الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
(١) دَوَاعِي السَّفَرِ
لَمْ يَمُرَّ عَلَى رِحْلَتِي الْمَاضِيَةِ عَامَانِ حَتَّى جَاءَنِي الرُّبَّانُ «غليوم روبنسن»، وَكَانَ رُبَّانَ سَفِينَةِ «الرَّجَاءِ الصَّالِحِ» الَّتِي تَحْمِلُ ثَلَاثَمِائَةِ طُنٍّ. وَقَدْ كُنْتُ — مِنْ قَبْلُ — طَبِيبًا جَرَّاحًا فِي سَفِينَةٍ هُوَ رُبَّانُهَا، وَسَافَرَتْ بِنَا السَّفِينَةُ إِلَى الشَّرْقِ، فَاتَّخَذَنِي الرُّبَّانُ لَهُ صَدِيقًا، بَلْ جَعَلَنِي بِمَنْزِلَةِ الشَّقِيقِ. فَلَمَّا عَلِمَ بِعَوْدَتِي جَاءَ يَزُورُنِي، وَأَبْدَى سُرُورَهُ وَابْتِهَاجَهُ إِذْ أَلْفَانِي عَلَى صِحَّةٍ حَسَنَةٍ، وَأَعْرَبَ لِي عَنِ اعْتِزَامِهِ الْقِيَامَ بِرِحْلَةٍ إِلَى الْهِنْدِ الشَّرْقِيَّةِ بَعْدَ انْقِضَاءِ شَهْرَيْنِ.
وَقَالَ: إِنَّهُ لَيَسُرُّهُ أَنْ أَكُونَ طَبِيبَ سَفِينَتِهِ وَجَرَّاحَهَا، وَذَكَرَ أَنَّ فِي سَفِينَتِهِ جَرَّاحًا آخَرَ، وَاثْنَيْنِ مِنَ الْمُمَرِّضِينَ، وَقَدِ اخْتَارَهُمْ جَمِيعًا لِمُعَاوَنَتِي فِي عَمَلِي، وَوَعَدَنِي بِمُضَاعَفَةِ الْأَجْرِ الَّذِي كُنْتُ أَتَقَاضَاهُ مِنْ قَبْلُ.
(٢) جَوَاَزُ السَّفَرِ
وَلَمَّا كَانَ وَاثِقًا مِنْ خِبْرَتِي وَمَرَانَتِي عَلَى السِّيَاحَاتِ الْبَحْرِيَّةِ جَعَلَنِي رُبَّانًا مُسَاعِدًا لَهُ، وَوَكِيلًا نَائِبًا عَنْهُ، وَأَسَرَنِي بِلُطْفِهِ الْجَمِّ وَأَدَبِهِ الْعَالِي. وَرَأَيْتُهُ رَجُلًا شَرِيفَ النَّفْسِ، صَادِقَ الْقَوْلِ؛ فَأَثَّرَ فِي نَفْسِي أَيَّمَا تَأْثِيرٍ، وَأَجَبْتُهُ إِلَى طِلْبَتِهِ، وَكُنْتُ — عَلَى مَا تَعَرَّضْتُ لَهُ مِنَ الْأَهْوَالِ وَالشَّدَائِدِ فِي رِحْلَتَيَّ السَّابِقَتَيْنِ — مَشْغُولًا بِالْأَسْفَارِ.
وَكَانَتِ الْعَقَبَةُ الْوَحِيدَةُ الَّتِي تَعْتَرِضُنِي، هِيَ الْحُصُولُ عَلَى إِذْنٍ مِنْ زَوْجَتِي بِالسَّفَرِ، وَكُنْتُ أَخْشَى أَلَّا تَأْذَنَ لِي بِذَلِكَ، وَلَكِنَّهَا — عَلَى الْعَكْسِ مِمَّا قَدَّرْتُ — قَدِ ارْتَاحَتْ إِلَى هَذَا الِاقْتِرَاحِ، لِمَا يُصِيبُهُ أَوْلَادُنَا مِنْ فَائِدَةٍ.
