مقدمة
موضوع الحقوق الدستورية
(١) الدولة وشكلها – مبدأ الدولة ومبدأ السيادة – شخصية الدولة وديمومتها – أشكال الدول – الدول البسيطة – الدول المركَّبة – الدول الاتحادية – الدول المُتعاهدة – دولة أوستراليا – اتحاد أفريقيا الجنوبية – نظام الاتحاد في الإمبراطورية البريطانية والحرب العامة – مبدأ الحكم الذاتي في أيرلندا – دولة اليوغوسلاف. (٢) الحكومة وشكلها – تعريف الحكومة – الحكومة المطلقة والحكومة المقيدة – السلطة الاشتراعية والسلطة التنفيذية – التدابير الإدارية – الحكومة المباشرة والحكومة التمثيلية – الحكومة تَعني السلطة التنفيذية على الخصوص – نظرية جان جاك روسو. (٣) حدود حقوق الدولة – الدولة في الأزمنة القديمة والدولة في الأزمنة الحديثة – الحقوق الفردية. (٤) بحث في بعض النظريات التي ظهرت في القرن التاسع عشر والقرن العشرين – علماء الاجتماع والزمر البشرية – نظريات المسيو دوغي – نظرية برودون في الحقوق الاقتصادية – النقابية – الاتحاد الاقتصادي في روسيا، حكومة المجالس (السوفيات) – مجلس الإمبراطورية الاقتصادي المنصوص عليه في دستور ألمانيا الذي سُنَّ سنة ١٩١٩.
الحقوق الدستورية في العالم المتمدِّن ركن الحقوق العامة الأساسي؛ ففروع الحقوق العامة تَفرض وجود الحقوق الدستورية، وكذلك الحقوق الخاصة عندما تلبَس ثوب القانون المكتوب.
(١) الدولة وشكلها
الدولة شخص الأمة المعنوي وأقصد به مصدر السلطة العامة ودعامتها.
والأمة من الجهة الحقوقية تُكوَّن بسُلطة أعلى من عزائم الأفراد، فهذه السلطة التي لا تعرف في الأمور التي تُهيمن عليها قدرة تعلو أو تُزاحم قدرتها تُسمَّى «السيادة»، وللسيادة نوعان: السيادة الداخلية وهي حق قيادة الأفراد الذين تتألَّف منهم الأمة والأفراد الذين يسكنون بلادها، والسيادة الخارجية وهي حق تمثيل الأمة لدى الأمم الأخرى وربطها بتلك الأمم بمُختلف العلائق.
والحقوق العامة — لكي يَستقيم أمرها — تقضي باعتبار تلك السيادة شخصية غير شخصية الأشخاص الذين يقومون بها وبجعلها موضوع كمال وديمومة مشخِّصًا للأمة جميعها، وهذا الشخص المعنوي هو الدولة، على هذا الوجه تمتزج الدولة بالسيادة وتكون السيادة صفة الدولة الجوهرية، ولم يُستخلص ذلك التجريد المتين إلا بفعل الحضارة التدريجيِّ، فالناس خلطوا مدةً طويلة السيادة بالرئيس أو المَجلس الذي يقوم بها، على أنَّ رجال القرون القديمة المُتمدِّنة وصلوا إلى مبدأ الدولة الحقيقي، وأخصُّ بالذكر منهم الرومان الذين استنبطوه بفضل ما اتصفوا به من الروح القضائية، وقد غاب نجم المبدأ المذكور في أثناء الانحلال التدريجي الذي أدَّى إلى تكوين المجتمع الإقطاعي، وما استردَّ موقعه في ميدان الحقوق الحديثة إلا بعد أن تطوَّر تطورًا جديدًا.
والدولة لا بدَّ لها من أراضٍ لكي تُجْرِي سلطانها على ما في حدود هذه الأراضي من أشخاص وأشياء، وقد استنَد مبدأ السيادة في الممالك التي نشأت عن النظام الإقطاعي في أوربة إلى الأراضي فقط مشتقًّا من حق الملك عليها وعلى مَنْ يقطنها من السكان، ومن هذا ظهر لقب «ملك فرنسا» ولقب «ملك إنكلترة»، ومع أن السيادة في فرنسا أصبحت قومية لا تزال السيادة المُستنِدة إلى الأراضي سائدة لممتلكات فرنسا التي لم يكتسب سكانها صفة الوطنيين الفرنسويِّين وحقوقهم، على هذا الوجه نرى في بعض مُستعمَرات فرنسا رعايا فرنسويِّين بجانب وطنيِّين فرنسويِّين.
- أولًا: يجب أن لا تُباشَر السيادة — وأعني بها السلطة العامة — أمرها إلا في منفعة الجميع.
- ثانيًا: أنَّ الدولة دائمة بطبيعتها ولا يَطرأ على حياتها الشرعية انقطاع،
وهي لما كانت مشخِّصة للأمة وجب بقاؤها ما دامت الأمة باقيةً، ولا ريب
في أن شكل الدولة قد يتغير بتغير الأحوال وبفعل الفتن والثورات، غير
أنَّ ذلك لا يؤثِّر في جوهر الدولة ولا يقطع حياتها المتَّصلة، كما أن
هذه الحياة لا تنقطع بتعاقُب الأجيال، وعن هذه الديمومة ينتج ما يأتي:
- (أ) أنَّ المعاهَدات التي عُقِدَت باسم الدولة مع الدول الأجنبية تظلُّ إلزامية معمولًا بها على رغم ما قد يطرأ على هذه الدولة من تبدُّل في الشكل.
- (ب) أن القوانين التي تمَّ سنُّها ونشرها باسم الدولة — حسب الأصول — تبقى مَرْعيَّة وإن تغير شكل تلك الدولة إلا أن تُلْغَ هذه القوانين أو يُصبِح التوفيق بينها وبين القوانين الجديدة مُتعذِّرًا.
- (جـ) تظلُّ العقود المالية التي عُقِدَت باسم الدولة مُعتبَرة إلزامية وإن غيرت الدولة شكلها الذي عُقِدَت في أيامه تلك العقود.
ولكن الدولة إذا ظلَّت دائمةً ثابتة ما دامت الأمة باقيةً فإنَّ شكلها قد يتغيَّر كما بينت ذلك آنفًا، وماذا يعني ذلك؟
لما كانت الدولة — وهي صاحبة السيادة — كنايةً عن شخص معنويٍّ وفرضية شرعية، اقتضى أن يباشر أمورها أشخاص حقيقيُّون، أي إنَّ من الطبيعي أن يكون بجانب الدولة — وهي صاحبة السيادة الدائمة — صاحب سيادة عتيد فعَّال يقوم بأمور تلك السيادة، ويسمَّى هذا الصاحب في الحقوق الدستورية ولي الأمر، وفي تعريف هذا الولي تعريفٌ لشكل الدولة.
•••
تَنقسم الدول من حيث الشكل ومن حيث السيادة الداخلية إلى دول بسيطة ودول مركَّبة من جهة، وإلى دول موحَّدة ودول اتحادية من جهة أخرى.
فالسيادة في الدولة البسيطة لا تكون مجزَّأة، بل هي ذات وحدة تامة، وقد يكون صاحبُها رجلًا واحدًا أو جماعة مِن الناس صغيرة أم كبيرة، وبهذا يظهر الفرق الأساسي بين الأنظمة الملكية والأنظمة الجمهورية، فصاحب الدولة في السيادة الملَكية الإرثية رجلٌ واحد، وفي الدولة الجمهورية تكون السيادة في قبضة جماعة، وهذه الجماعة هي الأمة في الجمهورية الديموقراطية، وطبقة واحدة في الجمهورية الأريستوقراطية.
وللدول — ما عدا هذه الأشكال البسيطة المتناقضة — أشكال أخرى؛ وهي: «الدول المركَّبة» فإلى هذه الأشكال تَنتهي الدول الملكية الدستورية في الوقت الحاضر، والسيادة فيها لا تكون في يد عامل واحد سواء أفردًا كان أم جماعة، وإنما يقوم بها أناس يَعتبرونها جملة لا تَقبل التجزئة، ويتفقون عند النظر في شئونها؛ وهؤلاء هم: الملك وأعضاء المجالس الممثلة للأمة.
وللملَكية الدستورية شكلان مختلفان؛ فأحيانًا تُشْرِك الأمة — صاحبة السيادة — الملك هو وذريته في مباشرة هذه السيادة مباشرة جزئية، وأحسن مثال على ذلك ما جاء في دستور بلجيكا الذي سُنَّ في ٧ فبراير سنة ١٨٣١، وأحيانًا يَعدِل المَلِك عن المُلْك العضوض ويُشْرِك الأمة من عنده في مباشرة السيادة التي في قبضته؛ وذلك بأن يفوِّض إلى المجالس التمثيلية القيام ببعض السلطات، ومن الأمثلة على هذا ما جاء في دستور فرنسا الذي سُنَّ سنة ١٨١٤، ودستور بروسيا الذي وُضِعَ في ٣١ يناير سنة ١٨٥٠.
