الْفَصْلُ الْخَامِسُ
(١) فِي جَزِيرَةِ السَّحَرَةِ
إِذَا صَدَقَ حَدْسِي، وَلَمْ يُخْطِئْ ظَنِّي، فَإِنِّي أَسْتَطِيعُ أَنْ أُقَرِّرَ أَنَّ هَذِهِ الْمَمْلَكَةَ تَقَعُ فِي قَارَّةٍ لَا أَعْرِفُ اسْمَهَا. وَتَمْتَدُّ هَذِهِ الْقَارَّةُ إِلَى الشَّرْقِ صَوْبَ بِلَادٍ مَجْهُولَةٍ مِنَ الْقَارَّةِ الْأَمْرِيكِيَّةِ، ثُمَّ تَذْهَبُ إِلَى الْغَرْبِ صَوْبَ «كاليفورْنيا»، ثُمَّ تَسِيرُ إِلَى الشَّمَالِ صَوْبَ الْمُحْيطِ الْهَادِي. وَلَا تَبْعُدُ هَذِهِ الْمَمْلَكَةُ عَنْ «لاجادو» أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِينَ وَمِائَةِ مِيلٍ.
وَلِهَذِهِ الْبِلَادِ مَرْفَأٌ (مِينَاءٌ) مَشْهُورٌ، وَتِجَارَةٌ وَاسِعَةٌ رَائِجَةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ جَزِيرَةِ «لوجناج». وَتَقَعُ جَزِيرَةُ السَّحَرَةِ فِي الشَّمَالِ الْغَرْبِيِّ مِنْهَا، قَرِيبًا مِنَ الدَّرَجَةِ الْعِشْرِينَ مِنْ خُطُوطِ الْعَرْضِ الشَّمَالِيَّةِ، وَالدَّرَجَةِ الْأَرْبَعِينَ بَعْدَ الْمِائَةِ مِنْ خُطُوطِ الطُّولِ.
وَتَقَعُ جَزِيرَةُ «لوجناج» هَذِهِ فِي الْجَنُوبِ الْغَرْبِيِّ مِنَ الْيَابَانِ. وَلَا تَبْعُدُ عَنْهَا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ مِيلٍ.
وَقَدْ أُبْرِمَتْ مُعَاهَدَةٌ وَتَحَالَفٌ وَثِيقٌ بَيْنَ إِمْبِرَاطُورِ الْيَابَانِ وَمَلِكِ «لوجناج»؛ فَأُتِيحَتْ لِي بِذَلِكَ الْفُرَصُ لِلتَّنَقُّلِ بَيْنَ هَذِهِ الْبِلَادِ وَإِمْبِرَاطُورِيَّةِ الْيَابَانِ. وَصَحَّتْ عَزِيمَتِي عَلَى أَنْ أَسْلُكَ هَذِهِ الطَّرِيقَ الْوَعْرَةَ إِلَى «أُورُوبَّا»؛ فَاكْتَرَيْتُ بَغْلَيْنِ لِحَمْلِ مَتَاعِي، وَاسْتَصْحَبْتُ دَلِيلًا لِإِرْشَادِي إِلَى الطَّرِيقِ، وَاسْتَأْذَنْتُ مِنَ الرَّجُلِ الْعَظِيمِ — الَّذِي أَضَافَنِي وَرَأَيْتُ مِنْهُ كُلَّ إِكْرَامٍ — فَأَذِنَ، وَقَدَّمَ لِي هَدِيَّةً ثَمِينَةً. وَلَمْ يَقَعْ لِي — فِي أَثْنَاءِ سَفَرِي هَذَا — أَيُّ حَادِثٍ يَسْتَحِقُّ الذِّكْرَ.