(٣) فِي عُرْضِ الْبَحْرِ
أَقْلَعَتْ بِنَا السَّفِينَةُ فِي الْيَوْمِ الْخَامِسِ مِنْ شَهْرِ أغسطسَ عَامَ ١٧٠٨م، وَأَدْرَكْنَا «سان جورج» فِي أَوَّلِ أبريل سنة ١٧٠٩م، وَلَبِثْنَا بِهَا ثَلَاثَةَ أَسَابِيعَ، لِإِرَاحَةِ الْبَحَّارَةِ، إِذْ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مَرْضَى.
ثُمَّ أَبْحَرْنَا إِلَى «تونكين» حَيْثُ رَغِبَ الرُّبَّانُ فِي أَنْ نَقِفَ بِهَا؛ لِأَنَّهُ لَنْ يَسْتَطِيعَ تَسَلُّمَ الْبَضَائِعِ الَّتِي يَرْغَبُ فِي شِرَائِهَا إِلَّا بَعْدَ شُهُورٍ عِدَّةٍ.
وَلِكَيْ يَصْرِفَ عَنْ نَفْسِهِ سَأَمَ الِانْتِظَارِ، اشْتَرَى سَفِينَةً شَحَنَهَا بِمُخْتَلِفِ الْبَضَائِعِ الَّتِي يَتَّجِرُ فِيهَا أَهْلُ «تونكين» عَادَةً مَعَ الْجَزَائِرِ الْمُجَاوِرَةِ، وَجَعَلَ فِيهَا أَرْبَعِينَ رَجُلًا، مِنْهُمْ ثَلَاثَةٌ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْبِلَادِ، وَاخْتَارَنِي لِهَذِهِ السَّفِينَةِ الصَّغِيرَةِ رُبَّانًا، وَأَبَاحَ لِي أَنْ أَجُولَ بِهَا مُدَّةَ شَهْرَيْنِ، رَيْثَمَا يُتَمِّمُ أَعْمَالَهُ فِي «تونكين». وَمَرَّتْ بِنَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَنَحْنُ نَجْتَازُ الْبِحَارَ، ثُمَّ هَبَّتْ عَلَيْنَا عَاصِفَةٌ شَدِيدَةٌ هَوْجَاءُ، دَفَعَتْنَا مُدَّةَ خَمْسَةِ أَيَّامٍ إِلَى الشَّمَالِ الشَّرْقِيِّ، ثُمَّ إِلَى الشَّرْقِ. ثُمَّ أَخَذَتِ الْعَاصِفَةُ فِي السُّكُونِ وَأَعْقَبَتْهَا رِيحٌ صَرْصَرٌ هَبَّتْ عَلَيْنَا مِنَ الْغَرْبِ.
(٤) لُصُوصُ الْبَحْرِ
وَفِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ تَأَثَّرَتْنَا سَفِينَتَانِ مِنْ سُفُنِ لُصُوصِ الْبَحْر، وَتَمَكَّنَتَا مِنْ إِدْرَاكِنَا؛ لِأَنَّ سَفِينَتِي كَانَتْ ثَقِيلَةَ الْأَحْمَالِ، بَطِيئَةَ السَّيْرِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِنَا الدِّفَاعُ عَنْ أَنْفُسِنَا.
وَوَصَلَ اللُّصُوصُ إِلَى سَفِينَتِنَا؛ فَأَلْفَوْنَا مُنْبَطِحِينَ عَلَى بُطُونِنَا، وَكُنْتُ قَدْ أَمَرْتُ رِجَالِي أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ لِيَأْمَنُوا أَذَاهُمْ. وَاكْتَفَوْا بِأَنْ شَدُّوا وَثَاقَنَا، وَأَقَامُوا عَلَيْنَا مِنْ بَعْضِهِمْ حَرَسًا، ثُمَّ أَخَذُوا يَتَفَقَّدُونَ السَّفِينَةَ.
وَقَدْ وَقَعَ نَظَرِي — مِنْ بَيْنِهِمْ — عَلَى رَجُلٍ هُولَنْدِيٍّ كَانَ يَظْهَرُ بَيْنَهُمْ بِالزَّعَامَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رُبَّانَهُمْ.
