فلاسفة القرن الثامن عشر، مذهب الحقوق الطبيعية وحقوق الناس
فلاسفة القرن الثامن عشر – مونتسكيو وجان جاك روسو – مباحث الحقوق الطبيعية في القرون الوسطى – مذهب الحقوق الطبيعية وحقوق الناس – أهميته في القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر – غروسيوس، بوفندورف، لوك، فولف، فاتل – فرضية الحالة الطبيعية وحقوق الناس.
ولربما لم يكن للآراء الفلسفية والأدبية التي ظهرت في غضون التاريخ من التأثير ما لآراء أولئك العبقريِّين، وهذا أمر يبدو للناظر تعذُّر إدراكه؛ لعدم التوفيق بينه وبين نواميس التحوُّل البشري الطبيعية، وإلا فكيف استطاعت شرذمة قليلة من الرجال أن تُبدِّل في نصف قرن مبادئ أحد الشعوب التقليدية، وأن تَكتشف سلسلة من الحقائق الطريفة المشتملة على قوة عجيبة في الانتشار؟ ذلك أمر ظاهري فقط، فمعظم تلك المبادئ لم يكن حديثًا عند الكثيرين، وقد تمَّ نضجه قبلًا، ومع أن مونتسكيو وحده هو المُبدِع في علم السياسة مديون لمن تقدَّمه في كثير من أفكاره، يعني أن فلاسفة القرن الثامن عشر وجدوا أكثر الأمثال السياسية التي جعلوا مُعاصريهم يَرضون بها مسبوكة في كلمات جامعة، وأنهم اقتبسوها من الفقهاء الذين وضعوا في القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر مذهب الحقوق الطبيعية وحقوق الناس.
ثم إنَّ الحقوق الطبيعية حُدِّدت تحديدًا مختلًّا؛ فبعضهم خلطها بعلم الأخلاق، ويتجلَّى هذا الخلط في أقوال شيشرون الذي حافظ أتباعه على مذهبه حتى القرن الثامن عشر، وقد جعل علماء الكلام والفقهاء الذين ظهروا في القرون الوسطى وفي عصر النهضة شكلًا قضائيًّا للحقوق الطبيعية، باحثين في هل تؤيد الحقوق الطبيعية النُّظم التي تؤيدها القوانين والعادة؛ أي حقوق الناس؟ فمنهم من قال بأنها كناية عن العلاقات التي تَفرضها الطبيعة بحكم الضرورة؛ كاجتماع الجنسين الذي أصبح زواجًا بنور العقل، وكصلات الآباء بالأبناء التي أوجبَتْ سلطة الأبوة. وبحسب هذه النظرية لا يكون الملك الشخصي والرق والمجتمع البشري من الحقوق الطبيعية. ومنهم مَنْ قال بأنَّ الحقوق الطبيعية ليست من العلائق التي تُوجبها الطبيعة، وإنما هي كناية عن الحقوق التي يراها العقل أمرًا ضروريًّا لسعادة البشر، وبحسب هذه النظرية يكون الملك الشخصي — حتى الرق — من الحقوق الطبيعية. ومنهم مَنْ وسَّع دائرة الحقوق الطبيعية فخلطها بمبدأ الإنصاف، وصرَّح بأنها تتجلَّى في الكلمة القائلة: «لا تُعامل الناس بما لا تحب أن يعاملوك به.» وقد استنتجَ القائلون بهذا القول أنَّ الحقوق الطبيعية تتضمَّن كل النُّظُم التي أبدعها الناس لتنظيم صلاتهم المُتقابلة بإنصاف، وبحسب هذه النظرية تظلُّ الحقوق الطبيعية ثابتة، ويتبدَّل الموضوع الذي تُطبَّق عليه، ومن الغرائب التي نشأت عن النظرية المذكورة حدوث حقوق طبيعية إقطاعية.
- أولًا: أنَّ الحقوق الطبيعية أصبحت علمًا مستقلًّا قائلًا باستيلائها على الفقه، وبأنها وليدة العقل، وبأنه إذا كان لا يزال — في الغالب — لأسانيد الكتاب المقدَّس والمؤرِّخين وشرائع مختلف الشعوب مقامٌ عالٍ في الكتب التي بُحِثَت فيها فذلك ليس إلا من قبيل التكملة والمقابلة، وباعتراف أولئك الكُتَّاب للعقل البشري — الذي هو مصدر الحقوق الطبيعية — بقدرة خاصة مستقلَّة عن العقيدة الإلهية.
- ثانيًا: أنَّ ذلك المذهب قال بنظرية الحالة الفطرية، ونظرية العقد الاجتماعي اللتَين أصبَحتا من مُتمَّات علم السياسة.
