراقة كتابًا في الإعجاز «من حيث الأعداد ذكر فيه من واحد إلى ألوف»، وهي عبارة مقتضبة رأيناها في «كشف الظنون»، ولم يُكشف لنا عن معناها، فلا ندري أبَلَغَت وجوه الإعجاز في كتابه ألوفًا، أم هذه الألوف غير معجزة، أو هو يحصي ألوفًا من آيات القرآن والقرآن كله معجز؟ على أننا رأينا في بعض الكتب نقلًا عن كتاب ابن سراقة هذا ما يأتي: «اختلف أهل العلم في وجه إعجاز القرآن، فذكروا في ذلك وجوهًا كثيرة كلها حكمة وصواب، وما بلغوا في وجوه إعجازه جزءًا واحدًا من عشر معشاره.»
قلنا: ولعل المؤلف بلغ في كتابه نهاية هذا الحساب العَشْري؛ على أن كتابه لو كان مما ينفع الناس لمكث في الأرض، والله أعلم.
(١٨) حقيقة الإعجاز
أما الذي عندنا في وجه إعجاز القرآن، وما حققناه بعد البحث، وانتهينا إليه بالتأمل وتصفح الآراء وإطالة الفكر وإنضاج الروية، وما استخرجناه من القرآن نفسه في نظمه ووجه تركيبه واطِّراد أسلوبه؛ ثم ما تعاطيناه لذلك من التنظير والمقابلة، واكتناهِ الروح التاريخية في أوضاع الإنسان وآثاره وما نتج لنا من تتبع كلام البلغاء في الأغراض التي يقصَد إليها، والجهات التي يُعمل عليها، وفي ردِّ وجوه البلاغة إلى أسرار الوضع اللغوي التي مرجعها إلى الإبانة عن حياة المعنى بتركيب حيٍّ من الألفاظ يطابق سننَ الحياة في دقة التأليف وإحكام الوضع وجمال التصوير وشدة الملاءمة، حتى يكون أصغر شيء فيه كأكبر شيء فيه — نقول: إن الذي ظهر لنا بعد كل ذلك واستقر معنا، أن القرآن معجزٌ بالمعنى الذي يُفهم من لفظ الإعجاز على إطلاقه، حين ينفي الإمكانَ بالعجز عن غير الممكن، فهو أمر لا تبلغ منه الفطرة الإنسانية مبلغًا وليس إلى ذلك مأتًى ولا جهة؛ وإنَّما هو أثر كغيره من الآثار الإلهية، يشاركها في إعجاز الصنعة وهيئة الوضع، وينفرد عنها بأن له مادة من الألفاظ كأنها مفرغة إفراغًا من ذوْبِ تلك المواد كلها، وما نظنه إلا الصورة الروحية للإنسان، إذا كان الإنسان في تركيبه هو الصورة الروحية للعالم كله.
فالقرآن معجزٌ في تاريخه دون سائر الكتب، ومعجز في أثره الإنساني؛ ومعجزٌ كذلك في حقائقه؛ وهذه وجوه عامة لا تخالف الفطرة الإنسانية في شيء؛ فهي باقية ما بقيت، وقد أشرنا إليها في بعض الفصول المتقدمة؛ على أنها ليست من غرضنا في هذا الباب، وإنَّما مذهبُنا بيانُ إعجازه في نفسه من حيث هو كلام عربيٌّ؛ لأننا إنما نكتب في هذه الجهة من تاريخ الأدب دون جهة التأويل والتفسير.
ونحن في كل ما نضعه من هذا الكتاب إنما نسلك الجانب الضيقَ من الطريق، ونقتصُّ الأثرَ الطامِسَ، ونلتزم الخطَّةَ التي تُحمل عليها النفس حملًا، وقد كان فيما قدمناه، بل فيما دونه، مقنَعٌ، لو آثرنا ما تستوطئه النفس، وعطفنا على ما تُنازع إليه من السكون كلما انتهت إلى حجة واضحة، أو استبانَت لائحةً مُسْفِرَة؛ ولكننا نمضي ما اعتزَمنا؛ فاللهمَّ عَونَكَ! واللهمْ عَونَكَ!
هذا، ولا بد لنا قبل الترسُّل في بيان ذلك الإعجاز، أن نَوطِّئ بنبذٍ من الكلام في الحالة اللغوية التي كان عليها العربُ عندما نزل القرآن، فسنقلبُ من كتاب الدهر ثلاثَ عشرةَ صفحة تحتوي ثلاثةَ عشر قرنًا؛ لنتصل بذلك العهد حتى نُخبر عنه كأننا من أهله وكأنه رأيُ العين؛ وإنَّما سبيل الصحة فيما نحن فيه أن يشهد عليه الشاهدان: العين، والأذن؛ إذ كان من شأنهما أن لا تثبت دعوى في حادثة دون أن يشهد عليها أحدُهما أو كلاهما.
بلغ العرب في عقد القرآن مبلغًا من الفصاحة لم يُعرف في تاريخهم من قبل، فإن كل ما وراءه إنما كان أدوارًا من نشوء اللغة وتهذيبها وتنقيحها واطِّرَادها على سُنَن الاجتماع، فكانوا قد أطالوا الشعر وافتنوا فيه، وتوافى عليه من شعرائهم أفرادٌ معدودون كان كل واحد منهم كأنه عصر في تاريخه بما زاد من محاسنه وابتدع من أغراضه ومعانيه، وما نفض عليه من الصبغ والرونق؛ ثم كان لهم من تهذيب اللغة، واجتماعهم على نمطٍ من القرشية يرونه مثالًا لكمال الفطرة الممكن أن يكون: وأخْذِهم في هذا السَّمت — ما جعل «الكلمة» نافذةً في أكثرهم لا يصدها اختلاف من اللسان، ولا يعترضها تناكُرٌ في اللغة؛ فقامت فيهم بذلك دولة الكلام؛ ولكنها بقيت بلا مَلِك، حتى جاءهم القرآن.
وكل من يبحث في تاريخ العرب وآدابهم، وينفذ إلى ذلك من حيث تنفذ به الفطنة وتتأتَّى حكمة الأشياء فإنه يرى كل ما سبق على القرآن — من أمر الكلام العربي وتاريخه — إنما كان توطيدًا له وتهيئة لظهوره وتناهيًا إليه ودُربة لإصلاحهم به، وليس في الأرض أمة كانت تربيتها لغوية غيرَ أهل هذه الجزيرة، فما كان فيهم كالبيان آنقَ منظرًا وأبدعَ مظهرًا وأمدَّ سببًا إلى النفس وأردَّ عليها بالعاقبة؛ ولا كان لهم كذلك البيان أزكى في أرضهم فرعًا، وأقوم في سمائهم شرعًا، وأوفرَ في أنفسهم رَيْعًا، وأكثر في سوقهم شراءً وبيعًا، وهذا موضع عجيب للتأمل، ما ينفد عجبهُ على طرح النظر وإبعاده، وإطالة الفكر وترداده، وأي شيء في تاريخ الأمم أعجبُ من نشأة لغوية تنتهي بمعجزة لغوية، ثم يكون الدين والعلم والسياسة وسائر مقومات الأمة مما تنطوي عليه هذه المعجزة، وتأتي به على أكمل وجوهه وأحسنها، وتُخرج به للدهر خيرَ أمة كان عملها في الأمم صورةً أخرى من تلك المعجزة؟
هذا على أنه — كما علمت — أنشأهم على الكبر، ولم يجر معهم على المألوف من مذاهب تربية الأمم؛ ولا هو كان طِباقًا لروح الأخلاق التاريخية فيهم التي تُظهرها العادات على كل دين وشريعة وسياسة؛ إذ كانت ميراث الدهر، وكانت مستقرَّةً في كل عِرق سارٍ؛ وفي كل شبَهٍ نازع، وكانت روح المجموع لا تكون إلا منها، ولا تُعرف إلا بها ولا تظهر إلا فيها، فما عدا أن سفَّه أحلامهم، ونكَّس أصنامهم، وأزرى عليهم وعلى آبائهم الأوَّلين، وقام على رءوسهم بالتقريع والتأنيب، وهم أهل الحمية والحفاظ، وأهل النفوس التي تُصَبُّ كالمعاني في الألفاظ؛ ثم ذهب بطريقة كانت لهم معروفة، وعاداتٍ كانت لهم مألوفة، وأرسلهم في طريق العمر إلى الفناء فكأنما طلع بهم من أولها، وكأنهم بعد ذلك على آدابه نشأوا وهم أغفالٌ وأحداث؛ بل كأنهم سُلالة أجيالٍ كان القرآن في أوليتهم المتقادمة، فكانوا هم الوارثين لا الموروثين، والناشئين لا المنشئين، مِصداقًا للحديث الشريف: «خير القرون قرني ثم الذي يليه.»
لا جَرم أن في ذلك سرًّا من أسرار الفطرة، فلولا أن أكبر الأمر بينهم كان للفصاحة وأساليبها، بما استقام لهم من شأن الفطرة اللغوية، وما بلغوا منها كما فصلناه في بابه، حتى صارت هذه الأساليب كأنها أعصاب نفسية في أذهانهم، تنبعث فيها الإرادة بأخلاق من معاني الكلام الذي يجري فيها، وتعتزُّهم على أخلاقهم وطباعهم فتصرِّفهم في كل وجه، كأنها إرادة جبار مُعتزم لا يلوي ولا يستأني ولا يتئد.
ولولا أن القرآن الكريم قد ملك سرَّ هذه الفصاحة، وجاءهم منها بما لا قبل لهم بردِّه، ولا حيلة لهم معه، مما يشبه على التمام أساليب الاستهواء في علم النفس، فاستبدَّ بإرادتهم، وغلب على طباعهم، وحال بينهم وبين ما نزعوا إليه من خلافه، حتى انعقدت قلوبهم عليه، وهم يجهدون في نقضها واستقاموا لدعوته وهم يبالغون في رفضها فكانوا يفرُّون منه في كل وجه ثم لا ينتهون إلا إليه؛ إذ يرونه أخذ عليهم بفصاحته وإحكام أساليبه جهات النفس العربية، والمكابرة في الأمور النفسية لا تتجاوز أطرافَ الألسنة، فإن اللسان وحده هو الذي يستطيع أن يتبرأ من الشعور ويكابرَ فيه؛ إذ هو أداةٌ مغلبةٌ تتعاورها الألفاظ، والألفاظ كما يُرمى بها في حق أو باطل لا تمتنع على من أرادها لأحدهما أو لهما جميعًا.
قلنا: لولا أن ذلك على وجهه الذي عرفتَ، لما صار أمر القرآن إلى أكثر مما ينتهي إليه أمر كل كتاب في الأرض؛ بل لما كان له في أولئك العرب أمر ألبتة؛ لأنهم قوم أميون، قد تأثَّلت فيهم طباع هذه الأمية، وكان لهم الشيءُ الكثير من العادات والأخبار والتواريخ، وبينهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ثم هم لم يعدموا الحكماء من خطبائهم وشعرائهم ومَن جَنحَ إلى التألُّه منهم: كأُمية بن أبي الصلت وقُسِّ بن ساعدة، وغيرهما.
وما جاءهم القرآن بشيء لا يفهمونه، ولا يُثْبتون معناه على مقدار ما يفهمون، ولا كان هذا القرآن كتاب سياسة ولا نظام دولة، ولو كان أمرًا من ذلك ما حفلوا به؛ ولا استدعى هو منهم الإجابة؛ لأن لهم مَنزَعًا في الحرية لم تغلبهم عليه دولة من دول الأرض، ولا أفلح في ذلك من حاوله من ملوك هذه الدولة في الأكاسرة والقياصرة والتبابعة؛ بل خُلقوا عربًا يُشرِقون ويغرِبون مع الشمس حيث أرادوا وحيث ارتادوا؛ وهم على ذلك لم يجمعهم ولم يخرجهم إلى الدنيا ولم يقلبهم على تصاريف الأمور غير القرآن.
فلو أن هذا القرآن غير فصيح، أو كانت فصاحته غير معجزة في أساليبها التي ألقيت إليهم، لما نال منهم على الدهر منالًا، ولخلا منه موضعه الذي هو فيه، ثم لكانت سبيله بينهم سبيل القصائد والخطب والأقاصيص، وهو لم يخرج عن كونه في الجملة كأنه موجود فيهم بأكثر معانيه، قبل أن يوجد بألفاظه وأساليبه، ثم لنقضوه كلمة كلمة، وآية آية، دون أن تتخاذل أرواحُهم، أو تتراجع طباعهم، ولكان لهم وله شأن غير ما عُرف؛ ولكن الله بالغ أمرِه، وكان أمرُ الله قدَرًا مقدورًا.
وقد أومأنا في بعض ما سلف إلى أن هذا القرآن يكبر أن يكون حيًّا بروح عصره الذي أُنزل فيه، فلا يستطيع من لا يقول بإعجازه أن يقصره على زمن الجاهلية أو يتعلل في ذلك، وهو بعدُ من الإحكام والسمو وشرف الغاية وحسن المطابقة بحيث تتعرف منه روح كل أمة قد فرعت الأمم، واستولت على الأمد التاريخي، ونالت ما لا ينال إلا مع بسطة في العلم، وزيادة في المعرفة بوجوه العمل، وفضل من القوة، ومع كمال المنزلة في كل ذلك وأشباهه من مقوِّمات الأمة. فذلك ما علمتَ.
وما عهدنا رجلًا من عظماء التاريخ قد أهاب بأمة طبيعية كالعرب، ذات بأس وصرامة وحَمِيَّة وحفاظ وذات خيال وتصور — يدعوها أن تخلع نفسها مما هي فيه وأن تضع أعناقها للحق الذي لم تألفه حقًّا، وأن تعطيه مع ذلك محض ضمائرها، وتسوِّغه تاريخها وعاداتها وما هو أكبر من تاريخها وعاداتها! وهم لا يرونه في ذلك إلا مسخوطَ الرأي ذاهب الوهم، بعيدًا منهم ومن نفسه ومن الحقيقة جميعًا، ولا يرون من أمره ذلك إلا قلة وضرعًا وهوانًا واستخفافًا وإن كانوا يعرفونه بحسن الخلق وصفاء الذمة وتخشُّع السمت، ويعرفون أنه لا يريد ملكًا ولا يبغي دولة ولا يتصنع لحدث من الأحداث السياسية ولا يهتبل غرة ذاهلة ولا يستعد لنهزة سانحة وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ.
ثم يكون مع هذا كله من فعله وفعلهم أن يثوب إليه الأمر ويستوسق على ما أراد، وأن تعطيه تلك الأمة عن يَدٍ وهي صاغرة للحق وتبذل نصرها له بعد التخذيل عنه، وتسكن إليه بعواطفها المستنفَرة وتعطفَ عليه بقلوبها الجامحة، وهو الراغب عن سننهم، والمسفِّهُ لأحلامهم، والطاعنُ عليهم وعلى آبائهم، والمفارق لشرائعهم وعاداتهم، وهو الذي خرج من الأمة أولًا، ثم أخرج الأمة كلها من نفسها آخرًا كما اتفق للنبي ﷺ.
ما عهدنا ذلك، ولا عهدنا أن الأمم تخرج من طبائعها النفسية وتستقيم لمن يلتوي لها مثل هذا الالتواء، وتدخل في أمره، وتثبت على طاعته ومحبته وهو أضعف ناصرًا وأقل عددًا؛ إلا أن يغلبها على أنفسها، ويمتلك خيالها، ويستبدَّ بتصورها؛ وكيف له أن يغلب على النفس بتنفيرها، ويمتلك الخيال بالعنف عليه، ويستبد بالتصور وهو يسترذله؛ ومن أين له ذلك إلا أن يأتي الفطرة التي هي أساس هذه كلها، فيملكها، ثم يصوغها، ثم يصرفها، فإن الذي لا يدفع الطبعَ لا يدفع الرغبة، ومن لم يقُد الأمة من رغائبها لم يقُد في زمامه غير نفسه، وإن كان بعد ذلك من كان، وإن جَهَدَ وإن بالغ!
وليت شعري ما هو أمر المعجز في العقل، إن لم يكن هذا من أمره؟ ذَٰلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ الله هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ.
التحدي والمعارضة
وهذا أمر ثابت ليس فيه منازعة ولا فساد ولا التواء، ولم يظهر في أمة ظهورَه في جاهلية العرب الأولى قبل الإسلام، وفي جاهليتهم الثانية من بعده، حين استفحل أمر الفِرق الإسلامية واستحرَّ الجدالُ بينهم، فأفسدوا عقولهم وأسقطوا مروءتهم إلا خَواصَّ، واقتحموا تلك الخصومات حتى يَبس ما بين بعضهم إلى بعض، وإن كان ليس بينهم إلا الدينُ والعقل.
فجاء القرآن الكريم أفصح كلام وأبلغَه لفظًا وأسلوبًا ومعنى؛ ليجد السبيل إلى امتلاك الوحدة العربية التي كانت معقودة بالألسنة يومئذ وهو متى امتلكها استطاع أن يصرفها، وأن يحدث منها، وكانت رأسَ أمره وقِوَامَ تدبيره؛ إذ هي بصبغتها العقلية ومعناها النفسي؛ وهو لا ينتهي إلى هذه الوحدة ولا يستولي عليها إلا إذا كان أقوى منها فبما هي قوية به، بحيث يَشعر أهلها بالعجز والضعف والاضطراب، شعورًا لا حيلة فيه للخديعة والتلبيس على النفس والتضريب بين الشك واليقين.
ومن طباع النفس التي جُبِلت عليها، أنها متى خُذلت وكان خذلانُها من قِبَل ما تعده أكبر فخرها وأجملَ صنعِها وأعظمَ همها وأصابها الوَهن في ذلك، وضربها الخذلانُ باليأس، فقلما تنفعها نافعة بعد ذلك أو تجزئُها قوة أخرى؛ وقلما تصنع شيئًا دون التراجع والاسترسال فيما انحدرت إليه ومجاوَزةِ ما لا تستطيع إلى ما تستطيع.
ونزل القرآن على الوجه الذي بيناه، فظنه العرب أول وهلة من كلام النبي ﷺ وروحوا عن قلوبهم بانتظار ما أمَّلوا أن يَطَّلِعوا عليه في آياته البيِّنات، كما يعتري الطبع الإنساني من الفترة بعد الاستمرار، والتراجع بعد الاستقرار، ومن اضطراب القوة البيانية بعد إمعانها، وجماحِها الذي لا بد منه بعد إذعانها، ثم ما هو في طبع كل بليغ من الاختلاف في درجات البلاغة علوًّا ونزولًا، على حسب ما لا بد منه في اختلاف المعاني، وتباين الأحوال النفسية المجتمعة عليها، والتفاوت في أغراضها وطرق أدائها، مما ينقسم إليه الخطابُ ويتصرف القول فيه. ومروا ينتظرون وهم مُعدون له التكذيب، متربصون به حالةً من تلك الأحوال، فإذا هو قبيلٌ غير قبيل الكلام، وطبعٌ غيرُ طبع الأجسام، وديباجة كالسماء في استوائها: لا وَهْيٌ ولا صدْع، وإذا عصمة قوية، وجمرَة متوقدة، وأمرٌ فوق الأمر وكلام يحارون فيه بدءًا وعاقبة.
وأمر العادة مما تُخدع به النفس عن الحق؛ لأنها أعراقٌ ضاربة في القلوب، ملتفة بالطبائع، وخاصةً في قوم كالعرب كان شأن الماضي عندهم على ما رأيت في موضع سَلَف، وكانت العادة عندهم دينًا حين لم يكن الدين إلا عادة.
- (١)
فمن أولئك مسيلمة بن حبيب الكذاب، تنبأ باليمامة في بني حنيفة على عهد رسول الله ﷺ بعد أن وفد عليه وأسلم، كان يصانع كل إنسان ويتألَّفه، ولا يبالي أن يطَّلع أحد منه على قبيح؛ لأنه إنما يتخذ النبوة سببًا إلى الملك، حتى عرض على رسول الله ﷺ أن يشركه في الأمر أو يجعله له من بعده، وكتب إليه في سنة عشر للهجرة: «أما بعد: فإني قد شوركت في الأرض معك، وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصفها، ولكن قريشًا قوم يعتدون!»
وكان من المسلمين رجلٌ يقال له نهار الرَّجَّال١٣٩ قد هاجر إلى النبي ﷺ وقرأ القرآن وفقُهَ في الدين، فبعثه معلمًا لأهل اليمامة وليشغب على مسيلمة وليشدَّ من أمر المسلمين، فكان أعظم فتنة على بني حنيفة من مسيلمة؛ إذ شهد أنه سمع محمدًا ﷺ يقول إن مسيلمة قد أُشرِك معه! فصدقوه واستجابوا له؛ وأمروه بمكاتبة النبي ﷺ ووعدوه — إن هو لم يقبل — أن يعينوه عليه، فكان الرجَّال لا يقول شيئًا إلا تابعه مسيلمة؛ وكان ينتهي إلى أمره ويستعين به على تعرُّف أحوال رسول الله ﷺ ومعجزاته في العرب، ليحكيه ويتشبه به، وما قط عارضه في شيء إلا انقلبت الآية معه وأخزاه الله، وفي تاريخ الطبري من ذلك أشياء لا حاجة لنا بها صحَّت أو لم تصح.وقد زعم مسيلمة أن له قرآنًا نزل عليه من السماء، ويأتيه به ملك يسمى رحمن، بيد أن قرآنه إنما كان فصولًا وجملًا، بعضها مما يُرسله، وبعضها مما يترسل به في أمر إن عرض له، وحادثة إن اتفقت، ورأي إذا سئل فيه، وكلها ضروب من الحماقة يعارض بها أوزان القرآن في تراكيبه، ويجنح في أكثرها إلى سجع الكهان؛ لأنه كان يحسب النبوة ضربًا من الكهانة، فيسجع كما يسجعون، وقد مضى العرب على أن يسمعوا للكهان ويطيعوا، ووقر ذلك في أنفسهم واستناموا إليه، ولم يجدوا كلام الكهان إلا سجعًا،١٤٠ فكانت هذه بعض ما استدرجهم به مسيلمة، وتأتَّى إلى أنفسهم منها.١٤١ومن قرآنه الذي زعمه قوله — أخزاه الله: والمُبْذِرات زرعًا، والحاصدات حصدًا، والذاريات قمحًا، والطاحنات طحنًا، والعاجنات عجنًا، والخابزات خبزًا، والثاردات ثردًا، واللاقمات لقمًا، إهالة وسمنًا. لقد فضلتم على أهل الوبر، وما سبقكم أهل المدر، ريفَكم فامنعوه، والمعترَّ فآووه والباغي فناوئوه.
وقوله: والشاء وألوانها، وأعجُبِها السود وألبانها، والشاة السوداء، واللبن الأبيض، إنه لعجب محض، وقد حرم المَذق فما لكم لا تمجعون.١٤٢وقوله: الفيل ما الفيل، وما أدراك ما الفيل، له ذنب وبيل، وخرطوم طويل.
وقال الجاحظ في «الحيوان» عند القول في الضفدع: ولا أدري ما هيَّج مسيلمة على ذكرها، ولم ساء رأيه فيها حتى جعل بزعمه فيما نزل عليه من قرآنه: يا ضفدع بنت ضفدعين، نقِّي ما تنقِّين. نصفك في الماء ونصفك في الطين، لا الماء تكدِّرين، ولا الشارب تمنعين.
وكل كلامه على هذا النمط واهٍ سخيف لا ينهض ولا يتماسك؛ بل هو مضطرب النسج مبتذل المعنى مستهلَكٌ من جهتيه، وما كان الرجل من السخف بحيث ترى، ولا من الجهل بمعاني الكلام وسوء البَصَر بمواضعه، ولكن لذلك سببًا نحن ذاكروه متى انتهى بنا الكلام إلى موضعه الذي هو أملك به.
- (٢)
ومنهم عَبْهَلَةُ بن كعب الذي يقال له الأسودُ العنسي، يلقَّب ذا الخمار؛ لأنه كان يقول: يأتيني ذو خمار، وكان رجلًا فصيحًا معروفًا بالكهانة والسجع والخطابة والشعر والنَّسَب؛ وقد تنبَّأ على عهد النبي ﷺ وخرج باليمن، ولا يذكرون له قرآنًا غير أنه كان يزعم أن الوحي ينزل عليه، وكان إذا ذهب مذهب التنبؤ أكبَّ ثم رفع رأسه وقال: يقول لي كيت وكيت، يعني شيطانه، وهذا الأسود كان جبارًا، وقتل قبل وفاة رسول الله ﷺ بيوم وليلة.