وَلَمَّا وَصَلْتُ إِلَى مِينَاءِ «لاجادو» لَمْ أَجِدْ سَفِينَةً مُتَأَهِّبَةً لِلْإِقْلَاعِ إِلَى «لوجناج». وَقَدْ رَأَيْتُ أَنَّ «مالدونادا» مَدِينَةٌ فِي اتِّسَاعِ «بورتسموث» تَقْرِيبًا، ثُمَّ تَعَرَّفْتُ بِبَعْضِ أَهْلِهَا، وَقَدْ تَلَطَّفَ بِي رَجُلٌ مِنْهُمْ فَحَدَّثَنِي أَنَّه لَا يُمْكِنُ أَنْ تُبْحِرَ سَفِينَةٌ إِلَى «لوجناج» قَبْلَ شَهْرٍ؛ فَيَحْسُنُ بيِ أَنْ أُرَوِّحَ عَنْ نَفْسِي بِسِيَاحَةٍ صَغِيرَةٍ إِلَى جَزِيرَةِ السَّحَرَةِ، وَهِيَ لَا تَبْعُدُ عَنَّا أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةِ أَمْيَالٍ صَوْبَ الْجَنُوبِ الشَّرْقِيِّ.
(٢) فِي قَصْرِ الْحَاكِمِ
ثُمَّ عَرَضَ عَلَيَّ أَنْ يَصْحَبَنِي وَصَدِيقًا لَهُ فِي هَذِهِ الرِّحْلَةِ إِلَى جَزِيرَةِ السَّحَرِةِ، وَأَعَدَّ زَوْرَقًا صَغِيرًا لِلذَّهَابِ إِلَيْهَا.
وَهَذِهِ الْجَزِيرَةُ غَايَةٌ فِي الْخُصُوبَةِ، يَحْكُمُهَا زَعِيمُ قَبِيلَةٍ جَمِيعُ أَهْلِهَا مِنَ السَّحَرَةِ، وَهُمْ لَا يُخَالِطُونَ أَحَدًا وَلَا يَتَّصِلُونَ بِالنَّاسِ، وَحَاكِمُهُمْ هُوَ أَكْبَرُ رِجَالِ الْقَبِيلَةِ سِنًّا.
وَهَذَا الْحَاكِمُ لَهُ قَصْرٌ فَخْمٌ، بِهِ حَدِيقَةٌ مِسَاحَتُهَا ثَلَاثَةُ آلَافِ فَدَّانٍ، يَكْتَنِفُهَا سُورٌ مِنَ الصَّخْرِ ارْتِفَاعُهُ عِشْرُونَ قَدَمًا، وَبِهَذِهِ الْحَدَائِقِ بَعْضُ حَظَائِرَ صَغِيرَةٍ لِسُكْنَى الدَّوَابِّ، وَخَزْنِ الْغِلَالِ.
وَيَقُومُ عَلَى خِدْمَةِ الْحَاكِمِ وَأُسْرَتِهِ جَمْهَرَةٌ مِنَ الْخَدَمِ، أَطْوَارُهُمْ غَرِيبَةٌ؛ فَهَذَا الْحَاكِمُ عَلِيمٌ بِالْأَسْرَارِ الْخَفِيَّةِ، وَفِي مَقْدُورِهِ أَنْ يَسْتَدْعِيَ الْمَوْتَى وَيَضْطَرُّهُمْ إِلَى الْقِيَامِ عَلَى خِدْمَتِهِ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ سَاعَةً كَامِلَةً. وَلَيْسَ فِي قُدْرَتِهِ أَنْ يُعِيدَهُمْ إِلَى الْحَيَاةِ زَمَنًا أَطْوَلَ مِنْ ذَلِكَ.
وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَدْعِيَ رُوحًا مَرَّةً أُخْرَى، قَبْلَ أَنْ يَمُرَّ عَلَى الْمَرَّةِ السَّابِقَةِ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِغَرَضٍ خَطِيرٍ.
