الْفَصْلُ الرَّابِعُ
(١) مِنَ الْجَزِيرَةِ الطَّيَّارَةِ إِلَى «بالْنِيارْب»
لَمْ تَكُنْ دَهْشَتِي مِنْ ذَلِكَ الشَّعْبِ الْعَجِيبِ أَقَلَّ مِنْ دَهْشَةِ ذَلِكَ الشَّعْبِ مِنِّي؛ فَقَدْ كُنْتُ وَإِيَّاهُ جِدَّ مُخْتَلِفَيْنِ فِي النَّزْعَةِ وَالْفَهْمِ.
كَانَ الشَّعْبُ عَلَى حَظٍّ كَبِيرٍ مِنَ الْبَرَاعَةِ فِي الْحِسَابِ وَالْمُوسِيقَى، وَلَمْ تَكُنْ مَوَاهِبِي تُؤَهِّلُنِي لِمُجَارَاتِهِ فِيهِمَا، وَكَانُوا لِذَلِكَ لَا يَتَمَالَكُونَ أَنْ يَحْتَقِرُونِي.
وَقَدْ عَزَمْتُ عَلَى الْفِرَارِ مِنَ الْجَزِيرَةِ؛ فَذَهَبْتُ إِلَى شَيْخٍ مُسِنٍّ كُنْتُ آنَسُ بَالتَّحَدُّثِ إِلَيْهِ، وَكَانَ يَعْطِفُ عَلَيَّ، فَرَجَوْتُهُ أَنْ يَسْتَأْذِنَ لِيَ الْمَلِكَ فِي السَّفَرِ، فَوَعَدَنِي بِتَحْقِيقِ رَجَائِي، وَأَظْهَرَ أَلَمَهُ لِفِرَاقِي. وَبَعْدَ زَمَنٍ قَلِيلٍ حَصَلَ عَلَى إِذْنٍ مِن الْمَلِكِ بِذَلِكَ.
وَقَدْ مَنَحَنِي جَلَالَتُهُ كَثِيرًا مِنَ الْهَدَايَا، كَمَا قَدَّمَ لِي الشَّيْخُ مَاسَةً ثَمِينَةً، وَأَحْضَرَ لِي كِتَابَ تَوْصِيَةٍ مِنَ الْمَلِكِ إِلَى أَحَدِ أَصْدِقَائِهِ فِي «لاجادو» عَاصِمَةِ «بالنيارب».
وَقَدْ أَنْزَلُونِي مِنَ الْجَزِيرَةِ الطَّيَّارَةِ بِنَفْسِ الطَّرِيقَةِ الَّتِي أَصْعَدُونِي بِهَا إِلَيْهَا، فَوَاصَلْتُ السَّيْرَ حَتَّى بَلَغْتُ مَدِينَةَ «لاجادو»، وَحَمِدْتُ اللهَ عَلَى خَلَاصِي مِنْ صُحْبَةِ أُولَئِكَ الْحَمْقَى، وَاطْمَأَنَّتْ نَفْسِي حِينَ غَادَرْتُ الْجَزِيرَةَ الطَّيَّارَةَ، وَأَصْبَحْتُ أَسِيرُ عَلَى الْأَرْضِ الثَّابِتَةِ.
(٢) فِي مَدِينَةِ «لاجادو»
وَاهْتَدَيْتُ — بَعْدَ قَلِيلٍ — إِلَى بَيْتِ السَّرِيِّ، وَأَرَيْتُهُ كِتَابَ التَّوْصِيَةِ الَّذِي أَعْطَانِيهِ مَلِكُ الْجَزِيرَةِ الطَّيَّارَةِ؛ فَرَحَّبَ بِي، وَأَكْرَمَ وِفَادَتِي.
وَقَضَيْتُ عِنْدَهُ زَمَنًا فِي حُجْرَةٍ فَاخِرَةٍ، وَكَانَ يَصْحَبُنِي فِي نُزْهَتِي وَإِقَامَتِي، وَتُقِلُّنَا مَرْكَبَتُهُ إِلَى الْمَدِينَةِ.