فأما نظرية الحالة الطبيعية فتتضمَّن حال البشرية الأولى التي لا علم لها بالمُجتمع المدني والسيادة التي من لوازمه؛ أي إنها تقول بأن كل إنسان كان يعيش مستقلًّا عن غيره استقلالًا تامًّا؛ لعدم وجود سلطة تَعلوه وتهيمن عليه، ومبدأ مثل هذا مُتسرِّبٌ على وجه مُبهَم في أساطير الأوَّلين الباحثة في العصر الذهبي، وفي الإسرائيليات الباحثة في الحالة الفطرية، وهو أساس كثير من النظريات القديمة التي دارت حول الحقوق الطبيعية، ولكنه لم ينلْ إذ ذاك من الأهمية ما ناله في مذهب الحقوق الطبيعية الذي ظهر في القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر، والذي اتخذه ناظمًا للحقوق الطبيعية، وقد عُرِفَت هذه الحقوق بأنها كناية عن القواعد التي أملاها العقل، والتي يجب أن تسود علائق الناس وهم في الحالة الطبيعية، لا ريب في وجود اختلاف في تحديد هذه القواعد التي هي عند هوبس غير ما هي عند لوك، ولكن تعريف الحقوق الطبيعية — على الشكل المذكور — أصبح — على رغم هذا — محددًا أول مرة، وقد انتهى الذين قالوا به إلى البحث عن الكيفية التي استطاع المجتمع المدني أن يُقيم بها القوانين الوضعية مقام القانون الطبيعي. ولا تقل: إنَّ أولئك الكُتَّاب وهموا كثيرًا في الحالة الطبيعية التي هي مصدر المجتمع البشري، والتي ذُهِبَ إلى وجودها في الأدوار التي جاءت قبل التاريخ، وإنما عدُّوا ذلك الفرض أمرًا ضروريًّا جوهريًّا لتعيين حقوق الإنسان، ثم إنَّ كثيرًا منهم اعتبروا كل إنسان كان يُولَد على الحالة الطبيعية مُستقلًّا استقلالًا تامًّا، وأنه لم يترك هذه الحالة إلا طائعًا، ذلك ما بُنِيَت عليه نظرية لوك وفاتل، وما بُنِيَت عليه نظرية روسو.
وأما نظرية العقد الاجتماعي فهي التي تقول بالعقد الذي يُقْضَى به على الحالة الطبيعية، وبيان الأمر أن الناس الذين كانوا مستقلين في البداءة لم يفقدوا هذه الحرية الأولية التي لا حدَّ لها إلا بإرادتهم؛ وذلك حسب عقد نظَّموه لإحداث سلطة أعلى من عزائمهم الفردية وإقامة مجتمع مدني، وقد بالغ لوك وفاتل وروسو في الأمر فقالوا: إنَّ كل إنسان يُولَد في المجتمعات المدنية التي أُلِّفَتْ على هذه الصورة لا بدَّ مِن قبوله العقد الاجتماعي قبولًا مُضمرًا عند بلوغه سنِّ الرشد، وإلا بقيَ في الحالة الطبيعية.
لم تكن نظرية العقد الاجتماعي — التي ذهب إليها غروسيوس وبوفندروف وقامت عليها نظريات هوبس ولوك وشرَحها فولف — أمرًا حديثًا في القرن السابع عشر؛ فإنَّا من غير أن نرجع إلى القرون القديمة نرى أنها استُنْبِطَت بجلاء من قِبَل علماء القرن السادس عشر، ولا سيما من قِبَل اليسوعي سوارز، الذي كان يحاول أن يوفِّق بينها وبين سيادة الحقوق الإلهية، ولكن مذهب الحقوق الطبيعية والناس هو الذي حدَّدها وكساها ثوبها الأخير، وقد انتهى رجال هذا المذهب إلى البحث في أيِّ شكل للدولة والحكومة يُمكن التوفيق بينه وبين تلك النظرية، فرأوا أن يُقيموا علم الحقوق الدستورية على أُسُسٍ جديدة.
وهم في الوقت نفسه وضعوا علمًا آخر أي علم الحقوق الدولية العامة؛ فعندهم أنَّ الحالة الطبيعية لما كانت مدار الحقوق الطبيعية وكان لا يعلو الأمم المستقلة شيء ظلَّت هذه الأمم في الحالة الطبيعية من حيث علائقها بعضها ببعض، وعندهم أن الحقوق الدولية العامة تُسْتَنْبَط من تلك الحالة الطبيعية.
وقد استنبط رجال ذلك المذهب من نظرية الحالة الطبيعية ونظرية العقد الاجتماعي عددًا من المبادئ التي أعلنتْها الثورة الفرنسية فيما بعد؛ ومنها أنَّ الناس يُولدون مستقلين متساوين حقوقًا، وأن الأمة موئل السيادة، وقد استنبط لوك تعبير «حقوق الإنسان» أيضًا، وبها عنى الحقوق الطبيعية التي تكون للإنسان وهو في الحالة الطبيعية ولا يَفقدها بانتسابه إلى مجتمع مدني.