- (٣) وطليحة بن خويلد الأسدي، وكان من أشجع العرب، يُعَدُّ بألف فارس، قدم على النبي ﷺ في وفد أسد بن خزيمة سنة تسع فأسلموا، ثم لما رجعوا تنبأ طليحة، وعظم أمره بعد أن توفي رسول الله ﷺ، وكان يزعم أن ذا النون يأتيه بالوحي — وقيل بل يزعمه جبريل — ولكنه لم يدَّع لنفسه قرآنً؛: لأن قومه من الفصحاء، ولم يتابعوه إلا عصبية وطلبًا لأمر يحسبونه كائنًا في العرب من غلبة بعضهم على جماعتهم، وإنَّما كانت كلمات يزعم أنها أنزلت عليه، ولم نظفر منها بغير هذه الكلمة، رأيناها في معجم البلدان لياقوت، وهي قوله: إن الله لا يصنع بتعفير وجوهكم وقبح أدباركم شيئًا، فاذكروا الله قيامًا١٤٣ فإن الرغوة فوق الصَّريح.١٤٤وقد بعث أبو بكر (رضي الله عنه) خالد بن الوليد لقتاله، وكان مع طليحة عُيَيْنَة بن حصن في سبعمائة من بني فَزَارة. فلما التقى الجمعان تَزَمَّلَ طليحة في كساء له ينتظر بزعمه الوحي وطال ذلك منه، وألح المسلمون على أصحابه بالسيف، فقال عيينة: هل أتاك بعدُ؟ قال طليحة من تحت الكساء: لا والله ما جاء بعدُ! فأعاد إليه مرتين، كل ذلك يقول: لا. فقال عيينة: لقد تركك أحوجَ ما كنت إليه! فقال طليحة: قاتلوا عن أحسابكم، فأما دينٌ فلا دين!١٤٥ ثم انهزم ولحق بنواحي الشام، وأسلم بعد ذلك، وكان له في واقعة القادسية بلاء حسن.
- (٤) وسجاح بنتُ الحارث بن سويد التميمية، وكانت في بني تغلب «وهم أخوالها» راسخة في النصرانية، قد علمت من علمهم وتنبأت فيهم بعد وفاة رسول الله ﷺ في خلافة أبي بكر، فاستجاب لها بعضهم وترك التنصر، ومالأها جماعة من رؤساء القبائل، وكانت تقول لهم: إنما أنا امرأة من بني يربوع، وإن كان مُلكٌ فالملك ملككم، وقد خرجت بهم تريد غزو أبي بكر «رضي الله عنه»، ومرت تقاتل بعض القبائل وتوادع بعضها، وكان أمر مسيلمة الكذاب قد غَلُظَ واشتدت شوكة أهل اليمامة، فنَهَدَتْ له بجمعها؛ وخافها مسيلمة، ثم اجتمعا وعرض عليها أن يتزوَّجها. قال: «ليأكلَ بقومه وقومها العرب» فأجابت، وانصرفت إلى قومها؛ فقالوا: ما عندك؟ قالت: كان على الحق فاتبعته فتزوجتُه١٤٦ ولم تدَّع قرآنًا، وإنَّما كانت تزعم أنه يوحى إليها بما تأمر وتسجع في ذلك سجعًا، كقولها حين أرادت مسيلمة: عليكم باليمامة، ودُفُّوا دَفيفَ الحمامة، فإنها غزوة صُرامة، لا يلحقكم بعدما ملامة.وفي رواية صاحب الأغاني:١٤٧ أنه كان فيما ادعت، أنه أنزل عليها: يا أيها المؤمنون المتَّقون، لنا نصف الأرض ولقريش نصفها ولكن قريشًا قوم يبغون، وهي كلمة مسيلمة، وقد مرت آنفًا.
ثم أسلمت هذه المرأة بعدُ وحَسُن إسلامها، وما كانت نبوتها إلا زفافًا على مسيلمة، وما كانت هي إلا امرأة!
- (٥)
والنَّضْر بن الحارث، وهذا ومن يجيء بعده لم يدَّعوا النبوة ولا الوحي، ولكنهم زعموا أنهم يعارضون القرآن، فلفق النضر هذا شيئًا من أخبار الفرس وملوك العجم، ومَخْرق بذلك لأنه جاء بأخبار يجهلها العرب. ولم يحفل أحد من المؤرخين ولا الأدباء بهذا الرجل؛ لحماقته فيما زعم، وإنَّما ذكرناه نحن إذ كنا لا نرى الباقين أعقل منه!
- (٦) وابن المقفَّع الكاتب البليغ المشهور: زعموا أنه اشتغل بمعارضة القرآن مدة ثم مزَّق ما جمع واستحيا لنفسه من إظهاره.١٤٨وهذا عندنا إنما هو تصحيح من بعض العلماء لما تزعمه الملحِدَة من أن كتاب الدرة اليتيمة١٤٩ لابن المقفَّع هو في معارضة القرآن، فكأن الكذب لا يُدفع إلا بالكذب، وإذا قال هؤلاء إن الرجل قد عارض وأظهر كلامه ثقة منه بقوته وفصاحته، وأنه في ذلك من وزن القرآن وطبقته، وابن المقفع هو مَن هو في هذا الأمر، قال أولئك: بل عارض ومزق واستحيا لنفسه!
أما نحن فنقول: إن الروايتين مكذوبتان جميعًا، وإن ابن المقفع من أبصر الناس باستحالة المعارضة؛ لا لشيء من الأشياء إلا لأنه من أبلغ الناس، وإذا قيل لك إن فلانًا يزعم إمكان المعارضة ويحتجُّ لذلك وينازع فيه، فاعلم أن فلانًا هذا في الصناعة أحد رجلين اثنين: إما جاهلٌ يصدق في نفسه، وإما عالم يكذب على الناس؛ ولن يكون «فلانٌ» ثالثَ ثلاثة!
وإنما نُسبت المعارضة لابن المقفع دون غيره من بلغاء الناس؛ لأن فتنة الفرق الملحدة إنما كانت بعده، وكان البلغاء كافة لا يمترون في إعجاز القرآن وإن اختلفوا في وجه إعجازه؛ ثم كان ابن المقفع متهمًا عند الناس في دينه فدفع بعض ذلك إلى بعض، وتهيأت النسبة من الجملة.
ولو كانت الزندقة فاشية أيام عبد الحميد الكاتب، وكان متهمًا بها أو كان له عرقٌ في المجوسية، لما أخلَتهُ إحدى الروايات من زعم المعارضة: لا لأنه زنديق، ولكن لأنه بليغ يصلح دليلًا للزنادقة.١٥٠ - (٧) وأبو الحسين أحمد بن يحيى المعروف بابن الراوندي١٥٣ وكان رجلًا غلبت عليه شِقوة الكلام؛ فبسط لسانه في مناقضة الشريعة، وذهب يزعم ويفتري، وليس أدل على جهله وفساد قياسه وأنه يمضي في قضية لا برهان له بها — من قوله في كتاب «الفريد»:١٥٤ «إن المسلمين احتجوا لنبوة نبيهم بالقرآن الذي تحدَّى به النبي ﷺ فلم تقدر العرب على معارضته؛ فيقال لهم: أخبرونا لو ادعى مدَّعٍ لمن تقدم من الفلاسفة مثل دعواكم في القرآن فقال: الدليل على صدق بطليموس أو إقليدس، أن إقليدس ادعى أن الخلق يعجزون عن أن يأتوا بمثل كتابه، أكانت نبوته تثبت؟»قلنا: فاعجب لهذا الجهل الذي يكون قياسًا من أقيسة العلم، واعجب «للكلام» الذي يقال فيه: إن هذا كتاب وذلك كتاب فكلاهما كتاب؛ ولما كان كذلك فأحدهما مثل الآخر؛ ولما كان أحدهما معجزًا فالثاني معجز لا محالة، وما ثبت لصاحب الأول يثبت بالطبع لصاحب الثاني، وما دمنا نعرف أن صاحب الكتاب الثاني لم تثبت له نبوة فنبوة صاحب الأول لا تثبت. لعمري إن مثل هذه الأقيسة التي يحسبها ابن الراوندي سبيلًا من الحجة وبابًا من البرهان لهي في حقيقة العلم كأشدِّ هَذَيان عرفه الأطباء قط؛ وإلا فأين كتابٌ من كتاب؟١٥٥ وأين وضعٌ من وضع؟ وأين قومٌ من قوم؟ وأين رجلٌ من رجل؟ ولو أن الإعجاز كان في ورق القرآن وفيما يُخطُّ عليه، لكان كل كتاب في الأرض ككل كتاب في الأرض، ولاطَّرد ذلك القياسُ كله على ما وصفه كما يطَّرد القياس عينه في قولنا: إن كل حمار يتنفس، وابن الراوندي يتنفس، فابن الراوندي يكون ماذا؟ ولو أن مثل هذه السخافة تسمى علمًا تقوم به الحجة فيما يُحتج له ويبطل به البرهان فيما يُحتج عليه، لما بقيت في الأرض حقيقة صريحة ولا حقٌّ معروف ولا شيءٌ يسمى باسمه، ولكان هذا اللسان المتكلم قد عبدته أمم كثيرة؛ لأن فيه قوة من قوى الخلق، ولأنك لا تجد سخيفًا من سخفاء المتكلمين الذين يعتدُّون مثل ذلك علمًا — كابن الراوندي مثلًا — إلا وجدته قد أمعن في سخفه فلا تدري أجعل إلهه هواه، أم جعل إلهه في فمه.١٥٦وقد قيل إن هذا الرجل عارض القرآن بكتاب سماه «التاج»، ولم نقف على شيء منه في كتاب من الكتب، مع أن أبا الفداء نقل في تاريخه أن العلماء قد أجابوا على كل ما قاله من معارضة القرآن وغيرها من «كفرياته»، وبينوا وجه فساد ذلك بالحجج البالغة، والذي نظنه أن كتاب ابن الراوندي إنما هو في الاعتراض على القرآن ومعارضته على هذا الوجه من المناقضة، كما صنع في سائر كتبه؛ كالفريد، والزمرُّدة، وقضيب الذهب، والمَرْجان١٥٧ فإنها فيما وصفت به ظلمات بعضها فوق بعض، وكلها اعتراض على الشريعة والنبوة والقرآن بمثل تلك السخافة التي لا يبعث عليها عقل صحيح، ولا يقيم وزنها علم راجح.١٥٨
وقد ذكر المعرِّي هذه الكتبَ في «رسالة الغفران»، ووفى الرجل حسابه عليها، وبصق على كتبه مقدار دلوٍ من السَّجع!، وناهيك من سجع المعري الذي يلعن باللفظ قبل أن يلعن بالمعنى!
ومما قاله في التاج: وأما تاجه فلا يصلح أن يكون نعلًا. وهل تاجه إلا كما قالت الكاهنة: أُفّ وتُفّ١٥٩ وجَورب وخف. قيل: وما جورب وخُف؟ قالت: واديان بجهنم!وهذا يشير إلى أن الكتاب كذب واختلاق وصرفٌ لحقائق الكلام كما فعلت الكاهنة؛ وإلا فلو كانت معارضته لنقض التحدي وقد زعم أنه جاء بمثله لما خلت كتب التاريخ والأدب والكلام من الإشارة إلى بعض كلامه في المعارضة، كما أصبنا من ذلك لغيره.
- (٨)
وشاعر الإسلام أبو الطيب المتنبي المتوفى قتيلًا سنة ٣٥٤ﻫ، فقد ادعى النبوَّة في حِدْثان أمره، وكان ذلك في بادية السَّماوة «بين الكوفة والشام»، وتبعه خلق كثير من بني كلب وغيرهم، وكان يُمَخْرق على الناس بأشياء وصف المعري بعضها في رسالة الغفران، وقيل: إنه تلا على البوادي كلامًا زعم أنه قرآن أُنزل عليه يحكون منه سورًا كثيرة، قال علي بن حامد: نسخت واحدة منها فضاعت مني وبقي في حفظي من أولها: «والنجم السيَّار، والفلك الدوَّار، والليل والنهار، إن الكافر لفي أخطار. امض على سَنَنك، واقفُ أثر من قبلك من المرسلين؛ فإن الله قامعٌ بك زيغَ من ألحد في دينه، وضل عن سبيله.
ونحن لا نمنع أن يكون للرجل شيء من هذا ومثله، وإن لم يكن في طبقة شعره ولا في وزن ما يؤثر عنه من فصول النثر، كقوله وكتب به إلى صديق له في مصر كان يغشاه في علته حين مرض، فلما أبَلَّ انقطع عنه فكتب إليه: «وصلتَني — وصلك الله — مبلًّا؛ وقطعتني مُبِلًّا؛ فإن رأيت أن لا تحبِّبَ العلةَ إليَّ ولا تكدِّر الصحة عليَّ، فعلتَ إن شاء الله.» فإن هذا وشبهه إنما هو بعض شعره منثورًا، وهي المعاني التي تقع في خواطر الشعراء قبل النظم، وما من شاعر بليغ إلا هو يُحسن أن يقول هذا وأحسن منه، وإن كان فيما وراء ذلك من صناعة الترسل ودواوين الكتابة لا يغني قليلًا ولا كثيرًا.
ولم يكن المتنبي كاتبًا، ولا بصيرًا بأساليب الكتابة وصناعتها ووجوهها، ولا هو عربيٌّ قُحٌّ من فصحاء البادية، وإن كان في حفظ اللغة ما هو؛ فليس يمنع سقوط ذلك الكلام الذي نُسبَ إليه من أن تكون نسبته إليه صحيحة؛ لأنه لو أراده في معارضة القرآن ما جاء بأبلغ منه؛ وما المتنبي بأفصح عربيةً من العنسي ولا مسيلمة، وقد كان في قوم أجلاف من أهل البادية، اجتمعت لهم رخاوة الطباع، واضطراب الألسنة، فلا تعرفهم من صميم الفصحاء بطبيعة أرضهم، ولا تعرفهم في زمن الفصاحة الخالصة؛ لأنهم في القرن الرابع، وإذا كانت حماقات مسيلمة قد جازت على أهل اليمامة والقرآنُ لم يزل غضًّا طريًّا ونور الوحي مشرق على الأرض بعد، فكيف بالمتنبي في بادية السماوة وقوم من بني كلب؟! وهل عرف الناس نبيًّا بغير وحي ولا قرآن؟
- (٩)
وأبو العلاء المعرِّي المتوفى سنة ٤٤٩ﻫ، فقد زعم بعضهم أنه عارَض القرآن بكتاب سماه: «الفصول والغايات، في مجاراة السور والآيات»، وأنه قيل له: ما هذا إلا جيد، غير أنه ليس عليه طلاوة القرآن! فقال: حتى تصقله الألسن في المحاريب أربعمائة سنة، وعند ذلك انظروا كيف يكون.
وقيل: إن من كتابه هذا قوله: «أقسم بخالق الخيل، والريح الهابَّة بلَيل، بين الشرط ومطالع سُهَيل، إن الكافر لطويل الويل وإن العمر لمكفوف الذيل؛ تَعدَّ مدارج السيل؛ وطالع التوبة من قُبَيل، تنجُ وما إخالك بناج.»
فلفظة «ناج» هي الغاية، وما قبلها فصل مسجوع، فيبتدئ بالفصل ثم ينتهي إلى الغاية، وهذا كما ترى عكس الفواصل في القرآن الكريم؛ لأنها تأتي خواتم لآياته، فكأن المعارضة نقضٌ للوضع ومجاراة للموضوع، وكأنها صنعة وطبع.
وتلك لا ريب فرية على المعري أراده بها عدو حاذق؛ لأن الرجل أبصر بنفسه وبطبقة الكلام الذي يعارضه، وما نراه إلا أعرف الناس باضطراب أسلوبه والتواء مذهبه، وأن البلاغة لا تكون مراغمة للغة، واغتصابًا لألفاظها، وتوطينًا لغرائبها كما يصنع؛ وأن الفصاحة شيء غير صلابة الحنجرة، وإفاضة الإملاء، ودفع الكلمة في قفا الكلمة حتى يخرج الأسلوب متعثرًا يسقط بعضُه في جهة وينهض بعضه في جهة، ويستقيم من ناحية ويلتوي من ناحية؛ وأنه عسى أن لا يكون في اضطراب النسق وتوعر اللفظ واستهلاك المعنى وفساد المذهب الكتابي وضعف الطريقة البيانية شرٌّ من هذا كله، وما أسلوب المعري إلا من هذا كله.
على أن المعري — رحمه الله — قد أثبت إعجاز القرآن فيما أنكر من رسالته على ابن الراوندي، فقال: «وأجمعَ ملحدٌ ومهتدي، وناكبٌ عن المحجة ومقتدي، أن هذا الكتاب الذي جاء به محمد ﷺ كتاب بَهرَ بالإعجاز، ولقي عدوه بالإرجاز، ما حُذِيَ على مثال، ولا أشبه غريبَ الأمثال، ما هو من القصيد الموزون، ولا في الرَّجز من سَهْل وحُزون، ولا شاكل خطابة العرب ولا سجع الكهنة ذوي الأرَب، وإن الآية منه أو بعض الآية لتعترض في أفصح كلمٍ يقدر عليه المخلوقون فتكون فيه كالشهاب المتلألئ في جنح غسق، والزهرة البادية في جدوب ذات نَسَق.» ا.ﻫ.
وبعد، فهذا الذي وقَّفناك عليه هو كل ما صدقوا وكذبوا فيه من خبر المعارضة؛ أما إن القرآن الكريم لا يُعارَض بمثل فصاحته وتركيبه، وبمثل ما احتواه، ولو اجتمعت الإنس بما يعرفونه، وأمدَّهم الجن بما لا يعرفونه، وكان بعضهم لبعض ظهيرًا فهو ما نبسطه فيما يلي، وذلك هو الحق الذي لا جمجمة فيه، ولا يستَعْجِم على كل بليغ له بصرٌ بمذاهب العرب في لغتها وحكمة مذاهبها في أساليب هذه اللغة، وقد تفقَّه بالبحث في ذلك والكشف عن دقائقه، وكان يجري من هذه الصناعة البيانية على أصلٍ ويرجع فيها إلى طبع.
وإنَّ شعور أبلغ الناس بضعفه عن أسلوب القرآن؛ ليكون على مقدار شعوره من نفسه بقوة الطبع، واستفاضة المادة، وتمكنه من فنون القول، وتقدمه في مذاهب البيان؛ فكلما تناهى في علمه تناهى كذلك في علمه بالعجز، وما أهل الأرض جميعًا في ذلك إلا كنفس واحدة وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
(١٩) أسلوبُ القرآن
فلما ورد عليهم أسلوب القرآن رأوا ألفاظهم بأعيانها متساوقة فيما ألفوه من طُرُق الخطاب وألوان المنطق. ليس في ذلك إعناتٌ ولا معاياة، غير أنهم ورد عليهم من طرق نظمه، ووجوه تركيبه، ونسق حروفه في كلماتها، وكلماته في جملها، ونسق هذه الجمل في جملته — ما أذهلهم عن أنفسهم، من هيبة رائعة ورَوْعة مَخُوفة، وخوف تقشعرُّ منه الجلود؛ حتى أحسُّوا بضعف الفطرة القوية، وتخلُّف الملكة المستحكمة؛ ورأى بلغاؤهم أنه جنس من الكلام غيرَ ما هم فيه، وأن هذا التركيب هو روحُ الفطرة اللغوية فيهم، وأنه لا سبيل إلى صرفه عن نفس أحد من العرب أو اعتراض مساغه إلى هذه النفس؛ إذ هو وجه الكمال اللغوي الذي عرف أرواحهم واطَّلع على قلوبهم؛ بل هو السر الذي يفشي بينهم نفسَه، وإن كتموه، ويظهر على ألسنتهم ويتبين في وجوههم وينتهي إلى حيث ينتهي الشعور والحس، فليس للخَلَابة أو المؤاربة وجهٌ في نقض تأثيره وإزالته عن موضعه، ومن استقبل ذلك بكلامه أو أراده بأي حيلة، فقد استقبل رد النفوس عن أهوائها، ورَدْعَ القلوبِ عن محبتها، وحاول معارضة أقوى ما في النفس بأضعف ما فيها؛ وهذا شيء — فيما يعرفونه — لا يستقيم لامرئ من الناس ببيان ولا عصبية ولا هوًى ولا شيء من هذه الفروع النفسية، وليس إلا أن ينقُضَ الفطرة فيستقيم له، وما في نقض هذه الفطرة إلا أن يبدأ الخلقَ فيكون إلهًا، وهذا كما ترى فوق أن يسمَّى أو يُعقل.
وقد استَيْقَنَ بلغاء العرب كلَّ ذلك فاستيأسوا من حق المعارضة؛ إذ وجدوا من القرآن ما يغمر القوة ويحيلُ الطبعَ ويخاذل النفس مصادَمةً لا حيلةً ولا خُدْعةً، وإنما سبيلُ المعارضة الممكنة التي يُطمع فيها أن يكون لصاحبها جهة من جهات الكلام لم تؤخذ عليه، وفن من فنون المعنى لم يُستوفَ قبله، وبابٌ من أبواب الصنعة لم يُصفق من دونه، وأن تكون وجوه البيان له معرِضةً يأخذ في هذا ويعدل عن ذلك؛ حتى يستطيع أن يعارضَ الحسنة بالحسنة، ويضع الكلمة بإزاء الكلمة، ويقابل الجملة بالجملة، ثم يصير الأمر بعد ذلك إلى مقدار التأثير الذي يكون لكلامه، وإلى مبلغه في نفوس القوم؛ من تأثير الكلام الذي يعارضه.
ومذهب الحيلة على التأثير مذهب واسع لا يضيق بالبلغاء كلهم إذا هم تكافأوا في الصناعة والبصر بأسبابها؛ لأن كل واحد منهم ينتحي بكلامه جهة من جهات النفس، ويأخذ في سبيل من طباعها وعاداتها، وهو لا بد واجد في كلام غيره موضعَ فترةٍ من الطبع أو غفلةٍ من النفس، أو أثرًا من الاستكراه يبعثُ عليه باعثٌ من أمور كثيرة تعتري البلغاء في صناعتهم، فيضطرب لها بعض كلامهم، ويضعف بعض معانيهم، ويقع التفاوتُ في الأسلوب الواحد ضعفًا وقوة. فإذا هو أصاب ذلك فعسى أن يقابله من نفسه بطبع قوي ونفس مجتمعة، ووزن راجح، أو شيء من أشباهها، فيكونَ قد ظفر بمدخل يسلك منه إلى المعارضة، ويُظهر به فضل كلام على كلام، ومقدار طبع من طبع، وقوة نفس من نفس، ولولا ذلك وأنه من طباع البلغاء؛ ومما لا يسلم منه ذو طبع، لما أمكن أن يتناقض شاعران أو يتساجل راجزان، أو يتراسل كاتبان، أو يتقارض خطيبان، أو يواجه كلام كلامًا في معرض المقابلة، أو يرجحَ به في ميزان المعادلة.
فأما أن يكون الكلام الذي يقصد إليه بالمعارضة كهذا القرآن: أُحكم دقيقه وجليلُه، وامتنع كثيره وقليله، وأخذ منافذ الصنعة كلها، واستبرأ المعنى الذي هو فيه إلى غايته، وقطع على صاحبه أمر الخيار في الوجه الذي يعارضه منه، وكان من وراء ذلك بابًا واحدًا في امتناعه، لا موضع فيه للتصفح، ولا مغمز للثِّقاف، ولا مورد للمقالة؛ وقد توثَّقَت علائقه، وترادفت حقائقه، وتواردت على ذلك دقائقه: ثم كانت جملته قد أحرزت عناصر الفطرة البيانية، وجمعت فنونها، واحتوت من الكمال الفني ما كان إحساسًا صِرفًا في نفوس أهله، يشعرون به وجدانًا، ولا يقدرون على إظهاره بيانًا — فلذلك مما لا سبيل للنفس إلى المكابرة فيه بحالٍ من الأحوال، أو ابتغائه بالمعارضة ومطاولته بالقدرة على مثله؛ إذ هو بطبيعته المعجزةِ لا ترى فيه النفسُ إلا مثالًا للعلم تعرف به مقدار ما انتهت إليه من إحكام العمل.
وهذا هو سبيل آثار النوابغ المُلهَمين الذين انفرد كل منهم بحيِّزه من الفن؛ فإن المعجز من هذه الآثار — إذا بلغ أن يُتجوَّز في العبارة عنه بهذا الوصف — لا يكون إعجازه إلا على قدر ما يحتوي من كمال الفطرة الفنية، فتتمثل أنت منه ما كان في النفس إحساسًا صِرْفًا، وأملًا محضًا، ثم يتصفَّحُهُ من يريد معارضتَهُ فيراه بعينه ماثلًا مصوَّرًا حتى لا يشك في إمكانه ومطاوعته، ويبتغيه حين يبتغيه فإذا هو قد عاد في نفسه إحساسًا وأملًا لا سبيل عليهما للقدرة الفنية.
وهذا هو معنى العجز، وذلك هو معنى الإعجاز، ولا يزال يتفق منه في أعمال الناس على حساب ما يكون من اختلاف درجاتهم ومبلغ طاقتهم؛ وما من ذي فن نابغ إلا وأنت واجد حُسن عمله دون أمله هو في هذا الحسن، ودون إحساسه بهذا الأمل؛ حتى إنك لتُعجَب بما ظهر من قدرته الفنية في عمله الذي تراه أحسنَ شيء، على حين أنه هو لا يُعجب إلا بالأصل الكامل الذي توهمه في نفسه، ووجد بيانه في خاطره، والذي لم يستطع أن يخرجه كاملًا؛ لأن من طبيعة الإحساس أن يظهر فيه كمال النفس ما دام في النفس، فإذا هو انقلب في الحواس عملًا ظهر فيه نقص الحواس!