وَقَدْ أَدْهَشَنِي مَا رَأَيْتُهُ فِي تِلْكَ الْمَدِينَةِ مِنْ بُيُوتٍ خَرِبَةٍ، وَمَنَازِلَ مُهَدَّمَةٍ، وَحُقُولٍ جُرْدٍ؛ فَسَأَلْتُهُ عَنْ سِرِّ هَذَا الْخَرَابِ، فَوَعَدَنِي بِالْإِجَابَةِ عَنْ سُؤَالِي فِي فُرْصَةٍ أُخْرَى.
وَلَمَّا جَاءَ الْيَوْمُ التَّالِي سَارَ بِي حَتَّى خَرَجْنَا إِلَى الْمَدِينَةَ؛ فَرَأَيْنَا — عَلَى مَسَافَةِ ثَلَاثِ سَاعَاتٍ مِنْهَا — دَسْكَرَةً (مَزْرعة) نَضِيرَةً وَقَصْرًا فَاخِرًا تَكْتَنِفُهُ بُيُوتٌ جَمِيلَةٌ وَرِيَاضٌ مُزْدَهِرَةٌ، فَعَجِبْتُ مِنْ جَمَالِهَا وَوَفْرَةِ مَحْصُولِهَا، وَسَأَلْتُهُ: «لِمَنْ هَذَا كُلُّهُ؟»
فَقَالَ لِي وَهُوَ يَتَنَهَّدُ مَحْزُونًا: «مِنْ هُنَا تَبْدَأُ أَمْلَاكِي، وَقَدْ كُنْتُ مُحَافِظًا لِلْمَدِينَةِ، وَأَقَالُونِي مِنْ ذَلِكَ الْمَنْصِبِ، وَهَزِئُوا بِي لِأَنَّنِي — فِيمَا يَزْعُمُونَ — رَجُلٌ رَجْعِيٌّ لَا أَصْلُحُ لِلْحُكْمِ فِي هَذَا الْعَصْرِ الْمُسْتَنِيرِ.»
(٣) آرَاءُ الْحَمْقَى
فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَزِيدَنِي إِيضَاحًا، فَقَالَ: «لَقَدْ حَلَّ بِبِلَادِنَا جَمَاعَةٌ مِنْ مُفَكِّرِي الْجَزِيرَةِ الطَّيَّارَةِ مُنْذُ أَرْبَعَةِ أَعْوَامٍ، وَأَشَارُوا عَلَى حَاكِمِ الْمَدِينَةِ أَنْ يَهْدِمَ بُيُوتَ الْأَهْلِينَ لِيُعِيدُوهَا عَلَى أَكْمَلِ طِرَازٍ؛ فَأَطَاعَهُمْ كَثِيرٌ مِمَّنْ خَلَبَتْهُمْ آرَاؤُهُمُ الْجَدِيدَةُ، وَشَذَّ عَنِ الطَّاعَةِ رَهْطٌ قَلِيلُونَ كُنْتُ أَنَا مِنْ بَيْنِهِمْ؛ فَأَصْبَحْنَا مَوْضِعَ السُّخْرِيَةِ إِلَى الْيَوْمِ.
وَهَدَمَ النَّاسُ بُيُوتَهُمْ، ثَمَّ عَجَزُوا عَنْ إِنْشَاءِ بُيُوتٍ أُخْرَى مِثْلِهَا أَوْ أَحْقَرَ مِنْهَا، فَعَجِبْتُ مِنْ جَهْلِ هَؤُلَاءِ الْمُقَلِّدِينَ الْمَفْتُونِينَ بِالْآرَاءِ الْجَدِيدَةِ الْخَلَّابَةِ، مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ وَلَا تَعَقُّلٍ.»