والدول التي فرضت وجودَها حتى الآن هي الموحَّدة — أي التي يكون في كل واحدة منها سيادةٌ واحدة فقط وإن أمكن أن يتعدَّد القائمون بها — وبجانب هذه الدول نذكر الدول الاتحادية التي تُجَزَّأ السيادة فيها، فهذه الدول تتألَّف من دول كثيرة تَبقى لكل واحدة منها سيادتها الداخلية وقوانينها الخاصة وحكومتها، على أن ينتزع الدستور الاتحادي بعضًا من وظائفها وينقلها إلى الدولة الاتحادية، ومتى قامت الدولة الاتحادية بعمل من مقتضيات سيادتها الخاصة وجب على الأمة وعلى أبناء الوطن أن يخضعوا له، وهكذا تستطيع الدولة الاتحادية أن تسنَّ في بعض المسائل قوانين عامة تناقض اشتراع الدول الخاصة، وتقود سلطةُ الاتحاد التنفيذية الجميعَ ضمن خصائصها وتؤسس محاكم اتحادية لتقضي حسب القوانين المذكورة، والدول الخاصة لما حُرِمت السيادة الخارجية أصبح تمثيل الأمة لدى الأمم الأجنبية من حقوق دولة الاتحاد. ويظهر أن الشكل الاتحادي يلائم الجمهوريات على الخصوص، ومنها: ولايات أميركا الشمالية المتحدة، وجمهوريات أميركا الوسطى والجنوبية التي نسجت على منوال تلك الولايات، ومملكة كندا، وسويسرة التي أصبحت جمهورية اتحادية منذ دستورها الذي نُشِرَ في سنة ١٨٤٨ بعد أن كانت دولًا متعاهدة، ودولة ألمانيا منذ دستورها الذي أُعْلِنَ في ١١ أغسطس سنة ١٩١٩، نقول هذا ونحن نرى الدستور الألماني يشهد بتطور ألمانيا نحو النظام الموحَّد المركزي، وقد أوشكت الوحدة الألمانية التي أرادها بسمارك ودافع عنها أنصار القيصرية الألمانية أن تتحقق، فقد اعتاض دستور سنة ١٩١٩ الأقاليم عن الدول القديمة التي كانت تتألَّف منها أجزاء الإمبراطورية الألمانية، وجعل عقد المُعاهَدات والتمثيل السياسي وإدارة الجيش وقيادة الجند من وظائف الإمبراطورية، وقرر شمول اشتراع الإمبراطورية للمصالح العامة الكبرى كلها ولا سيما المالية.
وقد يُلائم الشكل المذكور الدول الملكية أيضًا؛ فقد كانت الإمبراطورية الألمانية التي تأسَّست كدولة اتحادية حسب دستور ١٦ أبريل سنة ١٨٧١ دولًا ملَكية، وهي لم تشتمل على غير المدن الحرة القديمة: لوبك وبريم وهمبرغ كدُوَل ذات شكل جمهوري.
وما عدا الدول الموحَّدة والدول المتَّحدة، نذكر الدول المُتعاهِدة التي هي كناية عن اتفاق عدد من الدول المستقلَّة على توحيد قواها للوصول إلى غرض معيَّن كالمُحافَظة على بعض المنافع والمبادئ التي تتطلَّب عملًا واحدًا سواء أفي الداخل أم في الخارج، وتتمثَّل الدول المُتعاهِدة في مجلسٍ يَتفاوض فيه مندوبوها على أن لا يكون له سلطان على رعايا تلك الدول وقدرة على محاكمتهم وفرض الضرائب عليهم وإلزامهم قوانين يسنُّها، ولا تنفذ مقرراته في الدول المتعاهدة إلا بعد أن يُمليها من جديد ملوك هذه الدول، وإذا رُفضت إحداها تلك المقررات لم يبقَ للأخرى إلا أن تلجأ إلى تهديدها بشهر الحرب حتى تخضع لها، والدول المُتعاهدة في التاريخ الحديث هي دول الجرمان التي دام تعاهُدها من سنة ١٨١٥ إلى سنة ١٨٦٦، ودول سويسرة المُتعاهدة حتى سنة ١٧٩٨، ودول الولايات المتحدة الأميركية الشمالية التي تقرَّر أمرُها سنة ١٧٧٧، ولو نظرنا إلى الدول المتعاهدة من الوجهة التاريخية لرأيناها — وهي شكل قديم — سبقت في تأسيسها الدول الاتحادية التي هي طرز جديد، وفي الغالب تكون تلك مقدمة لتأليف هذه، وذلك كما اتفق للولايات المتحدة ولسويسرة وألمانيا وما يتفق الآن لأوستراليا.
لقد جاوزت دولة أوستراليا الأدوار التي جاوزتها ولايات أميركا الشمالية المتَّحدة ولكن على وجهٍ سلميٍّ، وأول مرحلة بلغتْها تتجلَّى في قانون سنة ١٨٥٠ الذي نظر إلى كل واحدة من المستعمَرات الأوسترالية على انفراد، وسمح لها بأن تُنقِّح دساتيرها، وتؤسِّس حكومات تمثيلية، وتؤلِّف وزارات مسئولة، ويَعني ذلك اعترافًا لإنكليز أوستراليا السكسونيِّين بحق تقرير مصيرهم الخاص وبتعديل دستورهم تعديلًا مُتماثلًا يكون دعامة الاتحاد في المستقبل.
والحكومة الإنكليزية هي التي مهَّدت سبيل الاتحاد في البداءة على ما يظهر؛ فقد عينت منذ سنة ١٨٥١ حتى سنة ١٨٦١ حاكم «نيوساوث ويلس» حاكمًا عامًّا على أن يكون حكام المُستعمَرات الأخرى نائبِين عنه، غير أنه وإن كان أكثر هذه المستعمرات متجهًا نحو الاتحاد لم تسلك سبيله منذ سنة ١٨٥٧ حتى سنة ١٨٦٣؛ والسبب هو أن ما بينها من تحاسُد تجاريٍّ كان يدفع بعضها إلى فرض رسوم جمركية ثقيلة على البعض الآخر ويجعله يرجِّح العزلة.
لم تَدُمْ تلك الحال طويلًا؛ فقد استؤنف العمل بتأثير السر «هنري باركس» في مؤتمر استعماري عُقِدَ في لندن سنة ١٨٨٦، وفي سنة ١٨٩١ اجتمع مجلس عهد أوسترالي، فقرَّر في «سدناي» قبول دستور اتحادي لم يلبَث أن عاقت الأزمة المالية التي أصابت أكثر المُستعمَرات نجاحه، ثم اجتمع في سنة ١٨٩٧ مجلس عهد جديد ليأتي بعمل أشفى من عمل المجالس التي عُقِدَت قبله، عُقِدَ هذا المجلس في «أديلاييد» فاستصوب اللائحة التي عُرِضَت عليه، ثم اقتضى عرضها على كل مستعمَرة؛ ليقول الشعب كلمته فيها بطريقة الاستِفتاء العام، وقد ظلَّت المسألة على حالها حتى شهر يوليو سنة ١٩٠٠؛ حيث وافق على المشروع خمس مستعمرات وهي: «نيوساوث ويلس» و«فيكتوريا» و«أوستراليا الجنوبية» و«كوينلاند» و«تسمانيا»، ولم تُوافِق أوستراليا الغربية عليه إلا في شهر أغسطس سنة ١٩٠٠؛ أي بعد أن عُرِضَ على البرلمان الإنكليزي، ولكي تبقى حائزة صفة الدولة أَدخلت إليه عددًا من التحفُّظات.
ودستور كالذي سنَّه ولاة الأمور في أوستراليا ووافق عليه الشعب لا يَكسب قوة القانون إلا بقانون يسنُّه البرلمان الإنكليزي؛ فالسيادة في المُمتلكات الإنكليزية جميعها تخص الملك الإمبراطور الذي لا يشاركه فيها غير مجلس اللوردات ومجلس النواب في إنكلترة.
تلقَّى البرلمان الإنكليزي دستور الاتحاد الأوسترالي بحماسة، وذلك في زمن أثبتَت فيه الكتائب الأوسترالية — التي اشتركت في حرب الترنسفال — شدة تضامُن الأنغلوسكسون المفرَّقين في الإمبراطورية البريطانية الفسيحة، غير أنه كاد يَقضي عليه للسبب الآتي؛ وهو:
أن الدستور الجديد حفظ للتاج البريطاني سُلطانه على سير الاشتراع الاتحادي، فبهذا يستطيع الحاكم العام الممثِّل للملك أن يَرفض كل قانون يُجيزه مجلسا الاتحاد الأوسترالي أو يؤجل تنفيذه إلى أن يوافق عليه التاج، ويحقُّ للملك أن يُلغي القوانين التي يوافق عليها الحاكم العام في مدة سنة، إلا أنَّ الأوستراليين طلبوا إلى التاج أن يتنزَّل لهم عن شيء من خصائصه في السلطة القضائية التي تقول بإمكان استئناف كل حكم لدى الملك في مجلس لورداته أو في مجلسه الخاص، وقد أصرَّ الإنكليز على وجهة نظرهم، وتمسَّكت أكثرية مندوبي أوستراليا بمطاليبها، ولكن الاختلاف انتهى بتساهُل من الطرفين، فنال الأوستراليون ما يودُّونه على وجه التقريب، وذكَرت المواد الدستورية ما حُفِظَ للتاج، وأعلنت المبدأ الأساسي مع استِثناء خفيف.
