الحكومة التمثيلية
أسباب تحوُّل الأنظمة العامة في إنكلترة وفرنسا تحولًا متباينًا – البرلمان الإنكليزي – تأليفه – حق الموافقة على الضرائب والسلطة الاشتراعية – المناشير – حق المعافاة – ثورة سنة ١٦٨٨ وتصريح الحقوق – الحكومة التمثيلية – مبادئها الإنكليزية – قانون تمثيل الشعب الذي نُشِرَ في ٦ فبراير سنة ١٩١٨.
تألَّف الدستور الإنكليزي من عناصر تَقرب من العناصر التي نشأت عن الملكية الفرنسوية في العهد السابق، غير أنَّ فرنسا انتهت — من حيث النتيجة — إلى نظام ملكي مُطلَق قح، وتحوَّلت إنكلترة إلى حكومة تمثيلية — أي حكومة تستند سلطاتها المختلفة إلى الأمة، وتَسير باسمها وحسب إرادتها — وقد يفسَّر هذا التحوُّل المتباين بثلاثة أسباب؛ وهي:
- أولًا: الاختلاف بين النظام الإقطاعي في إنكلترة وفرنسا، وبيانه أن الروح الإقطاعية والنظم الإقطاعية لم تدخل في بلد قبل دخولها في إنكلترة، وأنها اكتسبت منذ البداءة — أي منذ الفتح النورمندي — شكلًا منظمًا مُتسلسلًا حافظت السلطة الملكية به على قوتها، وأن النظام الإقطاعي في فرنسا نما في وسط الفوضى وأصبحت ملكيتها ضعيفة به، فالنظام الإقطاعي المرتب المتسلسل أدى إلى نشر الحرية في إنكلترة، إذًا لما زاد ضغط الملوك على طبقة الأُمراء الإقطاعيين والطبقة الوسطى في إنكلترة اتَّحدت مصلحتهما فاتفقتا ضدهم، وتوصَّلتا بفضل ذلك إلى تحديد امتيازاتهم بالتدريج، ووقع نقيض هذا في فرنسا؛ حيث اتفقت الطبقة الوسطى والملك ضد النظام الإقطاعي القوي المُستبدِّ فنشأ عنه تقلُّص نفوذ السلطات الإقطاعية، وزيادة الملكية سلطانًا وسطوة، وحبوط الحرية العامة. وهكذا رأت إنكلترة بعد الفتح النورمندي ملكية مُطلقة تحوَّلت إلى ملكية تمثيلية في القرن السابع عشر، وشرعت فرنسا بملكية عاجزة انتهت إلى ملكية مطلقة في القرن المذكور.
-
ثانيًا: يَعني تاريخُ الدستور الإنكليزي تاريخَ البرلمان، وعلى ما بين البرلمان
الإنكليزي ومجالس فرنسا العامة القديمة مِن شبه في المصدر نشأت قوة
البرلمان الإنكليزي منذ البداءة عن الأمر الآتي؛ وهو:
بينما كانت مجالس فرنسا العامة لا تمثِّل غير جزء من السكان — إذ كانت تتألَّف من الأمراء الإقطاعيِّين والإكليروس الذين كان الملك يَدعوهم، ومن نواب المدن الممتازة فقط — كان البرلمان الإنكليزيُّ يمثِّل الشعبَ الإنكليزيَّ جميعه مِن أول الأمر، والعلَّة هي أنَّ إنكلترة التابعة للملوك النورمنديِّين كانت مُنقسمةً إلى مُقاطَعات منتظمة محتوية على كل عنصر من عناصر السكان مشتملةً كل واحدة منها على نظام قضائيٍّ خاصٍّ وإدارة مُستقلة بعض الاستقلال، فعندما حُمِلَ الملوك على دعوة ممثِّلي المدن إلى جانب الأمراء الإقطاعيِّين والأساقفة دعوا بحكم الطبيعة ممثِّلي المقاطعات أيضًا.