وَقَدْ أَدْرَكَ هَذَا الرَّجُلُ حَقِيقَةَ أَمْرِنَا، وَعَرَفَ بِلَادَنَا، ثُمَّ كَلَّمَنَا بِلُغَةِ قَوْمِهِ قَائِلًا: إِنَّهُ سَيَشُدُّ ظُهُورَ بَعْضِنَا إِلَى ظُهُورِ بَعْضٍ، وَيَقْذِفُ بِنَا إِلَى الْمَاءِ.
وَلَمَّا كُنْتُ أُجِيدُ اللُّغَةَ الْهُولَنْدِيَّةَ صَرَّحْتُ لَهُ بِأَمْرِنَا وَحَالَتِنَا، وَاسْتَحْلَفْتُهُ بِالدِّينِ الَّذِي يَجْمَعُ بَيْنَنَا، وَبِحَقِّ الْجِوَارِ وَالِائْتِلَافِ، أَنْ يَكُونَ وَسِيطَ خَيْرٍ لَدَى الرُّبَّانِ.
وَلَكِنَّ رَجَائِي هَذَا قَدْ زَادَ مِنْ ثَوْرَةِ نَفْسِهِ؛ فَغَلَا وَاشْتَطَّ فِي تَهْدِيدِهِ وَوَعِيدِهِ، وَالْتَفَتَ إِلَى زُمَلَائِهِ، وَقَالَ لَهُمْ بِاللُّغَةِ الْيَابَانِيَّة كَلَامًا لَمْ أَفْهَمْ مِنْهُ شَيْئًا يُذْكَرُ.
(٥) خَطَأُ جَلِفَر
وَكَانَتِ السَّفِينَةُ الْكَبِيرَةُ — لِلُصُوصِ الْبَحْرِ — تَحْتَ إِمْرَةِ رُبَّانٍ يَابَانِيٍّ يَتَحَدَّثُ قَلِيلًا بِاللُّغَةِ الْهُولَنْدِيَّةِ، وَقَدْ جَاءَنِي هَذَا الرَّجُلُ، وَطَرَحَ عَلَيَّ عِدَّةَ أَسْئِلَةٍ أَجَبْتُهُ عَنْهَا بِخُضُوعٍ وَتَوَاضُعٍ، ثُمَّ أَكَّدَ لِي أَنَّ حَيَاتَنَا بَاقِيَةٌ؛ فَشَكَرْتُ لَهُ شُكْرًا جَزِيلًا، وَأَثْنَيْتُ عَلَيْهِ أَطْيَبَ الثَّنَاءِ، وَالْتَفَتُّ إِلَى الْهُولَنْدِيِّ، وَقُلْتُ لَهُ: «إِنَّنِي وَجَدْتُ فِي عَابِدِ الْأَصْنَامِ وَالنُّجُومِ مَا لَمْ أَجِدْهُ فِيكَ، وَأَنْتَ الرَّجُلُ الْمُتَدَيِّنُ الْمُتَأَلِّهُ!»
عَلَى أَنَّنِي نَدِمْتُ عَلَى تَسَرُّعِي بِهَذَا الْقَوْلِ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ أَخَذَ يُلِحُّ عَلَى رُبَّانِ السَّفِينَتَيْنِ بِوُجُوبِ إِلْقَائِي فِي الْمَاءِ؛ فَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى طَلَبِهِ، نَظَرًا لِلْعَهْدِ الَّذِي قَطَعَهُ عَلَى نَفْسِهِ. وَكُلُّ مَا أَجَازَهُ لَهُ هُوَ أَنْ يُعَامِلَنِي أَسْوَأَ مُعَامَلَةٍ؛ فَعَامَلَنِي بِمَا حَبَّبَ إِلَيَّ الْمَوْتَ.
ثُمَّ أَخَذُوا بَعْضَ رِجَالِ سَفِينَتِي الصَّغِيرَةِ، وَفَرَّقُوهُمْ عَلَى سَفِينَتَيْهِمْ، وَأَبْقَوْا طِائِفَةً مِنْهُمْ فِي سَفِينَتِي.