وَقَدْ وَصَلْنَا إِلَى الْجَزِيرَةِ فِي السَّاعَةِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ تَقْرِيبًا قَبْلَ الظُّهْرِ، وَذَهَبَ أَحَدُ رَفِيقَيَّ لِمُقَابَلَةِ الْحَاكِمِ، وَقَالَ لَهُ: «لَقَدْ حَضَرَ إِلَى هَذِهِ الْجَزِيرَةِ رَجُلٌ أَجْنَبِيٌّ يَرْجُو الْمُثُولَ بَيْنَ يَدَيْ سُمُوِّكُمْ.»
وَقَدْ أَجَابَ الْحَاكِمُ الرَّجَاءَ، فَذَهَبْنَا ثَلَاثَتُنَا إِلَى فِنَاءِ الْقَصْرِ، وَمَرَرْنَا بَيْنَ صَفَّيْنِ مِنْ رِجَالٍ مُسَلَّحِينَ مُرْتَدِينَ ثِيَابًا مِنَ الْأَزْيَاءِ الْقَدِيمَةِ. وَقَدْ أَحْدَثَ مَنْظَرُهُمْ عِنْدِي رُعْبًا وَفَزَعًا. ثُمَّ اجْتَزْنَا غُرَفًا أُخْرَى وَنَحْنُ نُشَاهِدُ فِيهَا خَدَمًا مِثْلَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ رَأَيْنَاهُمْ، حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى غُرْفَةِ الْحَاكِمِ.
وَبَعْدَ أَنْ حَيَّيْنَاهُ — تَحِيَّةَ الْإِجْلَالِ وَالِاحْتِرَامِ — ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، أَجْلَسَنَا عَلَى كَرَاسِيَّ خَشَبِيَّةٍ صَغِيرَةٍ أَمَامَ عَرْشِهِ.
وَلَمَّا كَانَ يَعْرِفُ لُغَةَ «بالنيارب» وَجَّهَ إِلَيَّ عِدَّةَ أَسْئِلَةٍ عَنْ سِيَاحَاتِي وَأَسْفَارِي.
وَأَرَادَ أَنْ يَتَبَسَّطَ مَعِي فِي الْحَدِيثِ، وَيُذْهِبَ الْكُلفَةَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ؛ فَأَشَارَ إِلَى جَمِيعِ الْخَدَمِ — بِإِصْبَعِهِ — أَنْ يَنْصَرِفُوا؛ فَاسْتَخْفَوْا فِي مِثْلِ طَرْفَةِ عَيْنٍ، كَأَنَّهُمْ خَيَالَاتٌ وَأَوْهَامٌ!
وَتَمَلَّكَنِي خَوْفٌ؛ فَلَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أُثَبِّتَ جَأْشِي (قَلْبِي) إِلَّا بَعْدَ عَنَاءٍ شَدِيدٍ. وَلَاحَظَ الْحَاكِمُ عَلَيَّ الْخَوْفَ؛ فَأَقْبَلَ يُطَيِّبُ خَاطِرِي وَيَهَشُّ لِي. وَلَمْ يُبْدِ رَفِيقَايَ شَيْئًا مِنَ الْجَزَعِ؛ لِأَنَّهُمَا تَعَوَّدَا أَمْثَالَ ذَلِكَ.
وَبَدَأْتُ أَتَمَالَكُ وَأَسْتَجْمِعُ، وَأَنْشَأْتُ أَقُصُّ عَلَى سُمُوِّهِ الْوَقَائِعَ الْمُخْتَلِفَةَ الَّتِي حَدَثَتْ لِي فِي أَسْفَارِي. وَكُنْتُ أَتَحَدَّثُ فِي تَرَدُّدٍ، مُتَلَفِّتًا بَيْنَ حِينٍ وَآخَرَ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي اسْتَخْفَتْ فِيهَا أَشْبَاحُ الْخَدَمِ.