وقد اعتنق فلاسفة فرنسا — في القرن الثامن عشر — مذهب أولئك العلماء، وعدُّوهم أساتذةً لهم؛ فانظر إلى روسو ترَهُ يعتبر غروسيوس أستاذ علم السياسة، وقد أُشْبِعَ مابلي من آراء غروسيوس وبوفندورف وفولف، وليس تأثير لوك في مونتسكيو بخافٍ على أحد، حتى إنَّ لوك أثَّر في روسو تأثيرًا لا يُمكن به فهم بعض فصول «العقد الاجتماعي» الذي وضَعه هذا الأخير من غير أن يُطَّلع على ما يُقابله في كتاب ذلك، وهوبس هو الذي أثَّر في روسو على الخصوص، لا لأنَّ روسو يُستشهَد به في فصول «العقد الاجتماعي» الأُولى فقط؛ بل لأنه اقتبس منه مبدأ العقد الاجتماعي والمجتمع المدني.
ولكن بين علماء مذهب الحقوق الطبيعية وفلاسفة فرنسا في القرن الثامن عشر فرقًا عظيمًا، وإن عُدَّ أولئك أساتذةً لهؤلاء، فعلى ما في مبادئ أولئك العلماء من متانة وجرأة كانوا يتحاشون عن استخراج نتائجها الطبيعية، وهم إذ كانوا يتمتَّعون بحماية أُمراء أوربة المُطلقين كانوا يعرفون كيف يوفقون بين مذهبهم وحقوق حُماتهم؛ قال روسو: «إنَّ غروسيوس الذي هاجَرَ إلى فرنسا لاستيائه مِن وطنه وعزمه على تملُّق لويس الثالث عشر بإهدائه كتابه إليه لم يَترك شيئًا في سبيل تجريد الأمم مِن حقوقها وعزْو هذه الحقوق إلى الملوك إلا أتى به.» وما كانت مَنازع بوفندورف غير ذلك، وإنَّا لنعلم أنَّ هوبس قال بالملكية المُطلَقة انتصارًا لشارل الأول، ومن هذا القبيل إهداء فولف كتابه إلى فردريك ملك بروسيا، ولوك وحده هو الذي خدم الحرية بمبادئه.
وإنَّا إذا استثنَينا لوك نرى أولئك العلماء كانوا يُوفِّقون بين مقدِّماتهم الجريئة ونتائجها المحافظة؛ وذلك إما بدسِّهم في الحقوق الطبيعية مبدأ احترام النُّظُم الراهنة، وإما ببيانهم أن الشعب استطاع أن يَبيع السيادة التي تكون فيه مبدئيًّا، وهناك أمرٌ آخر كان يجعل مبادئهم غير مخلَّة؛ وهو أنها كانت تُسْبَك في الغالب في أسلوب لاتيني ثقيل مُعقَّد؛ فهي بذلك كانت تُحْصَر في المدارس أو في غُرَف العلماء، ولم تَقدر على التسرُّب في الجمهور، وقد تحوَّلت حينما اعتنقها فلاسفة فرنسا في القرن الثامن عشر؛ إذ لم يتردَّد هؤلاء في استخراج ما تحمله من النتائج حبًّا للحرية، ولا يعني هذا أنهم كانوا يودُّون أن تنشب ثورة سياسية في فرنسا بسرعة، فإنك إذا استثنيت مابلي تراهم — وعلى رأسهم مونتسكيو وروسو — مُحافِظين من هذه الجهة، ولكن ما بذروه من حقائق غريبة لم يَلبث أن تأصَّل في النفوس؛ وذلك بفضل صَوغه في قالب فرنسي واضح بليغ، ولما تحوَّلت على هذا الوجه أخذت تدخل في نفوس أبناء الطبقة الوسطى، حتى في نفوس العوام الذين كانوا يطَّلِعون عليها عن طريق الرسائل والكتب السيَّارة التي تسرَّبت فيها، ونقْل المبادئ المذكورة على هذه الصورة مما حوَّلها تحويلًا آخر؛ فالصيغ والأفكار المجرَّدة البسيطة هي التي بقيت منها في نفوس القوم فاستوقفتْ أنظارهم، وإنَّ فصْلها عن الأصول التي كانت متَّصلة بها وتجريدها من قرائن الأحوال وفكَّها من القيود التي قيَّدها بها واضعوها أمور كانت تمنحُها قيمة مُطلَقة لم يحلم بها هؤلاء الواضِعون.
والنظريات التي تُرَدُّ إلى تلك المبادئ: أربع؛ وهي: نظرية السيادة القومية، ونظرية فصل السلطات، ونظرية الحقوق الفردية، ونظرية الدساتير المكتوبة، وسأبحَث فيها في الفصول الآتية.