- ثالثًا: يضاف إلى ذَينك السببَين اللذَين يَخصَّان تاريخ السياسية أمر آخر يخصُّ العِرق، وهو أن الخُلق الإنكليزيَّ العنيد الرزين العملي، يجعل الإنكليزيَّ في أعماله الشخصية يتطلَّب حقَّه الشرعيَّ بثبات وإصرار، ويتَّصف بشعور حقوقيٍّ تامٍّ ويميل إلى احترام الحق الخالص والأشكال. وإنَّ مِن مُقتضيات الخُلق الفرنسوي تقليل قيمة القانون الوضعي في سبيل العدل الكماليِّ وإغفال الحدود المشروطة الضرورية، فبفضل تلك المواهب الطبيعية الإنكليزية أرادت الطبَقات العليا والوسطى في إنكلترة أن تكون حرةً في ظل القانون، فنالت غايتَها بعد أن جاهدَتْ قرونًا كثيرة وأتت بثورتين في القرن السابع عشر.
تلك ملاحظات عامة، فلنبحث الآن في كيفية تأليف الحكومة التمثيلية في إنكلترة، وفي طبيعة هذه الحكومة.
•••
يسود إنكلترة مبدأ تقليديٌّ قائل: إنَّ البرلمان هو صاحب السلطة العليا، ويقصدون هنالك بكلمة «برلمان» اتفاق الملك ومجلس اللوردات ومجلس النواب، وهذا لم يكن منذ أول الأمر؛ فقد كانت السلطة الاشتراعية والسلطة التنفيذية في قبضة الملك وحده، ولكنَّ هذه السلطة الملكية المُطلَقة — التي سادت أيام كانت الدولة ذات شكل إقطاعيٍّ — لم تلبَث أن خفَّت وطأتها؛ وذلك بفضل اجتماع أمراء إنكلترة الإقطاعيِّين الكثيرين بالمَلك في بعض الأدوار الرسمية المهمَّة، فالمَلِك كان في أثنائها يُبدي رغباته ويَستشير أُولي الشأن من أولئك الأمراء، ومع خلوِّ هذه الاستشارة من الصبغة الشعبية كانت تُفيد في حلِّ بعض القضايا المهمَّة التي يقول العرف القديم بأنَّ أمر النظر فيها من وظائف الملك.
وقد استمرَّت الحال على هذا الوجه حتى القرن الثاني عشر؛ حيث فرضت العادة على الملك أن يعرض في أول الأمر كل نظام مهمٍّ على مجلس مؤلَّف من الأساقفة وأكابر الأُمَراء الإقطاعيِّين، وعلى ما لهذا المجلس من صفة استشارية في الاشتراع نال في الوقت نفسه وظائف مهمَّة في القضاء؛ إذ أصبح قُضاة المحاكم العليا — التي صارت دائمةً في إنكلترة — وكلاءَ عنه خاضعين لسُلطانه.
ويظهر أن من الأسباب التي جعلت الملوك يَسلُكون هذا السبيل ما كانوا يلاقونه من المصاعب في مَنعِ تعدِّي الإكليروس على السلطة المدنية، فلكي يزيدوا أحكامهم قوةً كانوا يُشْرِكون فيها أصحاب الشأن من الأمراء الإقطاعيِّين، والأمر مهما يكن فإن ذلك صار مبدأً حقوقيًّا وطيدًا منذ عهد هنري الثاني، وقد عُبِّر عن المجالس المذكورة باسم «برلمان»، وكلما مرَّ زمن على هذا البرلمان كان يثبت أمره حتى صارت اجتماعاته دورية سنوية في القرن الثالث عشر — أي في عهد إدوارد الأول — ومن وظائفه ما هو قضائي؛ فقد كان محكمة عدلية للحكم في القضايا التي يعرضها عليه الملك، والأحكام التي تصدر عن المحاكم الأخرى، وفي أيام إدوارد الثالث صار من وظائفه أن يحاكم أعضاءه وكبار الموظفين، والبرلمان المذكور مجلس اشتراعيٌّ أيضًا؛ فقد كان الملك يَستشيره في أهمِّ القوانين من غير أن يكون مُكرَهًا على اتباع آرائه ونصائحه، وما ساد المبدأ القائل بأنَّ الملك لا يستطيع أن يُلغي من تلقاء نفسه قانونًا سنَّه البرلمانُ إلا في أواخر عهد إدوارد الثالث، وفضلًا عن هذا صار البرلمان يُدْعَى للمُوافقة على الضرائب التي يَحتاج إليها الملك، ولم تكن من الإتاوات الإقطاعية، تلك حال البرلمان في أول الأمر، وهي مصدر مجلس اللوردات الذي هو فرعٌ من فرعَي البرلمان في المستقبل، فلنبحث الآن في منشأ مجلس النواب.