ولهذا انقطعوا عن المعارضة، مع تحدِّيهم إليها على طول المدة وانفساح الأمر وعلى كثرة التقريع، والتأنيب، وعلى تصغير شأنهم وتحقيرهم، وذلك بالنزول عن التحدي بمثل القرآن كله، إلى عشر سوَر مثله، إلى عشرٍ مُفتَرَيات لا حقيقة فيها، إلى سورة واحدة من مثله، ولو هم أرادوا هذه السورة الواحدة ما استطاعوها؛ لأن إحساسهم منصرفٌ إلى أصل الكمال اللغوي في القرآن، مستغرِقٌ فيه، فلا يرون المعارضة تكون إلا على هذا الأصل، أو تتحقق إلا به: وهو شيء لا تناله القدرة، ولا تيسره القوة؛ لأنه على ظهوره في أسلوب القرآن، باطنٌ في أنفسهم، تقف عليه المعرفة ولا تبلغه الصفة: كالروائح والطعوم والألوان وما إليها.
فإن وُجد منهم سفيه كمسيلمة، يحمله جنون العظمة وحب الغلبة والتحمد في الناس، ثم كَدَرُ الفطرة وغِلظُ الإحساس في نفوس أتباعه — على أن يتعقب السورة أو بعض السورة بالمعارضة، لا يبالي موقع كلامه، وعلى أي جنبيه كان مصرَعُه؛ فلن يكون له مذهبٌ إلا مقابلة الكلمة بالكلمة والوزن بالوزن كما قال في معارضته: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ فقد قال: إنا أعطيناك الجماهر؛ فصل لربك وجاهر … إلى آخر ما حكوا من سخافاته وحماقاته التي التمس منها الحجة له فكانت فيها الحجةُ عليه، وأراد أن يستطيل بها فتركته مثلًا في الحماقة والسخرية؛ وسنكشف بعد عن سبب هذا الخطل في كلام مسيلمة.
لا جرَمَ كان من الرأي الفائل والمذهب الباطل قولُ أولئك الذين زعموا أن الإعجاز كان بالصَّرفة، على ما عرفت من معناها؛ وما دعاهم إلى القول بها إلا عجبهم كيف لم يأت للعرب أن يعارضوا السورةَ القصيرة والآيات القليلة مع هذا التحدي ومع هذا التقريع، وهم اللدُّ الخَصِمون، والكلام سيدُ عملهم ولهم فيه المواقف والمقامات، بيد أن أولئك لو كان لهم إحساسُ العرب أو لم يأخذوا الأمرَ على ظاهره ورده إلى أسبابه في الفطرة لرأوا أن معنى العجز هو في الكثير والقليل، فإن التحدي بالسورة الواحدة طويلةً أو قصيرة، لم يكن في أول آية نزلت من القرآن بل كان بعد سُوَرٍ كثيرة منه، وبعد أن ذهبت في العرب كلَّ مذهب؛ وهو أمر غريب في استلابِ حسِّ القوم والتأتِّي إلى تعجيزهم، فإن أعجبك شيء من سياسة البيان المعجزة واشتقاق المستحيل من الممكن؛ فذلك فليُعجبك.
وههنا معنى دقيقٌ في التحدي، ما نظن العربَ إلا وقد بلغوا منه عجبًا: وهو التكرار الذي يجيء في بعض آيات القرآن، فتختلف في طرق الأداء، وأصلُ المعنى واحد في العبارات المختلفة، كالذي يكون في بعض قَصَصِه؛ لتوكيد الزَّجْر والوعيد وبسط الموعظة وتثبيت الحجة ونحوها، أو في بعض عباراته لتحقيق النعمة وترديد المنة والتذكير بالمنعم واقتضاء شكره، إلى ما يكون من هذا الباب؛ وهو مذهبٌ للعرب معروف، ولكنهم لا يذهبون إليه إلا في ضروب من خطابهم: للتهويل والتوكيد، والتخويف والتفجُّع وما يجري مجراها من الأمور العظيمة؛ وكل ذلك مأثورٌ عنهم منصوص عليه في كثير من كتب الأدب والبلاغة.
وقد خفي هذا المعنى «التكرار» على بعض الملحدة وأشباههم ومن لا نَفَاذ لهم في أسرار العربية ومقاصد الخطاب والتأتِّي بالسياسة البيانية إلى هذه المقاصد، فزعموا به المزَاعِم السخيفة وأحالوه إلى النقص والوهن، وقالوا: إن هذا التكرار ضعفٌ وضيق، من قوة وسعة، وهو — أخزاهم الله — كان أروعَ وأبلغ وأسرى عن الفصحاء من أهل اللغة والمتصرفين فيها، ولو أعجزهم أن يجيئوا بمثله ما أعجزهم أن يعيبوه لو كان عيبًا!
ونحن فما ندري كيف نبلغ في صفة هذا الوجه المعجز الذي غاب عن العرب ولم يدركه إلا المقصودون به، وهم الذين وصفوهم بتأخر المعرفة وبلادة الذهن، وهم أحبار اليهود ورؤساؤهم وأهل العلم فيهم، وما يمكن أن يهتدي إلى هذا الوجه بليغ عربي من بلغاء ذلك العهد إلا بوحي وتوفيق من الله، فإنه في الحقيقة سرٌّ من أسرار الأدب العبراني، جرى القرآن عليه في أكثر خطابهم خاصةً؛ ليعلموا أنه وضعٌ غير إنساني، وليحسوا معنى من معاني إعجازه فيما هم بسبيله، كما أحس العرب فيما هو من أمرهم؛ إذ كان أبلغ البلاغة في الشعر العبراني القديم أن تجتمع له: رشاقة العبارة، وحسن المَعْرض، ووضوح اللفظ، وفصاحة التركيب، وإبانة المعنى، وتكرار الكلام لكل ما يفيده التكرار توكيدًا ومبالغة وإبانة وتحقيقًا ونحوها، ثم استعمالُ الترادف في اللفظ والمعنى، ومقابلة الأضداد وغيرها، مما هو في نفسه تكرارٌ آخر للمحسِّنَات اللفظية، وتحسينٌ للتكرار المعنوي.
على أن كلامنا آنفًا في عجز العرب عن معارضة السورة القصيرة من القرآن، وعدم تأَتِّيهم لذلك بالسبب الذي بيناه، لا يؤخذ منه أن غير العرب المحدثين والمولَّدين وسائر من يكونون عربًا في اللسان دون الفطرة، يستطيعون ما لم يأت لأولئك؛ إذ كانوا دونهم، ليس لهم إحساسٌ لغوي تستبدُّ به روعة الكلام وتَصْرفه بالكثير عن القليل؛ لتمثُّل الأصل اللغوي الذي ينبغي أن يكون عليه الوضع والبناء، والذي هو في نفسه حقيقة الإعجاز؛ لأنه سر التركيب والنظم. فيقال من ذلك إن المولَّدين ومَنْ في حكمهم تتهيأ لهم معارضةُ السور القصار والآيات القليلة، ويتأتَّون إلى ذلك بالصنعة وما ألفوه من إحكام الرصف وإدماج الكلام والتغلغل في طرائق الإنشاء والتوفُّر على تحسين بهجته وتزيين ديباجته، فإنهم مع هذه الوسائل كلها أبعد من العرب في أسباب العجز، وأدنى إلى التقصير، وأقربُ إلى الهُجْنة إذا هم تعاطوه؛ لأن أحدهم إذا قابل كلمات الآية أو السورة أو معانيها، فإنه لا يعدو حالة من حالتين:
فهذه إحدى الحالتين، والأخرى أن يكون من يريد معارضة السورة القصيرة قد ذهب مذهبًا لا يتقيد فيه بنظم القرآن ولا بأسلوبه، وإنما همُّه في المعارضة أن يُجوِّد ويُبيِّن اللفظ ويُجزل قسطَه من الصناعة، وأن يتولَّى الكلامَ بالروِيَّة والنظر حتى يخرج مشرق الوجه مصقول العارض دقيق الصنعة بالغ التركيب، وهذه حالة تنتهي إلى عكسها؛ لأن مثل ذلك لا يتأتى من أساليب البلغاء في الألفاظ الموجزة والعبارة القصيرة، إلا أن تكون مثلًا مضروبًا، أو حكمةً مُرسلة، أو نحوَ ذلك مما يقصِّر بطبيعته في الدلالة وتستوفي القصةُ أو الحالة المقرونة به شرح معناه، ويكون هو روح هذا المعنى؛ فإنه ما من حكمةٍ أو مثلٍ أو ما يجري مجراهما إلا وأنت واجدٌ لكل من ذلك قصة قيل فيها، أو حالة قيل عليها؛ ثم لا يقع من نفسك موقعًا يهزُّ ويُعجب حتى تكون القصة أو الحالة أو ما تفهمه منهما قد سبقته إلى نفسك، أو صارت معه إلى ذلك الموضع منها، فإن أنت وقفت على حكمة لا تعرف وجهها، أو سمعت مثلًا لم يقع إليك مساقه، أو لا تكون معه قرينة تفسره، فقلما ترى من أحدهما إلا كلامًا مقتضَبًا أو عبارة مبهمةَ. تخرج مخرج اللغز والمعاياةِ، واحتاج على كل حال إلى روية تتنزل منه منزلة ذلك الشرح الذي يعطيه مساقُ القصة أو صفةُ الحالة، وانظر أين هذا من أغراض السور والآيات الكريمة؟
وهذه الطوال، فكل آية منها في الاستحالة على المعارضة تقوم بما في السور القصار كلها؛ لتحقق وجه النظم وأسرار التركيب واستفاضةِ ذلك وترادفه بما هو مقطَعَةٌ للأمل من تعلق الآية بما قبلها، وتسبُّبها لما بعدها؛ وظهورها في جملة النسق، فأين يجولُ الرأي في هذا كله ومن أين يستطرد؟
وسبيل نظم القرآن في إعجازه سبيل هذه المعجزات المادية التي تجيء بها الصناعات، وكثيرة ما هي، إلا في شيء واحد هو في القرآن سر الإعجاز إلى الأبد. وذلك أن معجزات الصناعة إنما هي مركبات قائمة من مفردات مادية، متى وقف امرؤ من الناس على سر تركيبها ووجه صنعتها؛ فقد بَطلَ إعجازها بخلاف الكلام الذي هو صُوَرٌ فكرية لا بد في أوضاعها من التفاوت على حسب ما يكون من اختلاف الأمزجة والطباع وآثار العصور — ولا تُجْزِئُ فيها الصناعة وآلاتها — من صفاء الطبع ودقة الحس وسلامة الذوق ونحوها مما يرجع أكثره إلى الفطرة النفسية في أي مظاهرها.
فالمعجز من هذه الصور الفكرية بإحدى الخصائص كنظم القرآن معجزٌ إلى الأبد، متى ذهب أهلُ هذه الخصوصية التي كان بها الإعجاز، كالعرب أصحاب الفطرة اللغوية والحسِّ البياني الذين صرَّفوا اللغة وشقَّقُوا أبنيتها، وهذَّبوا حواشِيَها وجمعوا أطرافها واستنبطوا محاسنها، وكانوا يَسْتَمْلُون ذلك من أسرار الطبيعة في أنفسهم، وأسرار أنفسهم في الطبيعة؛ ثم ذهبوا وبقيت اللغة في أصولها وأبنيتها وطرق وضعها ومحاسن تأليفها على ما تركوها، وإن العصر الطويل من عصورها ليُدْبِر عنها كما يموت الرجلُ الواحد من كتَّابها أو شعرائها ليس لأحدهما من الأثر في تلك الخصائص أكثرُ مما للآخر، على تفاوُت ما بين العصر الطويل بحوادثه وأهله، وبين الرجل الفرد في خاصَّة نفسه.
وذلك لأن الفطرة التي كانت تُصَرِّفها قد ذهبت، وانقطعت من الزمن أسبابها الطبيعية، فليس يمكن أن تعود أو تتفق، إلا إذا استدار الزمنُ كيوم خلق الله السموات والأرض، وعاد التاريخ الإنساني من أوله، أو بُعث أولئك العرب أنفسهم نشأةً أخرى، بأيامهم وعاداتهم وأخلاقهم وسائر ما كان لهم من أسباب تلك الفطرة، وإذا وقع هذا الأمر كله ولم يعد في الفرض من مستحيل، فكل ما هنالك أن إعجاز القرآن الكريم لا ينتهي من الأبد، ولكنه يبتدئ في أولئك العرب مرةً أخرى إلى الأبد.
وفي القرآن مظهرٌ غريب لإعجازه المستمر، لا يحتاج في تعرُّفِهِ إلى رويَّة ولا إعناتٍ، وما هو إلا أن يراه من اعترض شيئًا من أساليب الناس حتى يقع في نفسه معنى إعجازه؛ لأنه أمر يغلب على الطبع وينفرد به فيبينُ عن نفسهِ بنفسهِ، كالصوت المطرب البالغ في التطريب: لا يحتاج امرؤ في معرفته وتمييزه إلى أكثر من سماعه.
ذلك هو وجهُ تركيبه، أو هو أسلوبه، فإنه مباينٌ بنفسه لكل ما عُرف من أساليب البلغاء في ترتيب خطابهم وتنزيلِ كلامهم على أنه يُؤَاتي بعضه بعضًا، وتُناسب كل آية منه كل آية أخرى في النظم والطريقة، على اختلاف المعاني وتباين الأغراض، سواءٌ في ذلك ما كان مبتدأً به من معانيه وأخباره وما كان متكررًا فيه، فكأنه قطعة واحدة، على خلاف ما أنت واجده في كلام كل بليغ من التفاوت باختلاف الوجوه التي يُصرِّفه إليها، والعلوِّ في موضع والنزول في موضع، ثم ما يكون من فترة الطبع ومَسْحَةِ النفس في جهة بُعث عليها الملل، أو جهة استؤنف لها النشاط، ثم ما لا بدَّ منه من الإجادة في بعض الأغراض والتقصير في بعضها، مما يختلف البلغاءُ في علمه والإحاطة به، أو التأتي له والانطباع عليه. وهذا كله معروف متظاهِر في الناس لا يَمتري فيه أحد.
وأنت تتبين هذه الحقيقة إذا عرفت أديبًا ليمفاويَّ المزاج مثلًا، وأردته على أن يأخذ في أسلوب كأسلوب الجاحظ، وهو من أدق الأساليب العصبية. فإنه لا يصنع شيئًا، وإذا نُتِجَ له كلام على هذه الطريقة فلا يجيء إلا مضطربًا متعثِّرًا مُطْبَقًا بأبواب التعسف والتكلُّف، وكأنه نتاجٌ بين نوعين متباينين من الخلق؛ ولكنَّ هذا الأديب عينه إذا أخذ في طريقة السجع أو الترسل المتداخل الذي ليس حدْرًا ولا مساوَقَة كترسل الجاحظ وأضرابه — فقد لا يتعلق بجيِّده في ذلك شيء.
ولا يزال بيننا أدباء وعلماء بالبلاغة ووجوه الكلام يعجبون كيف لا يتهيأ لأحدهم أسلوبٌ كأسلوب ابن المقفع أو عبد الحميد أو سهل بن هارون أو الجاحظ، وكيف لا تستقلُّ له طريقة من ذلك على كثرة ما حاولوا من تقليده والأخذ في ناحيته؛ ولا يدرون أنهم يحملون سر إخفاقهم، وأن أحدهم إذا استطاع تعديل مزاجه على وجه من الوجوه الطبية، ليكون بين مزاجين، فقد يستطيع تعديل أسلوبه على وجه يكون وسطًا بين أسلوبين.
من ذلك يخلصُ لنا أن القرآن الكريم إنما ينفرد بأسلوبه؛ لأنه ليس وضعًا إنسانيًّا ألبتة، ولو كان من وضع إنسان لجاء على طريقة تُشبه أسلوبًا من أساليب العرب أو من جاء بعدهم إلى هذا العهد، ولا من الاختلاف فيه عند ذلك بدٌّ في طريقته ونسقِه ومعانيه: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا. ولقد أحسَّ العرب بهذا المعنى واستيقنه بلغاؤهم، ولولاه ما أُفحموا ولا انقطعوا من دونه؛ لأنهم رأوا جنسًا من الكلام غير ما تؤديه طباعهم، وكيف لهم في معارضته بطبيعةٍ غير مخلوقة؟
وما دامت قوة الخلق ليست في قدرة المخلوق، فليس في قدرة بشر معارضة هذا الأسلوب ما دامت الأرض أرضًا، وهذا هو الصريح من معنى قوله تعالى: قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا صدق الله العظيم.
وبعدُ فأنت تعرف أن أفصح الكلام وأبلغه وأسراه وأجمعه لِحُرِّ اللفظ ونادر المعنى، وأخلقَه أن يكون منه الأسلوب الذي يحسمُ مادة الطمع في معارضته — هو ذلك الذي تريده كلامًا فتراه نفسًا حية، كأنها تُلقي عليك ما تقرأه ممزوجًا بنبرات مختلفة وأصوات تدخل على نفسك — إن كنت بصيرًا بالصناعة متقدمًا فيها — كلَّ مدخل، ولا تدع فيها إحساسًا إلا أثارته، ولا إعجابًا إلا استخرجته، فلا يعدو الكلام أن يكون وجهًا من الخطاب بين نفسك ونفس كاتبه تقرأه وكأنك تسمعه، ثم لا يَلِجُ إلى فؤادك حتى تصير كأنك أنت المتكلم به، وكأنه معنًى في نفسك ما يبرحُ مختلجًا ولا ينفك ماثِلًا من قديم؛ مع أنك لم تعرفه إلا ساعتك، ولم تجهد فيه، ولا اعتملت له؛ وذلك بما جَوَّده صاحبُه، وبما نفث من رُوحه، وما بالغ في تصفيته وتهذيبه، وما اتسع في تأليفه وتركيبه، حتى خرج مطبوعًا من أثر مزاجه وأثر نفسه جميعًا فكأنه مادة روحية منه.
فانظر، هل تحسُّ شيئًا من كل ما تقدم أو من شِبْهِ ما تقدم في أسلوب القرآن الكريم؛ وهل ترى فيه من الغرابة التي يكسوها البلغاء كلامهم في تجويد رصفِه وحَبكِه، إلا أن غرابته في كونه منسجمًا لا غرابة فيه؟ وهل عندك أغرب من هذه السهولة التي يسيل بها القرآن، وهي في كثير من الكلام وكثير من أغراضه تقتضي الابتذال، وفي القرآن كله على تنوع أغراضه لا تقتضي إلا الإعجاز؟
وانظر، هل ترى هذه السهولة الغريبة في نفسها مما يمكن أن يُحَسَّ فيها روح إنساني كسائر الأساليب، أم هي سهولة الأوضاع الإلهية التي يعرفها كل الناس ويعجز عنها الناس كلهم، ثم يعرف العلماء منها غير ما يعرفه الجهال، ثم يمتاز بعضُ العلماء في المعرفة بها على بعض، ثم يبقى فيها سر الخلقِ مع كل ذلك مكتومًا لا يُعرَف، وما هو إلا سر الإعجاز!
وتأمل، هل تصيب في القرآن كله مما بين الدفتين إلا رهبة ظاهرة لا تمويه في شيء منها، وإلا أثرًا من التمكن يصف لك منزلة المخلوق من أمر الخالق، وإلا روحًا أكبر من أن يكون نفسًا إنسانية أو أثرًا من آثار هذه النفس؟ ثم هل تجد في أغراضه إلا ما كان في وضعه مادةً لتلك الرهبة ولذلك الأثر وذلك الروح؟
هذا على أن فيه المعانيَ الكثيرة والأغراض الوافرة، مما لو كان في كلام الناس لظهر عليه صبغ النفس الإنسانية لا محالة، بأوضح معانيه وأظهر ألوانه؛ وبصفات كثيرة من أحوال النفس. وحسبك أن تأخذ قطعة منه في الموعظة والترغيب، أو الزجر والتأديب، أو نحو ذلك مما يستفيض فيه الكلام الإنساني، فتقرنها إلى قطعة مثلها من كلام أبلغ الناس بيانًا، وأفصحهم عربية؛ لترى فرق ما بين أثر المعنى الواحد في كلتا القطعتين، ولتقع على مقدار ما بين الطبقة الإنسانية في السعة والتمكُّن، فإن هذا أمر لا تصف العبارة منه، وإذا وصفت لا تبلغ من صفته، ثم لا دليل عليه لمن يريد أن يستدل إلا الحسن.
(٢٠) نظمُ القرآن
ذلك بعض ما تهيَّأَ لنا من القول في الجهات التي اختص بها أسلوبُ القرآن، فكانت أسبابًا لانقطاع العرب دونه وانخذالهم عنه، وتلك أسباب لا يمكن أن يكون شيء منها في كلام بلغاء الناس من أهل هذه اللغة؛ لأنها خارجة عن قُوى العقول وجماعِ الطبائع، ولا أثر لها بعدُ في نفس كل بليغ يعرف ما هي البلاغة وكيف هي، إلا استشعار العجز عنها والوقوف من دونها. وإنَّما تلك الجهات صفات من نظم القرآن وطريقة تركيبه، فنحن الآن قائلون في سر الإعجاز الذي قامت عليه هذه الطريقة، وانفرد به ذلك النظم؛ وهو سرٌّ لا ندَّعي أننا نكشفه أو نستخلصه أو ننتظم أسبابه، وإنما جهدنا أن نومئ إليه من ناحية ونعينَ بعض أوصافه من ناحية، فإن هذا القرآن هو ضمير الحياة العربية، وهو من اللغة كالروح الإلهية التي تستقر في مواهب الإنسان فتضمن لآثاره الخلود؛ ثم لا يُدَلُّ عليها حين التعرف إلا بصفات كل نفس لمواقع تلك الآثار منها، كأن هذه الروحَ تحاول أن تُفْصِح عن معاني النبوغ الفنِّي في آثارها الخالدة، فلا تجد أقربَ إلى غرضها من أن تهيج الإحساس بها في كل نفس، فيُجزئ ذلك في البيان عنها؛ لأن الإحساس إنما هو اللغة النفسية الكاملة.
والكلام بالطبع يتركب من ثلاثة: حروفٌ هي من الأصوات، وكلمات هي من الحروف، وجُمَلٌ هي من الكلم. وقد رأينا سر الإعجاز في نظم القرآن يتناول هذه كلَّها بحيث خرجت من جميعها تلك الطريقة المعجزة التي قامت به؛ فليس لنا بدٌّ في صفته من الكلام في ثلاثتها جميعًا.
ومن أظهر الفروق بين أنواع البلاغة في القرآن، وبين هذه الأنواع في كلام البلغاء، أن نظم القرآن يقتضي كلَّ ما فيه منها اقتضاءً طبيعيًّا بحيث يُبنى هو عليها لأنها في أصل تركيبه، ولا تُبنى هي عليه؛ فليست فيها استعارة ولا مجاز ولا كناية ولا شيء من مثل هذا يصح في الجواز أو فيما يسعه الإمكانُ أن يصلح غيرُهُ في موضعه إذا تبدَّلْتَه منه، فضلًا عن أن يفي به، وفضلًا عن أن يُربِيَ عليه، ولو أدرتَ اللغة كلها على هذا الموضع.
فكأن البلاغة فيه إنما هي وجهٌ من نظم حروفه بخلاف ما أنت واجدٌ من كلام البلغاء، فإن بلاغته إنما تصنع لموضعها وتُبنى عليه، فربما وَفَت وربما أخلفت، ولو هي رُفعت من نظم الكلام ثم نُزِلَ غيرها في مكأنها لرأيت النظم نفسه غير مختلف، بل لكان عسى أن يصح ويجود في مواضع كثيرة من كلامهم، وأن نعرف له بذلك مزية في توازن حروفه وائتلاف مخارجها وتناسب أصواتها، ونحو هذا مما هو أصل الفصاحة، ومما لا تغني فيه استعارة ولا مجاز ولا كناية ولا غيرُها؛ لأنه وجه من تأليف الحروف ونسق اللفظ فيها؛ وأنواع البلاغة إنما هي وجوه التأليف بين معاني الكلمات.
فالحرف الواحد من القرآن معجز في موضعه؛ لأنه يُمسك الكلمة التي هو فيها ليمسك بها الآية والآياتِ الكثيرة، وهذا هو السر في إعجاز جملته إعجازًا أبديًّا، فهو أمر فوق الطبيعة الإنسانية، وفوق ما يتسبَّب إليه الإنسان؛ إذ هو يشبه الخلق الحيَّ تمام المشابهة، وما أنزله إلا الذي يعلم «السر» في السموات والأرض.
فأنت الآن تعلم أن سر الإعجاز هو في النظم، وأن لهذا النظم ما بعده؛ وقد علمتَ أن جهات النظم ثلاثٌ: في الحروف، والكلمات، والجُمل، فههنا ثلاثة فصول تعرفها فيما يلي.