ثُمَّ دَعَانَا الْحَاكِمُ إِلَى الْغَدَاءِ، فَاسْتَجَبْنَا لِدَعْوَتِهِ، وَقَامَ عَلَى خِدْمَتِنَا جَمَاعَةٌ آخَرُونَ مِنَ الْخَدَمِ؛ فَلَبِثْنَا حَوْلَ الْمَائِدَةِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ. وَقَدْ لَاحَظْتُ أَنَّ خَوْفِي يَقِلُّ شَيْئًا فَشَيْئًا.
ثُمَّ عَرَضَ عَلَيْنَا الْحَاكِمُ أَنْ نَبِيتَ لَيْلَتَنَا فِي قَصْرِهِ؛ فَتَوَسَّلْتُ إِلَى سُمُوِّهِ أَنْ يَمُنَّ عَلَيَّ بِالْإِعْفَاءِ مِنْ ذَلِكَ. وَذَهَبْتُ وَمَعِي صَدِيقَايَ نَبْحَثُ عَنْ سَرِيرٍ فِي فُنْدُقٍ فِي الْمَدِينَةِ الْمُجَاوِرَةِ وَهِيَ عَاصِمَةُ الْجَزِيرَةِ الصَّغِيرَةِ.
وَفِي صَبَاحِ الْيَوْمِ التَّالِي ذَهَبْنَا إِلَى الْحَاكِمِ — كَمَا طُلِبَ منا — وَقَضَيْنَا عَلَى هَذِهِ الْحَالِ عَشْرَةَ أَيَّامٍ؛ فَكُنْتُ أَقْضِي أَكْبَرَ شَطْرٍ مِنَ الْيَوْمِ مَعَ الْحَاكِمِ، حَتَّى إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ ذَهَبْنَا إِلَى فُنْدُقِنَا لِنَبِيتَ فِيهِ.
وَقَدِ انْتَهَى بِيَ الْأَمْرُ إِلَى أَنِ اخْتَلَطْتُ بِالْأَرْوَاحِ الَّتِي تَظْهَرُ فِي أَزْيَاءِ الْخَدَمِ، وَتَعَوَّدْتُهَا، وَلَمْ أَخَفْ مِنْهَا كَمَا كُنْتُ أَخَافُ مِنْ قَبْلُ.
(٣) أَرْوَاحُ الْمَوْتَى
وَحَدَثَ يَوْمًا أَنْ طَلَبَ مِنِّي سُمُوُّهُ أَنْ أُعَيِّنَ لَهُ أَسْمَاءَ مَنْ أُرِيدُ مِنَ الْمَوْتَى لَيُحْضِرَهُمْ، وَيُكْرِهَهُمْ عَلَى أَنْ يُجِيبُوا عَمَّا أُلْقِي مِنْ أَسْئِلَةٍ، عَلَى شَرِيطَةِ أَلَّا أَسْأَلَهُمْ إِلَّا عَنِ الْمَاضِي، أَمَّا الْحَاضِرُ وَالْمُسْتَقْبَلُ فَلَا شَأْنَ لَهُمْ بِهِمَا. وَطَلَبَ إِلَيَّ أَنْ أَكُونَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّهُمْ لَا يُقَرِّرُونَ غَيْرَ الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ لَا وُجُودَ لَهُ فِي الْعَالَمِ الْآخَرِ.
فَقَبِلْتُ أَمْرَ سُمُوِّهِ بَمَوْفُورِ الشُّكْرِ. وَكُنَّا فِي حُجْرَةٍ تُشْرِفُ عَلَى مَنْظَرٍ بَدِيعٍ مِنَ الْحَدِيقَةِ، وَكَانَتْ رَغْبَتِي فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَنْ أَرَى شَيْئًا مِنَ الْمَوَاكِبِ الْفَخْمَةِ؛ فَقُلْتُ لِلْحَاكِمِ: «إِنَّنِي أُرِيدُ أَنْ أَرَى «الْإِسْكَنْدَرَ الْأَكْبَرَ الْمَقْدُونِيَّ» عَلَى رَأْسِ جَيْشِهِ.»