(٦) فِي زَوْرَقٍ صَغِيرٍ
أَمَّا أَنَا، فَقَدْ أَخَذَنِي اللُّصُوصُ إِلَى زَوْرَقٍ صَغِيرٍ ذِي شِرَاعٍ، وَجَاءُونِي بِمَئونَةِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ أَمَرَ الرُّبَّانُ الْيَابَانِيُّ بِزِيَادَةِ الْمَئونَةِ لِتَكْفِيَنِي ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ، وَجَعَلَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مِنْ مَئونَتِهِ الْخَاصَّةِ بِهِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لِرِجَالِهِ أَنْ يُفَتِّشُونِي.
وَنَزَلْتُ إِلَى الزَّوْرَقِ؛ فَانْهَالَ عَلَيَّ الهولنديُّ بِأَفْحَشِ السِّبَابِ، وَمُقْذِعِ الْقَوْلِ، مِمَّا فَاضَ بِهِ لِسَانُهُ السَّلِيطُ، وَوَعَاهُ طَبْعُهُ الشِّرِّيرُ.
وَقَبْلَ سَاعَتَيْنِ مِنْ مُشَاهَدَتِي سَفِينَتَيِ الْقُرْصَانِ، كُنْتُ أَمْخُرُ الْمِيَاهَ بِزَوْرَقِي حَتَّى وَصَلْتُ إِلَى الدَّرَجَةِ الْأَرْبَعِينَ عَرْضًا، وَالدَّرَجَةِ ١٢٣ طُولًا.
وَلَمَّا ابْتَعَدْتُ عَنْ هَذِهِ أَبْصَرْتُ بِمِجْهَرِي عِدَّةَ جَزَائِرَ فِي الْجَنُوبِ الْغَرْبِيِّ؛ فَنَشَرْتُ الشِّرَاعَ، وَكَانَ الْجَوُّ حَسَنًا، وَكَانَتْ غَايَتِي إِدْرَاكَ أَقْرَبِ جَزِيرَةٍ، وَأَيْقَنْتُ أَنَّنِي سَأَحُلُّ بِهَا بَعْدَ ثَلَاثِ سَاعَاتٍ، إِذَا بَذَلْتُ مِنْ الْجُهْدِ مَا يَكْفِي، ثُمَّ قَدَحْتُ زِنَادَ بُنْدُقِيَّتِي، وَأَشْعَلْتُ — مِنْ شَرَارِهِ — النَّارَ فِي أَعْشَابٍ يَابِسَةٍ جَمَعْتُهَا مِنَ الْجَزِيرَةِ، وَأَنْضَجْتُ عَلَيْهَا بَيْضَاتٍ قَلِيلَةٍ أَتَغَذَّى بِهَا، ضَنًّا بِمَا بَقِيَ عِنْدِي مِنْ مَئُونَةٍ أَحْرِصُ عَلَيْهَا جَهْدَ اسْتِطَاعَتِي.
وَقَضَيْتُ لَيْلَتِي عِنْدَ هَذِهِ الصَّخْرَةِ، إِذْ رَقَدْتُ عَلَى الْأَعْشَابِ، وَنِمْتُ مُسْتَرِيحًا مُسْتَسْلِمًا إِلَى سُبَاتٍ عَمِيقٍ.
(٧) فِي جَزِيرَةٍ نَائِيَةٍ
وَأَقْلَعْتُ فِي الْيَوْمِ التَّالِي إِلَى جَزِيرَةٍ ثَانِيَةٍ، وَمِنْهَا أَبْحَرْتُ إِلَى جَزِيرَةٍ ثَالِثَةٍ، ثُمَّ إِلَى رَابِعَةٍ، مُسْتَعِينًا بِمَجَادِيفِ سَفِينَتِي الصَّغِيرَةِ.
وَلَا أُطِيلُ عَلَى الْقَارِئِ، وَحَسْبِي أَنْ أَقُولَ إِنَّنِي فِي الْيَوْمِ الْخَامِسِ انْتَهَيْتُ إِلَى جَزِيرَةٍ وَاقِعَةٍ فِي الْجَنُوبِ الشَّرْقِيِّ فِي نِهَايَةِ تِلْكَ الْجَزَائِرِ.