(٢١) الحروف وأصواتها
بسطنا في الجزء الأول من تاريخ آداب العرب حاشيةَ الكلام في الأسباب اللسانية التي جرت عليها الفصاحة العربية، وكانت مَعدِلًا لألسنة القوم بين الاستخفاف والاستثقال، وبين اللين في حرفٍ والجَسْأَة في حرف، وبين نظم مؤتلف ونظم مختلف، فانتزعوا بها وجوهَ التأليف والتركيب في ألفاظهم وجملهم على سَنَنٍ لائح ونسق واضح، وأفضينا من كل ذلك إلى مخارج حروفهم وصفاتها.
وهذا نوع من التأليف لم يكن منه في منطق أبلغ البلغاء وأفصح الفصحاء إلا الجمل القليلة التي إنما تكون روعتُها وصيغتُها وأوزانُ توقيعها من اضطراب النفس فيها؛ إذ تضطرب في بعض مقامات الحماسة أو الفخر أو الغزل أو نحوها فتنتزي بكلام المتكلم من أبعد موضع في قلبه حتى تنتهيَ به إلى الحلق ثم ترسله من هناك وكأن ألفاظه عواطفُ تتغنى.
وقد كان منطقُ القوم يجري على أصل من تحقيق الحروف وتفخيمها، ولكن أصوات الحروف إنما تنزل منزلة النَّبَرات الموسيقية المرسلة في جملتها كيف اتفقت، فلا بد لها مع ذلك من نوع في التركيب وجهةٍ من التأليف حتى يمازج بعضها بعضًا، ويتألف منها شيء مع شيء، فتتداخل خواصُّها، وتجتمع صفاتها، ويكونَ منها اللحنُ الموسيقي، ولا يكون إلا من الترتيب الصوتي الذي يثير بعضه بعضًا على نِسَب معلومة ترجع إلى درجات الصوت ومخارجه وأبعاده.
وأنت تتبين ذلك إذا أنشاتَ ترتل قطعة من نثر فصحاء العرب أو غيرهم على طريقة التلاوة في القرآن، مما تُراعَى فيه أحكامُ القراءة وطرق الأداء، فإنك لا بد ظاهرٌ بنفسك على النقص في كلام البلغاء وانحطاطه في ذلك عن مرتبة القرآن؛ بل ترى كأنك بهذا التحسين قد نكَّرتَ الكلام وغيَّرته، فأخرجتَه من صفة الفصاحة، وجرَّدْتَه من زينة الأسلوب، وأطفأتَ رُواءه؛ وأنضبت ماءه؛ لأنك تزنه على أوزانٍ لم يتَّسِق عليها في كل جهاته، فلا تعدو أن تظهِرَ من عيبه ما لم يكن يعيبه إذا أنت أرسلته في نهجه وأخذته على جملته.
وحسبك بهذا اعتبارًا في إعجاز النظم الموسيقي في القرآن، وأنه مما لا يتعلق به أحد، ولا يتفق على ذلك الوجه الذي هو فيه إلا فيه، لترتيب حروفه باعتبار من أصواتها ومخارجها، ومناسبةِ بعض ذلك لبعضه مناسبةً طبيعيةً في الهمس والجهر، والشدة والرخاوة، والتفخيم والترقيق؛ والتفشِّي والتكرير، وغير ذلك مما أوضحناه في صفات الحروف من باب اللغة في تاريخ آداب العرب.
ولقد كان هذا النظم عينُه هو الذي صفَّى طباعَ البلغاء بعد الإسلام، وتولَّى تربية الذوق الموسيقي اللغوي فيهم، حتى كان لهم من محاسن التركيب في أساليبهم — مما يرجع إلى تساوق النظم واستواء التأليف — ما لم يكن مثلُه للعرب من قبلهم، وحتى خرجوا عن طرق العرب في السجع والترسُّل على جفاء كان فيهما، إلى سجع وترسُّل تتعرف في نظمهما آثار الوزن والتلحين، على ما يكون من تفاوتهم في صفة ذلك ومقداره، ومبلغهم من العلم به، وتقدُّمهم في صنعته.
ولولا القرآن وهذا الأثر من نظمه العجيب، لذهب العرب بكل فضيلة في اللغة، ولم يبق بعدهم للفصحاء إلا كما بقي من بعد هؤلاء في العامية؛ بل لما بقيت اللغة نفسها، كما بسطناه في موضعه.
وليس يخفى أن مادة الصوت هي مظهر الانفعال النفسي، وأن هذا الانفعال بطبيعته إنما هو سبب في تنويع الصوت، بما يخرجه فيه مدًّا أو غنة أو لينًا أو شدة، وبما يهيئ له من الحركات المختلفة في اضطرابه وتتابعه على مقادير تناسب ما في النفس من أصولها؛ ثم هو يجعل الصوت إلى الإيجاز والاجتماع؛ أو الإطناب والبسط؛ بمقدار ما يكسبه من الحدة والارتفاع والاهتزاز وبُعد المدى ونحوها مما هو بلاغة الصوت في لغة الموسيقى.
وهذه هي طريقة الاستهواء الصوتي في اللغة، وأثرها طبيعي في كل نفس، فهي تشبه في القرآن الكريم أن تكون صوتَ إعجازه الذي يخاطب به كل نفس تفهمه، وكلَّ نفس لا تفهمه، ثم لا يجد من النفوس على أي حال إلا الإقرار والاستجابة؛ ولو نزل القرآن بغيرها لكان ضربًا من الكلام البليغ الذي يُطْمَع فيه أو في أكثره، ولما وُجد فيه أثر يتعدى أهل هذه اللغة العربية إلى أهل اللغات الأخرى، ولكنه انفرد بهذا الوجه المعجز، فتألَّفت كلماته من حروف لو سقط واحد منها أو أبدل بغيره أو أقحِم معه حرف آخر، لكان ذلك خللًا بيِّنًا، أو ضعفًا ظاهرًا في نسق الوزن وجرس النغمة، وفي حِسِّ السمع وذوق اللسان، وفي انسجام العبارة وبراعة المخرَج وتَسانُد الحروف وإفضاء بعضها إلى بعض، ولرأيت هُجنة في السمع، كالذي تنكره من كل مَرئي لم تقع أجزاؤه على ترتيبها، ولم تتفق على طبقاتها، وخرج بعضُها طولًا وبعضُها عرضًا، وذهب ما بقي منها إلى جهات متناكرة.
ومما انفرد به القرآن وباينَ سائر الكلام: أنه لا يَخْلَقُ على كثرة الرد وطول التكرار، ولا تُملُّ منه الإعادة؛ وكلما أخذت فيه على وجهه الصحيح فلم تُخِلَّ بأدائه، رأيتَه غضًّا طريًّا، وجديدًا مُونَقًا، وصادفت من نفسك له نشاطًا مستأنفًا وحِسًّا موفورًا، وهذا أمر يستوي في أصله العالم الذي يتذوَّق الحروف ويستَمْرئ تركيبها ويُمعن في لذة نفسه من ذلك، والجاهل الذي يقرأ ولا يثبت معه من الكلام إلا أصوات الحروف، وإلا ما يميزه من أجراسها على مقدار ما يكون من صفاء حسه ورقة نفسه. وهو لعَمر الله أمرٌ يوسعُ فكر العاقل ويملأ صدر المفكر، ولا نرى جهة تعليله ولا نصحح منه تفسيرًا إلا ما قدمنا من إعجاز النظم بخصائصه الموسيقية، وتساوُق هذه الحروف على أصول مضبوطة من بلاغة النغم، بالهمس والجهر والقلقلة والصفير والمد والغنة ونحوها، ثم اختلاف ذلك في الآيات بسطًا وإيجازًا، وابتداءً وردًّا، وإفرادًا وتكريرًا.
هذا على أنه ترسيل واتساق وتطويل، لا يُضبط بحركات وسكنات كأوزان الشعر فتجعل له بطبيعتها صفة من النظم الموسيقي؛ ولا يخرج على مقاطع الكلمات التي تجري فيها الألحان وضروب النغم، مما يسهل تأليفه ويكون أمره إلى الصوت وطريقة تصريفه وتوقيعه، لا إلى أصوات الحروف ووجه تأليفها وتتابُعها، فيحسن مع أهل الصناعة وإن كانت حروفه غثَّة التركيب سمجة المخارج وكانت جافية كزَّةً. حتى إذا صار إلى من لا يُحسن أن يوقع عليه الصوت ويطرُد له اللحن من غير حُذَّاق المغنِّين، خرج أبرد كلامٍ وأرذله وأسمجه، وجاء وما تعرف من الكلال والفتور والتهالك في كلام أكثر مما تعرف منه.
وبهذا الذي قدمناه يُفسر قوله ﷺ: «القرآن صَعب مُستصعب على من كرهه.» لأن كرهه لا يكون إلا زعمًا وتكلفًا من اللسان؛ فأيما امرؤ سمعه أو فهمه أحبه وسوَّغه من شعوره ونفَسِه؛ فمن أين تدخل الكراهةُ على النفس ولا سبيل إليها في الكلام إلى السمع والفؤاد؟
ولا يذهبنَّ عنك أن الحروف لم تكن في القرآن على ما وصفنا بأنفسها دون حركاتها الصرفية والنحوية، وليست هذه الحركات إلا مظاهرَ الكلم، فمن ههنا يستجرُّ لنا القولُ في النوع الثاني من سر الإعجاز.
(٢٢) الكلمات وحُروفها
والكلمة في الحقيقة الوضعية إنما هي صوت النفس؛ لأنها تَلبَس قطعة من المعنى فتختصُّ به على وجه من المناسبة قد لحظته النفس فيها من أصل الوضع حين فصلت الكلمة على هذا التركيب.
وصوت النفس أولُ الأصوات الثلاثة التي لا بد منها في تركيب النسق البليغ، حتى يستجمعَ الكلام بها أسباب الاتصال بين الألفاظ ومعانيها، وبين هذه المعاني وصوَرها النفسية، فيجري في النفس مجرى الإرادة، ويذهب مذهبَ العاطفة، وينزل منزلة العلم الباعث على كلتيهما، فإن البيان لا يؤلَّف أصواتًا لرياضة الصدر بها وصلابة الحلق عليها، ولكنه صوَرٌ نفسية في الطبيعة وصورٌ طبيعية في النفس، فإذا لم يكن حيًّا ناطقًا يلمحُ بعضه بعضًا، ولم يكن بتركيبه وطريقة نظمه كأنما يحمل من معناه للنفس مادة الإرادة أو الفكر لم يُجْدِ شيئًا، وانقطع به غرضه، واستهلكه انصراف النفس عنه، وصارت معانيه كأن ليس لها أصولٌ فيها، وكأنها مادة جامدة، أو روح مادة ميتة؛ بل هو ربما سفلَ إلى منزلة الإشارة التي هي اللغة الأولى مذ كان الإنسان يتكلم بحواسه، والتي هي أضعف الكلام وأخفاه وأشدُّه التباسًا في مذاهب المعاني النفسية؛ لأنها «أي الإشارة» بابٌ من النطق الصامت كما أن ذلك لون من الصمت الناطق.
- (١)
صوت النفس، وهو الصوت الموسيقي الذي يكون من تأليف النغم بالحروف ومخارجها وحركاتها ومواقع ذلك من تركيب الكلام ونظمه على طريقة متساوقة وعلى نضد متساوٍ، بحيث تكون الكلمة كأنها خطوة للمعنى في سبيله إلى النفس، إن وقف عندها هذا المعنى قُطع به.
- (٢)
صوت العقل، وهو الصوت المعنوي الذي يكون من لطائف التركيب في جملة الكلام، ومن الوجوه البيانية التي يداوَرُ بها المعنى، حتى لا يخطئ طريقَ النفس من أي الجهات انْتَحَى إليها.
- (٣)
صوت الحسِّ، وهو أبلغهُنَّ شأنًا، لا يكون إلا من دقة التصور المعنوي، والإبداع في تلوين الخطاب، ومجاذبة النفس مرة وموادعتها مرة، واستيلائه على محضها بما يورِد عليها من وجوه البيان، أو يَسُوق إليها من طرائف المعاني، حتى يَدَعَهَا من موافقته والإيثار له كأنها هي التي تريده، وكأنها هي التي تحاول أن يتصل أثرها بالكلام؛ إذ يكون قد استحوذ عليها وانفرد منها بالهوى والاستجابة.
وعلى مقدار ما يكون في الكلام البليغ من هذا الصوت، يكون فيه من روح البلاغة، فإن هو خرجَ مما وقفت عنده الطباع النفسية فلم يكن في بعض الكلام مقدار معين تحسه في جهة وتفقده في جهة، وتراه مرة ماثلًا ومرة زائلًا؛ بل صار كأنه روحٌ للكلام ذاته، يبادرك الروعة في كل جزء منه كما تبادرك الحياة في كل حركة للجسم الحي — فقد خرج به ذلك الفن من الكلام إلى أن يكون خلقًا روحيًّا؛ وكأنه تمثيل بالألفاظ لخلقة النفس، في دقة التركيب وإعجاز الصنعة ومؤاتاة الطبعة المعنوية وما إليها، وهيهات، ليس يقدر على تمام ذلك الوضع إلا من قدر على تمام تلك الخلقة.
ولو تأملتَ هذا المعنى فضلًا من التأمل، وأحسنتَ في اعتباره على ذلك الوجه، لرأيتَه روح الإعجاز في هذا القرآن الكريم، بحيث لو خلا منه لأشبه أن يكون إعجازه صناعيًّا عند العرب — إن بقي معجزًا — ولو هم فقدوا فقدوا هذا المعنى من أكثره أو من أقلِّه، لقد كانوا وجدوا مذهبًا فيه للقول ومساغًا للردِّ، ولظلوا في مِرْيَةٍ منه، ثم لسارت عنهم الأقاويل في معارضته واعتراضه.
وهذا مثالٌ يطَّرِد في كل ما أنت واجدُه من البلاغة العربية. فلا ترى شيئًا منها يروعك ويملك عليك المذاهبَ من نفسك بالتئام أجزائه ورشاقة معرضه وحسن تصويره، إلا وقعت منه على ضرب من الاستعانة بالخيال الشعري أو العادة الثابتة أو العاطفة المطمئنة أو نحوها. والقرآن لا يستعين بشيء من ذلك في إحكام عبارته والتَّأَتِّي بها إلى النفس وانتظام أسباب التأثير فيها، وليس إلا أن تقرأه حتى تُحِسَّ من حروفه وأصواتها وحركاتها ومواقع كلماته وطريقة نظمها ومداورتها للمعنى — بأنه كلام يخرج من نفسك، وبأن هذه النفس قد ذهبت مع التلاوة أصواتًا، واستحال كل ما فيك من قوة الفكر والحس إليها وجرى فيها مجرى البيان، فصرتَ كأنك على الحقيقة مطويٌّ في لسانك.
وهذا أمر ليس في قدرة أحد أن ينفِيه عن كلام البلغاء متى امتد به النَّفَس واتسقت له المعاني وتداخلت فيه الأغراض، ولا نرى أحدًا يقدر على أن يُثبت منه شيئًا في القرآن؛ لأن طريقة نظمه قد جعلت في تلاوته قوة الانبعاث للنفس المكدودة، كما يكون للخالص من ضروب الموسيقى، على ما هو معروف من تأثيرها في النفس ووجه هذا التأثير؛ بل هو للنفس العربية كالحداء للإبل العربية؛ مهما كدَّها السير لم يزدها إلا إمعانًا فيه، ولم تستأنف منه إلا نشاطًا واعتزامًا حتى ليذهب بها المراح وكأنها تريد أن تسابق الحروف والأصوات المنبعثة من أفواه من يحدونها.
لا جرمَ أن المعنى الواحد يعبَّر عنه بألفاظ لا يجزئ واحد منها في موضعه عن الآخر إن أريد به شرط الفصاحة؛ لأن لكل لفظ صوتًا ربما أشبه موقعه من الكلام ومن طبيعة المعنى الذي هو فيه والذي تساق له الجملة، وربما اختلف وكان بغير ذلك أشبه.
فلا بد في مثل نظم القرآن من إخطار معاني الجُمل وانتزاع جملة ما يلائمها من ألفاظ اللغة، بحيث لا تنِدُّ لفظة، ولا تتخلَّفُ كلمة؛ ثم استعمال أمسِّها رحمًا بالمعنى، وأفصحها في الدلالة عليه، وأبلغها في التصوير، وأحسنها في النسق، وأبدعها سناءً، وأكثرها غناءً، وأصفاها رونقًا وماءً، ثم اطِّراد ذلك في جملة القرآن على اتساعه وما تضمَّن من أنواع الدلالة ووجوه التأويل، ثم إحكامِه على أن لا مُرَاجَعَةَ فيه ولا تسامُح، وعلى العصمة من السهو والخطأ في الكلمة وفي الحرف من الكلمة، حتى يجيء على ما هو كأنه صِيغ جملة واحدة في نفَسٍ واحد وقد أُديرت معانيها على ألفاظها في لغات العرب المختلفة فلبستها مرة واحدة، وذلك ولا ريب مما يفوت كلَّ فوتٍ في الصناعة، ولا يدَّعيه من الخلق فرد ولا جماعة.
•••
ولو تدبرتَ ألفاظ القرآن في نظمها، لرأيت حركاتها الصَّرْفية واللغوية تجري في الوضع والتركيب مجرى الحروف أنفسها فيما هي له من أمر الفصاحة فيهيِّئ بعضها لبعض، ويساند بعضها بعضًا، ولن تجدها إلا مُؤْتَلِفةً مع أصوات الحروف، مُساوِقَةً لها في النظم الموسيقي، حتى إن الحركة ربما كانت ثقيلة في نفسها لسبب من أسباب الثقل أيها كان، فلا تَعْذُب ولا تُساغُ، وربما كانت أوكس النصيبين في حظ الكلام من الحرف والحركة، فإذا هي استُعْمِلت في القرآن رأيتَ لها شأنًا عجيبًا، ورأيتَ أصواتَ الأحرف والحركات التي قبلها قد امتهدت لها طريقًا في اللسان، واكتنفتها بضروب من النغم الموسيقي، حتى إذا خرجت فيه كانت أعذبَ شيء وأرقَّه، وجاءت متمكنة في موضعها، وكانت لهذا الموضع أولى الحركات بالخفة والروعة.
من ذلك لفظة «النُّذُر» جمع نذير؛ فإن الضمة ثقيلة فيها لتواليها على النون والذال معًا، فضلًا عن جَسْأَة هذا الحرف ونُبوِّهِ في اللسان، وخاصة إذا جاء فاصلة للكلام. فكل ذلك مما يكشف عنه ويفصح عن موضع الثقل فيه؛ ولكنه جاء في القرآن على العكس وانتفى من طبيعته في قوله تعالى: وَلَقَدْ أَنذَرَهُم بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ. فتأمل هذا التركيب، وأنعم ثم أنعم على تأمله، وتذوَّقْ مواقع الحروف وأجْرِ حركاتها في حِسِّ السمع وتأمل مواضع القلقلة في دال «لقد»، وفي الطاء من «بطشتنا» وهذه الفتحات المتوالية فيما وراء الطاء إلى واو «تماروا»، مع الفصل بالمدِّ، كأنها تثقيل لخفة التتابع في الفتحات إذا هي جرت على اللسان؛ ليكون ثقلُ الضمة عليه مستخَفًّا بعد، ولتكون هذه الضمة قد أصابت موضعها كما تكون الأحماض في الأطعمة. ثم ردِّد نظرك في الراء من «تمارَوا» فإنها ما جاءت إلا مساندة لراء «النذر» حتى إذا انتهى اللسان إلى هذه انتهى إليها من مثلها، فلا تجف عليه ولا تغلظ ولا تنبو فيه. ثم اعجب لهذه الغُنَّة التي سبقت الطاء في نون «أنذرَهم» وفي ميمها، وللغنة الأخرى التي سبقت الذال في «النذر».
وما من حرف أو حركة في الآية إلا وأنت مصيب من كل ذلك عجبًا في موقعه والقصد به، حتى ما تشك أن الجهة واحدة في نظم الجملة والكلمة والحرف والحركة، ليس منها إلا ما يشبه في الرأي أن يكون قد تقدَّم فيه النظر وأحكمتْه الرَّوِيَّة وراضَهُ اللسان، وليس منها إلا متخيَّرٌ مقصود إليه من بين الكلم ومن بين الحروف ومن بين الحركات. وأين هذا ونحوه عند تعاطيه ومن أي وجه يُلتَمَس وعلى أي جهة يُستطاع، وكيف يأتي للإنسان في مثل تلك الآية وحدها — فضلًا عن القرآن كله — وهو لا يكون إلا عن نظر وصنعة كلامية؛ والبليغ من الناس متى اعتسف هذه الطريق ولم يكن في الكلام إلى سجيته وطبعه فقد خذلته البلاغة واستهلكته الصنعة، وضاق به التصرف وتنافرت أجزاء كلامه من جهاتها، وكلما لجَّ في المكابرة لجَّت البلاغة في الإباء، فمثلُه كمن يمشي مستديرًا ويحسب أنه يتقدم، لأنه — زَعمَ — لم يحرف وجهه ولم ينفتل عن قصده، ولأن نظره ما يزال ثابتًا فيما يستقبله!
إنما تلك طريقة في النظم قد انفرد بها القرآن، وليس من بليغ يعرف هذا الباب إلا وهو يتحاشى أن يُلمَّ به من تلك الجهة أو يجعل طريقه عليها، فإن اتفق له شيء منه كان إلهامًا ووحيًا، لا تقتحم عليه الصناعة ولا يتيسَّر له الطبع بالفكر والنظر، وكان مع ذلك لا يخلو من الْتِواء ومن مَغْمَز، على أنه يكون جملة من فصل أو عبارة من جملة أو بيتًا من قصيدة أو شطرًا من بيت، لا يطَّرد ولا يستوي وليس إلا أن يتفق اتفاقًا؛ أما أن يتهيأ لأحد من البلغاء في عصور العربية كلها من معارض الكلام وألفاظه، ما يتصرف به هذا التصرف في طائفة أو طوائف من كلامه، على أن يضرب بلسانه ضربًا موسيقيًّا، وينظم نظمًا مطردًا ويُهْدِف الكلمة الكلمة وينصب الحرف للحرف، ويعصب الحركة بالحركة، ويُجري بعضًا من بعض — فهذا إن أمكن أن يكون في كلامٍ ذي ألفاظ، فليس يستقيم في ألفاظ ذات معانٍ، فهو لغوٌ من إحدى الجهتين، ولو أن ذلك ممكن لقد كان اتفق في عصرٍ خلا من ثلاثة عشر قرنًا، ونحن اليوم في القرن الرابع عشر من تاريخ تلك المعجزة.
وقد وردت في القرآن ألفاظ هي أطولُ الكلام عددَ حروفٍ ومقاطعَ مما يكون مستثقلًا بطبيعة وضعه أو تركيبه، ولكنها بتلك الطريقة التي أومأنا إليها قد خرجت في نظمه مخرجًا سَرِيًّا، فكانت من أحضر الألفاظ حلاوة وأعذبها منطقًا وأخفها تركيبًا؛ إذ تراه قد هيأ لها أسبابًا عجيبة من تكرار الحروف وتنوع الحركات، فلم يُجرها في نظمه إلا وقد وُجد ذلك فيها، كقوله: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ فهي كلمة واحدة من عشرة أحرف وقد جاءت عذوبتها من تنوع مخارج الحروف ومن نظم حركاتها، فإنها بذلك صارت في النطق كأنها أربع كلمات؛ إذ تُنطق على أربعة مقاطع، وقوله: فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله فإنها كلمة من تسعة أحرف، وهي ثلاثة مقاطع وقد تكررت فيها الياء والكاف، وتوسَّط بين الكافين هذا المد الذي هو سر الفصاحة في الكلمة كلها.
وهذا إنما هو الألفاظ المركبة التي ترجع عند تَجْريدها من المزيدات إلى الأصول الثلاثية أو الرباعية، أما أن تكون اللفظة خماسية الأصول فهذا لم يَرِد منه في القرآن شيء؛ لأنه مما لا وجه للعذوبة فيه، إلا ما كان من اسم عُرِّب ولم يكن في الأصول عربيًّا: كإبراهيم، وإسماعيل، وطالوت، وجالوت، ونحوها؛ ولا يجيء به مع ذلك إلا أن يتخلله المد كما ترى؛ فتخرج الكلمة وكأنها كلمتان.
والعربُ يعرفون هذا الضربَ من الكلام، وله نظائرُ في لغتهم، وكم من لفظة غريبة عندهم لا تحسن إلا في موضعها، ولا يكون حسنها على غرابتها إلا أنها توكِّد المعنى الذي سيقت له بلفظها وهيئة منطقها، فكأن في تأليف حروف معنًى حسيًّا، وفي تألف أصواتها معنى مثله في النفس؛ وقد نبهنا إلى ذلك في باب اللغة من تاريخ آداب العرب.
وإن تعجب فعجبٌ نظم هذه الكلمة الغريبة وائتلافه على ما قبلها، إذ هي مقطعان: أحدهما مَدٌّ ثقيل، والآخر مد خفيف، وقد جاءت عقب غُنتين في «إذن» و«قسمة» وإحداهما خفيفة حادة، والأخرى ثقيلة متفشِّية، فكأنها بذلك ليست إلا مجاوبةً صوتية لتقطيع موسيقي، وهذا معنى رابع للثلاثة التي عددناها آنفًا، أما خامس هذه المعاني: فهو أن الكلمة التي جمعت المعاني الأربعة على غرابتها، إنما هي أربعة أحرف أيضًا.
