الْفَصْلُ الثَّالِثُ
(١) بَيْنَ يَدَيِ الْمَلِكِ
وَاشْتَاقَتْ نَفْسِي أَنْ أَرَى غَرَائِبَ هَذِهِ الْجَزِيرَةِ الَّتِي سَمِعْتُ عَنْهَا مِنْ أَهْلِهَا، فَمَثَلْتُ بَيْنَ يَدَيْ مَلِيكِهَا، وَالْتَمَسْتُ مِنْهُ أَنْ يَأْذَنَ لِي فِي رُؤْيَتِهَا، فَأَقَرَّ الْتِمَاسِي، وَعَهِدَ إِلَى بَعْضِ حَاشِيَتِهِ أَنْ يَصْحَبَنِي وَيُرْشِدَنِي إِلَى ذَلِكَ.
وَقَدْ كَانَ أَكْبَرَ مَا يَعْنِينِي أَنْ أَتَعَرَّفَ حَقِيقَةَ الْجَزِيرَةِ، وَأَقِفَ عَلَى أَسْرَارِهَا الطَّبِيعِيَّةِ وَالصِّنَاعِيَّةِ الَّتِي أَكَسَبَتْهَا تِلْكَ الْمَزَايَا الْعَجِيبَةِ؛ فَجَعَلَتْهَا تَطِيرُ فِي الْفَضَاءِ وَفْقَ أَغْرَاضِ أَهْلِهَا، وَتَسِيرُ إِلَى حَيْثُ يُوَجِّهُونَهَا، وَتَقِفُ كُلَّمَا أَرَادُوا.
(٢) وَصْفُ الْجَزِيرَةِ الطَّيَّارَةِ
أَمَّا هَذِهِ الْجَزِيرَةُ الطَّيَّارَةُ فَهِيَ مُسْتَدِيرَةُ الشَّكْلِ — كَمَا رَأَيْتُهَا — وَتَبْلُغُ مِسَاحَتُهَا نَحْوَ عَشْرَةِ آلَافِ فَدَّانٍ تَقْرِيبًا.
وَهِيَ تَلُوحُ — لِمَنْ يَرَاهَا — مُرْتَفِعَةً فِي الْجَوِّ، كَأَنَّهَا قِطْعَةٌ كَبِيرَةٌ مَصْقُولَةٌ مِنَ الْمَاسِ، يَبْدُو لَمَعَانُهَا عَلَى مَسَافَةِ أَرْبَعِمِائَةِ خُطْوَةٍ.
وَيَرَى النَّاظِرُ — فِي أَعْلَى الْجَزِيرَةِ — كَثِيرًا مِنَ الْمَعَادِنِ، كَمَا يَرَى أَرْضًا خِصْبَةً يَتَرَجَّحُ سُمْكُهَا بَيْنَ عَشْرِ خُطُوَاتٍ وَاثْنَتَيْ عَشْرَةَ خُطْوَةً.
وَتَجْتَمِعُ الْأَمْطَارُ الَّتِي تَسْقُطُ عَلَى أَرْضِ الْجَزِيرَةِ فِي وَسَطِهَا، حَيْثُ تَتَفَرَّعُ مِنْهَا الْغُدْرَانُ الصَّغِيرَةُ، وَتَنْبُعُ مِنْ أَرْبَعَةِ يَنَابِيعَ هِيَ أَشْبَهُ بِالْأَحْوَاضِ الْكَبِيرَةِ. وَالشَّمْسُ وَحْدَهَا كَفِيلَةٌ بِتَبْخِيرِ الْمَاءِ — نَهَارًا — حَتَّى لَا يَفِيضَ عَنْ حَاجَةِ الْجَزِيرَةِ.
وَفِي مَقْدُورِ الْمَلِكِ أَنْ يَرْفَعَ الْجَزِيرَةَ — إِذَا شَاءَ — حَتَّى تَعْلُوَ مِنْطَقَةَ السُّحُبِ، وَبِذَلِكَ يَتَّقِي هُطُولَ الْأَمْطَارِ وَتَسَاقُطَ النَّدَى عَلَى جَزِيرَتِهِ. وَلَيْسَ فِي قُدْرَةِ أَحَدٍ مِنْ مُلُوكِ الْأَرْضِ قَاطِبَةً أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ.