على هذه الصورة نُفِّذَ الدستور الأوسترالي، وقد مضى عليه عشرون سنة، ولم يخلُ تطبيقه من صعوبات كبيرة، ويَظهر أنَّ النظام الاتحادي الذي أوجبه غير متين العُرَى؛ فإحدى الدول الأوسترالية — وأعني بها أوستراليا الغربية — أَبْدَتْ في سنة ١٩٠٦ وسنة ١٩٠٧ ميلًا إلى ترك الاتحاد، ولكي تصل إلى هذا الغرض نظَّمت في سنة ١٩٠٧ لائحة لاستفتاء الشعب الذي لم يشرع فيه فعلًا، وإني إذا أسهبتُ في بيان هذه الحوادث فذلك لا للأهمية التي يَنالُها الشكل الاتحادي في أيامنا فقط، بل لِما في الدستور الأوسترالي — الذي هو أحد الدساتير الحديثة السائدة للبلدان الحرَّة — من فوائد، فهو لم يُفد نظرية الدولة الاتحادية وحدها، بل أتى بتطبيق جديد لنظام المجلسَين الذي يهمُّ أمره النظُم الديموقراطية جميعها، وقد مزَج الشكل الاتحاديَّ بالحكومة البرلمانية، الأمر الذي أتت بمثله كندا، وهو جدير بالالتفات أكثر من دستور كندا؛ بسبب البيئة الكثيرة الديموقراطية التي نشأ فيها. أضف إلى ذلك قبوله طريقة الدساتير المكتوبة الشديدة التي لم تَسلُكها أية مستعمرة بريطانية.
وبعد الاتحاد الأوسترالي نشأ في الإمبراطورية البريطانية اتحاد أفريقيا الجنوبية مشتملًا على المستعمرات: الكاب والناتال والترنسفال والأورانج، فعندما ضُمَّت الترنسفال إلى الإمبراطورية البريطانية في المرة الأولى وُضِعَ أول مشروع اتحادي للمُستعمَرات الإنكليزية في جنوب أفريقيا، وقد أجازه البرلمان الإنكليزي سنة ١٨٧٧، ثم استردَّت الترنسفال استقلالها وحَبط المشروع المذكور، وبعد حروب دامية قامت بها إنكلترة ضد البوير ضُمَّت دولة الأورانج والترنسفال إلى الإمبراطورية البريطانية ثانيةً، وقد نالت هاتان المُستعمَرتان دستوريهما في سنة ١٩٠٦ وسنة ١٩٠٧، ثم بدت فكرة اتحادهما بمُستعمَرة الكاب ومستعمرة الناتال، فعُقِدَ لهذا الغرض مؤتمر اشتركَت فيه المُستعمَرات الأربع، ووُضع دستور للاتحاد اقتُرِعَ له في ٩ فبراير سنة ١٩٠٩، ولما اقتَرَح برلمان الكاب تعديله عُقِدَ المؤتمر المذكور ثانيةً، ووافق على صيغة جديدة للدستور أجازها البرلمان الإنكليزي في شهر أغسطس سنة ١٩٠٩، ووقتما أبدى مجلس النواب البريطاني اعتراضاته عليه صرَّح المستر أسكويث بوجوب الموافقة عليه كما هو مبينٌ أنه وليد تفاهم بين الطرفين، وقد تمَّ نشره ووضعه موضع التنفيذ في سنة ١٩١١.
ويقول دستور اتحاد أفريقيا الجنوبية بسلطة اتحادية قوية، ويُسمِّي الدول الخاصة التي تتألَّف منها دولة الاتحاد بالأقاليم، ويأمُر بتأسيس مجلسَين اتحاديَين على أن يتمَّ تأليف مجلس الشيوخ بعد عشر سنوات ما لم ترَ سلطة الاتحاد الاشتراعية غير ذلك.
ويُحتمَل أن يكون اتحاد أوستراليا واتحاد أفريقيا الجنوبية مُقدِّمتَين لاتحاد أكثر شمولًا، وإن شئتَ فقل: إنهما كناية عن اتحادَين جزئيين قد ينشأ عنهما اتحاد أتمَّ للإمبراطورية البريطانية.
وهنا نذكر أنَّ الأقطار الفسيحة التي تخضع للإمبراطورية البريطانية كناية عن كتلة متكدِّسة، والصلة بين أبنائها كونهم من رعايا ملك إنكلترة وخضوعهم من الجهة الحقوقية لسيادة البرلمان الإنكليزي، يظهر ذلك عند النظر إلى «مُستعمَرات التاج» الخاضعة لسلطة التاج خضوعًا تامًّا، كما أنه يَظهر عند البحث في المستعمَرات المتمتِّعة بأنظمة تمثيلية أي بسلطة اشتراعية خاصة، والتي يحقُّ للتاج أن يرفض القوانين التي تسنُّها ويُراقب موظفيها.
وبجانب المستعمَرات المذكورة: مُستعمَرات ذات حكومات مسئولة ليس للتاج أن يُراقب موظَّفيها وإن كان يَنتدب لدى كل واحدة منها حاكمًا عامًّا، ولا تَكتفي هذه المستعمَرات بأن تسنَّ مجالُسها التمثيلية القوانين التي ليس للتاج سوى حق رفضها بالاسم فقط، بل هي دول مستقلة استقلالًا داخليًّا تامًّا، وتُسمى هذه الدول التي أصبحت كبيرة بعد قبولها النُّظُم الاتحادية «بالممتلكات»؛ وهي: كندا وأوستراليا وأفريقيا الجنوبية ونيوزلندا ونيوفاوندلندا، وقد ظلَّت مدة طويلة غير مشتركة في شئون الإمبراطورية التي احتكَر البرلمان الإنكليزي أمر النظر فيها، وهي لم تُنظِّم علائقها بالإمبراطورية البريطانية إلا بطريقتَين تقليديتَين: إحداهما أنَّ لكل واحدة منها مندوبًا ساميًا في لندن يُبلِّغ الحكومة الإنكليزية رغائب المُستعمرة ومطاليبها. والثانية أنه يَنعقد في لندن في كل أربع سنوات مؤتمر إمبراطوري يرأسه رئيس الوزارة البريطانية ويتألَّف من رؤساء الوزارات في المُستعمَرات ذات الحكومات البرلمانية، أو ممَّن ينتدبه هؤلاء من الوزراء، وفي المؤتمر المذكور يَتناقش أعضاؤه ويتباحثون من غير أن يتخذوا مقرَّرات قاطعة.
ذلك غير كافٍ عند بعضهم؛ فهؤلاء يرون تأسيس تعاون أكثر وثوقًا بين الممتلكات والمملكة المتحدة، وبعضهم يرى أن تَصير الإمبراطورية دولة اتحادية؛ من حيث السياسة الخارجية وتقرير الحرب والسلم وعقد المعاهدات، ومما يَقضي بالعجب حال الممتلكات عند وقوع الحرب بين إنكلترة ودولة أخرى، فمن جهة تُعد هذه الممتلكات محاربة أيضًا؛ لأنها من الوجهة الدولية دول تابعة لإنكلترة معدودة من أراضيها، ومِن جهة تراها غير مُكرَهة قانونًا على مدِّ يد المعونة إلى إنكلترة.
ولقد صرَّح المستر أسكويث في جلسة المؤتمر الإمبراطوري المنعقدة في ٢٥ مايو سنة ١٩١١ أنه تلقَّى مذكرة موقَّعة من قِبَلِ عدد كبير من أعضاء مجلس النواب البريطاني جاء فيها: «نحن الموقِّعين في أدناه — أعضاء البرلمان الممثِّلين للأحزاب المختلفة — نُبيِّن أنه حان الوقت الذي تشترك فيه الممتلكات في إدارة أمور الإمبراطورية اشتراكًا دائمًا، وذلك إذا أمكن بتأسيس مجلس تمثيلي استشاري مُستنِد إلى الرأي العام في نواحي الإمبراطورية.»
بَيْدَ أن الحرب العامة وصلت بين المستعمَرات الكبرى وبين إنكلترة بصلة أشد وثوقًا؛ فالدم الذي أراقه أبناء الممتلكات وطَّد التحام الإمبراطورية. وفي أثناء تلك الحرب عاونت هذه المُمتلكات إنكلترة معاونةً حربية مالية، فساقت كندا وأوستراليا ونيوزلندا رجالًا وحبوبًا وعُدَدًا إلى ساحة الحرب، وافتَتحت أفريقيا الجنوبية — التي انتهت من إطفاء فتنة الانفصال — مُستعمَرات أفريقيا الغربية الألمانية، وطردت الألمان من غرب أفريقيا، وما بذلته الممتلكات من الضحايا المهمة جعل لكلام ممثِّليها وَقْعًا أعظم من ذي قبل، وحث هؤلاء على المطالبة بأن يكون لهم شأن في إدارة سياسة الإمبراطورية العامة. وكان من الأعمال الأولى التي أتت بها وزارة لويد جورج أن دعت في سنة ١٩١٦ إلى عقد مؤتمر إمبراطوري حربي في لندن، مؤلَّف من وزير الهند ورؤساء الوزارات في كندا وأوستراليا ونيوفوندلندا وجنوب أفريقيا؛ وذلك «للبحث في الأمور المُستعجلة التي تمس سير الحرب، وفي الشروط التي يمكن بها إنهاؤه بعد موافقة الحلفاء، وفي المسائل التي تُطْرَح بتلك المناسبة على بساط البحث.» وهذا يعني تأليف حكومة ممثِّلة للإمبراطورية، وقد اشترك مندوبو المستعمَرات في المؤتمر المذكور كحكام، وجعلوا منه سُلطة تنفيذية وإن لم ينصَّ عليها دستور إنكلترة ودستور المستعمَرات، ثم أدى عقد المؤتمر الإمبراطوري — الذي اجتمع في ٢٦ مارس سنة ١٩١٧ — إلى إحداث هيئتَين وهما: وزارة الحرب الإمبراطورية وتتألَّف من وزراء بريطانيا ورؤساء الوزارات في المستعمَرات على أن يرأسها المستر لويد جورج ووظيفتها البحث في الشئون الحربية، ثم المؤتمر الإمبراطوري للبحث في الأمور المالية، ويرأسه وزير المستعمرات، وفي ١٧ مايو سنة ١٩١٧ قال المستر لويد جورج في مجلس النواب: «إنَّ الوزارة البريطانية تَعترف بأن مناقشات وزارة الحرب الإمبراطورية من النفع بحيث لا يُرغب في عدم الرجوع إليها؛ ولذا قرَّرت أن تَجتمع في كل سنة.»