وعلى هذا يجري كل ما ظُنَّ أنه في القرآن مزيدٌ؛ فإن اعتبار الزيادة فيه وإقرارَها بمعناها، إنما هو نقص يجلُّ القرآن عنه، وليس يقول بذلك إلا رجل يعتسف الكلام ويقضي فيه بغير علمه أو بعلم غيره … فما في القرآن حرف واحد إلا ومعه رأي يسنح في البلاغة، من جهة نظمه، أو دلالته، أو وجه اختياره، بحيث يستحيل ألبتة أن يكون فيه موضعٌ قلقٌ أو حرف نافر أو جهة غيرُ مُحكمة أو شيء مما تنفذ في نقده الصنعة الإنسانية من أي أبواب الكلام إن وسعها منه باب. ولكنك واجد في الناس من ينقبض ذرعُه ويُقصر به علمه، ولا يدعُ مع ذلك أن يُقدم على الأمر لا يعرف من أين مُطَّلَعه ومأتاه، فيُمضي القولَ على ما خيلَ؛ ويفتي بما احتال، ولا يمنعه تقصيره من أن يستطيل به ولا استطالته من أن يكابر عليها؛ ولا مكابرته من اللَّجاج فيها، فيخطئ صواب القول إن قال، ثم يخطئ الثانية في تصويب خطئه إن احتج، وما في الخطأ جهة ثالثة إلا أن يُصر على الخطأ.
ومما لا يسعه طوقُ إنسان في نظم الكلام البليغ، ثم مما يدل على أن نظم القرآن مادة فوق الصنعة ومن وراء الفكر وكأنها صُبَّت على الجملة صبًّا — أنك ترى بعض الألفاظ لم يأت فيه إلا مجموعًا ولم يستعمل منه صيغة المفرد، فإذا احتاج إلى هذه الصيغة استعمل مرادفها: كلفظة «اللُّب» فإنها لم ترد إلا مجموعة، كقوله تعالى: إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِأُولِي الْأَلْبَابِ وقوله: وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ونحوهما، ولم تجئ فيه مفردة، بل جاء في مكانها «القلب»، وذلك لأن لفظ الباء شديد مجتمع، ولا يُفضَى إلى هذه الشدة إلا من اللام الشديدة المسترخية، فلما لم يكن ثَمَّ فصل بين الحرفين يتهيأ معه هذا الانتقال على نسبة بين الرخاوة والشدة؛ لم تَحسُن اللفظة مهما كانت حركة الإعراب فيها؛ نصبًا أو رفعًا أو جرًّا؛ فأسقطها من نظمه بتةً، على سَعَة ما بين أوله وآخره، ولو حسنت على وجهٍ من تلك الوجوه لجاء بها حسنة رائعة. وهذا على أن فيه لفظة «الجُبِّ»، وهي في وزنها ونطقها، لولا حسن الائتلاف بين الجيم والباء من هذه الشدة في الجيم المضمومة.
وكذلك لفظة «الكوب»، استعملت فيه مجموعة ولم يأت بها مفردة؛ لأنه لا يتهيأ فيها ما يجعلها في النطق من الظهور والرقة والانكشاف وحسن التناسب كلفظ «أكواب» الذي هو الجمع.
و«الأرجاءُ» لم يستعمل القرآن لفظها إلا مجموعًا وترك المفرد — وهو الرَّجا: أي الجانب — لعلة لفظه، وأنه لا يسوغ في نظمه كما ترى.
وعكس ذلك لفظة «الأرض»؛ فإنها لم ترد فيه إلا مفردة، فإذا ذُكِرت السماء مجموعة جيء بها مفردة في كل موضع منه، ولما احتاج إلى جمعها أخرجها على هذه الصورة التي ذهبت بسرِّ الفصاحة وذهب بها، حتى خرجت من الروعة بحيث يسجدُ لها كل فكر سجدةً طويلة، وهي في قوله تعالى: الله الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ولم يقل: وسبع أرَضِين؛ لهذه الجشأةِ التي تدخل اللفظ ويختل بها النظم اختلالًا. وأنت فتأمل — رعاك الله — ذلك الوضع البياني، واعتبر مواقع النظم، وانظر هل تتلاحق هذه الأسباب الدقيقة أو تتيسَّر مادتها الفكرية لأحد من الناس فيما يتعاطاه من الصناعة، أو بتكلفة من القول، وإن استقصى فيه الذرائعَ، وبالغ في الأسباب، وأحكم ما قِبَله وما وراءه.
وما يشذ في القرآن الكريم حرفٌ واحد عن قاعدة نظمه المعجز؛ حتى إنك لو تدبرت الآيات التي لا تقرأ فيها إلا ما يسرده من الأسماء الجامدة، وهي بالطبع مظنَّةُ أن لا يكون فيها شيء من دلائل الإعجاز؛ فإنك ترى إعجازها أبلغ ما يكون في نظمها وجهات سَرْدِها، ومن تقديم اسم على غيره أو تأخيره عنه، لنظم حروف ومكانه من النطق في الجملة؛ أو لنكتة أخرى من نكت المعاني التي وردت فيها الآية بحيث يوجد شيئًا فيما ليس فيه شيء.
تأمل قوله تعالى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلَاتٍ فإنها خمسة أسماء، أخفها في اللفظ «الطوفان والجراد والدم» وأثقلها «الْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ» فقدم «الطوفان» لمكان المدين فيها؛ حتى يأنس اللسان بخفتها؛ ثم الجراد وفيها كذلك مدٌّ؛ ثم جاء باللفظين الشديدين مبتدئًا بأخفهما في اللسان وأبعدهما في الصوت لمكان تلك الغُنَّة فيه؛ ثم جيء بلفظة «الدم» آخرًا، وهي أخف الخمسة وأقلها حروفًا؛ ليسرع اللسان فيها ويستقيم لها ذوق النظم ويتم بها هذا الإعجاز في التركيب.
وأنت فمهما قلَّبْتَ هذه الأسماء الخمسة، فإنك لا ترى لها فصاحة إلا في هذا الوضع؛ لو قدَّمت أو أخرت لبادرك التهافت والتعثر، ولأغنتكَ أن تجيء منها بنظم فصيح، ثم لا ريب أَحَالَكَ ذلك عن قصد الفصاحة وقطَعَك دون غايتها. ثم لخرجَتِ الأسماء في اضطراب النطق على ذلك بالسَّواء؛ ليس يظهر أخفُّها من أثقلها؛ فانظر كيف يكون الإعجاز فيما ليس فيه إعجاز بطبيعته.
وبهذا الذي قدمناه ونحوه مما أمسكنا عنه ولم نستقصِ في أمثلته؛ لأنه أمر مُطَّرِد — تعرف أن القرآن إنما أعجز في اللغة بطريقة النظم وهيئة الوضع ولن تستويَ هذه الطريقة إلا بكل ما فيه على جهته ووضعه، فكل كلمة منه ما دامت في موضعها فهي من بعض إعجازه، ومن ههُنا ينساق بنا الكلام إلى القول في النوع الثالث.
(٢٣) الجمل وكلماتها
والجملة هي مظهرُ الكلام، وهي الصورة النفسية للتأليف الطبيعي، إذ يُحيلُ بها الإنسان هذه المادة المخلوقة في الطبيعة، إلى معانيَ تُصوِّرها في نفسه أو تصفها، حتى ترى النفس هذه المادة المصورة وتحسها. على حين قد لا يراها المتكلم الذي أهْدَفَها لكلامه غرضًا ولكنه بالكلام كأنه يراها.
ولذا كانت المعاني في كلماتها التي تؤدي إليها كأنها في الاعتبار بقيةٌ من الشعاع النظري الذي اتصل بالمادة الموصوفة، أو بقيةُ حسٍّ آخر من الحواس التي هي في الحقيقة جملة آلات الإنسان في صنع اللغة.
فإذا رُكِّبَ الكلام على أصل من التركيب لا يتأدَّى بالمعاني إلى أبعد من مظاهر الحس، فهذا هو الكلام الطبيعي الذي لا يزيد من فضيلة المتكلم أكثر مما تزيد الحواسُّ نفسها في هذا المتكلم من فضيلة الإنسانية، وذلك أصل هو من رقة الشأن وخفة المنزلة بحيث يخرج الناس جميعًا بالسواء فيه ليس لأحد منهم على أحدٍ فضل، ما دام الكلام سواءً فيهم من أصل الخلقة وطبيعة الحياة.
أما إذا خرج الكلام إلى أن يكون في أوضاعه ومعانيه كأنه تصرفٌ من الحواس في أنواع الإدراك ودرجاته كتصرف النظر في اكتناه الجَمَال وإدراك معانيه أو السمع في استبانة الأصوات وحس نغماتها، إلى ما يشبه ذلك من صنيع سائر الحواس في كمالها العصبي — فهذا هو الكلام النفسي الذي يُضيف إلى صفة المتكلم صفة البلاغة ويرتفع به عن أن يكون إنسانًا من الجنس إلى أن يكون — بفضيلة البلاغة — مادةً إنسانية لجنس الإنسان.
فإذا ارتفع الكلام إلى أن يصير في تقليبه ومُداورته كأنه طُرُقُ ما بين الحواس في أنواع إدراكها وبين النفس، فلا يخطئ التأثيرَ ولا ينافر جهة من جهاته ولا يعدو أن يبلغَ من الفؤاد مبلغه الذي قُسم له — فهذا هو الكلام الذي يُبينُ البليغ ويفرده من قومه ويجعله مهوى قلوبهم وسَمْتَ أبصارهم؛ إذ يكون في نفسه من هذه القوة البيانية ما يجعله خليقًا أن يعتدَّه التاريخ أحد المجاميع النفيسة في الأرض، وهم الذين لا يكثرون بعددهم، ولكن بمواهبهم؛ حتى إن أحدهم ليكون أمةً في نفسه، ويكون عملُه تاريخ عصر من أمة؛ وهم أولئك الأفراد العظماء الذين تبتدئ درجاتهم مما بين الخلقِ بعضهم من بعض، إلى ما بين الخلق والخالق، من الشعراء إلى الأنبياء.
فإذا بعُدَ الكلامُ وأَمْعَنَ حتى يكون بدقائق تركيبه وطرقِ تصويره كأنما يفيض النفسَ على الحواسِّ إفاضةً، ويترك هذا الإنسان من الإحساس به كأنه قلبٌ كله، ثم يبلغ من ذلك إلى أن يكون رُوحَ لغةٍ كاملة وبيان أمة برُمَّتها، لا يحيله الزمن عن موضعه، ولا يَقْلبه عن جهته، وإلى أن يجعل البلغاء على تفاوتهم فيما بينهم، وعلى اختلاف عصورهم وأسبابهم المتلاحقة، كأنهم معه طبقة واحدة وفي طوقٍ واحد من العجز؛ يُعَنِّيهم طلبه، ويُعنِتُهم إدراكه ويعرفون تركيبه ثم لا يجدون له مأتى من النفس ولا وجهًا من القدرة، فذلك هو الكلام المعجز؛ بل هو معجزة الطبيعة الكلامية التي لم تعرف في تاريخ أمة من أمم الأرض، ولا عُرف أن بلغاء أمة من أمم الكلام قد أقروا وأجمعوا عليها إجماعًا يتوارثونه علمًا ونظرًا على انفساح التاريخ وتعاقب الأجيال، إلا ما كان من ذلك في القرآن، وما لا يزال الإجماع منعقدًا عليه ما بقي في الأرض لفظ من لغة العرب.
وإنما اطرد ذلك للقرآن من جهة تركيبه الذي انتظم أسباب الإعجاز من الصوت في الحرف، إلى الحرف في الكلمة، إلى الكلمة في الجملة، حتى يكون الأمر مقدَّرًا على تركيب الحواس النفسية في الإنسان تقديرًا يطابق وضعَها وقواها وتصرُّفَها، وذلك إيجاد خلقي لا قِبَل للناس به ولم يتهيأ إلا في هذه العربية عن طريق المعجزة التي لا تكون معجزة حتى تخرق العادة، وتفوت المألوف، وتعجز الطوقَ، وإنما امتنع أن يكون في مقدور الخَلق؛ لأنه تفصيل للحروف على النحو الذي يأخذه فيه تركيب الحياة، من تناسب الأجزاء في الدقيق والجليل، وقيام بعضها ببعض لا يغني منها شيء عن شيء في أصل التركيب وحكمته، ولا يرد غيرُها مردَّها، ولا يأتلف ائتلافها، ولا يجري فيها إلى نحو ذلك مما أجرى الله عليه نشءَ الخلق وبعْثَ الحياة، ثم اشتمالها على سر التركيب المكنون الذي جعل البلغاء منها بمنزلة الأطباء في سعة العلم بتركيب الأجسام الحية من الخلية فما فوقها، دون العلم بالوجه الذي يمكن به هذا التركيب، على أنهم لا يفوتهم شيء من دقائقه ولا يعزب عنهم مثقال ذرة من مادته، وهي بعدُ مبذولة لهم يقلِّبونها ويستوضحونها ويزدادون بها على الدهر خبرةً، ثم ينصرفون عنها وهم في العلم غيرُ من كانوا وهي لا تزال عندهم على ما كانت!
ولم نرَ شيئًا كان أمره مع العلم ذلك الأمر إلا أن يكون إلهيًّا، فقد فرغ الناس من كل ما وضع الناس، وعارض بعضُهم بعضًا، وأبرَّ بعضُهم على بعض ولم يَسْلم للمتقدم من الفضل على المتأخر إلا فضيلة احترام الموت واستحياء التاريخ، وقد بُدِّلت الأرض غير الأرض وليس فيها من أثرٍ واحد لم يتناوله ناموسُ النُّشُوء بالنقض من إحدى جهاته على هرم الدهر وتقادُمه، غيرَ القرآن فإنه طبقة وحده في إعجاز تركيبه وسلامة معانيه، لم تنقضِ منه آية ولا كلمة ولا ما دون الكلمة، ولا ذُكر معه شيء من كلام البلغاء، ولا عُورض به ولا أزيل عن موضعه، ولا وَزَنَه عقلٌ إلا كان مرجوحًا أبدًا، وما أراده أحد إلا أراده بغير طريقته، ولا بحث عن طريقته إلا عيَّ بإدراكها وبَعِلَ بها ولم يدر ما هي ولا كيف هي ولا من أين يأتي لها، وصار أمره نَشَرًا لا نظام له، وعاد علمه جهلًا لا بصيرة معه. ولعمري إنه ليس في العجائب كلها شيء أعجب من إمكان أن يكون القرآن مع هذا الإعجاز كله غير معجز!
ومن البيِّن أن أخص أسباب الارتقاء كائنٌ في الغَلبة والتميز والانفراد حيث وُجدت، فلو جاء القرآن مثل كلام العرب في الطريقة والمذهب، وفي الصفة والمنزلة، لما صَلُحَ أن يكون سببًا لما أحدثه، ولذهب مع كلام العرب، ثم لتدافعته العصور والدول إن لم يذهب، ثم لبقي أمره كبعض ما ترى من الأمور الإنسانية؛ لا ينفرد ولا يستعلي.
فتدبر أنت هذا الأمرَ العجيب الذي كان الأصل فيه نزولَ آيات التحدي، وتأمل كيف أثبت القرآن إعجازه على الدهر بهذه الآيات القليلة، وكيف ضمن بما وراءها نشأة العقول التي تدرك هذا الإعجاز وتُقِرُّ به، وتكون مادةً لتاريخه الأبدي، لا تضعف ولا تنحسم؛ وهل بعد هذا من ريب في قول الله تعالى يخاطب الرسول — عليه الصلاة والسلام: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ فقد علم الله هذا الأمر كيف يكون وكيف يثبت، فقدَّره بعلمه وفصَّلَه بحكمته قبل أن يقع، فانظر إلى آثار رحمة الله.
أما ألفاظ هذا الكتاب الكريم، فهي كيفما أدرتها وكيفما تأمَّلْتَها وأين اعترضتها من مصادرها أو مواردها ومن أي جهة وافقتها؛ فإنك لا تصيب لها في نفسك ما دون اللذة الحاضرة، والحلاوة البادية، والانسجام العذب؛ وتراها تتساير إلى غاية واحدة، وتسنَح في معرض واحد، ولا يمنعها اختلافُ حروفها وتباينُ معانيها وتعدُّدُ مواقعها من أن تكون جوهرًا واحدًا في الطبع والصَّقْل، وفي الماء والرونق؛ كأنما تتلامح بروحٍ حية ما هو إلا أن تتصل بها حتى تمتزج بروحك وتخالِطَ إحساسك، فلن تكون معها إلا على حالة واحدة.
تختلف الألفاظ ولا تراها إلا متفقة، وتفترق ولا تراها إلا مجتمعة، وتذهب في طبقات البيان وتنتقل في منازل البلاغة، وأنت لا تعرف منها إلا روحًا تداخلُك بالطرب، وتُشرِب قلبَكَ الروعة، وتنتزع من نفسك حِسَّ الاختلاف الذي طالما تدبرت به سائرَ الكلام، وتصفحت به على البلغاء في ألوان خطابهم وأساليب كلامهم وطبقات نظامهم، مما يعلو ويسفلُ، أو يستمرُّ وينتقض، أو يأتلف ويختلف، إلى غيرها من آثار الطباع الإنسانية فيما يعتريها من نقص أو كلالٍ أو غفلة، ومما هو صورة في الكلام لوجوه اختلافها بالقوة والضعف في أصل الخلقةِ وطريقةِ النَّشْأة وأسباب التحصيل وآلات الصناعة؛ إذ كلُّ ذلك ليس في كل الطباع الإنسانية على سواء.
فأنت ما دمتَ في القرآن حتى تفرغ منه، لا ترى غيرَ صورة واحدة من الكمال وإن اختلفت أجزاؤها في جهات التركيب وموضع التأليف وألوان التصوير وأغراض الكلام، كأنها تفضي إليك جملة واحدة حتى تؤخذ بها وَيغلبَ عليك شبيهٌ في التمثيل مما يغلبُ على أهل الحس بالجمال إذا عَرَضت لأحدهم صورة من صوره الكاملة، فإن لم ضربًا من النظر يعتريهم في تلك الحالة خاصة، ولو سَميتَهُ حِسَّ النظر الفكري لم تُبعِد، فهو يبتدئ في الصورة الجميلة ويستتمُّ في النفس، فلو أنها أُغمضت العينُ دونها لبقيت الصورة ماثلة بجملتها في الفكر، ولو وقفت العين على جهة واحدة منها لوصلها الفكر بسائر أجزائها فتمثَّلت به سوية التركيب تامة الخلق، في حين لا ترى العين إلا هذه الجهةَ وحدها.
وذلك أمرٌ متحقِّقٌ بعدُ في القرآن الكريم: يقرأ الإنسان طائفة من آياته فلا يلبث أن يعرف لها صفة من الحسِّ ترافد ما بعدها وتُمِدُّه، فلا تزال هذه الصفةُ في لسانه ولو استوعبَ القرآن كله، حتى لا يرى آية قد أدخلت الضيمَ على أختها، أو نكرت منها، أو أبرزتها عن ظلٍّ هي فيه. أو دفعتْها عن ماءٍ هي إليه، ولا يرى ذلك كله إلا سواءً وغاية في الروح والنظم والصفة الحسية، لا يَغْتَمِض في هذا إلا كاذب على دِخلةٍ ونية، ولا يُهجِّن منه إلا أحمق على جهل وغَرارة، ولا يمتري فيه بعدَ هذين إلا عاميٌّ أو أعجمي وكَذَٰلِكَ يَطْبَعُ الله عَلَىٰ قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ.
إن طريقة نظم القرآن تجري على استواء واحد في تركيب الحروف باعتبارٍ من أصواتها ومخارجها، وفي التمكين للمعنى بحسِّ الكلمة وصفتِها، ثم الافتنان فيه بوضعها من الكلام، وباستقصاء أجزاء البيان وترتيب طبقاته على حسب مواقع الكلمات، لا يتفاوتُ ذلك ولا يختلُّ، فمن أين يدخل على قارئه ما يَكِدُّ لسانه، أو ينبو بسمعه؛ أو يفسد عليه إصغاءَه أو يردُّه عما هو منه بسبيله؛ أو يَتَقَسَّم إحساسَه ويتوزَّع فكرَه؛ أو يوردُهُ الموارد من ذلك كله أو بعضه؛ إلا أن يكون هذا القارئ رَيِّضًا لم تُفلح فيه رياضةُ البلاغة، ولا أَجْدَى عليه التمرين والدُّرْبَة؛ فخرج ألَفَّ اللسان بليدَ الحس متراجع الطبع، لم يبلغ مبلغ الصبيان في إحساس الغريزة وصفاء هذه الحاسة واطِّراد هذا الصفاء.
فإننا لنعرف صبيانَ المكاتب — وقد كنا منهم — وما يسهِّل عليه القرآن واستظهارَهُ، ولا يمكِّنه في أنفسهم حتى يُثْبِتُوه، إلا نظمُه واتساق هذا النظم، ولو هم أخذوا في غيره من فنون المعارف أو متون العلوم أو مختارِ الكلام أو نحوه مما يُرادون على حفظه، أي ذلك كان، لأعياهم وبلغ منهم إلى حد الانقطاع والتخاذُل، حتى لا يجمعوا منه قدرًا في حجم القرآن إن جمعوه إلا وقد استنفدوا من العمر أضعاف ما يقطعونه في حفظ القرآن، على أنهم يبلغون من هذا بالعَفْو والأناة، ولا يبلغون مثله من ذلك إلا بالعَنَتِ والجهد.
وهذه الروح التي أومأنا إليها «روح التركيب»، لم تعرف قط في كلام عربي غير القرآن، وبها انفرد نظمُهُ وخرج مما يطيقه الناسُ؛ ولولاها لم يكن بحيث هو كأنما وُضع جملة واحدة ليس بين أجزائها تفاوت أو تباينٌ؛ إذ تراه ينظر في التركيب إلى نظم الكلمة وتأليفها، ثم إلى تأليف هذا النظم، فمن ههُنا تعلق بعضه على بعض، وخرج في معنى تلك الروح صفةً واحدة؛ هي صفةُ إعجازه في جملة التركيب كما عرفت، وان كان فيما وراء ذلك متعدِّدَ الوجوه التي يتصرف فيها من أغراض الكلام ومناحي العبارات على جملة ما حَصَلَ به من جهات الخطاب: كالقصص والمواعظ والحكم والتعليم وضرب الأمثال، إلى نحوها مما يدور عليه.
ولولا تلك الروح لخرج أجزاءً متفاوتةً، على مقدار ما بين هذه المعاني ومواقعها في النفوس؛ وعلى مقدار ما بين الألفاظ والأساليب التي تؤديها حقيقةً ومجازًا. كما تعرفه من كلام البلغاء عند تبايُن الوجوه التي يتصرف فيها، على أنهم قد رفَّهوا عن أنفسهم وكَفَوْها أكبر المؤنة فلا يَألُون أن يتوخَّوْا بكلامهم إلى أغراضٍ ومعانٍ يَعْذُب فيها الكلام ويتسق القول وتحسن الصنعة مما يكون أكبرُ حسنه في مادته اللغوية، وذلك شائع مستفيض في مأثور الكلام عنهم، ثم هم مع هذا يستوفُون المعنى الواحدَ على وجهه، فإذا تحولوا إلى غيره، وأفضوا بالكلام إلى سواه رأيتَ من اقتضابهم في الأسلوب ومن التناكر في وضع المعنى إلى المعنى ما يشبه في اثنين متقابلين من الناس منظر قفًا إلى وجه.
وعلى أنا لم نعرف بليغًا من البلغاء تعاطى الكلام في باب الشرع وتقرير النظر وتبيين الأحكام ونصبِ الأدلة وإقامة الأصول والاحتجاج لها والرد على خلافها، إلا جاء بكلام نازلٍ عن طبقة كلامه في غير هذه الأبواب؛ وأنت قد تصيب له في غيرها اللفظ الحر، والأسلوب الرائع، والصنعة المحكمة والبيان العجيب، والمعرضَ الحسنَ، فإذا صرت إلى ضروب من تلك المعاني، وقعت ثمَّةَ على شيء كثير من اللفظ المستكْرَهِ، والمعنى المستغلِق والسياق المضطرب، والأسلوب المتهافت والعبارات المبتَذَلَة، وعلى النشاط متخاذِلًا والعُرى محلولة، والوثيقة واهنةً، وتبيَّنْتَ كلامًا لا تطمئن إليه في أكثر جهاته حتى لتُعجب أن صاحبه وصاحب ذلك الكلام رجل واحد.
وإنما وقع للبلغاء هذا النقصُ من جهة التركيب؛ إذ ليس له في كلامهم روحٌ كروح النظم في القرآن ولا هذه الروحُ مما تُطَوِّعُه قُوى الخلق؛ فلما صاروا إلى الوضع الذي تضعف مادته اللغوية من الحقيقة والمجاز وما إليهما، صاروا إلى الضعف الذي لا قِبلَ لهم به ولا حيلة لهم فيه إلا مداورةُ الكلام وتعريضُ العبارة وتشقيق المعنى، فذهبوا إلى الخلق والتهافت وتصدير القول بالرُّقع من ههنا وههنا، فحيث أصبتَ كلمةً رائعة أصبتَ منها رُقعة، وكان ما اتفق لهم من هذه الصنعة في تحسين الكلام دليلًا على قبحه؛ وكان قبحًا جديدًا.