وَمَا هِيَ إِلَّا إِشَارَةٌ مِنَ الْحَاكِمِ حَتَّى رَأَيْتُ «الْإِسْكَنْدَرَ الْأَكْبَرَ» وَجَيْشَهُ فِي مَيْدَانٍ فَسِيحٍ تَحْتَ النَّافِذَةِ الَّتِي نُطِلُّ مِنْهَا!
وَدَعَا الْحَاكِمُ «الْإِسْكَنْدَرَ» لِلصُّعُودِ إِلَى الْحُجْرَةِ؛ فَصَعِدَ وَجَلَسَ يَتَحَدَّثُ. وَقَدْ عَانَيْتُ كَثِيرًا فِي تَفَهُّمِ لُغَتِهِ الْيُونَانِيَّةِ؛ لِأَنَّنِي لَمْ أَكُنْ أُجِيدُهَا.
وَقَدْ أَقْسَمَ لِي بِشَرَفِهِ: إِنَّهُ لَمْ يَمُتْ مَسْمُومًا، وَلَكِنَّ مَنِيَّتَهُ كَانَتْ بِسَبَبِ حُمَّى انْتَابَتْهُ مِنْ إِفْرَاطِهِ فِي الشَّرَابِ.
ثُمَّ رَأَيْتُ «هانيبالَ» وَهُوَ يَجْتَازُ «الألبَ»، وَقَالَ لِي: إِنَّ مَا عِنْدَ جَيْشِهِ مِنَ الزَّادِ قَدْ نَفِدَ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ. ثُمَّ رَأَيْتُ «يوليوس قيصَرَ» و«بُومْبِي»، وَرَأَيْتُ كُلًّا مِنْهُمَا عَلَى رَأْسِ جَيْشِهِ، َيَتَأَهَّبَانِ لِلْمَعْرَكَةِ، وَرَأَيْتُ الْأَوَّلَ فِي عِزَّةٍ وَنُصْرَةٍ (حُسْنِ مَعُونَةٍ).
وَأَرَدْتُ أَنْ أَرَى مَجْلِسَ الشُّيُوخِ الرُّومَانِيَّ، فِي قَاعَةٍ كَبِيرَةٍ؛ فَبَدَا لِي فِي حَشْدِهِ الْكَامِلِ، ثُمَّ أَشَارَ الْحَاكِمُ — تَلْبِيَةً لِرَغْبَتِي — إِلَى «قيصرَ» و«بروتسَ» بَالتَّقَدُّمِ؛ فَدَاخَلَنِي إِعْجَابٌ وَاحْتِرَامٌ لِرُؤْيَةِ «بروتس» وَتَبَيَّنْتُ مِنْ قَسَمَاتِ وَجْهِهِ آيَاتِ الشَّجَاعَةِ الَّتِي لَا تُقْهَرُ، وَقُوَّة الْعَزِيمَةِ الَّتِي لَا تُغْلَبُ، وَالتَّفَانِي فِي حُبِّ وَطَنِهِ؛ شَمَائِلَ عَالِيَةً يَزِينُهَا لُطْفٌ كَبِيرٌ وَكَرَمٌ عَظِيمٌ.
وَلَاحَظْتُ — مُغْتَبِطًا — أَنَّ هَذَيْنِ الشَّخْصَيْنِ كَانَا عَلَى أَتَمِّ وِفَاقٍ. وَقَدْ كَاشَفَنِي «قيصرُ» أَنَّ كُلَّ مَا تَمَيَّزَ بِهِ مِنْ فَضَائِلَ، كَانَ أَقَلَّ مِمَّا تَمَيَّزَ بِهِ «بروتس» عِنْدَمَا قَتَلَهُ!