وقد اجتمعَت وزارة الحرب الإمبراطورية في سنة ١٩١٨ شهرين كاملين فقرَّرت أنه يحقُّ لرؤساء وزارات الممتلكات أن يُخاطبوا رئيس الوزارة البريطانية لا وزير المستعمرات في المسائل التي تمسُّ وزارة الحرب، وأنه يحقُّ لكل ممتلكة أن تُرسل نائبًا عنها للاشتراك في وزارة الحرب عند غيبة رئيس وزارتها.
ومما عُرِضَ على مؤتمر سنة ١٩١٧ اقتراح قاضٍ بتأسيس اتحاد جمركي بين أجزاء الإمبراطورية البريطانية، وقد رُفِضَ لما ينشأ عنه من النتائج الاقتصادية الخطرة في العالم، وقد حاول المؤتمر المذكور في سنة ١٩١٨ أن يقرِّر نظامًا جمركيًّا قائمًا على مبدأ الأرجحية القائل بأن الإمبراطورية مسيطرة على بعض المواد الأولية الضرورية لإصلاح ما أوجبتْه الحرب من النكبات ولانتعاش الصناعات.
وهكذا يتدرَّج المؤتمر الإمبراطوري إلى أن يكون سلطة الإمبراطورية التنفيذية، ولا ريب في الوصول إلى تأسيس هذه السُّلطة بالتدريج لتحلَّ المشاكل الاقتصادية العامة.
يظهر مما تقدَّم كيف تنمو مبادئ الاتحاد في الإمبراطورية البريطانية، ولسوف يَعظُم شأنها تبعًا لناموس تطوُّر الأمور الطبيعي. والسبب في إسهابي في بيان النُّظُم الاتحادية الجديدة ومشاريعها هو أنها — وهي التي استوقفتْ أنظار فلاسفة فرنسا في القرن الثامن عشر — صار لها مقامٌ عالٍ في العالم المتمدِّن؛ فقد اتخذتها سويسرة والإمبراطورية الألمانية وأكثر دول أميركا، ولم يقم الدستور الذي أجازه مؤتمر السوفيات الوطني الثاني في ١٧–٣٠ نوفمبر سنة ١٩١٧ على غير نظام الاتحاد.
ومن جهة أخرى ترى إنكلترة أن النظام الاتحادي يستولي عليها؛ فاليوم يفكر كثيرٌ من أجزاء المملكة المتحدة نفسها في نقل السلطة الاشتراعية إلى مجالس محلية، على أن لا يبقى للبرلمان الإنكليزي سوى حق الاشتراع في المسائل التي تمسُّ المصلحة العامة حقًّا، وتُعْزَى هذه الحركة إلى أسباب كثيرة؛ منها أن في إنكلترة — مع السلطة الاشتراعية المركزية الحاضرة — سلطات اشتراعية مختلفة كسُلطة أيرلندا وسلطة اسكتلندا الاشتراعيتين. ومنها أنَّ واجب البرلمان الحكومي يَردُّ في الغالب سلطته الاشتراعية المضطرَّة إلى الاشتراع الزائد المعقَّد إلى الصف الثاني. ومنها مسألة الحكم الذاتي الأيرلندي على الخصوص؛ فما تأتي به أيرلندا من المساعي لنيل هذا الحكم أيقظ شعور نواحٍ أخرى كاسكتلندا وبلاد الغال «ويلس».
وقد زادت المسألة الأيرلندية خطورةً منذ بضع سنوات؛ فانقلب الاضطراب القانوني في سبيل الحكم الذاتي إلى اضطراب ثوري في سبيل الاستقلال، وما أصاب حزب الاتحاد من الفشل في انتخابات سنة ١٩١٠ أدى في ٢٥ مايو سنة ١٩١٤ إلى اقتراع البرلمان للائحة الحكم الذاتي الأيرلندي، ولكن الحرب الأوربية عاقت تطبيق ذلك الحكم، وفي وقت أعلن فيه الوطنيون الأيرلنديون إخلاصهم للإمبراطورية — أي في ٣ أغسطس سنة ١٩١٤ — أخذ المتطرِّفُون — الذين يتألَّف منهم حزب (السن فين) — يدعون الناس إلى عدم الانخراط في سلك الجيش، وقد أحدثوا في ٢٤ أبريل سنة ١٩١٦ فتنة أعلنوا فيها الجمهورية الأيرلندية، وبعد أن رفض رجال هذا الحزب أن يشتركوا في مجلس العهد الذي عُقِدَ في دبلن في ١٩١٧–١٩١٨؛ نظرًا لأن أعضاءه معينون من قِبَل الحكومة وبعد أن حالوا دون تطبيق قانون الخدمة العسكرية في أيرلندا؛ نالوا نجاحًا باهرًا في الانتخابات الاشتراعية التي تمَّت في شهر ديسمبر سنة ١٩١٨، وعلى أثر امتناعهم عن تبوُّء مقاعدهم في البرلمان الإنكليزي اجتمعوا في ٢١ يناير سنة ١٩١٩ في دبلن ليعلنوا الجمهورية الأيرلندية، وهم على ما لاقوه من حث الأيرلنديِّين الأميركيين ومجلس النواب ومجلس الشيوخ الأميركيين لهم لم يقدروا على بسط قضيتهم أمام مؤتمر الصلح، وإنا لنكتب هذه السطور — أي في شهر مايو سنة ١٩٢٠ — والفوضى تأكُل أيرلندا؛ فالنِّظام العرفي يسودها، والاغتيال السياسي يَزيد فيها، وقد أصاب الشلل وظائفها العامة، والحل الذي يُرَى — بعد أن اعتبر حزب السن فين الجمهوري نظام الحكم الذاتي غير كافٍ — أن تُمْنَح أيرلندا نظام المُمتَلكات فبذلك تبقى جزأً من الإمبراطورية البريطانية له نُظُمه النيابية والمدنية والمالية والتجارية الخاصة.
ويُحتمل أن يَنتشر نظام الاتحاد بعد تطبيق معاهدة فرساي التي عُقِدَت في سنة ١٩١٩، والتي تنصُّ على ضمانات سياسية وإدارية في مصلحة الأقليات القومية التابعة لدول أوربة الوسطى أو لدول الشرق، فها أنَّ دولة تشيكوسلوفاكيا منحت ولاية «روتينيا» استقلالًا ذاتيًّا، وفي دولة اليوغوسلاف فريقان؛ فريق المركزيِّين، ويودُّون تأسيس حكومة مركزية في بلغراد. وفريق الاتحاديِّين، ويسعون في أن يكون في كل ناحية من نواحي الدولة — وهي كرواتيا وسلوفينيا والبوسنة والهرسك ودالماسيا — مجلس مُستقلٌّ وحكومة مسئولة أمامه.
(٢) الحكومة وشكلها
سنرى أن كلمة «حكومة» تدلُّ في الحقوق الدستورية على معانٍ كثيرة، وأهم هذه المعاني: مباشرة ولي الأمر للسيادة؛ أي قيامه بوظائف الدولة التي تتجلَّى في الدفاع عن الأمة إزاء تعدي الأجنبي، وتوطيد دعائم الأمن والنظام في الداخل، وتوزيع العدل بين الأفراد، وللحكومة أشكال مختلفة يجب أن لا يُخْلَطَ بينها وبين أشكال الدولة؛ فقد يكون شكل الحكومة الواحد متخذًا في الدول ذات الأشكال المتباينة، خذ شكل الحكومة البرلمانية مثلًا تره سائدًا في هذه الأيام لكثير من الدول الملكية الدستورية وللمُمتلكات الإنكليزية وللجمهورية الفرنسية.
•••
وإذا اعتبرنا الأمر من أساسه رأينا — لمباشرة السيادة — طريقتَين؛ وهما: إما أن يباشر ولي الأمر (سواء أملكًا كان أم مجلسًا شعبيًّا) تلك السيادة كما يريد، فيُدبِّر الأمور ويقود أبناء البلاد حسبما تُوحيه إليه الأحوال، وهنا تكون الحكومة مستبدَّة مطلَقة. وإما أن يكون هنالك مبادئ ثابتة معروفة قبلًا تُملي على وليِّ الأمر مقرَّراته، وحينئذٍ تكون الحكومة دستورية.