وإنك لتحارُ إذا تأملتَ تركيب القرآن ونظمَ كلماته في الوجوه المختلفة التي يتصرف فيها؛ وتقعُد بك العبارة إذا أنتَ حاولت أن تمضي في وصفه حتى لا ترى في اللغة كلها أدلَّ على غرضك وأجمعَ لما في نفسك وأبينَ لهذه الحقيقة، غير كلمة الإعجاز.
وما عسى أن تقول في كلام ترى للفظ من الألفاظ فيه معنى؛ ثم ترى كأن لهذا المعنى في التركيب معنى آخر، هو الذي يفيضُ على النفس ويتصل بها، فكأنه كلامٌ مُدَاخَلٌ وكأن اللغة فيه لغتان.
ثم ما أنت قائل في كلام جاء من الإبداع في التأليف ومن وجوه التفنن في تلوين المعاني بحيث نفى العربَ جميعًا عن لغتهم، وهم في أرقى ما اتفق لهم من العصور اللغوية، واستبدَّ بها دونهم واستغرق كل ما جاءوا به من محاسن البيان حتى لم يدع لمن يقابل بينه وبين كلامهم إلا حُكمًا واحدًا تنتهي إليه المقابلةُ من أي جهاتها سلك؛ وهو أن العرب أوجدوا اللغة مفرداتٍ فانيةً، وأوجدها القرآن تراكيبَ خالدة.
ثم ماذا يبلغ القولُ من صفة هذا التركيب العجيب، وأنت ترى أن أعجب منه مجيئه على هذا الوجه الذي يستنفد كلَّ ما في العقول البيانية من الفكر، وكلَّ ما في القُوَى من أسباب البحث؛ كأنما ركِّبَ على مقادير العقول والقوى وآلاتِ العلوم وأحوال العصور المغيَّبَة؛ فتراه يتخير من الألفاظ على درجاتٍ ليس معنى العجب فيها أن يقع التخيُّر عليها، ولكن العجب أن تستجيب ألفاظُهُ على هذا الوجه المعجز الذي لا يكون في اللغة إلا عن قدرة هي عينُ القدرة التي ألهمت أهلها الوضعَ والتعبيرَ وتشقيق الكلام، حتى حصلت لغتهم كاملة في كل ذلك.
وإن من أعجب ما يحقق الإعجاز: أن معاني هذا الكتاب الكريم لو أُلبست ألفاظًا أخرى من نفس العربية، ما جاءت في نمطها وسمتها والإبلاغ عن ذات المعنى لا في حكم الترجمة، ولو تولَّى ذلك أبلغُ بلغائها وكان بعضهم لبعض ظهيرًا؛ فقد ضاقت اللغة عنده على سعتها؛ حتى ليس فيها لمعانيه غيرُ ألفاظه بأعيانها وتركيبها، ومتى كانت المعارضة والترجمةُ سواءً إلا في المعجز الذي يساوي بين القُوَى في العجز وهي بعدُ في ذات بينها مختلفات؟
(٢٤) فصل
ولو ذهبتَ تَفْلِي كلامَ العرب من شعر شعرائهم ورَجَزِ رُجَّازهم وخُطَب خطبائهم وحكمة حكمائهم وسجع كُهَّانهم، من مضى منهم ومن غَبَرَ على أن تجد ألفاظًا في غرابة تركيبها «التي هي صفة الوحي» كألفاظ القرآن، وعلى أن ترى لها معانيَ كهذه المعاني الإلهية التي تكسب الكلامَ غرابةً أخرى يُحسُّ بها طبعُ المخلوق ويعتريه لها من الروعةِ ما يعتري من الفرق بين شيء إلهي وشيء إنساني — لما أصبت في كل ذلك مما تختاره إلا لغةً وأوضاعًا ومعانيَ إنسانية، تقع بجملتها دون قصدك الذي أردتَ، ولا ترضاها للتمثيل والمقابلة، ولا تراها تحل مع القرآن إلا في محل نافر ولا تنزل منه إلا في قاصيةٍ شاردة؛ ثم لوجدت فرق الغرابة الإلهية بين اثنيهما في الكلام عينَ ما تعرفه من الفرق بين الماء في سحابه، والماء في ترابه.
وما من بليغ يتدبر هذه الأوضاع في القرآن؛ ثم تحدِّثه النفس أن خاطرًا إنسانيًّا يتشوَّف إلى مثلها، أو يصلُ بها سببًا من أسباب المطمعة، أو يظن أنه قادرٌ عليها؛ إذ يرى غرابة الوضع في تركيب الألفاظ أشبه شيء بالتوقيف الإلهي في وضع الألفاظ نفسها لو كان وضعُها ابتداءً واختراعًا في اللغة، وكان ذلك في زمنه «أي البليغ» أو بعين منه، بحيثُ تظهر له غرابة الوضع اللغوي خالصةً جديدة، لا شوبَ فيها مما يألفه السمع أو تمكِّنه العادة، أو نحو ذلك مما يجعلُ الغريبَ مأنوسًا، أو يأخذ من غرابته أو يصْقِلُ بعضَ جهاتها. فيظهر الأمر الغريب وكأنه غيرُ ما هو في نفسه.
على أنه لا يجد مع تلك الغرابة في أوضاع القرآن، إلا ألفاظًا مؤتلفةً متمكِّنة في التئام سردها وتناصُف وجوهها؛ لا ينازع لفظ واحدٌ منها إلى غير موضعه، ولا يَطلُب غير جهته من الكلام، ولعمري إن اتفاقَ هذا الإحكام العجيب مع غرابة الوضع، لهو أغرب منها في مذهب البلاغة، وأدخلُ في باب العجب لولا أن الأمر إلهي، ولا عجب من قدرة الله.
وقد كان العرب إنما يرَكِّبون ألفاظهم في معانيَ مألوفة وعلى سُنن معروفة، فإن وقع فيها شيء غريبٌ فلا يكون من ائتلاف اللفظ مع اللفظ، وإنما يجيء من أبوابٍ أخرى تتعلق بهيئة التركيب نفسه؛ على ما عُرِف من جهات البلاغة وفنونها. وذلك شيء لا يَنْقُضُ العُرف، بل يتهيأ مثلُهُ لكل من تسبب له وأخذ في طريقته، وكثيرًا ما اتفق للمتأخر فيه أبدعُ مما جاء به المتقدم؛ لأنه أمر عَمُودُه الطبعُ؛ وأسبابه في الاكتساب والتمرين، والبراعة فيه بالتوليد والمحاكاة والتأمل؛ وهذه ضروبٌ كلما اتسعت أمثلتُها اتسعت فنونها، لاشتقاق بعضها من بعض؛ وبها انتهت البلاغةُ في المتأخِّرين إلى ما انتهت إليه مما ذهب أكثره من علم المتقدمين في صدر اللغة.
وتلك الغرابة التي أومأنا إليها قد يتفق الشيء القليلُ منها لأفراد الفصحاء وأئمة البيان، مما ينفذ فيه الطبع اللغوي، والمنزع القويُّ، وهو من غرابة القريحة فيهم؛ على أن ذلك لا يعدو كلماتٍ معدودة: كقول امرئ القيس في الجواد: «قيدِ الأوابد» وقول أبي تمام في الرأس: «وطن النُّهى»، ونحو ذلك من الكلمات الجامعة التي تتفق لفحول الشعراء والبلغاء، مما هو في الحقيقة وضعٌ لغوي مركب، يشبه الوضع اللغوي في الكلمات المفردة، فيتناول اللغة والبلاغةَ جميعًا، وتكون فضيلته في الجهتين.
بَيْدَ أنك ترى جملة تراكيب القرآن من غرابة النظم، على ما يشبه هذا الوضعَ في ظاهر الغرابة، وترى فيه من البلاغة الجامعة خاصة أضعاف ما أنت واجده لأهل اللغة كلهم من الشعراء والخطباء والكتاب. وهذا الضرب من البلاغة تُحصي منه في كلام رسول الله ﷺ ما يرجح بكثير من الناس، ولكن لا يعمُّهم؛ وهو باب من أبواب بلاغته — عليه الصلاة والسلام — بل من أخص أبوابها. كما نبسطه في موضعه.
وكل العلماء قد مضوا على أن ألفاظ القرآن بائنةٌ بنفسها، متميزة من جنسها، فحيثما وجد منها تركيب في نسق من الكلام، دلَّ على نفسه وأومأت محاسنُهُ إليه ورأيتَه قد وشحَ ذلك الكلامَ وزيَّنه وحرك النفسَ إلى موضعه منه؛ وهو بعدُ أمر واقع لا وجه للمكابرة فيه، ولا نعرف له سببًا إلا ما بيَّنَّاه من الصفة الإلهية في معانيه، وغرابة الوضع التركيبي في ألفاظه، فإن ذلك يتنزل منزلةَ الوضع الجديد في الكلام المألوف، فلا ينبئ الوضعُ الغريب عن نفسه بأكثر مما تدل عليه ألفةُ المأنوس الذي يحيط به. ومن أجل ذلك كله قلنا إن العرب أوجدوا اللغة مفردات فانية، وأوجدها القرآن تراكيبَ خالدة؛ وأن لهذه اللغة معاجم كثيرةَ تجمع مفرداتها وأبنيتَها، ولكن ليس لها مُعجم تركيبيٌّ غير القرآن.
وإنما سميناه «المعجم التركيبي» لأنه أصل فنون البلاغة كلها، فما يكون في المنطق العربي نوعٌ بليغ إلا هو فيه على أحسن ما يمكن أن يتفق على جهته في الكلام. وقد رأيناه في كل أنواع البلاغة يجنحُ إلى الوضع والتأصيل حتى إنك لو قابلتَ ما فيه من أمثلتها بأحسن ما استخرجه العلماء من جملة كلام العرب، لأصبتَ فرق ما بين ذلك في سمو الطبيعة اللغوية وإحكام البيان وانتظام محاسنه، كالفرق الذي تكشفه المقابلةُ ما بين النبوغ والتقليد، وللّه المثلُ الأعلى.
وهذا أمر لم يقع له نظير في التاريخ ولن يقع بعدُ، وما من أمة في الأرض غير العرب استوفت وجوهَ البلاغة في لغتها من كتاب واحد «على أن تكون هذه اللغة من أوسع اللغات وأبلغهنَّ قصدًا واستيفاءً كالعربية»، سواء كان لها ذلك الكتاب قبل أن توضع علومُ بلاغتها وقبل أن يُعرف منها بابٌ أو فصلٌ من بابٍ أو مثالٌ من فصل كما وقع في العربية، أو بعد أن وُضعت، ولا سواءٌ في المنزلة والإعجاز أن يكون الكتاب كذلك.
(٢٥) فصل
وبعد فلا سبيلَ من كتابنا هذا إلى بسط الكلام وتقسيمه فيما تضمنه القرآن من أنواع البلاغة التي نصَبَ لها العلماء أسماءها المعروفة: كالاستعارة والمجاز وغيرهما، فضلًا عن أنواع البديع الكثيرة؛ فإن ذلك يُخرج الكلام مُخْرَجَ التأليف وبناء القول على هذه الفنون نفسها، وهو معنى كان استخراجُه من القرآن بابًا مفردًا صنَّفَ فيه جماعة من العلماء المتأخرين: منهم الإمام الرازي المتوفى سنة ٦٠٦ﻫ، فقد لخص كتابي «أسرار البلاغة» و«دلائل الإعجاز» للجُرجاني، واستخرج منهما كتابه في إعجاز القرآن، وهو كتاب معروف، أحسن في نسقه وتبويبه، ثم الأديب ابن أبي الإصبع المتوفى سنة ٦٥٤ﻫ، فقد صنف كتاب «بدائع القرآن» أورد فيه نحو مائة نوع من معاني البلاغة وشرحها، واستخرج أمثلتها من القرآن، ثم ابن قيم الجوزية المتوفى سنة ٧٥١ﻫ، وقد أشرنا في غير هذا الموضع إلى تصنيفه «كتاب الفوائد المشوق إلى علوم القرآن وعلم البيان»، وهو في معناه بتلك الكتب كلها.
ولسنا نقول إن القرآن جاء بالاستعارة لأنها استعارة، أو بالمجاز لأنه مجاز، أو بالكناية لأنها كناية، أو ما يطَّردُ مع هذه الأسماء والمصطلحات، إنما أريدَ به وضعٌ معجر في نسق ألفاظه وارتباط معانيه على وجوه السياستين من البيان والمنطق، فجرى على أصولهما في أرقى ما تبلغه الفطرة اللغوية على إطلاقها في هذه العربية، فهو يستعير حيث يستعير، ويتجوَّز حيث يتجوز، ويُطنِبُ ويُوجز ويوكِّد ويعترض ويكرِّر إلى آخر ما أحصي في البلاغة ومذاهبها؛ لأنه لو خرج عن ذلك لخرج من أن يكون معجزًا في جهة من جهاته، ولاستبانَ فيه ثمة نقصٌ يمكن أن يكون في موضعه ما هو أكملُ منه وأبلغُ في القصد والاستيفاء.
واعلم أنه ليس من شيء يحقق إعجازَ القرآن من هذه الجهة، ويكشف منه عن أصول السياستين، والتأتِّي إلى أغراضهما بسياق اللفظ ونظمه، وتركيب المعاني وتصريفها فيما تتجه إليه، ومداورةِ الكلام على ذلك — إلا تأمُّلَه على هذه الوجوه، وإطالةَ النظر في كل معنى من معانيه، وفي طبيعة هذا المعنى ووجه تأديته إلى النفس، وما عسى أن تعارضه النفسُ به، أو تُدافِعَه، وتلتويَ عليه من قبَله؛ ثم طبقات هذا المعنى بعينه، وتقديرها على طبقات الأفهام، واعتبارِها بما هو أبلغ في نفسه وأعم في وضعه، ثم وجه ارتباط ذلك المعنى بما قبله، واندماجِه فيما بعده، ومُسَاوَقته لأشباهه ونظائره حيث اتفق منها في الكلام شيء. ثم تدبُّر الألفاظ على حروفها وحركاتها وأصواتها ولحونها، ومناسبة بعضها لبعض في ذلك، والتغلغُل في الوجوه التي من أجلها اختِير كلُّ لفظ في موضعه، أو عُدِلَ إليه عن غيره، من حيث موافقته لمعنى الجملة ونظمها، ومن حيث دلالته في نفسه، وملاءمته لغيره، ثم النظرِ في روابط الألفاظ والمعاني من الحروف والصِّيَغ التي أقيمت عليها اللغة ووجه اختيار الحرف أو الصيغة، وموضع ذلك في الغَنَاء والإبلاغ في الدلالة من سواه، ثم طريقة النسق والسرد في الجملة ووجه الحذف أو الإيجاز أو التكرار ونحوها، مما هو خاصٌّ بهذه الطريقة على حسب ما تُوَجِّهه المعاني، فإن كل ذلك في القرآن الكريم على أتمه، ليس فيه اضطراب أو الْتِواء، ولا يجوز فيه عذرٌ ولا تسويغ، وهو منه بحيث يدعو بعضُه إلى بعض، ويريد بعضُه بعضًا مما ينفي عنه التصنيع والتكلفَ والمحاولة، ويدل على أنه كالمفرَغ جملة واحدة، ثم هو أمر لا يجتمع ألبتة في كلام أحد من الناس ولا يستوسق على البلاغة الإنسانية، وما علوم البلاغة كلها إلا بعض الوسائل في التنبيه إليه، فهي تعطي القدرة على النظر والفهم، ولكنها لا تعطي بمقدار ذلك في العمل والصنعة.
وأنت إذا اعتبرتَ القرآنَ على تلك الوجوه التي فصَّلناها، رأيته أعلى من البلاغة التي وُضعت لها تلك الفنونُ، فإن هذه من بيان اللسان الذي لا يرتفع عن طبقة اللغة، ولا يخرج من وجوه العادة في تصريفها، وسُنَن أهلها في إبراز معانيها، وهذا أمر يقع فيه التفاوت، ويخرج بعضه إلى الإحكام وبعضه إلى التسامح وبعضُه أمرٌ بين ذلك؛ لأن حالات المعاني مختلفة مع النفس فبعضها مما ينقاد، وبعضها مما يُسْتَكْرَه؛ ثم النفوسُ مختلفة على حسب ذلك جمامًا ونشاطًا أو ضعفًا وتخاذلًا، ومهما يكن في آثارها من بلاغة المعاني وإحكامها، ورونق العبارة ونظامها، فإن نفسًا أنفذُ من نفس، وحسًّا أدقُّ من حس، وقوةً أبلغ من قوة، وإحاطةً أوسعُ من إحاطة.
ومن ههنا تجد العبارة البليغة الواحدة كثيرًا ما تقع المواقعَ المختلفة على طبقات متعددة في أهل النظر حين يتأملونها ويصفونها، فإن بقيت على بلاغتها مع جميعهم لم يَرُدَّها أحد ولا أنكرها، فلا بد من اختلاف هذه البلاغة حينئذٍ بُدٌّ حتى تكون عند أقواهم كأنها غيرُ ما هي عند أضعفهم، وحتى يُخيل إلى الضعيف أن القويَّ إنما يتعنتُ في حكمه ويذهب بنفسه مذهب قوته، ويخيَّل إلى هذا القوي أن الضعيف لا يمحض نفسه ولا يستقصي في نظره ولا يقول بعلم؛ ولكلٍّ وجهةٌ هو موليها، وإنما اختلافُ بينهم من حيث اختلفت القوى.
(٢٦) فصل
والقرآنُ وإن كان لم يخرج عن أعلى طبقات اللغة، ولا برز عن وجوه العادة في تصريفها، غير أنه أتى بذلك من وراء النفس لا من وراء اللسان. فجعل من نظمه طريقةً نفسيةً في الطريقة اللسانية، وأدار المعاني على سُنَنٍ ووجوه تجعل الألفاظ كأنها مذهب هذه المعاني في النفس، فليس إلا أن تقرأ الآية على العربي أو من هو في حكمه لغةً وبلاغةً، حتى تذهب في نفسه مذهبها: لا تَني ولا تتخلف، على حينِ أن أكثر المعاني الإنسانية يجيء من النقص في السياسة البيانية، بحيث ترى نفس السامع أو القارئ هي التي تذهب فيه فتأخذُ إلى جهة وتَعْدِلُ عن جهة، وتصعدُ في ناحية وتستَبْطِنُ في ناحية أخرى، ولا يكون من شأنها أن تنقادَ وتُذْعنَ، ولكن أن تكابِرَ وتأبَى أو تتصفح وتستدرك أو تستحسن وتزدري؛ لأن المعنى قد ألقي إليها في ألفاظ تقصِّر بحقيقته النفسية في تركيبها ونظمها أو تضعف هذه الحقيقة، أو تلبسها بغيرها، أو تهمل في تصويرها لونًا من الألوان، أو تجيء بها على الشبه والمحاكاة مما لا يبلغ الحقَّ في تصورها والتنبيه عليها.
وعندنا أنه لا يمكن أن يتَّجه للباحث طريقُ الإعجاز المطلَق أو يستقيم عليه، إلا إذا تدبر القرآن على تلك الوجوه التي أشرنا إليها؛ وقلَّب ألفاظه ومعانيَه، وعرف من أين تُلوَى عُروة اللفظ ومن أين معقد المعنى، فإن ذلك يدفع به لا محالة إلى القطع بأنه غير إنساني، وأن ليس في طبع الإنسان أكثرُ من فهمه، وما نشكُّ على حالٍ في أنها كانت هي طريقة العرب في الإحساس بإعجازه؛ إذ ليس إلى الحقيقة غيرُها من سبيل، وهم كانوا أعرفَ بكلامهم وسُنَنِه ووجوهه، وما يمكن أن يتفق في الطباع وما لا يتفق.
وما أخطأ هذه الطريقة أحدٌ إلا أخطأ وجهَ الإعجاز العربي، وإلا فما بال كثير من بلغاء المتكلمين، وما بال أهل العربية وفنونها، وما بالُ أكثر علماء البلاغة نفسها — لا يهتدون في الحكم عليه إلى أبعد من أنه معجز بقوة الإيمان …؟ وما إعجازه إلا في قوة تركيبه على ما بسطناه بحيث لا تُقْرَن إليه قوةٌ إنسانية إلا خرج عن طوقها، وكان جهدُها الذي تجهد كأنه في معارضته قوةٌ من ضعيف، أو عَفْوٌ من جهد القوي، فكأنها لم تصنع شيئًا فيما صنعت، وجهدت وكأنها لم تجهد.
وليس شيءٌ أقربَ في الدلالة على ذلك لمن لم ينهض به طبعه، أو كان لم يتيسَّر لهذا الأمر بأدواته، ولا أوفى بغرضه — من أن يتأمل أمثلتَه في كل باب طبيعي من أبواب البلاغة العالية، فإنه سيرى منها الباب كله، ويرى ما عداها واقعًا من دونها حيث وقع.
(٢٧) فصل
بَيدَ أن طريقة البلاغة إنما يراد بها تحقيق المعنى، واستبراء غايته، وامتلاخُ الشبهة منه، وأخذ الوجوه والمذاهب على النفس من أجزائه التي يتألف منها، بعد أن تُستوفى على جهتها في الكلام استيفاءً يقابل ما يمكن أن تشعر به النفس من هذه الأجزاء، حتى لا تصدِفَ عنه، ولا تجد لها مذهبًا ولا وجهًا غيرَ القصد إليه؛ فيكون من ذلك الإلزامُ البياني الذي توحيه طبيعة المعنى البليغ وكان حتمًا مَقضِيًّا.
وهذا غرض بعيد وعَنتٌ شاقٌّ لا تبلغ إليه الوسائل الصناعية مما يُتَّخذ إلى إجادة الكلام وإحكام صنعته البيانية، وإنما يتفق لأفراد الحكماء ودهاة السياسة ما يتفق منه، وحيًا وإلهامًا، وإنما يُلَقونه على جهة التوهم النفسي الذي تتخلق منه خواطر الشعراء؛ فنحن نعرف علمًا وتجربة أن الشاعر قد يعالج المعنى البكر، ويريغ الوجه المخترع، فيكد في تمثُّلِ ذلك حتى يتسلَّط أثرُ الكد على فكره، ويضرب المللُ على قلبه، ويصرفه الضجَرُ؛ ثم لا يعطيه كل هذا طائلًا ولا يردُّ عليه حقًّا من المعنى ولا باطلًا، وما فرَّط ولا أضاع ولا قصَّر ولا استخفَّ، ولا كان في عمله إلا من وراء الغاية، وقد تقع إليه في تلك الحال معانٍ كثيرة تفترق وتلتقي، ولكن ليس فيها المعنى الذي من أجله نصب وإليه تأتَّى، فيُضرِب عنه بعد المحاولة، ويُقصِرُ بعد المطاولة حتى إذا استجمَّت خواطره، واستحدثَ منها غيرَ ما كان فيه، وتلقَّى جهة أخرى من الكلام، وقع إليه ذلك المعنى بعينه وجاءه عفوًا بلا تكلف، وهو لم يُعاودْهُ ولا قصد إليه، وقد كان بلغ منه كلالُ الحد واضطراب الحس مبلغ الرَّهَقِ والمعاناة، وإنما أُلهمهُ في تلك الحال إلهامًا، فعاد ما لم يمكن بكل سبب، ممكنًا بغير سبب!
وربما أراد الشاعر معنى من هذه الخواطر النادرة، فلا يكاد يبتدئ التفكير فيه أو يَهُمُّ بذلك، حتى يراه قد حصل في نفسه وهو لما يتمثل أجزاءه ولا استتمَّ تصوُّرَها، ولا كان إلا أنه أراد ما اتفق، واتفق له ما أراد، ودع عنك أقوال الفلاسفة من علماء النفس وغيرهم، وما يعتلون به لمثل ذلك من أعمال الدماغ؛ فلو أن فيهم شاعرًا لأفسد عليهم ما تأولوه واستخرج من رأسه الحقيقة، فإنما الشاعر مُلهَمٌ، وكأنما تحدَّث نفسه في بعض أطوارها العصبية من جهة الغيب.
بيد أن الإلهام طبقة فوق العقل، ولهذا كان فوق الإرادة أيضًا، وهو محدود في الإنسان والحيوان جميعًا؛ أما هذا «أي الحيوان» فلا يتصرف فيه ولكن يتصرف به، وبذا لا يكون أبدًا إلا كما هو، ولا يُعطى الإرادة المطلقة لأنها دون الإلهام. وأما ذلك «أي الإنسان» فلا يُلَقَّاه إلا في أحوال شاذَّة من أحوال النفس، وبذا لا يكون أبدًا غيرَ من هو، ولا يُسلَب الإرادة لأن الإلهام فوقها.