أُرجئُ البحثَ في الكيفية التي تلاشى بها تمثيلُ الإكليروس، والكيفية التي تألَّف بها من العناصر الباقية مجلسان، مُكتفيًا الآن ببيان الصورة التي نال بها هذان المجلسان السلطة الاشتراعية.
لم يُدْعَ مندوبو المقاطعات والمدن إلا ليُبدوا رأيهم في المسائل التي يطرحها الملك وقتما يريد، وليوافقوا على فرض الضرائب، وأما المسائل الأخرى فكان مندوبو الإكليروس والأمراء الإقطاعيون ينظرون فيها وحدهم، ولكنه حينما زادت أهمية المقاطَعات والمدن في الثلث الأول من القرن الرابع عشر مُنِحَت حقَّ الموافقة على القوانين أيضًا.
توطَّد حق الموافَقة على فرض الضرائب في أواخر القرن الثالث عشر؛ فقد ربَطه فقهاء الإنكليز بقانون إدوارد الأول الذي هو في الحقيقة كناية عن عريضة خاطبه البرلمان بها في سنة ١٢٩٧، وكل ما فعله إدوارد الأول هو اعتناؤه عند سَنِّ القوانين بالمبدأ المذكور الذي لم يُجادل بعدئذٍ أحد فيه، وقد مارس الأفراد حق تقديم العرائض للملك منذ أول الأمر، ولما صار البرلمان يجتمع في أدوار مُنتظمة أخذ الملك يَختار من أعضائه وكلاء ليُدقِّقوا في تلك العرائض، ثم لم يلبَث نُوَّاب الشعب أنفسهم أن صاروا يُقدِّمون عرائض للملك، وتقديم العرائض كان حقهم الوحيد بعد حقِّ الموافَقة على فرض الضرائب، وعن طريق العرائض كانوا يَقترحون أن تُسَنَّ قوانين جديدة حفظًا لأحد المقاصد، وقد كان يحفُّ ذلك أحد الخطرَين الآتيَين؛ وهما: إما أن يَرفض الملك وضع القانون المطلوب، وإما أن يُوافق على سَنِّه حسب صيغة لا تُطابق رغبة نواب الشعب تمامًا، فلكي يَحملوا الملك على الإذعان لهم كانوا يُحاولون أن يجعلوه يسنُّ القانون لقاء موافقتهم على الضريبة المفروضة.
وعندما كان نواب الشعب يقدِّمون للملك عريضة كانت تُسلَّم إلى اللوردات، وحينما كان هؤلاء يعترضون عليها كان الملك يتذرَّع بذلك ليُجيب عنها سلبًا. على هذه الصورة ظهر مبدأ تعاون المجلسَين في أمر الاشتراع كتعاونهما في الاقتراع للضرائب. نعم، كان يحقُّ للوردات أيضًا أن يقترحوا سَنَّ قانون حسب طريقة العريضة على أن يُرسلها الملك إلى ممثِّلي الشعب ليُبدوا رأيهم فيها، ولكنَّ ممثِّلي الشعب كانوا يُدمجون في قائمة عرائضهم الخاصة تلك العرائض، وكان يُذْكَر في مقدمة المرسوم تعبير «عريضة نواب الشعب وموافقة اللوردات عليها».
كان الانتقال من هذه الأصول المعقَّدة المُبهَمة إلى طريقة تقسيم السلطة الاشتراعية بين الملك والمجلسَين تقسيمًا حقيقيًّا لا يتطلَّب سوى تغيير في الشكل، وهذا ما وقَع، فبدلًا من أن يُرتِّب نواب الشعب أو اللوردات اقتراحهم في قالب عريضة، وأن يطلبوا إلى التاج أن يَصوغه في قالب قانون؛ أخذوا يضعونه في شكل لائحة قانون ويَعرِضونه بعد أن يُجيزه المجلسان على الملك ليُوافق عليه، وللملك حينئذٍ أن يَرفضه أو يَمنحه صفة القانون بمُوافقته عليه، وقد تمَّت هذه الطريقة في عهد هنري السادس (١٤٢٢–١٤٦٢)، ومنذ ذلك الحين أصبح امتياز التاج في مادة الاشتراع كنايةً عن حق الاقتراح عندما يكون التاج هو مُقترِح القانون، وعن حق الرفض عندما يَقترحه المجلسان، وصار لا يُقال في مقدِّمة المرسوم: «عريضة نواب الشعب وموافقة اللوردات عليها»، بل أصبح يُكتب فيها: «إن القانون وُضِعَ بناءً على سلطة البرلمان.» ومِن هنا يظهر أن مبدأ الحرية ثبَت في إنكلترة، وأنَّ السلطة الاشتراعية انفصَلت عن السلطة التنفيذية، مع أنه لم يتمَّ ذلك بعد.