ولا حرية حقيقية إذا كان مجلس الشعب يقدر على اتخاذ تدبير مُنافٍ للقوانين العامة ضد أحد أبناء البلاد، والذي يحمي القانون ويحفظ حرمته هو القانون نفسه، ويمكن تعريفه بأنه كناية عن قاعدة آمرة ناهية يضعها ولي الأمر، لا للبتِّ فيما تقتضيه المنفعة الخاصة، بل للحكم في منفعة الجميع، ولا فيما يتعلَّق بشخصٍ واحد، بل فيما يخصُّ الكل حالًا ومستقبَلًا، والقانون إذا حاز هذه الشروط لا يكون جائرًا ولا سيما يكون بها معلومًا مقدَّمًا من قِبَلِ الذين قد يَخرقون حرمته، نعم تَقتضي السيادة أن يكون ولي الأمر قادرًا على تعديل القوانين وإلغائها، ولكن القوانين ما دامت موجودة وجب عليه أن يُباشر سلطته حسب نصوصها، ومما يُحظَر عليه أن يمتنع عن تطبيق قانون لم يُلْغَ بعد، وأن يُطبِّق قانونًا على أمور حدثتْ قبل سَنِّه إذا كان ذلك يضرُّ مصلحة مشروعة.
وقد علم الناس شكلَي الحكومة المذكورَين منذ قرون كثيرة، ومِن غير أن نرجع إلى الأزمنة القديمة نرى في القرون الوسطى القدِّيس توما داكن يشير في إحدى رسائله إلى أن الحكومة القانونية أدنى من الحكومة المُطلَقة؛ حيث حكمة الأمير الطالقة من سلطان القوانين تسير حرة كحكمة الله، وقد وقع عكس ذلك في إنكلترة؛ فقد نما فيها مبدأ قائل بالملكية الدستورية؛ حيث يكون الأمير خاضعًا للقوانين، وفي فرنسا نرى الكُتَّاب الذين شرحوا في النصف الثاني من القرن السادس عشر مبادئ الحرية السياسية ناضلوا عن الملكية القانونية بحماسة، غير أن حقوق فرنسا العامة في العهد السابق قالت قسمًا بمبدأ يخالف ذلك؛ أي قرَّرت أنه إذا كان يجب على موظَّفي الملك وقضاته أن يسيروا ويَحكموا بما جاء في القوانين، فإنَّ الملك في حِلٍّ من ذلك عندما يتدخَّل مباشرةً فيأمُر ويُقرِّر أو يحكم.
وبعد ما تقدَّم يَسهل علينا أن نُدرك أهمية السلطة الاشتراعية بين وظائف السيادة؛ فبها تتقيَّد هذه السيادة وتَرتدع، وقد انفصَلت السلطة الاشتراعية عن وظائف السيادة الأخرى باكرًا ويُمارسها في كل وقت هيئات خاصَّة حسب أسلوب معيَّن، هذا ما وقع عند الأمم المتمدِّنة جميعها منذ قرون كثيرة؛ أي قبل أن يفكِّر في فصل السلطات، وأما وظائف السيادة الأخرى — التي هي كناية عن حقِّ القيادة والقهر — فقد ظلَّت متَّحدة ويتألَّف منها سلطة تُسمَّى السلطة التنفيذية، وعلى رغم اتباع السلطة التنفيذية للسلطة الاشتراعية نراها تَفضُل هذه من الجهة الآتية؛ وهي: أن السلطة الاشتراعية تُباشِر أمورها على وجهٍ منقطع، حتى في دول الوقت الحاضر؛ حيث يزيد وضع القوانين كل يوم أكثر من ذي قبل، مع أنَّ السلطة التنفيذية تمارس وظائفها بصورة دائمة دوام حياة الأمة، ونُضيف إلى ذلك أنه يَنفصل عن السلطة التنفيذية في أكثر الأوقات وظيفة من وظائف السيادة؛ وهي إقامة العدل المدني والجزائي على يد هيئات خاصَّة، وعندما نبحث في فصل السلطات ندقِّق في هل ذلك أمر مسلَّم به عقلًا وحقوقًا أم لا؟
وأهمُّ ما تسعى إليه الدساتير في الوقت الحاضر هو اختيار شكلٍ للدولة ونظام للحكومة يُمكن بهما سَنُّ قوانين صالحة وتحقيق احترامها، ويَكفي لتوطيد دعائم الحرية سنُّ قانونٍ تُذْكَر فيه أعمال السُّلطة صاحبة السيادة قبلًا، إلا أنه يَبعد ذلك، فأهمُّ الأعمال المذكورة تأبى بطبيعتها مثل هذا القانون؛ إذ من المستحيل أن يعيَّن قبلًا الزمن الذي يجب فيه شهر الحروب، وشروط الصلح ووقته، ووجه تسْيير دفة الحرب، وكيفية المفاوَضة في تنظيم المعاهَدات، وماذا يجب أن تحتوي، أجل، يستطيع القانون أن يحدِّد سنَّ الموظَّف العام وشروط الكفاءة التي يجب أن تَجتمِعَ فيه، ولكن تعيين الموظَّف — بعد أن يكون حائزًا تلك الصفات — يقتضي اختيارًا شخصيًّا لا يستطيع المشترع أن ينظِّم أمره، فحق الإتيان بتلك الأعمال وما تتضمَّنه من حلٍّ وعقد يعود — بحكم الطبيعة — إلى السلطة التنفيذية الدائمة، وحيث لا تكون هذه السلطة ولَّي الأمر — بل نائبةً عنه — يكون أضمن شيء إزاء سوء تصرُّفها تقرير مسئوليتها، وسنرى أن دساتير الزمن الحاضر القائلة بأن يُباشر السلطة الاشتراعية مجالس منتخَبة تتطلَّب — في الغالب — أن تُوافق هذه المجالس على تلك الأعمال أو تأذن فيها.
وفي رسائل الحقوق الإدارية الفرنسوية يَقصدون بأعمال الحكومة — في الغالب — الأعمال المطلقة الضرورية التي أشرتُ إليها آنفًا، والسبب في البحث فيها وتقسيمها هو أنها كما تتخلَّص من ربقة القانون لا تنالها يد المَحاكم، ولا يُمكن التقاضي في شأنها أمام محكمة إدارية.
•••
وللحكومة — وهي مباشَرَةُ وليِّ الأمر للسلطة العامة — شكلان؛ وهما: إما أن يُباشرَ ولي الأمر السلطة العامة بنفسه وتُسمَّى الحكومة إذ ذاك الحكومة المُباشِرة. وإما أن يفوِّض مباشرتها إلى مَنْ ينوب عنه، وتُسمى الحكومة حينئذٍ الحكومة التمثيلية، وللحكومة التمثيلية وجهان؛ وهما: إما أن يفوض وليُّ الأمر خصائص السيادة كلها أو بعضها إلى ممثِّلين يَختارهم على أن يسيروا أحرارًا لا يُعزَلون، وهنالك الحكومة التمثيلية الحقيقية. وإما بالعكس أن يكون مُمثِّلو وليِّ الأمر كناية عن وكلاء يستطيع أن يُملي عليهم مقرَّراتهم قبلًا، ويَقدر على عزلهم متى أراد، وهنالك الحكومة التمثيلية ظاهرًا، المُباشِرة حقيقةً.
والحكومات — مُباشِرةً كانت أم تمثيلية — هي للقيام بشئون السيادة؛ أي بالسلطات الاشتراعية والتنفيذية والقضائية، ويتطلَّب فعل السلطة التنفيذية — أي تنظيم الحربية وفرض الضرائب وإجراء الأحكام … إلخ — تعيين موظفين، وهؤلاء المُوظَّفون الذين يقبضون على زمام السلطة العامة هم وكلاء الحكومة، ويُسمى فعلهم الإدارة.
والحكومة المُباشِرة رمز الملكية القحَّة إذ بها يُمارس الملك السلطة الاشتراعية بنفسه بعد أن يسترئي مَنْ يختاره مِن المُستشارين، وهو وإن كان يباشر السلطة التنفيذية بواسطة وزرائه لا يقرِّر هؤلاء شيئًا لا يُريده، وهو يَقدر على عزلِهم وإبطال أعمالهم كما يشاء، ثم إذا عيَّن قضاةً لتوزيع العدل فإنه يَحفظ لنفسه حق القيام مقامهم، وهو يستطيع نقْض أحكامهم على الدوام، بَيْدَ أنه يستحيل إنجاز كثير من أمور السيادة في الحكومات المباشرة التي يكون الشعب فيها وليَّ الأمر؛ لأنه إذا أمكن الشعب أن يضع مقرَّرات فإنه يتعذَّر عليه أن ينفذها بنفسه، وحينئذٍ يضطرُّ إلى تفويض ذلك إلى وكلاء دائمين، وهنا تتدخَّل الحكومة التمثيلية في ممارسة السلطة التنفيذية. وأما توزيع العدل فيُمكن الشعب أن يقوم به بنفسه ما دام صغيرًا والحقوق بسيطة، ولكن متى زادت القضايا وتعقَّد أمر الاشتراع امتنع ذلك، ويَمتنع ذلك تمامًا إذا كان الشعب عظيمًا لتعذُّر جمعِه كي يفصل في اختلاف، وهنا تجب الحكومة التمثيلية أيضًا. وأما السلطة الاشتراعية لسَنِّ القوانين فلا شيء يَمنع الشعب من القيام بها إلا أن الشعب إذا كان كبيرًا وكان ذا حضارة راقية تتطلَّب سَنَّ قوانين معقَّدة حكيمة وجب عليه أن يفوِّض أمر تحضيرها وترتيبها إلى وكلاء يَعرضونها عليه ليُجيزها.