ولو استطاع الناس يومًا أن يتصرفوا بالإلهام كما يتصرفون بالعقل، على أن يكون لهم الاثنان جميعًا، فيذهب كلاهما في مذهبه، ويَتَيَسَّرون للأداة التي تخطئ وتصيب، والأداة التي تصيب ولا تخطئ — لَتَفَاوَتَ الأمر تفاوتًا قبيحًا، ولما بقي في الأرض إنسان يسمى إنسانًا، ولكن الله تعالى يقلِّب أفئدتهم، وأبصارَهم، فهذه للعقل، وتلك للإلهام، وكلٌّ يُغني شأنه فَلَا تَضْرِبُوا لِلهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ الله يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ!
وعلى هذا الوجه الذي بسطناه من أمر الإلهام والتحديث يكون وحي السياسة المنطقية التي أومأنا إليها وهي في لغة كل أمة أبلغ البلاغة، غير أنها في القرآن الكريم مما يُعجِز الطَّوقَ، ولا تحتمله قوة النبوغ الإنساني، فقد أُحكمت في آياته إحكامًا أظهرها مخلوقة خلقًا إلهيًّا، لا مصنوعة صنعة إنسانية، وجعل كلَّ آية منها كأنها في الكلام نفسٌ كلامية.
ولا نظن بتةً أن عربيًّا يطمع في مثل ما جاء به أو يطوِّعه له الوهم، مهما بلغ من سمو فطرته ورقة حسه، ومن بصره بطرق الوضع التركيبي، ونفاذه في أسرار البيان وتقليب أوضاع اللغة، فإن الشأن ليس في هذه اللغة ومتعلقاتها بمقدار ما هو في التوفيق بين أجزاء الشعور وأجزاء العقل على أتمها في الجهتين. وهذا بابٌ لا ينفذُ فيه إلا من كان شعوره وعقله وبيانه فوق الفطرة في أكمل ما يتهيأ لها من كمال الحقيقة الإنسانية التي تجمع تلك الصفات الثلاث: «البيان والعقل والشعور»، والتي يقال لها من أجل ذلك: «النفس الناطقة». وليس في الناس جميعًا من يصح أن يقال فيه إنه فوق الفطرة بالمعنى الصحيح، وإن كان هو بسموِّ فطرته فوق الناس.
ولو ذهبتَ تعتبرُ القرآن كله لرأيت تلك الطريقة فيه أظهر الوجوه التي تبينه من كلام الناس وتجعله قبيلًا وحده، فإن لبلغاء الناس كلامًا جيدًا في كل أبواب البيان، بيد أنك حين تأخذه تأخذه متفاوتًا في أجزاء تلك السياسة المنطقية، وحين تدعه تَدَعُه متفاوتًا في طرق النظم التي خرج بها القرآن كما عرفتَ من قبل: فلا هو من ذلك في نسقٍ ولا طريقة.
وما نشك على حال أن فصحاء العرب وأهلَ البلاغة فيهم قد أدركوا بفطرتهم هذه الطريقة المعجزة التي تنصرف إلى وجهٍ ثم تجيء من وجه آخر، ولا أنهم قد عرفوا أن هذا مما لا تقوم به البلاغة وضروبُها، وأن غاية كدِّ العقل في مثله أن يبعُدَ بالمعنى عن صنعة اللسان، وغاية كد اللسان أن يُدخِلَ الضيمَ فيه على صنعة العقل، فإن دقَّ المعنى ولطُفَتْ مذاهبه وأُحكمت الحيلة في تصريفه، قصَّر عنه البيانُ الذي ألفوه مذهبًا لفظيًّا، وعرفوه افتنانًا في الصنعة والتركيب، كما بسطناه في مواضع كثيرة، وإن صرَّح المعنى واستبانَ ولانت أعطافه وجاء على نسقهم في المحاورة والمخاطبة خرَجَ على قدر ذلك وغلبت عليه الألفاظ ولم يكن بتلك المنزلة.
ولو أنعمتَ على تأمل هذه الجهة لانكشف لك السببُ الذي من أجله لا نرى في كل ما يؤثَر عن أهل هذه اللغة قولًا معجزًا، ولو اعترضتَ كثيرًا وكثيرًا من الجيد الرائع في الكلام، وقرنتَ بعضَه إلى بعض، وبلغت من البيان ما أنت بالغ؛ لأن كل ذلك ليس من القرآن في نسق ولا طريقة، وإن اتفق له منهما شيء اختلفت عليه منهما أشياء.
بيدَ أنك تقرأ الآيات القليلة من هذا الكتاب الكريم؛ فتراها في هذا النسق وتلك الطريقة بكل ما في اللغة؛ لأنها متميزة بصفتها، وبائنةٌ بنسقها؛ ومتى اعتبرنا الشيء بطريقته التي يُغالَى به من أجلها، كان الترجيح عند المعادلة للطريقة نفسها؛ فلا عجب أن ظهرت طريقة القرآن بالكلمات القليلة منها على جملة اللغة بما وَسِعَتْ، ولا بدع أن يكون التحدي من هذه الطريقة بمثل تلك الكلمات على قلتها، وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا.
(٢٨) الخاتمة
وبعد؛ فلا بد لنا من التنبيه على أنا في كل ما أسلفنا من القول في إعجاز القرآن أو الإشارة إلى بعض الوجوه المعجزة فيه، إنما أجملنا تفصيلًا، وأتينا بما أتينا به تحصيلًا، فاكتفينا من ذلك بما يرشد إلى أمثاله، واقتصرنا من كل وجهٍ على أصل المعنى دون مِثاله؛ فإن القرآن الكريم ليس كتابًا يُتخير منه فيستجاد بعضه، ويُصْفَح عن بعضه، إنما هو طريقٌ مستبصِرٌ: من أين أخذتَ فيه نَفَذْتَ، ومن حيث تأدَّيت به تهدَّيْتَ، وهو في كل معنى مما قدمناه سَننُهُ القائم، ومثالُه الدائم.
ولقد صدفنا عن كثير مما اعترضنا، وكان لا بد من انبساط القول فيه واتساع المادة به، مما لو تقصيناه لطال، وبلغ بالقارئ مبلغ الملال، وعلى أنّا لو ذهبنا نستقصي في استخراج كل معنى على حدوده وجهاته، ونستحمل النفس حاجة الشرح والتمثيل، والموازَنة والتعديل، ونوسِعُ هذا الباب اعتبارًا ونظرًا؛ لخرجنا منه إلى ما يستنفدُ العمر كله، وإن كنا لا نهاوِن بالنفس ولا نَرفق بها في العمل؛ ولصرنا من بعد ذلك إلى فضل تعجز عنده المؤنة، ويَقصر مقدار العقل دونه، فإنما هو كتاب الله أُحكمت آياته ثم فصلت من لدُنْه على حكمته وعلمِه، فإن نَفَذنا من أسراره في النظم والنسق، بقي ما وراء ذلك مما هو علة النظم والنسق؛ وإن استطعنا القول في كيفية إجماله، لم نستوعبه في كيفية تفصيله، إنما طريقنا في كل ذلك دنوُّ المأخذ، وقرعُ الحجة، وقليلٌ من كثير، وجهدُنا فيه أن نلزم جانبَ الأصل اللغوي في الإعجاز حتى لا ندعَ أحدًا على لَبْسٍ من هذا الأمر، الذي هو علة ما وراءه وله ما بعده؛ وغايتُنا منه أن نكشف عن أسرار المعجزة التاريخية التي بقيت إلى اليوم معضلة في تاريخ الأرض؛ وهي تأليف العرب على تعاديهم وتنافرهم، والزحف بهم على قتلهم وضعف وسائلهم، وتوثبهم على فقرهم وغنى سواهم حتى اكتسحوا دولة الفرس، والتحفوا على مملكة الروم، وهما يومئذ الدنيا القديمة، وهما العينان في رأس التاريخ، وقد توافقت جيوشهما والتحمت في مواطن القتال، وسعَّروا الأرض نارًا وحرْبًا مدة ثلاثة قرون أو حولَ ذلك؛ حتى استحكمت لهم صيَغُ الحروب، واستجمعوا فيها الرأي من جهاته، وكانت لهم الدُّربة على قيادة الجيوش، وكانوا أهل الرياسة والنباهة في كل ما وصفناه.
ولولا القرآن وما بسطناه من أمره في كل ما سلف، وأنه على تلك الجهات المعجزة؛ لما أدرك العرب في أمرهم دَرْكًا، ولَفَاتَهُم من ذلك الفوت كله، وإنَّما العربُ نفوسُهم وقرائحهم، وإنَّما القرآن بلاغتُه وفصاحتُه؛ وعلى هذا قوله تعالى في خطاب نبيه ﷺ: لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ، فذلك ما علمت.
هوامش
وفي رواية ثالثة لابن عساكر: أن عثمان خطب في الناس يومئذ وعزم على كل رجل عنده شيء من كتاب الله لما جاء به، فكان الرجل يجيء بالورقة والأديم فيه القرآن، حتى جمع من ذلك كثرة؛ ثم دعاهم رجلًا رجلًا، فناشدهم: أسمعت رسول الله ﷺ وهو أملاه عليك؟ فيقول: نعم، فلما فرغ من ذلك عثمان قال: من أكتب الناس؟ قالوا: كاتب رسول الله ﷺ زيد بن ثابت، قال: فأي الناس أعرب؟ قالوا: سعيد بن العاص، قال: فليمل سعيد وليكتب زيد.
ونحسب أن اختلاف هذه الرواية وما جاء بمعناها من وجوه أخرى إنما بعث عليه تصور الرواة لأبلغ ما يكون من صور الثقة في هذا الأمر حتى يحكموه من نواحيه كلها، فإنك لا ترى منها رواية إلا وفيها مبالغة في التحري ليست في الأخرى، والذي يخبر بمثل ذلك الخبر عن القرآن إنما يخبر بأمر شديد إذا هو لم يكن فيه لموضع الثقة ولم يحصنه أشد التحصين حتى لا تجد الشبهة إليه سبيلًا.
وظاهر أنه من المحال أن تكون كل هذه الروايات هي الواقع.
وهذا الخبر يظاهر ما ورد في معناه وانعقد به التصديق من أن ترتيب الآي إنما كان توقيفًا منه ﷺ ومن قصص زيد عن نفسه في تلك الرواية تعلم أنه كان يحفظ القرآن على ترتيبه آية فآية وسورة فسورة.
فدعا معاوية «بالمصحف» ثم دعا رجلًا من أصحابه يقال له ابن هند، فنشره بين الصفين، ثم نادى الله الله في دمائنا البقية! بيننا وبينكم كتاب الله. فلما سمع الناس ذلك ثاروا إلى علي فقالوا: قد أعطاك معاوية الحق، ودعاك إلى كتاب الله، فاقبل منه. ورفع صاحب معاوية «المصحف» وهو يقول بيننا وبينكم هذا إلخ إلخ. وإن لم تكن هذه الرواية هي حقيقة الواقع فليس أشبه بحقيقة الواقع منها.
الفرق المعروفة: المعتزلة، وهم عشرون فرقة، والشيعة اثنتان وعشرون، والخوارج سبع فرق، وبعض هذه الفرق يفترق أيضًا … كالعجاردة فإنهم عشر، ومنهم فرقة الثعالبة، وهي وحدها أربع فرق، ثم المرجئة وفرقهم خمس، والنجارية وهم ثلاث. وكل أولئك منهم جبرية، ومنهم مشبهة، ولجميعهم نبز يعرفون به، وغيرهم كثير أحصاهم المؤلفون في الملل والنحل.
قلنا: ولولا حفظ الله لكتابه وأنه المعجزة الخالدة، لما بقي منه بعد هؤلاء حرف واحد فضلًا عن أن يبقى بجملته على الحرف الواحد؛ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وعندهم أن أصح القراءات من توثيق جهة سندها: نافع، وعاصم، وأكثرها توخيًا للوجوه التي هي أفصح: أبو عمرو، والكسائي.
وكانت العرب تمد عند الدعاء، وعند الاستغاثة، وعند المبالغة في نفي الشيء، والمد هو زيادة مط في حرف المد على المد الطبيعي فيه. والقصر: ترك تلك الزيادة، وكلاهما اعتبار لا يختص به قوم دون قوم.
والفتح لغة قريش، والإمالة لغة بني سعد، وقد سبق الكلام عنهما وعما بينهما في اختلاف لغات العرب من الجزء الأول من التاريخ.
والإظهار لغة أهل الحجاز، والإغام لغة تميم، ولعل إشباع الضمائر متخلف في بعض اللغات القريبة من اليمن عن الحميرية، فإن ضمير المفرد المتصل فيها ينطق «هُو» بالمد والإشباع فيقال في «لغته»: لغتهو، وضمير المثنى المتصل ينطق «همي»، فيقال في «لغتهما»: لغتهمي، وضمير الجمع «همو» فيقال: لغتهمو، وهكذا.
وثم وجه لغوي آخر، وهو التفخيم؛ أي تحريك أوساط الكلم بالضم والكسر في المواضع المختلف فيها دون إسكانها؛ لأنه أشبع لها وأفخم، ومن ذلك في القرآن: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ وأشباهه، فإن هذا تفخيم وتثقيل، قال أبو عبيدة: أهل الحجاز يفخمون الكلام كله إلا حرفًا واحدًا وهو «عشرة» فإنهم يجزمونه، وأهل نجد يتركون التفخيم في الكلام إلا هذا الحرف، فإنهم يقولون عشرة «بكسر الشين». وما فسرناه من أمر التفخيم إنما هو على بعض معانيه اللغوية؛ لأن له في الاصطلاح غير هذا المعنى.
ثم ساق أمثلة من استعمال الناس لفظ السبعة في كل ما يريدون به الكمال أو المبالغة أو التيمن أو نحوها مما يرجع إلى أصل الكمال.
قلنا: وهذا الذي اعتل به لإدخال الواو في قوله تعالى: وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ليس بشيء، وإنما وجه به كلامه توجيهًا. أم الصواب فإن الواو إنما كانت في هذه الجملة دون غيرها مما تقدمها؛ لتؤذن بأن الذين قالوا إنهم سبعة كانوا على ثقة مما قالوه ولم يرجموا بالغيب، ولهذا فصلوا بين القوم وبين كلبهم الذي ليس منهم إلا في العدد؛ وارتفاع هذه الواو من الجملتين الأوليين جعلهما لا تصفان إلا الشك وجعل سياق الكلام يؤكد أن الحساب في الجملتين من الغلط، وأن القول به لم يصدر على القطع والتحقيق، ولذا قال ابن عباس: حين وقعت الواو انقطعت العدة، أي لم يبقَ بعدها وجه للعدد، وثبت أنهم سبعة وثامنهم كلبهم، فتأمل كيف انتظمت هذه الواو معنى الآية كلها وكيف تكون البلاغة المعجزة التي تجعل في تركيب الكلام أسرارًا كأسرار الخلق الحي، ولا زعمات صاحبنا الصفدي، ونحن نسأل الله تعالى أن يوفقنا لوضع الكتاب الذي نكمل به كتابنا هذا! فنبسط فيه من أسرار الآي وإعجازها ما تطلع به الشمس لمن أبصر فيراها، ولمن عمي فيحسها!
وكانت الدنيا القديمة على ذلك أو نحوه لا يصلح العلم فيها إلا أن يكون نظرًا وجدالًا بين طائفة تتنافس فيه. لا لشيء إلا لأنه عملها وبه وزن أقدارها. ومتى كانت المنافسة ضيقة محصورة لا يشايع الناس عليها بعلم ولا يصوِّبون فيها ولا يخطئون فهي منافسة أهواء وشهوات ونزعات، يكون فيها العلم سلمًا تحطم منها تحت كل قدم ثقيلة درجة.
فلما جاء الإسلام حث على طلب العلم وعلى النظر والاعتبار والاستنتاج؛ وجعل شعار دعوته مثل قوله تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى الله عَلَىٰ بَصِيرَةٍ وقوله: ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ؛ وترادفت أخبار الحث على طلب العلم فيه وفي كلام النبي ﷺ حتى قال — عليه الصلاة والسلام: «اطلبوا العلم ولو في الصين.» فكان هذا سببًا في إطلاق الحرية العلمية للناس جميعًا، وخاصة أهل الأخلاق منهم الذين هم الطبقة الوسطى في كل أمة، والذين بهم قوام الأمة؛ إذ يحملون ما فوقهم ويمنعون عما تحتهم. وبذلك نضجت المنافسات العلمية وآتت ثمارها، وأفضى الأمر في العلوم إلى ما وقع من الامتحان والاختبار، ثم الاختراع والاستنتاج.
وهذا كله لم يعرفه أساتذة اليوم «الأوربيون» إلا في القرن السادس عشر للميلاد؛ وهم قد أخذوه وأخذوا معه كثيرًا من الفضائل الاجتماعية عن المسلمين وعلمائهم، لا يكابر في ذلك منصفوهم وذوو الأحلام منهم، وإلى الله تُرجَعُ الأمور.
قال ابن المبارك: فما رأيت عالمًا، ولا قارئًا للقرآن ولا سابقًا للخيرات ولا حافظًا للمحرمات في أيام بعد أيام رسول الله ﷺ وأيام الخلفاء والصحابة أكثر منهم في زمن الرشيد وأيامه.
وهذا الخبر وإن كان إلى المبالغة ما هو، ولكنه في أصله حقيق بالتصديق، فإن مناقب الرشيد — رحمه الله — كثيرة لا تضيق من دونه، وقد صحت الرواية بأنه ما اجتمع على باب خليفة قبله ما اجتمع على بابه من الشعراء وأهل الأدب، وقد كان يتفقدهم ويتقدم في طلبهم ويحظيهم ويفضل عليهم، وما هذه الرواية إلا بسبيل من تلك، ولتلك أقرب إلى الحق وأعلق بأسباب الزمن.
وكان بالقرب منهم جماعة من الأكرة، فلما سمعوا ذلك استعظموه، وقالوا: يا زنادقة، أنتم تقرءون القرآن بحرف الدجاج؟ وغدوا عليهم فصفعوهم؛ فما تخلص أبو خليفة والقوم الذين كانوا معه من أيديهم إلا بعد كَدٍّ طويل. وتروى هذه النادرة على وجه آخر، ولكن رواية المسعودي أملح؛ وكلتا الروايتين إلى مآل واحد؛ وفي رواية أخرى يقول الرجل العامي: «إنهم زنادقة يقرأون القرآن على صياح الديكة.»
وروى ابن الأنباري في طبقات الأدباء: أن محمد بن المستنير المعروف بقطرب المتوفى سنة ٢٠٦ لما صنف كتابه في التفسير؛ أراد أن يقرأه في الجامع؛ فخاف من العامة وإنكارهم عليه؛ لأنه ذكر فيه مذهب المعتزلة؛ فاستعان بجماعة أصحاب السلطان؛ ليتمكن من قراءته في الجامع، والأخبار في مثل ذلك غير قليلة.
والمراد بالجفر رقّ صنع من جلد البعير، ومن أراد الاتساع في معرفته فليرجع إلى ما نقله صاحب كشف الظنون في معنى علم الجفر والجامعة وأصل هذا العلم.
وقد كشف ابن خلدون في مقدمته في فصل ابتداء الدول والأمم عن شيء من مسمى هذا الجفر، ونقل أنه كان جلد ثور صغير، وأن هرون العجلي روى ما فيه عن جعفر الصادق وكتبه في كتاب سماه الجفر، قال: «وكان فيه تفسير القرآن وما في باطنه من غرائب المعاني.»
وعندنا أن كل ذلك موضوع وباطل، وأن الكلام فيه أسلوب من أساليب القصص وضرب من التهويل والمبالغة، ولا نظن أن علم ما كان وما يكون شيء يسعه أو يسع الرمز إليه جلد ثور، إلا أن يكون هذا الثور هو الذي قيل فيه إنه كان يحمل الأرض قديمًا على أحد قرنيه!
قال: وهذا الذي ذكره أبو الحكم الأندلسي في تفسيره من عجائب ما اتفق لهذه الأمة المرحومة، وقد تكلم عليه شيخنا أبو الحسن علي بن محمد في تفسيره الأول فقال: وقع في تفسير أبي الحكم الأندلسي في أول سورة الروم إخبار عن فتح بيت المقدس، وأنه ينزع من أيدي النصارى سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة. قال لي بعض الفقهاء إنه استخرج ذلك من فاتحة السورة. قال: فأخذت السورة وكشفت عن ذلك فلم أره أخذ ذلك من الحروف، وإنما أخذه فيما زعم من قوله تعالى: غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ. فبنى الأمر على التاريخ كما يفعل المنجمون. ثم ذكر أنهم يغلبون في سنة كذا على ما تقتضيه دوائر التقدير. قلنا: وكيفما كان الأمر فإنه لمعجزة.
قلنا: قد ألف بعض علماء القوم كتابًا سماه «تنبيه الأغنياء، على قطرة من بحر علوم الأولياء» كانت هذه القطرة فيه زهاء ثلاثة آلاف علم، فترى ما عسى أن يكون البحر؟ اللهم إن السلامة في الساحل، ولكن لبعض المحققين من مشايخ الصوفية دقائق في التفسير لا تتفق لغيرهم لسموِّ أرواحهم ونور بواطنهم، ومنهم كان الإمام السلطان الحنفي صاحب المقام المشهور في القاهرة، سمعه يومًا شيخ الإسلام البلقيني يفسر آية فقال: لقد طالعت أربعين تفسيرًا فما وجدت فيها شيئًا من تلك الدقائق.
ويزعم الشيعة أن عليًّا «رضي الله عنه» أملى ستين نوعًا من أنواع علوم القرآن وذكر لكل نوع مثالًا يخصه، وأن ذلك في كتاب يروونه عنه من طرق عدة وهو في أيديهم إلى اليوم، وذلك وإن كان قريبًا فيما يعطيه ظاهره؛ غير أنه بالحيلة على تقريبه من الحقيقة صار أبعد منها وأمحض في الزعم.
والبنانية يقولون بإلهية علي، ولهم آراء، وليس في السخف أسخف منها، حتى إنهم ليزعموا أن الرعد صوت علي؛ وأن البرق ابتسامه؛ وأن السماء لا ترعد ولا تبرق إلا للهشاشة لهم والسلام عليهم «ولعل ذلك من برح الشوق أيضًا»، فكانوا إذا سمعوا الرعد قالوا: عليك السلام يا أمير المؤمنين.
وفي بعض الكتب تجد اسم بنان هكذا: أبان بن سمعان؛ وهو تحريف، وقتله خالد بن عبد الله القسري؛ كما قتل الجعد بن درهم الذي أخذ عنه مقالته. أما خالد فتوفي سنة ١٢٦ﻫ رحمه الله وأثابه.
وقد رأينا في «تأويل غريب الحديث» لابن قتيبة أن أول من قال بخلق القرآن قوم من الرافضة يقال لهم «البيانية» ينسبون إلى رجل يقال له «بيان» وأن هذا الرجل قال لهم: إلي أشار بقوله هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ ولا ندري ما أصله، فإن الناس لا يسمون «بيانًا» في أسمائهم، ولعله تحريف مقصود للنكتة في الاستشهاد بالآية، ومثله كثير.
ومما هو بسبيل من ذلك السخف الذي رد عليه الجرجاني، ما زعمه ابن الراوندي الزنديق، من أن القرآن فيه الكذب والسفه، قال: لأن هذه الحروف «ك ذ ب، س ف ه» موجودة فيه.
وقال ياقوت في معجمه من الكلام على بغداد: كان ابن العميد إذا طرأ عليه أحد من منتحلي العلوم والآداب وأراد امتحان عقله، سأله عن بغداد، فإن فطن لخواصها وتنبه على محاسنها وأثنى عليها، جعل ذلك مقدمة فضله وعنوان عقله، ثم سأله عن الجاحظ، فإن وجد أثرًا لمطالعة كتبه والاقتباس من نوره والاغتراف من بحره وبعض القيام بمسائله، قضى له بأنه غرَّة شادخة في أهل العلم والآداب، وإن وجده ذامًّا لبغداد غفلًا مما يجب أن يكون موسومًا به من الانتساب إلى المعارف التي يختص بها الجاحظ، لم ينفعه بعد ذلك شيء من المحاسن. ا.ﻫ. وتوفي ابن العميد سنة ٣٦٠ﻫ.
وحسبك من أثر القرآن في العرب الفصحاء وصوغ فطرتهم وتصريفها، أن أحدهم كان إذا اتّهم في بعض أخلاقه لم ينكر ذلك بأشد من قوله: بئس حامل القرآن أنا إذن، ولما أعطي سالم مولى أبي حذيفة راية المسلمين يوم قتال مسيلمة الكذاب وكان من أشد الأيام وأعظمها نكاية، قال لأصحابه: ما أعلمني لأي شيء أعطيتمونيها، قلتم: صاحب قرآن وسيثبت كما ثبت صاحبها قبله حتى مات؟! قالوا: أجل، فانظر كيف تكون! قال: بئس والله حامل القرآن أنا إن لم أثبت! فتأمل، وكان صاحب الراية قبله عبد الله بن حفص. وفي هذه الوقعة صاح أبو حذيفة، وقد اضطرب المسلمون: يا أهل القرآن، زينوا القرآن بالفعال! ثم حمل على القوم فحازهم حتى أنفذهم. ولو أن هذا المعنى من غرض كتابنا لبسطناه بسطًا، ولكن القول فيه يتسع مما يخرجنا إلى تاريخ الإسلام وفلسفة آدابه ومعانيه الاجتماعية، وهي أغراض إنما نلم بها إلمامًا في هذا الكتاب كما عرفت.