وَكَانَتْ هَذِهِ الْجَزِيرَةُ أَبْعَدَ مَسَافَةً مِمَّا كُنْتُ أَحْسَبُ، وَلَمْ أَسْتَطِعِ الْوُصُولَ إِلَيْهَا إِلَّا بَعْدَ خَمْسِ سَاعَاتٍ. وَدُرْتُ حَوْلَهَا بَزَوْرَقِي آمِلًا أَنْ أَهْتَدِيَ إِلَى الْمَكَانِ الصَّالِحِ لإِلْقَاءِ مَرَاسِيَّ فِيهِ.
وَهَبَطْتُ أَرْضَ الْجَزِيرَةِ مِنْ خَلِيجٍ صَغِيرٍ يَبْلُغُ اتِّسَاعُهُ ثَلَاثَةَ أَمْثَالِ زَوْرَقِي، وَرَأَيْتُ أَنَّ الْجَزِيرَةَ كُلَّهَا لَيْسَتْ سِوَى صَخْرَةٍ نَبَتَتْ فِي أَجْزَاءٍ مِنْهَا حَشَائِشُ طَيِّبَةُ الرَّائِحَةِ.
(٨) يَأْسُ جَلِفَر
وَبَعْدَ أَنْ تَنَاوَلْتُ مَا قَلَّ مِنَ الطَّعَامِ أَخَذْتُ شَيْئًا مِنَ الْمُرَطِّبَاتِ، وَوَضَعْتُ الْبَاقِيَ فِي إِحْدَى مَغَاوِرِ الْجَزِيرَةِ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ.
وَقَدْ وُفِّقْتُ إِلَى الْعُثُورِ عَلَى عَدَدٍ مِنَ الْبَيْضِ خِلَالَ الصُّخُورِ، وَاقْتَطَعْتُ قَدْرًا مِنَ الْأَعْشَابِ الْبَحْرِيَّةِ وَالْحَشَائِشِ الْجَافَّةِ، لِأُشْعِلَهَا فِي الْغَدَاةِ بِشَرَارِ بُنْدُقِيَّتِي وَفَتِيلِ مِشْعَلِي الْقَوِيِّ، وَأُنْضِجَ عَلَيْهَا الْبَيْضَ.
وَبِتُّ طُولَ اللَّيْلَةِ فِي الْكَهْفِ الَّذِي وَضَعْتُ فِيهِ الزَّادَ، وَجَعَلْتُ مَوْطِنِي — فِي الرُّقَادِ — تِلْكَ الْحَشَائِشَ الْجَافَّةَ الَّتِي جِئْتُ بِهَا. وَلَمْ يُسْعِدْنِي النَّوْمُ إِلَّا قَلِيلًا؛ لِأَنَّنِي كُنْتُ مُمْتَلِئًا هَمًّا لِمَا أَنَا فِيهِ مِنْ تَعَبٍ وَإِعْيَاءٍ.
وَرَأَيْتُ أَنَّ الْمَوْتَ مُحَقَّقٌ فِي هَذَا الْمَكَانِ الْقَفْرِ الْمُنْعَزِلِ، وَتَسَلَّطَ عَلَيَّ هَذَا الْوَهْمُ — وَكَانَ الضَّعْفُ قَدْ نَالَ مِنِّي — وَعَانَيْتُ كَثِيرًا فِي اسْتِجْمَاعِ قُوَّتِي، حَتَّى خَرَجْتُ مِنَ الْكَهْفِ فِي وَضَحِ النَّهَارِ، وَكَانَ الْجَوُّ صَحْوًا، وَالشَّمْسُ تُرْسِلُ أَشِعَّتَهَا الْحَارَّةَ قَوِيَّةً، حَتَّى لَقَدْ اضْطُرِرْتُ أَنْ أَتَّقِيَهَا بَحَنْيِ ظَهْرِي.