فسنُّ القوانين وحده هو الذي كان يتطلَّب اتِّباع الطريقة المذكورة آنفًا؛ أي موافقة المجلسين. وأما الملك فكان يستطيع — بعد استشارة مجلسه الخاص — أن يضع مناشير إلزامية، والفرق بين الأمرين هو أن القانون — وهو دائم — كان يسجَّل في سجل البرلمان وأن المنشور، وهو مؤقَّت كان يُذاع بصفة خِطاب، ومع أنه تقرَّر منذ القرن الثالث عشر أن القانون لا يُبطله غير قانون يتمُّ بعد استشارة البرلمان، كان يَسهل على الملك أن يغيِّر القانون بما يضعه من التدابير التنفيذية، وعلى ما أبداه الناس من توجُّع لهذه الحالة ظلَّت باقيةً حتى ثورة سنة ١٦٨٨.
وكان الملك يتمتَّع بسلطة يَقدر بها على جعل القانون غير نافذ من دون أن يُلْغَى، وهذه السلطة هي حقُّ المعافاة من تطبيق القانون في أحد الأحوال؛ فالحق المذكور كان عند الفقهاء المتقدِّمين من خصائص السيادة الطبيعية، وكان لا يعترض أحدٌ عليه في إنكلترة في القرن السادس عشر.
ثم كان الملك يستطيع أن يتخلَّص من سلطة البرلمان في مسألة الضرائب؛ إذ كان له دخل إرثي دائم وكانت التقاليد تجعل البرلمان يَقترع عند جلوس كلِّ ملك لضرائب غير مقرَّرة مهمة تبقى بقاءَ الملك، وكان المَلِك يجبي ضرائب عن طريقة تنظيم التجارة الخارجية أو عن طريق الغرامات المالية الكبيرة التي يُحكم بها على كل مَنْ يَخرق حُرمة الأنظمة، أو عن طريق المطالبة بوسائل الدفاع عن البلاد؛ كالسفن الحربية والمعدات الأخرى.
ومع ما بذله ملوك أسرة تيودور من المساعي في توسيع نظرية السلطة المُطلَقة في مصلحتهم، عاشوا متفقين والمجلسَين اللذين تنزَّلا عن شيء مِن سُلطتهما الاشتراعية أيام هنري الثامن الذي نال منهما حقَّ وضْع مناشير لها ما للقانون من نفوذ وسلطان، ولكنَّ الأمر صار خلاف ذلك في عهد ملوك أسرة ستوارت. فلما أُشبع شارل الأول من مبدأ الملَكية الإلهية اصطدم والبرلمان الذي اضطرَّ إلى سوقه إلى المشنقة، وقد أوجب ذلك إعلان السيادة القومية التامة والجمهورية، وإلغاء مجلس اللوردات والملكية، إلا أن كرومويل لم يلبث أن قال بإعادة مجلس اللوردات، وأن الملَكية لم تلبث أن قامت بعد وفاته.
وبعد أن عادت الملَكية استأنفَت أسرة ستوارت مزاعمها وأفعالها السابقة؛ فأدَّى ذلك إلى حدوث ثورة سنة ١٦٨٨؛ حيث أعلَن المجلسان فيها سقوط جيمس الثاني، والمُناداة بويليام أوف ورانج ملكًا مع نقض مزاعم الملكية المُطلقة، وجعل امتيازاتها في حال تكون بها تابعة للبرلمان، ذلك ما جاء في تصريح الحقوق الذي تمَّ في ١٣ فبراير سنة ١٦٨٨، والذي عرضه المَجلسان على ويليام أوف أورانج بعد أن أجازاه، وهذا التصريح لا يَعترف للملك بقدرة على وقْفِ القوانين وعلى المعافاة منها، كما أنه لا يقرُّ للتاج بفرض أية ضريبة أو إبقاء أي جيش دائم في البلاد أيام السلم من غير موافقة البرلمان، على أن سلطة الملك في وضع المناشير لم تُلْغَ في ذلك الحين، وإنما تقرَّر أن يَنحصِر أمرُها في تذكير أبناء الوطن باحترام القوانين من دون أن تُضيف إليها أو تحذف منها شيئًا.