وَقَدْ رَأَيْتُ فِي وَسَطِ الْجَزِيرَةِ كَهْفًا وَاسِعًا يَمْتَدُّ فِي أَعْمَاقِهَا إِلَى مَسَافَةٍ كَبِيرَةٍ، يُضِيئُهُ خَمْسُونَ مِصْبَاحًا، يَتَأَلَّقُ سَنَاهَا، وَلَا يَخْبُو نُورُهَا أَبَدًا؛ لِأَنَّهَا مِنَ الْمَاسِ. وَالضَّوْءُ يَنْبَعِثُ مِنْهَا إِلَى جَمِيعِ أَرْجَاءِ الْكَهْفِ.
وَقَدْ أَطْلَقُوا عَلَى هَذَا الْغَارِ اسْمَ «الْمِرْصَدِ»؛ لِأَنَّهُ حَوَى مِنْ مُعَدَّاتِ الْفَلَكِيِّينَ وَأَدَوَاتِهِمْ شَيْئًا كَثِيرًا.
(٣) حَجَرُ الْمَغْنَطِيسِ
وَلَعَلَّ أَغْرَبَ مَا رَأَيْتُهُ فِي تِلْكِ الْجَزِيرَةِ هُوَ حَجَرٌ مِنَ الْمَغْنَطِيسِ، كَبِيرُ الْحَجْمِ، هَنْدَسِيُّ الشَّكْلِ، يُخَيَّلُ لِلرَّائِي أَنَّهُ قِطْعَةٌ مِنَ الثِّيَابِ الْمَنْسُوجَةِ. وَقَدْ عُلِّقَ هَذَا الْحَجَرُ الضَّخْمُ فِي سِلْسِلَةٍ مَتِينَةٍ مِنَ الْمَاسِ، تَخْتَرِمُهُ مِنْ وَسَطِهِ؛ فَيَظَلُّ الْحَجَرُ يَهْتَزُّ — لِذَلِكَ — اهْتِزَازَاتٍ مُتَّسِقَةً مُتَتَابِعَةً.
وَقَدْ عَجِبْتُ أَشَدَّ الْعَجَبِ مِنْ دِقَّةِ وَاضِعِيهِ وَبَرَاعَتِهِمْ فِي الْهَنْدَسَةِ إِلَى هَذَا الْمَدَى الْبَعِيدِ، حَتَّى لَيَظُنّ رَائِيهِ أَنَّ يَدًا ضَعِيفَةً تَهُزُّهُ وَتُحَرِّكُهُ كَمَا تَشَاءُ.
•••
وَتَرَى حَوْلَ هَذَا الْحَجَر دَائِرَةً مِنَ الْمَاسِ هِيَ أَشْبَهُ شَيْءٍ بِأُسْطَوَانَةٍ مُجَوَّفَةٍ، مَوْضُوعَةٍ وَضْعًا أُفُقِيًّا، وَقَائِمَةً عَلَى ثَمَانِي قَوَاعِدَ مُرْتَفِعَةٍ مِنَ الْمَاسِ.
وَلَنْ تَسْتَطِيعَ أَيَّةُ قُوَّةٍ أَنْ تُحَرِّكَ هَذَا الْحَجَرَ؛ لِأَنَّ الدَّائِرَةَ وَقَوَائِمَهَا تُعَدُّ قِطْعَةً وَاحِدَةً مِنَ الْمَاسِ، هِيَ قَاعِدَةُ تِلْكَ الْجَزِيرَةِ.
وَهَذَا الْحَجَرُ الْمَغْنَطِيسِيُّ هُوَ الَّذِي يُحَرِّكُ الْجَزِيرَةَ، وَيَرْفَعُهَا وَيُهْبِطُهَا، وَيُسَيِّرُهَا وَيَقِفُهَا.