•••
- أولًا: إنَّ السلطة الاشتراعية — وإن كانت ناظم السيادة الحقيقي — يبدو تأثيرها لأبناء الوطن بواسطة السلطة التنفيذية المستمرة، ثم ألم تثبت السلطة التنفيذية دعائم السلم في الداخل وتقرِّر أمر الصلح أو الحرب في الخارج؟
- ثانيًا: إنَّ جان جاك روسو الذي أثَّر كثيرًا في نظرية الحقوق الدستورية قصد بالحكومة السلطة التنفيذية، وتفصيل ذلك أن روسُّو ذهب إلى أن سيادة الأمة تتجلَّى في القوانين، وأن الأمة لا تستطيع غير الاشتراع في المواضيع التي تمسُّ المصلحة العامة، وأنها لا تقدر على الحكْم في موضوع خاصٍّ وشخص معيَّن، ولما كان تنفيذ القوانين يتطلَّب — بحكم الضرورة — مقرَّرات خاصة يُقصَد بها أناس معيَّنون، يرى روسو أن تفوِّض الأمة — صاحبة السيادة — ذلك إلى هيئة تنفيذية، وهذه الهيئة هي الحكومة؛ فالسيادة والسلطة الاشتراعية عند روسو كلمتان مترادفتان، وكذلك الحكومة والسلطة التنفيذية.
وإذا اعتبرنا كلمة الحكومة دالَّة على المعنى المذكور وحده صَعُب علينا أن نفرِّق بينها وبين الإدارة، والفرق بينهما يتجلَّى في الملاحظة التاريخية الآتية؛ وهي: إنَّ الثورات الكثيرة التي اشتعلت في فرنسا منذ مائة سنة مع تأديتها إلى تغيير شكل الحكومات الفرنسوية وإقامتها — في الغالب — حكومات مؤقَّتة غير مشروعة مقامها لم توجب وقوفًا في سير الإدارة ولو يومًا واحدًا، وقد داومت هذه الإدارة على سيرها السابق دوام القوانين الناظمة لها.
(٣) حدود حقوق الدولة
إنَّ المبدأ الذي كان سائدًا للعالم اليوناني الروماني القديم هو المبدأ القائل بأنه لا حدَّ للسيادة ولحقوق الدولة، وما كان يُبْذَل في الجمهوريات القديمة من سعيٍ إلى الحرية كان يرمي إلى قَبول أبناء الوطن الأحرار في مجلس الشعب، وإلى تقييد سلطة الحكام فقط، ولكنه ما كان يدور في خَلَدِ أحد أن ذلك المجلس — الذي هو صاحب السيادة — لا يقدر على التصرف في حياة أبناء الوطن وأموالهم وحريتهم كما يريد، وعَكَسَ ذلك المبدأ الحديثَ المتين القائل بأن للفرد حقوقًا أقدم من حقوق الدولة وأسنى منها، وأن على الدولة أن تَحترمها. وسنبحَث في فصول آتية في تبرير مبدأ الحقوق الفردية المذكورة وفي مصادره وفي القواعد التي يعبَّر بها عنه، وأما الآن فيكفي أن نبين أن هذا المبدأ من مواضيع الحقوق الدستورية الجوهرية؛ فهو حقًّا يعيِّن حدود السيادة أكثر من أي قانون، ويَحظُر على وليِّ الأمر أن يسنَّ قوانين قاضية على حقوق الأفراد ويأمرُه بأن يضع قوانين حافظة لها.
- الأول: إنَّ المبدأ السائد للعالم الغربي المتمدِّن يقول بأنَّ القوانين الدستورية تَختلِف بطبيعتها عن القوانين العادية قوةً ودوامًا، ولهذه العلَّة يُدْمَج في الدساتير المكتوبة نظُمٌ قضائية أو إدارية حتى تَكتسِبَ قوة القوانين الدستورية.
- والثاني: إن كثيرًا من العلماء المتأخِّرين يُدْخِلون عمدًا إلى رسائل الحقوق الدستورية مسائل من فصيلة الحقوق الإدارية، وغايتهم إبراز صورة كاملة لنظام الأمة السياسي.
والحقوق الدستورية — مهما يتَّسع مداها — تَختلف عن علم الاجتماع لاختلاف وجهة نظر العلمَين؛ فأما علم الاجتماع فغايتُه اكتشاف النواميس الطبيعية التي تَنشأ بها المجتمعات البشرية وينتظم أمرها وتنمو ثم تنحلُّ، وهو إذا بحث في تكوين الدول والحكومات فغايتُه من هذا البحث تطوُّرها حيويًّا لا حوادثها التاريخية. وأما الحقوق الدستورية فغايتها البحث في شكل الدولة أو الحكومة المعيَّن الذي ثبَت بفعل العادة أو الاشتراع، ثم استخراج مبادئ هذا الشكل ونتائجه. ولكن الحقوق الدستورية إذا لم تكن علم الاجتماع فإنَّ تاريخها عند مختلف الأمم من أهمِّ الوسائل التي يستعين بها هذا العلم على استنباط النواميس الطبيعية التي تتطوَّر بها الدول والحكومات.
(٤) بحث في بعض النظريات التي ظهرت في القرن التاسع عشر والقرن العشرين
تتجلَّى مبادئ الدولة والحكومة والقانون في ما تقدَّم، وقد قامت أمامها في هذه الأيام مبادئ مخالفة ألخصها لنقدها، وعلماء الاجتماع لا الفقهاء هم الذين قالوا بها في الحقيقة.
•••
تلوح لي هذه النظريات — التي ترمي إلى اعتبار الدولة من فصيلة الزمر الأخرى — أنها مختلَّة خَطِرة عند الاعتماد عليها في وضع الحقوق العامة، فالحقوق تَستند منذ ظهورها إلى السلطة الحاكمة التي تتَّصف بها الدولة والتي لا يُمكن أن تكون لغيرها، نقول ذلك ونحن لا نشك في أنَّ الدولة تُشبه الزمر البشرية من جهات أخرى، أعني بها سعي الطرفين في سبيل سعادة الناس ونشوء قابلياتهم.
- أولًا: إنَّ للدولة أراضي معينة مُشتملة — بحكم الضرورة — على كل ما هو مستقر عليها وتستطيع الدولة أن تُمسك به وإن أراد الانفصال عنها. نعم، تسمح الدولة المتمدنة لرعاياها بأن يتجنسوا في البلدان الأجنبية بجنسية أخرى، ولكنها تقدر على منعهم إذا اقتضت المصلحة ذلك، ثم إنها لا تحتمل أن تستأثر زمرة منهم بجزء من أراضيها ليؤلِّفوا فيه دولة مستقلة.
- ثانيًا: إنَّ الدولة — وحدها — هي التي تَستطيع أن تقود أعضاءها قيادة الآمر الناهي، وأن تُنزل أنواع العقوبات المادية على مَنْ يخالفها منهم.
- ثالثًا: إنَّ الدولة حادثة اجتماعية لم يتفق مثلها لزمرة بشرية أخرى، فمع أن الأمة نفسها تتألَّف من عناصر وزُمَر مستقلة تفنى هذه العناصر والزمر في هيئة أكثر اتساعًا، وهذا في الدولة الموحَّدة، ويمتزج بعضها ببعض، وتخضع لسلطان أعلى، وهذا في الدولة الاتحادية.
تلك هي الصفات التي تمتاز بها الدولة من غيرها، وإنَّا لا نُنكر أن الكنيسة الكاثوليكية في القرن الثاني عشر والقرن الثالث عشر كانت — كما لاحظ ريم — مهيمنة على الأمم والأفراد، غير أننا نقول: إنها لم تحتوِ على واحدة من الصفات الثلاث المذكورة، وقد كان سلطانها سائدًا لزمن خُسِفَ فيه مبدأ الدولة؛ أي أيام مزَّق النظام الإقطاعي الدولة وجعلها مفقودة في ديار الغرب. ثمَّ إنَّ الجمعية الدولية — التي يودُّ بعضهم أن يراها أعلى من الدولة — ليست — في الحقيقة — سوى عمل يقوم به دول مستقلة حسب معاهدات يوافق عليها رجال هذه الدول.
•••
وعند الموسيو دوغي أن كل إنسان يتمُّ عملًا ملائمًا لذلك التضامن يُحْدِث حالًا مشروعة يحمل الكل على احترامها، وكذلك إرادة الحاكمين تُصبح مشروعة إلزامية متى وافقت مبدأ الحقوق.
ويقول الموسيو دوغي: إن عاطفة التضامن الاجتماعي وما ينشأ عنها من النتائج تنمو وتكمل بالتدريج، وتتحوَّل بحسب الأزمنة والبيئات، وليست القوانين التي يُذيعها أرباب الحكم إلا معبرةً عن هذه العاطفة، وبهذا يرى العالِم المشار إليه أن القانون يكون في شعور الأمة قبل إملائه، وأن أصحاب الحكم لا يفعلون سوى إعلانه ووضع ما عندهم من قوة في خدمته.
وقد انتهى الموسيو دوغي إلى إنكار بعض المبادئ المهمة التي تستند إليها الحقوق العامة في فرنسا وقسم كبير من العالم المتمدن منذ الثورة الأميركية والثورة الفرنسوية؛ ومنها: مبدأ السيادة القومية، ومبدأ المساواة أمام القانون، ومبدأ الاقتراع العام الخالص البسيط. ثم اتخذ رأي روسو القائل بأن الحكومة التمثيلية أمر ظاهر ويتعذَّر تمثيل الإرادة، ولم يظهر بمظهر المستصوب لمبدأ استفتاء الأمة العام المباشر.