وفي الحديث: أن رسول الله ﷺ قال: «يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق تداعي الأكلة إلى قصعتها.» قيل: يا رسول الله أمن قلة منا نحن يومئذ؟ قال: «لا، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، يُجعل الوهن في قلوبكم، ويُنزع الرعب من قلوب عدوكم، لحبكم الدنيا وكراهيتكم الموت.» فلقد صدق رسول الله ﷺ ولقد تداعت الأمم اليوم على المسلمين من كل أفق وما بهم قلة وهم ٣٥٠ مليونًا، ولكنه نقص الإيمان ودلائله والانصراف عن القرآن وفضائله.
وقد اختلفوا في ذلك الأعجمي، فقيل: إنه سلمان الفارسي، وقيل إنه بلعام الرومي، وسلمان إنما أسلم بعد الهجرة وبعد نزول كثير من القرآن، وأما الرومي فكان أسلم وكان يقرأ على النبي ﷺ. قال القاضي عياض: وقد كان سلمان أو بلعام الرومي أو يعيش أو جبر أو يسار، على اختلافهم في اسمه، بين أظهرهم، يكلمونه مدى أعمارهم، فهل حكي عن واحد منهم شيء من مثل ما كان يجيء به محمد ﷺ؟ وهل عرف واحد منهم بمعرفة شيء من ذلك؟ وما منع العدو حينئذ، على كثرة عدده ودُءوب طلبه وقوة حسده، أن يجلس إلى هذا فيأخذ عنه ما يعارض به؟
والرجَّال في الرواية المشهورة بالجيم، وفي بعض الروايات أنه بالحاء، وقد قتل في حرب خالد بن الوليد لمسيلمة وأهل اليمامة.
وفي تاريخ الطبري رواية أخرى تشبه هذه، وفي معجم ياقوت أن عيينة قال له: هل جاءك ذو النون بشيء؟ قال: نعم. قد جاءني وقال لي: إن لك يومًا ستلقاه، ليس لك أوله ولكن لك آخره ورحى كرحاه، وحديثًا لا تنساه. قلنا: فانظر أي هذيان تراه!
وفي رواية الأغاني أنه — أخزاه الله — وضع عنهم صلاة العصر وحدها، وأن عامة بني تميم لا يصلونها ويقولون: هذا حق لنا ومهر كريمة منا لا نرده. فإن صحت هذه الكلمة فليس أبلغ منها في الكشف عن معنى العصبية التي أومأنا إليها في هذا الفصل وقلنا إنها الأصل في مشايعة هؤلاء المتنبئين.
ولهذا رأينا أهل التدقيق إذا ساقوا هذا الخبر في كتبهم قالوا: إن ابن المقفع سمع صبيًّا يقرأ الآية فترك المعارضة؛ وذهب عن هؤلاء المدققين أن مثل ذلك البليغ لا يأخذ في معارضة القرآن إلا وقد قرأه وتأمله، ومر بهذه الآية فيه، ووقف عندها متحيرًا، فليس يحتاج إلى صبي يسمعها منه ليترك ما أخذ فيه إن كان إبطال المعارضة موقوفًا على سماع الآية.
أما كتابه الذي يطعن فيه على القرآن فاسمه «الدامغ»؛ قالوا إنه وضعه لابن لاوي اليهودي، وطعن فيه على نظم القرآن، وقد نقضه عليه الخياط وأبو علي الجبَّائي، قالوا: ونقضه هو على نفسه؛ والسبب في ذلك أنه كان يؤلف لليهود والنصارى والثنوية وأهل التعطيل، بأثمانٍ يعيش منها، فيضع لهم الكتاب بثمن ثم يتهددهم بنقضه وإفساده إذا لم يدفعوا له ثمن سكوته.
قال أبو العباس الطبري: إنه صنف لليهود كتاب «البصيرة» ردًّا على الإسلام لأربعمائة درهم أخذها من يهود سامرَّا، فلما قبض المال رام نقضه، حتى أعطوه مائة درهم أخرى فأمسك عن النقض!
أما ما قيل من معارضته للقرآن فلم يعلم منها إلا ما نقله صاحب «معاهد التخصيص» قال: اجتمع ابن الراوندي هو وأبو علي الجبائي يومًا على جسر بغداد، فقال له: يا أبا علي، ألا تسمع شيئًا من معارضتي للقرآن ونقضي له؟ قال الجبائي: أنا أعلم بمخازي علومك وعلوم أهل دهرك، ولكن أحاكمك إلى نفسك، فهل تجد في معارضتك له عذوبة وهشاشة وتشاكلًا وتلاؤمًا ونظمًا كنظمه وحلاوة كحلاوته؟ قال: لا والله. قال: قد كفيتني، فانصرف حيث شئت.
ويقال إن ابن الراوندي كان أبوه يهوديًّا وأسلم، والخلاف في أمره كثير، وبلغت مصنفاته مائة كتاب وأربعة عشر كتابًا.
فهو يرى أن العرب أصحاب حفظ ورواية؛ لخفة الكلام عليهم، ورقة ألسنتهم، وذلك لأنهم تحت نطاق فلك البروج الذي ترسمه الشمس بمسيرها، وتجري فيه الكواكب السبعة الدالة على جميع الأشياء. ولا أقل من أن يكون ذلك قريبًا إن لم يكن صحيحًا.
وقد أراد الجاحظ أن يقابل معاني التسمية الشعرية فيما عند العرب بما في القرآن فقال: سمَّى الله تعالى كتابه اسمًا مخالفًا لما سمى العرب كلامهم على الجملة والتفصيل: سمى جملته قرآنًا كما سموا ديوانًا، وبعضه سورة كقصيدة، وبعضه آية كالبيت، وآخرها فاصلة كقافية — ا.ﻫ. ولا ندري ما وجه هذه المقابلة، وليس من شبه في كل ما ذكره لا في الوضع ولا في الموضوع، إلا أن يكون الجاحظ مأخوذًا بقول العرب إنه شعر، بحسب ذلك من عندهم وأنهم يحققونه، فأراد أن يدل على أن الأمر بالخلاف حتى في التسمية، وليس ذلك من الشأن والمنزلة في خلاف ولا موافقة.
على أن هذه التسمية اختراع لم يكن يعرفه العرب، فهي من هذه الجهة دليل من الأدلة الكثيرة على أن الأمر بجملته فوق القوة والطاقة ومن وراء المألوف.
وإذا أردت أن تبلغ عجبًا من هذا المعنى، فتأمل آخر سورة في القرآن وأول ما يحفظه الأطفال، وهي سورة قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، وانظر كيف جاءت في نظمها وكيف تكررت الفاصلة وهي لفظة «الناس» الذي هو أشد الحروف صفيرًا وأطربها موقعًا من سمع الطفل الصغير وأبعثها لنشاطه واجتماعه، وكيف تناسب مقاطعُ السورة عند النطق بها تردد النفس في أصغر طفلٍ يقوى على الكلام، حتى كأنها تجري معه وكأنها فصِّلت على مقداره، وكيف تطابق هذا الأمرُ كله من جميع جهاته في أحرفها ونظمها ومعانيها، ثم انظر كيف يجيء ما فوقها على الوجه الذي أشرنا إليه، وكيف تمت الحكمة في هذا الترتيب العجيب. وهذه السور القصار لو لم تكن في القرآن الكريم كلها أو بعضها ما نقصت شيئًا من خصائصه في الإعجاز، ولكن عسى أن يكون الأمر في حفظه على غير ما نرى إذا هي لم تكن فيه. فتبارك الله سبحانه: مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ الله إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا.
ويضاف إلى هذه الحكمة فائدة أخرى، وهي تيسير القرآن وأداء الصلاة على العامة، فإنهم لولا هذه السور لتركوا الصلاة جميعًا؛ إذ لا تصح الصلاة إلا بآيات مع الفاتحة؛ وقد أغنتهم القصار ويسَّرت عليهم؛ فكانت على قلتها معجزة اجتماعية كبرى.
ثم يفهم أهل القلوب الحديثة مع كل هذه الوجوه أن المراد من الآيات إثبات ما كشفته هذه العلوم، من أن القمر جرم مظلم، وإنما يضيء بما ينعكس عليه من نور الشمس التي هي «سراجه»؛ إذ النور لا يكون من ذات نفسه ابتداءً، ولا بد له من مصدر يبعثه، فذكر السراج بعد النور دليل على أن هذا مصدره ذاك. فتأمل، أيمكن أن يكون هذا في طاقة رجل من العرب منذ ثلاثة عشر قرنًا في تلك الجزيرة؟ وإذا كان في طاقته وكان ينظر إلى حقيقة المعنى العلمي — مع أن هذا المعنى لم يعرفه المفسرون في استبحار التمدن الإسلامي — فهل كانت تجيء العبارة إلا على الأصل الذي في نفسه فتخرج صريحة في المعنى، كما هي طبيعة الكلام الإنساني! إن بين الآية وبين كلام الناس، كالفرق بين نبي يوحى إليه وبين … وبين معلم جغرافيا!
ولكن أبلغ ما يثبت هذا المعنى، ما رووه من أن ثلاثة من بلغاء قريش الذين لا يُعدل بهم في البلاغة أحد — وهم الوليد بن المغيرة، والأخنس بن قيس، وأبو جهل بن هشام — اجتمعوا ليلة يسمعون القرآن من رسول الله ﷺ وهو يصلي به في بيته إلى أن أصبحوا، فلما انصرفوا جمعتهم الطريق فتلاوموا على ذلك وقالوا: إنه إذا رآكم سفهاؤكم تفعلون ذلك فعلوه واستمعوا إلى ما يقوله واستمالهم وآمنوا به، فلما كان في الليلة الثانية عادوا وأخذ كل منهم موضعه، فلما أصبحوا جمعتهم الطريق فاشتدَّ نكيرهم، وتعاهدوا وتحالفوا أن لا يعودوا. فلما تعالى النهار جاء الوليد بن المغيرة إلى الأخنس بن قيس، فقال: ما تقول فيما سمعت من محمد؟ فقال الأخنس: ماذا أقول؟ قال بنو عبد المطلب: فينا الحجابة، قلنا: نعم، قالوا: فينا السدانة، قلنا: نعم، قالوا: فينا السقاية، قلنا: نعم، يقولون: فينا نبي ينزل عليه الوحي! والله لا آمنت به أبدًا! فما صدهم إلا العصبية كما ترى، وكما علمت في غير هذا الموضع وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ، فهم إذا لم يسمعوه كان في ذلك رجاء أن يغلبوا، فتأمل معنى «يغلبوا».
وكل من يزعم أن القرآن من كلام النبي ﷺ لا يستطيع ألبتة أن يشرك مع القرآن كلامًا آخر في هذه الخاصة، فكأنه يقر بمعنى الإعجاز وينكر لفظه، وما كان الدليل على الحقيقة من لفظ الحقيقة؛ بل هي لا يدل عليها شيء كثبوت معناها، وهل اللفظ إلا ما أدى إليه المعنى؟!
وننبه هنا إلى أن لنا كلامًا كثيرًا في فلسفة البلاغة والشعر، تجده منبثًّا في كل كتبنا: كحديث القمر، والمساكين، ورسائل الأحزان، والسحاب الأحمر، وأوراق الورد، وفي الرسائل التي نشرناها في الصحف والمجلات ولم تطبع إلى اليوم في كتاب على حدة.
ويخيل إلينا أن بلغاء العرب ابتلوا بالرعب بعد أن استيقنوا بالإعجاز فأجروا القرآن كله على التسليم حذار أن ينفضحوا إذا انتقدوا فيه شيئًا، وكفر من كفر منهم وطبيعته مؤمنة، وهذا تعرفه في كل إنسان حين يبتلى بما ليس في طاقته أو علمه أو احتماله.
ومن هنا يظهر لك السر المعجز الغريب البالغ منتهى الدقة في القرآن الكريم، فإن هذا الكتاب من دون الكتب السماوية والأرضية، هو وحده الذي انفرد بتحدِّي الخلق وإثبات هذا التحدي فيه، وبذلك قرر أسمى قواعد الحق الإنساني، ووضع الأساس الدستوري الحر لإيجاد المعارضة وحمايتها، وأقام البرهان لمن آمنوا على من كفروا، وكان العجز عنه حجة دامغة، معها من القوة كالذي مع الحجة الأخرى في إعجازه، فسما بالحجتين جميعًا، وذلك هو المبدأ الذي لا استقلال ولا حرية بغيره، وما الصواب إذا حققت إلا انتصارٌ في معركة الآراء، ولا الخطأ إلا اندحار فيها، لا أقل ولا أكثر، وبهذا وحده يقوم الميزان العقلي في هذه الإنسانية.»
حسبكم أيها القوم حسبكم، إنما أتيتم من جهل العربية وآدابها، وإنما جهلتم منذ خلوتم من القرآن، فإنه العقل والضمير واللسان، وإنه ما أفلح كاتب عربي قط «مسلم أو غير مسلم»، وبلغ من صنعة البلاغة وشغف بهذه الآداب التي يستمسك بها الأمر كله إلا وقد حفظ القرآن أو أكثره، وكان مع ذلك لا يدع أن ينظر فيه وأن يتأدب به ويزين لسانه بألفاظه ويصفي طبعه بنظمه، فإن هو نشأ على غير ذلك فهيهات أن تنفعه في البلاغة نافعة، وهيهات أن ترسخ له قدم فيها، وما نزعم زعمًا، ولكن الدليل حاضر والبرهان شاهد والتاريخ بين أيدينا من لدن نشأت صنعة الكتابة في الإسلام أو في العربية، فكلاهما شيء واحد.
ويقال إن أول من أظهر هذا العلم الشيخ أبو بكر النيسابوري، وكان غزير المادة في الشريعة والأدب، فكان يقول على الكرسي إذا قرئ عليه لِمَ جعلت هذه الآية إلى جنب هذه؟ وما الحكمة في جعل هذه السورة إلى جنب هذه السورة؟ ثم كان يزري على علماء بغداد؛ لأنهم لا يعلمون هذه المناسبات. وقال ابن العربي في بعض كتبه: «ارتباط آي القرآن بعضها ببعض حتى يكون كالكلمة الواحدة متَّسقة المعاني منتظمة المباني — علم عظيم لم يتعرض له إلا عالم واحد وعمل فيه سورة البقرة، ثم فتح الله لنا فيه. فلما لم نجد له حَمَلَة ختمناه وجعلناه بيننا وبين الله.» ا.ﻫ.
ورأينا في كشف الظنون أن للإمام برهان الدين بن عمر البقاعي المتوفى سنة ٨٨٥ كتابًا اسمه «نظم الدرر في تناسب الآي والسور» قال: وهو كتاب لم يسبقه إليه أحد، جمع فيه أسرار القرآن ما تتحير فيه العقول. وكان جلُّ مقصوده بيان ارتباط الجمل بعضها ببعض، وقد ألفه في أربع عشرة سنة.
ثم جاء خزانة العلماء المتأخرين، الإمام السيوطي، فعني بهذا العلم في كتابه الذي صنفه في أسرار التنزيل، وقال: إن هذا الكتاب كافل بذلك، جامع لمناسبات السور والآيات، مع ما تضمنه من بيان وجوه الإعجاز وأساليب البلاغة. قال: ثم لخصت منه مناسبات السور خاصة في جزء وسميته «تناسق الدرر في تناسب السُّوَر»، وقد وقفنا نحن على هذا الجزء، وهو مخطوط لطيف الحجم يقع في بعض كراريس، وفيه كلام جيد.
وكان نابغة عصرنا الإمام الشيخ محمد عبده — رحمه الله — كثيرًا ما يعنى في تفسيره بحقائق غريبة من تناسب الآيات وتعلق نظم القرآن بعضه ببعض، وله في ذلك فكر ثاقب ونفاذ عجيب. وبالجملة فإن هذا الإعجاز في معاني القرآن وارتباطها أمر لا ريب فيه، وهو أبلغ في معناه الإلهي إذا انتبهتَ إلى أن السور لم تنزل على هذا الترتيب. فكان الأحرى أن لا تلتئم، وأن لا يناسب بعضها بعضًا، وأن تذهب آياتها في الخلاف كلَّ مذهب؛ ولكنه روح من أمر الله: تفرق معجزًا، فلما اجتمع اجتمع له إعجاز آخر ليتذكر به أولو الألباب.
كتبنا هذا للطبعة الأولى، وقد ظفرت دار الكتب المصرية بكتاب الإمام البقاعي الذي أشرنا إليه آنفًا ورسمت بطبعه، بارك الله للأمة فيها.
لعمر الله ما نظن في الأرض عاقلًا يستطيع أن يدل على إنسان هذه صفته، إلا أن يخرج هذا الإنسان من الوهم، ثم يحكم في أمره بغير فهم، ويكون دليل عقله هذا من دليل جنونه!
قلنا: وهذا الذي وصفه، على ما فيه من النقص، هو أكبر السبب لا كل السبب، وسنفصل ذلك في باب الشعر والإنشاء من تاريخ آداب العرب، فإن هناك موضعه، أما ما أشار إليه من إعجاز الحديث، وأن ذلك في وزن إعجاز القرآن كما توهم عبارته فستقف على حقيقته وعلى فصل ما بين الاثنين في موضعه مما يأتيك في الكلام على البلاغة النبوية.
فإذا قدرنا عدد كلمات القرآن، وهي سبع وسبعون ألفًا ونيف، على أيام هذه السنين، على أن يكون الرجل قد أشرف على ختم القرآن، وضربنا بالحصص على تلك الأيام، خرج لكل يوم نيف وثلاثون كلمة، أي مقدار ثلاثة أسطر، يتأملها هذا الإمام المفكر البليغ ويتدبر أسرار بلاغتها، مع أنه لا يبحث منها إلا في الصناعة البيانية وحدها، دون أسرار التركيب الأخرى من علمية واجتماعية … إلخ إلخ.
وهذا فيما نرى هو سر الخيبة التي يبوء بها من يطلب وجوه الإعجاز البياني إذا التمسها في «الكشاف» للإمام الزمخشري المتوفى سنة ٥٢٨ مع كثرة ما عرَّض — رحمه الله — من الدعوى خطبة كتابه؛ لأنه فرغ من هذا الكتاب كما قال في «مقدار مدة خلافة أبي بكر الصديق (رضي الله عنه)، وهي سنتان وثلاثة أشهر وعشرون يومًا على أوسع التقدير، قال: وكان يقدَّر تمامه في أكثر من ثلاثين سنة، فانظر مبلغ عمل الرجل من مبلغ أمله، على أن له في كتابه حسنات — رحمه الله وأحسن إليه.
وقد رأينا في «كشف الظنون» أن شرف الدين الحسن بن محمد الطيبي المتوفى سنة ٧٤٣ وضع شرحًا على الكشاف في ستة مجلدات ضخمة، أكثر فيها من إيراد النكت البيانية، وكانت أكثر ما جاء به. وهذا الشرح قد أومأ إليه ابن خلدون في موضع من مقدمته، وقال: إنه شرح فيه كتاب الزمخشري، وتتبع ألفاظه، وتعرض لمذاهبه في الاعتزال بأدلة تزيفها «وبين أن البلاغة إنما تقع في الآية على ما يراه أهل السُّنَّة لا على ما يراه المعتزلة»، فأحسن في ذلك ما شاء، مع إمتاعه، في سائر فنون البلاغة. ا.ﻫ. فتأمل كيف تتصرف بلاغة القرآن مع أهل السنة والمعتزلة مجاذبة ودفعًا فإنه معنًى عجيب.
كتبنا هذا للطبعة الأولى ولا نزال حيث كنا، ولا يزال العمل نية وأملًا، ولا يبرح الفكر يتمثل تكملة «إعجاز القرآن» «بأسرار الإعجاز». ونحسب أن عون الله قريب؛ فإن الأيام قد هيأت الحاجة إلى الكتاب الثاني إن شاء الله.
ومن أعجب ما اتفق أن المتأخرين من ناظمي البديعيات كعز الدين الموصلي وابن حجة الحموي، وغيرهما، عدوا تمام الفضيلة في عملهم أن ينظموا البيت على النوع من أنواع البديع، ثم يذكروا اسم النوع في البيت بالتورية. وهذا بعينه استخرجه الشهاب الخفاجي من القرآن في قوله: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ، وهذا النوع هو «الالتفات»؛ لأن السياق يحتمل أن يكون «ولا يلتفت منهم» فعدل عن الغيبة إلى الخطاب؛ وهذا طريف جدًّا كما ترى.
فقد دلَّ على أن غاية الشرع تعليم العلم الحق والعمل الحق، وأن التعليم صنفان: تصور وتصديق، وطرق التصديق الموضوعة للناس ثلاث: البرهانية، والجدلية، والخطابية، وللتصور طريقتان: إما الشيء نفسه، وإما مثاله، ولما كان الناس لا يستوون في طباعهم، ولا الطباع كلها سواء في قول البراهين والأقاويل الجدلية فضلًا عن البرهانية، وكانت غاية الشرع تعليم الناس جميعًا — وجب أن يكون مشتملًا على جميع أنحاء طرق التصديق وأنحاء طرق التصور، وطرق التصديق منها عامة لأكثر الناس، أي في وقوع التصديق من قِبَلِها، وهي الخطابية والجدلية — والأولى أعم من الثانية — ومنها خاص لأقل الناس وهي البرهانية. ولما كان الشرع قد جعل قصده الأول العناية بالأكثر من غير إغفال لتنبيه الخواص، كانت أكثر الطرق المصرَّح بها في الشريعة هي الطرق المشتركة للأكثر في وقوع التصور والتصديق.
وهذه الطرق هي أربعة أصناف: الأول لا يقبل التأويل، والثاني: يقبل نتائج التأويل دون مقدماته، والثالث: عكس هذا، يتطرق التأويل إلى مقدماته دون نتائجه، والرابع: يتأوله الخواص وحدهم، أما الجمهور فيأخذه على ظاهره. فالناس إذن ثلاثة أصناف: صنف ليس من أهل التأويل أصلًا، وهم الخطابيون الذين هم الجمهور الغالب، وصنف هو من أهل التأويل الجدلي، وهم الجدليون بالطبع فقط، أو بالطبع والعادة، وصنف من أهل التأويل اليقيني، وهم البرهانيون بالطبع والصناعة، أي صناعة الحكمة والمنطق.
وليس الناس في طرق العلم كالطرق التي تثبت في الكتاب العزيز «القرآن»، فإنه إذا تُؤمل وجدت فيه الطرق الثلاث الموجودة لجميع الناس، والطرق المشتركة لتعليم أكثر الناس والخاصة، مما لا يوجد أفضل منه لتعليم الجمهور. ثم انتهى الفيلسوف الكبير من ذلك بعد بسطه وبيانه بما لا يحتمله هذا الموضع — إلى أن الأقاويل الشرعية المصرح بها في الكتاب العزيز للجميع، لها ثلاث خواص دلَّت على الإعجاز: إحداها: أنه لا يوجد في «مذاهب الكلام» أتم إقناعًا وتصديقًا للجميع منها، والثانية: أنها تقبل التصرف بطبعها إلى أن تنتهي إلى حد لا يقف على التأويل فيها — إن كانت مما فيه تأويل — إلا أهل البرهان، والثالثة: أنها تتضمن التنبيه لأهل الحق على التأويل الحق. ا.ﻫ.
قلنا: وليس في المنطق أعجب من أن يكون الكلام مبسوطًا للجميع، ثم هو نفسه مما يهدي الخاصة إلى تأويله، ثم لا يكون في طبيعته الكلامية مع تصرفه إلا أن ينتهي إلى مقطع الحق من هذا التأويل دون أن يتعداه. وقد لا يظهر التأويل الحق إلا بعد أزمان متطاولة ينضج فيها العقل الإنساني وتستجمُّ آثاره وأدواته، ومن ذلك ما ظهر في هذا العصر؛ ومن أظهره قوله تعالى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ وهي الآية التي أشار فيها إلى الطيران وإلى أنه سيكون «للإنس»، ولم يتحقق تأويلها إلا منذ سنوات قليلة وقد مضى على نزول الآية ثلاثة عشر قرنًا ونيف، فإذا أضفت إلى ذلك كله أن هذه العجيبة المنطقية إنما تخرج من طريق البلاغة المعجزة على وجه الدهر — أدركت أن الأمر ليس إعجازًا فحسب، ولكنه إعجاز من ظاهره وباطنه.
هذا وقد استخرج الإمام الغزالي «المنطق» من القرآن، وليس هو منطق أرسطو، ولكنه منطق العقل الإنساني.
قلنا: وهذا الحديث يجمع كل ما قدمناه من القول في إعجاز القرآن؛ لأنه وحي بمعانيه وألفاظه، فهو بائن بنفسه من الكلام الإنساني، ولا بد أن يكون فائدة للناس كافة ليعملوا، وصادقًا على الناس كافة ليستفيدوا، ومعجزًا للناس كافة ليصدقوا.