وبهذا التحوُّل المديد لم تثبت دعائم الحرية البريطانية فقط، بل ظهر شكل الحكومة التمثيلية الحديثة، وإليك صفاتها البارزة.
•••
أول ما نبدأ به هو أن مختلف السلطات التي تُمارس أمور السيادة اعتُبرت ممثِّلةً للأمة سائرةً باسمها، وقد اعتُرِفَ للبرلمان بأنه جامع لتلك السلطات منذ القرن السادس عشر.
ولا غبار على الصفة التمثيلية لمَجلس النواب المنتخَب، ومع ما في أمر مجلس اللوردات — الذين يظهر أن لكل واحد منهم حقًّا خاصًّا — من قلة وضوح عُدَّ ممثِّلًا للأمة أيضًا أو ممثِّلًا لإحدى طبقات الأمة الثلاث، وكذلك الملكية نفسها اعتُبِرَت مُمثِّلةً بعد أن صار الملك ينال سلطاته من الأمة ولا يقدر على مباشرتها قانونيًّا إلا في مصلحة الأمة.
أوضحت الحقوق الإنكليزية صفة الملكية التمثيلية باكرًا، وقام هذا الإيضاح على التفريق بين الملك وبين التاج، وعلى عزو خصائص السيادة إلى التاج ونسبة ممارستها إلى الملك، وقد عُدَّ التاج — وهو شخص معنويٌّ — عنوان الملكية الدائمة، بغضِّ النظر عن الأمراء الذين يتولون أمره بالتعاقب، قال المستر غلادستون: «إنَّ تاج إنكلترة كناية عن شخصية معنوية تُحسن القيام بوظائفها، ولا شيءَ أصوبُ من التفريق بين الملك والتاج عند تطبيق الدستور الإنكليزي أو الحكم فيه، فالتاج كالأثير الذي يعدُّه علماء الطبيعة في الوقت الحاضر أمرًا مسلَّمًا به لتفسير المادة والقوة، وليست الحكومة في إنكلترة حكومةَ مُستبدٍّ مستأله، بل إن الملك فيها ينال وظائفه وامتيازاته من التاج الذي قد نُعبِّر عنه بإرادة الأمة أو ما شابه ذلك.»
- أولًا: يَنال النوَّاب سُلطاتهم من الشعب بواسطة الانتخابات، والشعب لما اعتُبر غير قادِر على ممارسة تلك السلطات بنفسه أصبح من الصواب أن لا يقومَ مقامَ النواب ويسير بنفسه.
- ثانيًا: إن النواب وإن كانوا يُنتخبون من المدن والمقاطعات يمثل كل واحد منهم الأمة جميعها، وهم بذلك يَستطيعون أن يتذاكروا في الأمور كلها — عامةً كانت أم محلية — ويَحكموا فيها.
- ثالثًا: للنواب حرية تقدير تامَّة في مباشرة سلطاتهم، فليس لناخبيهم أن
يَعزلوهم ويُحدِّدوا سلطاتهم بتعليمات يزودونهم إياها مقدمًا، ولا أن
يُكرهوهم على السير حسب معنًى معيَّن، وليس النواب مندوبين عن
الناخبين، بل هم — لوقت معيَّن ولمباشرة بعض خصائص السيادة — ممثِّلون
شرعيون للأمة التي تُسلِّم إليهم حقها، ومن الواجب عليهم أن يَسيروا في
سبيل المصلحة العامة كما توحيه إليهم ضمائرهم، ولكي يتمَّ لهم ذلك
مُنِحوا حرية كاملة نصَّ عليها الدستور، على أن هذا المبدأ لم يكن
قديمًا قِدَمَ انتخابات نواب المقاطعات والمدن، فقد كانت هذه
الانتخابات تقوم على النيابة الجازمة المقيَّدة وليس في ذلك ما يناقض
الصواب، فالمقاطعات والمدن كانت جمهوريات صغيرة تنيب مفوضين عنها في
مجلس إقطاعي على وجه التقريب.