ذلك هو مذهب الموسيو دوغي، ومَنْ يُدقق يلاحظ فيه تأثير بعض علماء الاجتماع وفريق من كُتَّاب ألمانيا، وسيرى القارئ — في غضون هذا الكتاب — إثبات أكثر المبادئ التي يجادل فيها زميلي المشار إليه، والتي لا أزال أؤمن بها، إلا أنَّ هنالك جهات أرى بيانها منذ الآن.
فلنشرع في نظرية شخصية الدولة التي يظهر أن الموسيو دوغي يحقد عليها بوجه خاص، تلك النظرية التي يلوح لنا بالعكس أنها أسمى مبدأ استنبطته الحقوق العامة الحديثة؛ لتضمُّنها وجوب مباشرة السلطة العامة في مصلحة الكل، واعتبار ولاة الحكم خدم المجتمع. يرى الموسيو دوغي أن عيبه كونه فرضية شرعية محضة، وإني أصرِّح أيضًا بأنه فرضية شرعية محضة، ولكن الفرضيات الشرعية تنمُّ في بعض الأحيان على أسمى الحقائق، ومنها الأمة والوطن، ثم أين هي الحقائق — التي هي أمتن من حقيقة الدولة في حياة البشر — والدولةُ كشخص عام رمز الأمة الشرعي؟
ومما يُدهش: منح الموسيو دوغي الجمعيات التي تتألَّف في ضمن الدولة شخصية معنوية بلا قيد ولا شرط، وفرضه حرية مطلقة لها، ثم عدم اعترافه بهذه الشخصية للدولة، وهي عنده أوسع الجمعيات.
وعندي ليس لإنكار حق السيادة نتيجةٌ غير تأييد سلطان القوة والاعتراف لها بحقٍّ في إنشاء الحكومات، وقد أدحض حق القوة منذ العهد السابق ونَقَضَهُ مبدأ السيادة القومية. نعم، يقول الموسيو دوغي: إنَّ أولياء الحكم لا يُصبحون شرعيِّين إلا إذا ساروا حسب مبدأ الحقوق واحترموا الأحوال المشروعة الفاعلة، ولكن هذه الأفكار المجرَّدة المقتبَسة من المعجم الألماني لا تستحق أن تجاوز غُرفة المطالعة لتتسرَّب في أذهان المتعلمين وفي الحياة العامة.
وأما الصورة التي يتصوَّر بها المسيو دوغي القانون فيَظهر أنها تمزج أمرين دلَّ التاريخ والعلم على اختلافهما اختلافًا جوهريًّا؛ أحدهما: القانون — أي «أمر صاحب السيادة» — وينال قوته الإلزامية من السلطة التي يَصدر عنها. والثاني: هو العادة، وهي تعبِّر عن إرادة السكان تعبيرًا مضمَرًا اجتماعيًّا، وتقوم على سوابق مكرَّرة مؤدية — كما يرى المسيو دوغي — إلى حدوث أحوال مشروعة فاعلة؛ وعليه يكون القانون عند زميلنا المُحترم كنايةً عن عادةٍ أجازتْها إرادة أولياء الحكم الاشتراعية، ولا ريب في أن الذي يحرِّك السلطة الاشتراعية فيحملها على الاشتراع هو الضرورات المشاهَدة ومبادئ السكان، وأن أحسن القوانين هو ما رسمه الرأي العام الناضج الشاعر قبلًا، ولكن لا سبب لإفساد مبادئ الحقوق العامة وخلط الرأي الذي يوحي بالقانون بالسلطة التي تملل القانون.
•••
بنى برودون مذهبه على مبدأ المجتمع الاقتصادي؛ فقد بيَّن أن المجتمع لا يكون باستناده إلى وجوب السيادة ولا إلى مبدأ الدولة، بل إلى ما بين الناس من العلائق الاقتصادية التي هي مصدر العلائق الأخرى، ويسمِّيها برودون «الحقوق الاقتصادية».
ويدعم برودون هذا المبدأ بذكره أنَّ الوظائف الاقتصادية في المجتمعات البشرية أقدم من الوظائف السياسية، ومن ثَمَّ أعلى منها، وإليك ما قاله بنصه: «تخضع الوظائف السياسية نفسها لوظائف أخرى ذات شأن أكبر من شأنها، وهي الوظائف الاقتصادية؛ فالأمة قبل أن تَشترع وتدير وتبني القصور والمعابد وتشهر الحرب؛ أسَّست العائلة، وقرَّرت الزواج، وأقامت المدن، وقالت بحق التملُّك والميراث، ولو نظرنا إلى الأساس لرأينا الوظائف السياسية اختلطت بالوظائف الاقتصادية، وأصبح كل شيء يخص الحكومة والدولة غير غريب عن الاقتصاد السياسي، وإذا استخلص الناس بعدئذٍ نظام الحكومة، وأسندوا إليه الأقدمية، فَلِوَهْمٍ تاريخي لا ننخدع به بعد أن رسمْنا السلسلة الاجتماعية ووضعنا كل شيء في محله.»
لا ريب في أنه ليس لدى الزمر البشرية الفطرية سوى احتياجات اقتصادية وعائلية، وأنه لا أثر للسلطة السياسية عندها؛ يدلُّنا على ذلك حال همَجِ أوستراليا المركزية الشمالية، الذين لا يهمهم سوى الأكل، ولا يعرفون نظامًا سياسيًّا، ولكن كيف يجوز اتخاذ طور الهمجية المذكور مثالًا يجب على المجتمعات المتمدنة أن تنحلَّ لتلتئم به؟ أجل، إن الغذاء سُنة الحياة المقدرة والعمل المقدس الذي يُنال به يجب أن يكون حرًّا، ولكن النظام السياسي وحده هو الذي يقدر على ضمان هذه الحرية وغيرها، والعدل الذي يقول به زعماء العمال هو ثمرة الحضارة والمجتمعات السياسية، لا ثمرة الإنتاج الاقتصادي، والدين أول ما أيَّده، ثم جاءت السلطة السياسية فأيَّدته على وجه أكمل، فالاحتياج إلى العدل والحرية ثم ضمان ذلك كناية عن تدرُّج طبيعة البشر إلى الكمال، وقد ارتكز في الدولة في آخر الأمر، وهكذا تفرض الحقوق الوضعية التي تنظم العلائق الاقتصادية وغيرها وجود مُجتمَع سياسي وسلطة عامة.
على أن برودون لم يجادل في شرعية النظام السياسي وضرورته، وقد أعلن أن، الدولة أمر حقيقي، وإنما كان يودُّ أن يتبع النظام السياسي النظام الاقتصادي، وهو لما تعلَّق بالمبدأ الاتحادي اتخذه لحلِّ الدول الحاضرة لا لإيجاد دول ذات كيانات صغيرة، وعنده أن النظام الاتحادي في المستقبل سيَنشأ من زُمَر مشتركة تتألَّف لأجل الإنتاج والمقايضة، وتتَّحد باختيارها على أن يحقَّ لها أن تترك الاتحاد متى تريد، وهو — وإن قال بسيادة هذه الزمر — يرى أن تكون البلديات والأقاليم أجزاء دولة الاتحاد الحقيقية، وللبلدية على الخصوص يهب السيادة، ومنها يرجو توزيع العدل.
ويؤيد برودون وجود سلطة مركزية أو اتحادية، على أن تكون ذات سلطان محدود، وهو يحتجُّ على مبدأ السيادة، وعند سؤاله عن الكيفية التي يثبت بها أمر النظام العام والسلامة العامة والعدل الاجتماعي يُجيب أن ذلك كله يتمُّ بسلطان الحقوق الاقتصادية.
وعند برودون أنَّ الذي يسود النظام الاتحادي المذكور هو السِّلْم والاتفاق والحريَّة، غير أنه يرى أن طبقات العمال هي التي ستَقبض على ناصية الحكم؛ فقد قال: «هنالك لا تكون سيادة مجرَّدة بيد الشعب؛ كما في دستور سنة ١٧٩٣ والدساتير التي عقَّبته، أو كما جاء في عقد روسو الاجتماعي، بل تكون سيادة حقيقية بيد جموع العمال تتجلَّى في مؤسسات البرِّ، وغُرَف التجارة، ونقابات الحِرَف، وجمعيات الفعَلة، والمصافق والأسواق، والمدارس، والمجامع الزراعية، والاجتماعات الانتخابية، والمجالس النيابية، ومجالس الشورى، والحرس الوطني، والكنائس والمعابد.» إلى أن قال: «تكون السيادة الحقيقية بيد جموع العمال، وكيف لا تكون بيدهم بعد أن يقبضوا على النظام الاقتصادي جميعه — أي على العمل ورأس المال والاعتبار والملك والثروة — وتتبع الحكومة والسلطة والدولة سلطان الإنتاج؟»
ومع هذا كله ترك برودون الوطن — وهو المعبد المقدس القديم — قائمًا، فقد قال: «إنَّ الشعور الوطني كالشعور العائلي، وحب استملاك الأراضي، وعاطفة تأسيس النقابات الصناعية من شعور الشعب الدائم، ولا نبالغ إذا قلنا: إن مبدأ الوطن يتضمَّن مبدأ الاستقلال.» تلك هي أحلام برودون، وقد رأى أنها ستحقَّق في القرن العشرين.