(٤) جَامِعَةُ «لاجادو»
وَبَعْدَ أَيَّامٍ قَلِيلَةٍ زُرْتُ الْجَامِعَةَ؛ فَرَأَيْتُ الْعَجَبَ الْعُجَابَ، وَلَقِيتُ فِيهَا عَالِمًا مِنْ عُلَمَائِهَا أَشْعَثَ الشَّعْرِ، أَغْبَرَ الْوَجْهِ، فَحَدَّثَنِي أَنَّه ظَلَّ ثَمَانِيَ سَنَوَاتٍ يُفَكِّرُ فِي الِاهْتِدَاءِ إِلَى طَرِيقَةٍ يَحْجِزُ بِهَا أَشِعَّةَ الشَّمْسِ فِي أَوَانٍ مُقْفَلَةٍ؛ لِيُخْرِجَهَا مَتَى قَلَّتِ الْحَرَارَةُ، وَرَأَيْتُهُ يَسْبَحُ فِي عَالَمٍ مِنَ الْخَيَالِ بِلَا جَدْوَى.
وَرَأَيْتُ عَالِمًا آخَرَ يُفَكِّرُ سِنِينَ عِدَّةً فِي طَرِيقَةٍ تُوَصِّلُهُ إِلَى اسْتِخْرَاجِ الْجَصِّ وَالْبَارُودِ مِنَ الزُّجَاجِ.
وَقَابَلْتُ مُهَنْدِسًا أَخْبَرَنِي أَنَّه قَدْ وُفِّقَ إِلَى اخْتِرَاعِ طَرِيقَةٍ جَدِيدَةٍ تُمَكِّنُهُ مِنْ أَنْ يَبْنِيَ الْمَنَازِلَ مِنْ أَعْلَى إِلَى أَسْفَلَ، كَمَا تَفْعَلُ الْعَنَاكِبُ وَالنَّحْلُ.
وَظَللْتُ أُحَادِثُ وَاحِدًا بَعْدَ آخَرَ، وَأَعْجَبُ مِنْ خَيَالِهِمُ السَّقِيمِ. ثُمَّ شَعَرْتُ بِمَغْصٍ، فَأَدْخَلُونِي حُجْرَةَ طَبِيبٍ مَشْهُودٍ لَهُ بِالْبَرَاعَةِ، وَرَأَيْتُ مَعَهُ مِنْفَاخًا يَزْعُمُ أَنَّهُ يُزِيلُ بِهِ الْمَغْصَ. وَأَرَادَ أَنْ يُقْنِعَنِي بِبَرَاعَتِهِ؛ فَنَفَخَ بِهِ كَلْبًا، فَأَمَاتَهُ مِنْ فَوْرِهِ، فَشَهِدْتُ لَهُ بِالْبَرَاعَةِ فِي فَنِّهِ! فَخَجِلَ وَكَفَّ عَنْ عِلَاجِي.
وَرَأَيْتُ جَمَاعَةً مِنْ رِجَال اللُّغَةِ يَتَبَاحَثُونَ فِي طَرِيقَةٍ يُوَحِّدُونَ بِهَا اللُّغَاتِ. وَسَمِعْتُهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْكَلَامَ يُتْعِبُ الصَّدْرَ، وَخَيْرٌ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَسْتَغْنِيَ بِالْإِشَارَةِ عَنِ الْأَلْفَاظِ. وَرَأَى بَعْضُهُمْ أَنَّ أَفْضَلَ وَسِيلَةٍ لِلْكَلَامِ هِيَ أَنْ يَحْمِلَ فَوْقَ ظَهْرِهِ كُلَّ مَا يُرِيدُ التَّعْبِيرَ عَنْهُ لِيَسْتَغْنِيَ بِحَمْلِهِ عَنِ النُّطْقِ بِاسْمِهِ.
وَهَكَذَا خَرَجْتُ مِنْ تِلْكَ الْجَامِعَةِ وَقَدْ مَلَكَتْنِي الْحَيْرَةُ وَالدَّهْشَةُ مِمَّا رَأَيْتُ مِنْ خَبَلِ هَؤُلَاءِ النَّاسِ وَتَخَبُّطِهِمْ. وَلَمْ تَكُنْ آرَاءُ عُلَمَاءِ السِّيَاسَةِ الَّذِينَ رَأَيْتُهُمْ فِي تِلْكَ الْجَامِعَةِ بِأَقَلَّ تَخَبُّطًا مِنْ آرَاءِ أُولَئِكَ الْعُلَمَاءِ الْأَجِلَّاءِ!