(٩) الْجَزِيرَةُ الطَّيَّارَةُ
وَلَكِنِ اقْتَمَّ الْجَوُّ فَجْأَةً، وَتَقَلَّبَ — كَعَادَتِهِ — بِاعْتِرَاضِ سَحَابَةٍ كَثِيفَةٍ فِي الْأُفُقِ؛ فَتَوَجَّهْتُ إِلَى السَّمَاءِ بَعْدَ أَنْ كُنْتُ قَدْ أَوْلَيْتُهَا ظَهْرِي؛ فَإِذَا بِي أَرَى شَكْلًا مُسْتَدِيرًا كَالْعَيْنِ، مُتَحَرِّكًا أَمَامِي، مُتَنَقِّلًا هُنَا وَهُنَاكَ. وَكَانَ هَذَا الْجِسْمُ الْمُعَلَّقُ فِي الْفَضَاءِ عَلَى ارْتِفَاعِ مِيلَيْنِ تَقْرِيبًا — كَمَا بَدَا لِي — قَدْ حَجَبَ عَنْ بَاصِرَتِي ضَوْءَ الشَّمْسِ زُهَاءَ سِتِّ دَقَائِقَ أَوْ سَبْعٍ. وَلَمَّا دَنَا هَذَا الْجِسْمُ مِنْ الْمَكَانِ الَّذِي أَنَا فِيهِ أَلْفَيْتُهُ صُلْبًا مَتِينًا، مُنْبَسِطَ الْقَاعِدَةِ، مُتَجَمِّعَ الْأَوْصَالِ، يُرْسِلُ عَلَى الْبَحْرِ ضَوْءًا.
وَوَقَفْتُ فِي مَكَانٍ يَرْتَفِعُ مِائَتَيْ خُطْوَةٍ عَنْ سَطْحِ الشَّاطِئِ؛ فَرَأَيْتُ هَذَا الْجِسْمَ يَهْبِطُ حَتَّى صَارَ مِنِّي عَلَى قِيدِ أَلْفِ خُطْوَةٍ، وَهُنَا تَنَاوَلْتُ مِجْهَرِي؛ فَكَشَفَ لِي عَنْ وُجُودِ عَدَدٍ كَبِيرٍ مِنَ الْأَشْخَاصِ مُتَحَرِّكِينَ، يَشْخَصُونَ إِلَيَّ بِأَبْصَارِهِمْ، وَيَتَطَلَّعُ بِعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ.
فَبَعَثَ عِنْدِي حُبُّ الْحَيَاةِ وَالِاحْتِفَاظِ بِالْبَقَاءِ بَعْضَ الشُّعُورِ بِالسُّرُورِ، وَقَوِيَ أَمَلِي فِي أَنَّ هَذَا الْمَظْهَرَ قَدْ يُنْقِذُنِي مِنَ الْحَالَةِ الْمُحْزِنَةِ الَّتِي أَنَا فِيهَا.
وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَخْطُرَ لِلْقَارِئِ أَنَّ مَا شَهِدْتُهُ إِنَّمَا كَانَ جَزِيرَةً سَابِحَةً فِي الْفَضَاءِ، وَفِي مَقْدُورِ الْأَشْخَاصِ الَّذِينَ بِهَا أَنْ يَرْفَعُوهَا أَوْ يَهْبِطُوا بِهَا، وَأَنْ يُسَيِّرُوهَا كَيْفَ يَشَاءُونَ.
(١٠) فِي الْجَزِيرَةِ الطَّيَّارَةِ
وَلَمَّا كُنْتُ لَا أُدْرِكُ هَذِهِ الْحَالَ الْعَجِيبَةَ، وَلَيْسَ فِي وُسْعِي أَنْ أَتَعَرَّفَ كُنْهَهَا، اكْتَفَيْتُ بِأَنْ أُوَجِّهَ نَظَرِي إِلَى اتِّجَاهِ الْجَزِيرَةِ فِي حَرَكَتِهَا.
وَاسْتَطَعْتُ أَنْ أُبْصِرَ فِيهَا شُرُفَاتٍ عَدِيدَةً وَسَلَالِمَ بَيْنَ مَسَافَةٍ وَأُخْرَى مُتَّصِلًا بَعْضُهَا بِبَعْضٍ. وَشَهِدْتُ فِي أَعْلَى شُرُفَاتِهَا رِجَالًا يَصِيدُونَ الطُّيُورَ بِشُصُوصِهِمْ، وَرِجَالًا آخَرِينَ يَشْهَدُونَ هَذَا الصَّيْدَ.