وَكَانَ لِيَ الشَّرَفُ أَنْ تَحَدَّثْتُ وَقْتًا طَوِيلًا مَعَ «بروتس»، فَقَالَ لِي: إِنَّ جَدَّهُ «جونيوس» كَانَ صَدِيقَ «سُقْرَاطٍ»، وَقَدِ اسْتَعَانَ كِلَاهُمَا بِبَعْضِ أَصْدِقَائِهِمَا فِي تَأْلِيفِ مَجْمَعٍ أَطْلَقُوا عَلَيْهِ «مَجْمَعَ السِّتَّةِ». وَكَانُوا أَفْذَاذَ الْعَالَمِ وَقَادَةَ الْفِكْرِ، وَلَمْ تَظْفَرِ الدُّنْيَا بِأَمْثَالِهِمْ فِي طُوالِ الْعُصُورِ.
وَإِنِّي لَأُحَمِّلَ الْقَارِئَ جَهْدًا، إِذَا أَنَا ذَكَرْتُ الْكَثِيرِينَ مِنَ الْعُظَمَاءِ الَّذِينَ طَلَبْتُ دَعْوَتَهُمْ، لِرَغْبَتِي الْمُلِحَّةِ فِي أَنْ أَرَى جَمِيعَ الْعُصُورِ الْقَدِيمَةِ مَاثِلَةً أَمَامَ عَيْنِي!
وَإِنِّي لَأُمَتِّعُ الْقُرَّاءَ، إِذَا ذَكَرْتُ لَهُمْ مَا شَهِدْتُهُ مِنَ الْمُدَمِّرِينَ وَالظَّالِمِينَ وَالْمُغْتَصِبِينَ، وَمِنْ قَادَةِ الْأُمَمِ وَمُحَرِّرِي الشُّعُوبِ. وَلَكِنْ يَتَعَذَّرُ عَلَيَّ أَنْ أُعْرِبَ عَنْ غِبْطَتِي وَارْتِيَاحِي، حِينَ شَهِدْتُ تَارِيخَ الْمَاضِي بِجَمِيعِ صُوَرِهِ مَاثِلًا أَمَامَ عَيْنَيَّ فِي وُضُوحٍ وَجَلَاءٍ!
(٤) مَعَ الْقُدَمَاءِ
وَلَمَّا كُنْتُ شَدِيدَ الرَّغْبَةِ فِي رُؤْيَةِ الْقُدَمَاءِ الْمَشْهُورِينَ بِرَجَاحَةِ الْعَقْلِ وَأَصَالَةِ الرَّأْيِ، عَزَمْتُ عَلَى أَنْ أُخَصِّصَ الْيَوْمَ التَّالِيَ لِذَلِكَ.
فَطَلَبْتُ أَنْ يَظْهَرَ لِيَ «هوميروس» و«أرسططاليس» وَغَيْرُهُمْ مِنْ قَادَةِ الْفِكْرِ، وَدَارَتْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ مُنَاقَشَاتٌ طَوِيلَةٌ، وَرَأَيْتُ أَغْلَبَ أَبَاطِرَةِ الرُّومَانِ وَأَبْطَالِ الْمَعَارِكِ وَالْحُرُوبِ، وَقَضَيْتُ خَمْسَةَ أَيَّامٍ أَتَحَدَّثُ إِلَى أَفْذَاذِ الْعُلَمَاءِ وَكِبَارِ الرِّجَالِ مِنَ الْعُصُورِ الْغَابِرَةِ.
وَاسْتَدْعَى الْحَاكِمُ بَعْضَ الطُّهَاةِ مِنَ الْقُدَمَاءِ لِتَهْيِئَةِ غَدَائِنَا، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يُظْهِرُوا كُلَّ مَهَارَتِهِمْ لِعَدَمِ تَوَفُّرِ الْمُعَدَّاتِ اللَّازِمَةِ.