وهكذا كانت وكالة نوَّاب المدن والمقاطعات تُقيَّد بقيود خطية لا يستطيعون أن يجاوزوها، وكانوا بعد دورة انعقاد البرلمان يُقدِّمون حسابًا عن أعمالهم لناخبيهم، ومتى زالت هذه العادة؟ وكيف زالت؟ لم يُشِرْ علماء الإنكليز إلى ذلك، ولكننا نرى أن الأمر حدَث وقتما نال المَجلسان سلطة اشتراعية تامَّة لا يوفَّق بينها وبين المبدأ القديم، وقد لاحظ بلاكستون قبلًا أمر استقلال النائب التام فَعَزَاه إلى تمثيل النائب للمملكة جميعها لا لناخبيه وحدهم. والأمر المذكور من الأمور التي أسهب فيها علماء الإنكليز في النصف الأول من القرن التاسع عشر؛ فقد فرَّقوا بين الوكيل البسيط وممثِّل الشعب في مجلس النواب، ولكي يُثبتوا ذلك استشهدوا بما وقع في سنة ١٧١٦ عندما اقتُرِعَ للقانون السبعي، وإليك البيان: كانت مدة النيابة ثلاث سنوات حسب قانون سنة ١٦٩٤، وكان لا يمكن تأجيل انتخابات مجلس النواب الجديدة إلى ما بعد سنة ١٧٠٧، ولما كان الملك والوزراء إذ ذاك يَعتقدون أن دعوة الناخبين — وأكثرهم من اليعاقبة — إلى الانتخابات سيُقلق راحة البلاد؛ جعلوا البرلمان يقترع لقانون تُصبح به مدة النيابة في مجلس النواب سبع سنوات، على أن يطبَّق هذا القانون على نواب ذلك الوقت أيضًا، وقد جلس هؤلاء على مقاعد النيابة أربع سنوات أخرى، قال المستر ديسي: «بهذا يَثبت أن البرلمان ليس وكيلًا عن الناخبين.» ولو كان وكيلًا عنهم ما استطاع أن يُطيل مدة وكالته من تلقاء نفسه.
ومن ثَمَّ أخذ علماء الإنكليز يَعتبرون المبدأ القائل بعدم الوكالة الجازمة المقيِّدة من الشروط الجوهرية للحكومة التمثيلية. أجل، يتطلَّب سير النظام التمثيلي بانتظام مُراعاة النواب لرأي البلاد العام واقتفاء أثرِه، ولكي يتمَّ ذلك يجب أن يبدي المرشَّح للناخبين رأيه في المسائل المهمة التي تشغل الأذهان، والتي قد تُعْرَض على البرلمان، ثم إنَّ الشرف يقضي على النائب الذي تمَّ انتخابه بأن لا يقترع لما يخالف ما أعلنه أيام ترشيحه نفسه، ما لم تكن هنالك أسباب حرجة، ولكنه لا يجوز تقييد الناخبين للنائب بأنواع التعليمات وتحديديهم لسلطته، كما أنه لا يجوز له أن يتعهَّد لهم بمواثيق قاطعة. وقد أثيرت هذه المبادئ أيام انتخابات مجلس النواب الذي حُلَّ في شهر سبتمبر سنة ١٩٠٠؛ فقد برَّرت الوزارة — وهي قابضة على زمام أكثرية مَجلِس النوَّاب العظيمة — ذلك الحلَّ بأن قالت: إنها تحتاج إلى موافَقة صريحة قاطعة من الشعب على تنظيم جمهوريات أفريقية الجنوبية التي ضُمَّت إلى إنكلترة، وعلى تجديد نظام الجيش، فاحتجَّ المُعارِضون عليها بأن صرَّحوا بأن المبادئ لا توجب أخذ الحكومة والبرلمان وكالةً خاصَّةً لمثل ذلك.
والأشكال المَرِنة التي تُعرض بها المسائل الكُبرى على الناخبين في إنكلترة ليحلُّوها حلًّا مضمرًا بعيدة من نظام الوكالات الجازمة المقيِّدة، ونظام الاستفتاء العام بعض البعد، ومتى تمَّ الانتخاب على وجه معيَّن وجَب على الكلِّ احترام مناحيه، وزال احتمال مُقاوَمة مجلس اللوردات لها.
- رابعًا: يجب انتخاب النواب في أوقات معيَّنة، فبهذه الواسطة وحدها يكون النظام تمثيليًّا حقًّا؛ إذ بها تتجدَّد الانتخابات في الغالب، ويُراقِب الشعب النواب الذين أودعهم سلطته لزمن محدود مراقبةً لا يَجرؤ معها النائب الذي خدع ناخبيه على ترشيح نفسه ثانيةً؛ وذلك خشيةَ السقوط.