•••
وبعضهم يرى — خلافًا لبرودون — أن تلك الزمر ستكون كناية عن نقابات العمال فقط، وأن اتحاد هذه النقابات لن يبالي بالوحدة القومية، قال مكسيم لروا: «لا شبه بين اتحاد العمال واتحاد الدول الذي أوجب تأليف الإمبراطورية الألمانية والولايات المتحدة؛ فاتحاد العمال — بعكس هذه الزمر الجغرافية — قائم على المهن وقوة الإنتاج، والمهنة والمنفعة الاقتصادية هي التي تعيِّن وجهة ذلك الاتحاد لا مصادفات النسب والأنهر والجبال.»
ومن ثَمَّ يرى أولئك وجوب زوال الدولة والسلطة العامة ما عدا سيادة النقابة، فاسمع ماذا يقول الموسيو مكسيم لروا: «تؤدي حركة اتحاد النقابات إلى إلغاء مبدأ السلطة بحكم الضرورة، وأين تكون الدولة حينئذٍ؟ لا دولة حيث لا حاكم ولا محكوم ولا إرادة عامة تعيِّن علاقات الأفراد بالجماعة ولا عزائم خاصة تخضع للأوامر.» ثم قال الموسيو مكسيم لروا: «إذًا تظهر سلطة الاتحاد كنظام قرطاسي محدود يجمع أبناء النقابات المتحدة للبحث فيها، أي تكون مركزًا لأخبار الإنتاج تديره المؤتمرات الاتحادية رأسًا، وكل شيء يسمى قرارًا أو اقتراحًا أو شغلًا يكون من عمل المنتجين أنفسهم، وكل شيء يسمى وثائق وإحصاء يكون من عمل موظفي الاتحاد والنقابات.»
ولا يبحث أولئك في الأمن العام وتوزيع العدل؛ لأنه لا يكون في النقابات التي ينتمي إليها أبناء البلاد عُنفٌ وطمعٌ وحرصٌ، قال الموسيو مكسيم لروا: «لا محلَّ في ذلك النظام لاختلاف الإدارة المركزية والمصالح الفنية الذي يحول دون سماعنا نتائجه المخلَّة بالأمن تدخُّل البرلمان المقضي عليه بالأفول من قِبَلِ أناس لا يرون أن يخدموا حزبًا من الموظفين، ويفضِّلون نظامًا يأمر بأن يقوم كل فرد بوظيفة حتى لا يبقى أحد مُتطفِّلًا على الإنتاج.»
وكثيرًا ما يستشهد الموسيو برتود والموسيو مكسيم لروا — وهما إماما ذلك المذهب — بنظريات الموسيو دوغي المشروحة آنفًا، فلما وسَّع زميلنا المُحترَم شُقَّة الخلاف بيننا شايع مذهبهما علنًا فأصبح حجة لهما، وإليك ما قال: «تشعر طبقات المجتمع المختلفة باستقلالها؛ فهي تصنع بفعل المذهب النقابي كيانًا شرعيًّا معيَّنًا لنفسها، وهي ترمي إلى إدارة المصلحة الاجتماعية؛ فقد حددت تأثير الحكومة المركزية الذي سوف يكون كناية عن مراقبة بسيطة في المستقبل القريب، وهكذا أعتقد أن الحركة النقابية ستمنَح المجتمع السياسي الاقتصادي القادم ارتباطًا لا عهد للمجتمع الفرنسوي بمثله منذ قرون كثيرة، وإن كان من المحتمَل أن ينشأ عنها دور اضطراب وعنف في أول الأمر.»
ولكن يجدر بمن هو مثل الموسيو دوغي علمًا وفضلًا أن يكون ذا فكر خاص في النقابات، فهو لا يقول بنقابات العمال فقط، بل يرى أن تَنتسب طبقات المجتمع إلى نقابات؛ فقد قال: «إن تأليف نقابات قوية مشتملة على أفراد الطبقات الاجتماعية جميعها مرتبطة بعهود جامعة هو أكبر ضامن أمام جبروت أولياء الحكم؛ أي جبروت الطبقة أو الحزب أو الأكثرية القابضة على زمام السلطة.» وقول مثل هذا يذكِّرنا بدستور سنة ١٧٩٣ الفرنسوي، الذي اعتبر السلطة العامة والحكومة مضرتين بحكم الطبيعة، فقال بضرورة مقاومتهما.
إلا أن النقابات المذكورة المتحالفة ضد الحكومة على الوجه المذكور ليست سوى قوى منحلَّة لا تلبث أن تقتتل عندما لا يكون على رأسها سلطة قادرة على كبحها وردعها عن أعمال العنف، ثم مَنِ الذي يوجب في النقابة نفسها احترام حقوق كل عضو من أعضائها وحريته؟ دلَّت التجربة على أن الأكثرية تكون مستبدَّة بنسبة ضيق المجتمع الذي تعبِّر عن إرادته، فاستبداد النقابة المهيمنة بأعضائها أشد من استبداد الحكومة التي يراقبها في البلدان الحرة المجالس التمثيلية والصحافة والرأي العام، ومتى تصبح الحكومة وكالة استخبار فقط تسنُّ النقابة القانون الذي تطبقه أو تحكم من غير قانون. على أن الموسيو دوغي لم يخشَ فناء الفرد على هذه الصورة؛ فقد قال: «وماذا يضر إذا عنى ذلك فناء الفرد في النقابة؟ فالإنسان — كما قيل منذ القديم — حيوان اجتماعي، ومن ثم يزيد الفرد إنسانيةً كلما زادت اجتماعيته — أي كلما توثقت صلته بزمر اجتماعية كثيرة — وبما أنَّ الرابطة العائلية تنحلُّ بالتدريج وعادت البلدية لا تكون زمرة اجتماعية مُلتحمة لن يجد رجل القرن العشرين تلك الحياة الاجتماعية القوية في غير نقابات المِهَن.» وإني ليتعذَّر عليَّ أن أُدْرِكَ كيف يعني الاندماج الوثيق في الزمرة الاجتماعية ضمانًا إزاء استبداد هذه الزمرة بأعضائها؟ كما أني لا أرى كيف ينتسب الرجل الواحد إلى نقابات كثيرة والنقابات وليدة الطبقات الاجتماعية؟
ولو أن مجتمعاتنا التي هي بَنَتْ حضارة قامت في ألوف السنين تنحلُّ وتتفسَّخ على الشكل المذكور لأوجب ذلك ما يأتي: وهو أن الزمر التي تتألَّف على تلك الصورة تضطهد أعضاءها، ويسعى بعضها في التسلُّط على بعض، وتجدُّ في القضاء على الأشخاص الذين يَبقون مُنفردين، ولكنَّ هؤلاء الأفراد الذين لا يرون سلطة عامة عالية مشتركة بينهم تحميهم وتحافظ على حقوقهم وحريتهم يتألَّبون إذ ذاك ليدافعوا عن أنفسهم بالقوة، ويخضعون من أجل هذه الغاية لأُولي البأس والقوة منهم، والتاريخ أثبت لنا ذلك عندما قصَّ علينا الكيفية التي تألَّف بها النظام الإقطاعي الأوربي أيام الفوضى التي سادت القرن التاسع والقرن العاشر، وعلى رغم هذا يَعُد الموسيو دوغي النظام الإقطاعي مثلًا أعلى يحسُن الرضى به منذ الآن، فاسمع ماذا يقول: «ثبت تاريخيًّا أنَّ تنازُع الطبقات كان قليل الشدة في المجتمعات بنسبة تباين هذه الطبقات وكونها محدَّدة تحديدًا قانونيًّا، إذ بذلك خضع بعضها لبعض خضوعًا خفَّ به تنازعها الاجتماعي، وأصبح الفرد — وهو في زمرته — بمأمن من استبداد السلطة المركزية، وإني — مع كثير من المؤرخين المتأخرين — أعتقد أن النظام الإقطاعي أتى — بعد كثير من العنف والنزاع — بمجتمع مشترك اتحدت فيه طبقاته المتسلسلة حسب عهود اعترفت للطبقات المذكورة بحقوق وواجبات متقابلة، على أن يكون الملِك رقيبًا على تطبيقها، وهو المكلَّف بحفظ النظام والسلم حسب مبادئ العدل.» وبذا نرى كيف يستصوب الموسيو دوغي الرجوع إلى الدور الإقطاعي، فما أبعدنا من فلاسفتنا الذين أملوا الثورة الفرنسوية الكبرى ولم يفكِّروا في غير توطيد دعائم السلم والمساواة والحرية بين الناس بفعل العقل والسيادة القومية!
ومناحٍ مثل تلك جعلت دستور ألمانيا الذي سُنَّ سنة ١٩١٩ يمنح العمال والموظفين تمثيلًا شرعيًّا في مجالس المقاطعات ومجلس عمال الإمبراطورية، ويتألَّف من هذه المجالس — بعد انضمام ممثِّلي المستصنعين إليها — مجالس المقاطعات الاقتصادية ومجلس الإمبراطورية الاقتصادي، ووظائف هذه المجالس استشارية؛ أي تستشيرها الحكومة في لوائح القوانين التي تمسُّ الاقتصاد، ثم إن لها حق الاقتراح في مسألة الاشتراع، فإذا لم تَستصوِب الحكومة اقتراحاتها وجب عرضها على الريشتاغ، وحينئذٍ يمكن مجلس الإمبراطورية الاقتصادي أن يدافع عنها بواسطة أحد أعضائه.