فَأَشَرْتُ إِلَيْهِمْ بِقُبَّعَتِي وَمِنْدِيلِي. وَعِنْدَمَا دَنَوْا مِنِّي صِحْتُ بِكُلِّ قُوَايَ، وَسَدَّدْتُ النَّظَرَ؛ فَإِذَا أَنَا حِيَالَ جُمْهُورٍ مُتَجَمِّعٍ عَلَى الضِّفَّةِ الْمُوَاجِهَةِ لِي، وَلَاحَظْتُ مِنْ حَالَتِهِمْ أَنَّهُم رَأَوْنِي وَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لِنِدَائِي.
ثُمَّ بَصُرْتُ بِخَمْسَةِ أَشْخَاصٍ أَوْ سِتَّةٍ بَادَرُوا بِالصُّعُودِ إِلَى قِمَّةِ الْجَزِيرَةِ. وَخَطَرَ لِي أَنَّهُمْ ذَهَبُوا إِلَى بَعْضِ ذَوِي الشَّأْنِ، لِتَلَقِّي الْأَوَامِرِ اللَّازِمَةِ مِنْهُمْ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ.
ثُمَّ زَادَ — أَمَامَ نَظَرِي — عَدَدُ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْجَزِيرَةِ. وَفِي قُرَابَةِ نِصْفِ سَاعَةٍ جَعَلَتْ تَدْنُو حَتَّى كَانَتْ عَلَى قِيدِ مِائَةِ مِتْرٍ مِنِّي.
وَحِينَئِذٍ أَبْدَيْتُ تَوَسُّلِي وَرَجَائِي بِلَهْجَةٍ حَارَّةٍ، وَلَكِنْ لَمْ يَتَّصِلْ بِي مِنْهُمْ رَدٌّ عَلَى نِدَائِي.
وَكَانَ أَقْرَبَ مَنْ ظَهَرَ أَمَامَ نَظَرِي بَعْضُ ذَوِي الْوَجَاهَةِ. وَأَخِيرًا سَمِعْتُ صَوْتَ أَحَدِهِمْ يَتَحَدَّثُ بِلُغَةٍ وَاضِحَةٍ، غَايَةٍ فِي الرِّقَّةِ وَالْأَدَبِ، وَكَانَتْ هَذِهِ اللُّغَةُ تَقْرُبُ مِنَ الْإِيطَالِيَّةِ؛ فَتَحَدَّثْتُ بِالْإِيطَالِيَّةِ ظَنًّا مِنِّي أَنَّ هَذِهِ اللُّغَةَ تَحْلُو فِي آذَانِهِمْ أَكْثَرَ مِنْ أَيِّ لُغَةٍ عَدَاهَا.
عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ أَدْرَكُوا مَا أَرْمِي إِلَيْهِ؛ فَأَشَارُوا عَلَيَّ بِأَنْ أَنْحَدِرَ عَنِ الصَّخْرَةِ الَّتِي أَنَا قَائِمٌ عَلَيْهَا، وَأَنْ أَمْضِيَ صَوْبَ الشَّاطِئِ.
فَصَدَعْتُ بِهَذِهِ الْإِشَارَةِ، وَأَلْفَيْتُ الْجَزِيرَةَ الطَّائِرَةَ تَهْبِطُ إِلَى دَرَجَةٍ مُنَاسِبَةٍ، وَأَلْقَوْا إِلَيَّ — مِنْ أَدْنَى شُرْفَةٍ — سِلْسِلَةً بِهَا مَقْعَدٌ جَلَسْتُ عَلَيْهِ.
وَفِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ رَفَعَتْنِي تِلْكَ السِّلْسِلَةُ — الْمُثَبَّتَةُ فِي بَكَرَاتٍ عَدِيدَةٍ — إِلَى الْجَزِيرَةِ الطَّيَّارَةِ.