وَيُعَدُّ مَلِكُ هَذِهِ الْجَزِيرَةِ أَقْوَى مَلِكٍ فِي الْعَالَمِ، وَقَلَّمَا يَجْرُؤُ شَعْبٌ مِنْ شُعُوبِهِ عَلَى مُخَالَفَتِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَدِينَةٍ تَسْتَعْصِي عَلَيْهِ، أَوْ تَتَرَدَّدُ فِي طَاعَةِ أَمْرِهِ، أَوْ تَتَوَانَى عَنْ دَفْعِ الضَّرَائِبِ، تُعَرِّضُ نَفْسَهَا لِوَيْلَاتٍ وَمَصَائِبَ لَا قِبَلَ لَهَا بِاحْتِمَالِهَا.
(٤) انْتِقَامُ الْمَلِكِ
ولِلْمَلِكِ فِي تَأْدِيبِ الْعُصَاةِ وَالْمُتَمَرِّدِينَ طَرِيقَانِ:
أُولَاهُمَا: أَنْ يُوَجِّهَ جَزِيرَتَهُ الطَّيَّارَةَ إِلَى الْمَدِينَةِ الثَّائِرَةِ أَوِ الْعَاصِيَةِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَهَا أَمَرَ أَعْوَانَهُ بِوَقْفِ جَزِيرَتِهِ فِي الْجَوِّ زَمَنًا طَوِيلًا؛ لِتَحْجُبَ الشَّمْسَ وَالْمَطَرَ عَنِ الْمَدِينَةِ، فَتَنْمُوَ جَرَاثِيمُ الْأَمْرَاضِ الْفَتَّاكَةِ، وَيَنْتَشِرُ الْمَرَضُ، وَتَكْثُر الْوَفَيَاتُ.
وَالطَّرِيقُ الثَّانِيَةُ: يَلْجَأُ إِلَيْهَا الْمَلِكُ إِذَا تَمَادَى الشَّعْبُ فِي التَّمَرُّدِ وَلَجَّ فِي الْعِصْيَانِ، فَثَمَّةَ يَأْمُرُ الْمَلِكُ أَعْوَانَهُ أَنْ يَقْذِفُوهُمْ بِحِجَارَةٍ ضَخْمَةٍ تَهْوِي عَلَى رُءُوسِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ مِنْ جَزِيرَتِهِ، فَتُهْلِكُ النَّاسَ وَتُدَمِّرُ الْبُيُوتَ.
وَفِي قُدْرَةِ الْمَلِكِ أَنْ يَأْمُرَ أَعْوَانَهُ — إِذَا عَزَمَ عَلَى إِبَادَةِ مَدِينَةٍ كَامِلَةٍ — أَنْ يُهْبِطُوا الْجَزِيرَةَ عَلَيْهَا فَتُدَمِّرَ مَنْ فِيهَا، وَتَسْحَقَ مَا تَحْوِيهِ مِنْ مَاشِيَةٍ وَبَيْتٍ، فَلَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ.
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الْمُدُنِ تَكْتَنِفُهَا الصُّخُورُ الشَّاهِقَةُ، فَتَحْمِيهَا ذَلِكَ الْخَطَرَ الدَّاهِمَ، وَلَا تَسْتَطِيعُ الْجَزِيرَةُ الطَّيَّارَةُ أَنْ تَهْبِطَ عَلَيْهَا؛ حَتَّى لَا تَصْطَدِمَ وَتِلْكَ الصُّخُورَ الْمُرْتَفِعَةَ فَتَتَحَطَّمَ تَحْطِيمًا.
وَلِهَذَا السَّبَبِ — وَحْدَهُ — يَأْمُرُ الْمَلِكُ أَعْوَانَهُ — إِذَا أَصَرَّ عَلَى تَدْمِيرِ مَدِينَةٍ — أَنْ يُهْبِطُوا الْجَزِيرَةَ عَلَيْهَا فِي رِفْقٍ وَحَذَرٍ، وَيُوهِمُ النَّاسَ أَنَّ الرَّحْمَةَ وَالشَّفَقَةَ تَدْفَعَانِهِ إِلَى التَّرَيُّثِ وَالْأَنَاةِ فِي انْتِقَامِهِ، وِإَنْ كَانَتِ الْحَقِيقَةُ الذَّائِعَةُ الَّتِي يَعْرِفُهَا الْجَمِيعُ هِيَ أَنَّهُ لَا يَخْشَى إِلَّا عَلَى جَزِيرَتِهِ وَحْدَهَا مِنَ الدَّمَارِ وَالتَّلَفِ.