- خامسًا: قام النظام التمثيلي الإنكليزي في غضون التاريخ على قاعدة تمثيل الهيئات؛ كالمُقاطَعات والمدن، لا على قاعدة تمثيل الشعب المباشر الذي يَفرض انتخاب النواب بنسبة عدد سكان المديريات، وقد أصبحَتِ القاعدة المذكورة المشتقَّة من نشوء البرلمان التاريخي مبدأً لم يلبَثْ أن عُدَّ طيبًا بنفسِه لمنعه ناموس العدد من الاستيلاء على الدولة. ذلك ما أوضحه ببت5 في سنة ١٧٩٣ عندما قابل بين البرلمان الإنكليزي ومجلس العهد الفرنسوي، وقد قال اللورد بروغام6 في كتابه المسمَّى «قواعد الحكومة التمثيلية»: «إنَّ اتخاذ السكان وحدهم أساسًا لعدد النواب لا يخلو من خطر، فيجب رفض كل نظام من شأنه منْح كل مدينة كبيرة حق انتخاب عدد من الممثلين بنسبة سكانها.»
لم يَستطع قانون ١٨٨٥ أن يحلَّ تلك المسألة حلًّا نهائيًّا، وقد أخذت فكرة تعديل الدوائر الانتخابية تسود مجلس النواب منذ ذلك التاريخ، حتى إنَّ أحد الخطباء بيَّن في سنة ١٨٩٨ أن عدد الناخبين في بعض الدوائر الانتخابية ١٩٩٤ (وهو العدد الأصغر)، وفي بعضها ٢٤٩١١ (وهو الحد الأعظم). وفي سنة ١٩٠٥ قرَّرت الحكومة أن تُساير الرأي العام، فعرض رئيسها المستر بلفور على المَجلس لائحةً في الموضوع المذكور، وقد حبطت هذه اللائحة، فوضعت وزارة الأحرار التي عقبت تلك الوزارة لائحةً في الانتخاب الجمعيِّ الذي أقرَّه مجلس النواب ورفضه مجلس اللوردات.
غير أنَّ نمو المبادئ الديموقراطية في أثناء الحرب الكبرى أدَّى إلى تحقيق ذلك الإصلاح؛ فبعد أن تركَت الحكومة أمر اقتراحه للبرلمان ألَّف رئيس مجلس النواب لجنةً لم يُشرك فيها أحدًا من أعضاء الوزارة، وكان عدد أعضائها اثنين وثلاثين، منهم خمسة من مجلس اللوردات، وسبعة وعشرون من مجلس النواب، وقد رُوعيَ في تأليفها نسبة الأحزاب في البرلمان.
استطاعت هذه اللجنة أن تقرِّر نصائح مقبولة عند الأحزاب جميعها، وفي ٢٣ مارس سنة ١٩١٧ طلب مجلس النواب إلى الحكومة أن تُنظِّم مشروع قانون حسب تلك النصائح، وقد عرضت الحكومة المشروع المطلوب عليه في ١٥ مايو من السنة المذكورة فاقتُرِعَ له في ٦ فبراير سنة ١٩١٨، وبجانب منح هذا القانون لمليونَي رجل وستة ملايين امرأة حق الانتخاب نَذكُر وضعه مبادئ عامة واحدة للانتخابات في إنكلترة وتعديله الدوائر الانتخابية، ومما قرَّره أن تَحتوي كل دائرة انتخابية على عدد واحد مِن السكان — أي سبعين ألف رجل — ولكنَّه مع ذلك راعى تقاليد البلاد فحافظ على تقسيم المدن والمقاطَعات التي لها ممثِّلون، وحافظ على تمثيل الجامعات وعلى الدوائر الانتخابية السابقة، وإنما جعل الدائرة الانتخابية التي لا يَقطنها سبعون ألف شخص تنضمُّ إلى دائرة أخرى حتى تَشترِك في انتخاب النائب.
وعلى أثر سنِّ قانون ٦ فبراير سنة ١٩١٨ ألَّفت الحكومة لجنة برآسة رئيس مجلس النواب لتنظِّم قائمةً للدوائر الانتخابية، وقد وافَق البرلمان عليها في شهر أكتوبر سنة ١٩١٨، ومما جاء فيها أن يكون لإنكلترة واسكتلندا وبلاد الغال «ويلس» نائبٌ عن كل سبعين ألفًا من سكانها، وأن لا يكون للمدينة أو المقاطَعة التي يقلُّ سكانها عن خمسين ألفًا نائب، وأن يكون لها نائب واحد عن كل سبعين ألفًا من سكانها بالغًا ما بلغوا.
وهكذا نرى قانون سنة ١٩١٨ يُقرِّر مبدئيًّا نظام تمثيل السكان المباشر من غير أن يَقضي تمامًا على نظام تمثيل الهيئات ذات الشخصية الخاصة.
تبيَّن ما تقدم أن الحكومة التمثيلية التي استنبط الإنكليز مبادئها ظلَّت سالمة في النِّصف الأول من القرن التاسع عشر، ولكنها مع استمرارها على عملها في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين طرأ على موازنتها ومبادئها الخاصة ضعف، فقد بُذلتْ جهودٌ عظيمة لإدخال عناصر مُتباينة إليها ومنها الوكالة الجازمة المقيِّدة والاستفتاء العام، وهذه العناصر الجديدة هي في الحقيقة مُستعارة من نظام حكومة الشعب المُباشرة، ويودُّ الذين يُصرِّحون بها أن يُبدِّلوا طبيعة الحكومة التمثيلية ويجعلوا النواب المُمثِّلين كنايةً عن وكلاء.
وسرعان ما تسرَّبت تلك الأفكار في إنكلترة، فاسمع ماذا يقول سيدني لو في كتاب مُهمٍّ ألَّفه حديثًا: «إنَّ مِن روح النظام البرلماني الذي تطوَّر في إنكلترة منذ بضع سنين أن لا يَنقلِب الاقتراع إلى خلاف المقصد، فعضو البرلمان يُنْتَخب ليَقترع لوزارة معلومة أو عليها، وهو بذلك يقوم بالوكالة التي أخذها مِن ناخبيه أو من قسم الناخبين الذي يُدير الشئون المحلية.» إلى أن قال: «إذًا فالناخبون يُعيِّنون رئيس الحزب بتسليمهم سلطتهم إليه لأجَلٍ معلوم، ويتمُّ ذلك حسب طريقة الانتخاب على درجتين — أي الطريقة التي يُنتخَب بها رئيس جمهورية الولايات المتحدة — فمع أنه يحقُّ نظريًّا للناخبين في أميركا أن يَنتخبوا الشخص الذي يروقهم رئيسًا تراهم يَنتخِبون بالحقيقة الرجل الذي أشير إليه في اجتماعات الحزب الكُبرى، وكذلك عضو البرلمان في إنكلترة يدخل مجلس النواب، وقد عاهَد ناخبيه على أن يقترع للرؤساء الذين استحبَّهم حزبه في جميع الأحوال، والفرق بين الوجهين هو أنَّ وظيفة ناخبي رئيس جمهورية الولايات المتحدة تتمُّ بعد انتخاب هذا الرئيس، وأنَّ المقترعين للوزارة يواظبون على وظائفهم حتى يَحين وقت انتخاب رئيس جديد لها.» وبيَّن المؤلف المشار إليه في مكان آخر تفوُّق أحد الأحزاب في مجلس النواب وسلطان الناخبين في الانتخابات العامة، فرأى أن هذين الحادثين يُعادلان الحكومة المباشرة، وإليك ما يقول: «لنفرض أن المستر غلادستون وزملاءه انتُخِبوا مباشرةً من قِبَلِ الناخبين بدلًا من انتخابهم من قِبَلِ مجلس النواب، حسب طريقة الانتخاب على درجتين، فعِوَضًا من إرسال وكلاء إلى لندن كي يُعضِّدوه حتى يبدوَ له أن يَستعفي أو يحلَّ مجلس النوَّاب، يستطيع الناخبون المحافِظون والأحرار أن يَقترعوا مرةً واحدةً له ولزملائه الذين يودُّ أن يعاونوه على إدارة البلاد، وقد سأل بعضهم عن الفَرق بين الأمرَين من حيث النتيجة، فنُجيبه عن سؤاله بأنه إذا اعتبرنا الخُطب البليغة في مجلس النواب عاجزةً عن تحويل بضعة أصوات إلى أحد المعاني ثبَت لدينا قلة قيمة المذاكرات، وأن مجلس النواب كنايةً عن آلة للمُناقشة في السياسة ولوائح الوزراء.»