وَكَانَ رَفِيقَايَ اللَّذَانِ جَاءَا بِي إِلَى الْجَزِيرَةِ مُضْطَرَّيْنِ لِلْعَوْدَةِ إِلَى بَلَدِهِمَا بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ؛ فَقَضَيْتُ هَذِهِ الْمُدَّةَ فِي مُشَاهَدَةِ الْعُظَمَاءِ الَّذِينَ مَاتُوا فِي الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الْأَخِيرَةِ، سَوَاءٌ أَكَانُوا مِنْ بِلَادِي أَمْ مِنَ الْبِلَادِ الْأُخْرَى.
(٥) ظُلْمُ الْمُؤَرِّخِينَ
وَكُنْتُ شَدِيدَ الشَّوْقِ إِلَى رُؤْيَةِ النُّبَلَاءِ؛ فَطَلَبْتُ إِلَى الْحَاكِمِ أَنْ يُرِيَنِي جَمْهَرَةً مِنْهُمْ، فَفَعَلَ. وَاشْتَدَّتْ دَهْشَتِي حِينَ تَكَشَّفَ لِي مِنْ تَارِيخِ هَؤُلَاءِ النُّبَلَاءِ أَنَّ الْمُؤَرِّخِينَ رَفَعُوا رِجَالًا أَنْذَالًا أَوْ أَغْبِيَاءَ، إِلَى صُفُوفِ الْقُوَّادِ وَالْعُظَمَاءِ. وَوَصَفُوا طَائِفَةً مِنَ الْجَهَلَةِ بِالْأَلْمَعِيَّةِ وَبُعْدِ النَّظَرِ وَخُدِعُوا فِي بَعْضِ الْمُتَمَلِّقِينَ، فَسَلَكُوهُمْ فِي عِدَادِ السّرَاةِ الْمَاجِدِينَ، وَنَعَتُوا بَعْضَ الْأَشْرَارِ بِالطُّهْرِ وَالصَّلَاحِ. وَظَلَمُوا جَمْهَرَةً مِنَ الْأَخْيَارِ فَوَضَعُوهُمْ فِي صَفِّ الْخَوَنَةِ الْمَارِقِينَ. وَتَكَشَّفَتْ لِي فِئَةٌ مِنَ الْأَبْرِيَاءِ الَّذِينَ صَدَرَتْ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْقَتْلِ وَالنَّفْيِ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا، مِنْ جَرَّاءِ الدَّسَائِسِ وَالْمُؤَامَرَاتِ الَّتِي أَحْكَمَ تَدْبِيرَهَا أَعْدَاؤُهُمْ، حَتَّى خُدِعَ الْقَضَاءُ فِي أَمْرِهِمْ، وَأَنْزَلَ بِهِمْ حُكْمَهُ الْجَائِرَ؛ فَعَدَّهُمْ مُعَاصِرُوهُمْ — ظُلْمًا — فِي الْمُجْرِمِينَ وَالْأَشْرَارِ!
وَرَأَيْتُ جَمَاعَةً مِنْ سَاقِطِي الْمُرُوءَةِ الْأَدْنِيَاءِ، قَدْ رُفِعُوا إِلَى أَسْمَى مَنَاصِبِ الدَّوْلَةِ، وَوَصَلُوا إِلَى ذِرْوَةِ الْمَجْدِ، بِأَسَالِيبَ يَتَرَفَّعُ عَنْهَا كُلُّ مَاجِدٍ شَرِيفٍ سَرِيِّ النَّفْسِ!
وَثَمَّةَ أَدْرَكْتُ حَقَائِقَ كَثِيرٍ مِنَ الْحَوَادِثِ الْغَامِضَةِ الَّتِي أَدْهَشَتِ الْعَالَمَ وَحَيَّرَتِ الْمُؤَرِّخِينَ، وَبَلْبَلَتْ خَوَاطِرَهُمْ، وَتَكَشَّفَ لِي مِنْ أَسْرَارِهَا مَا لَمْ يَكُنْ يَخْطُرُ لِأَحَدٍ عَلَى بَالٍ.
وَقَدِ اعْتَرَفَ لِي قَائِدٌ مِنْ قُوَّادِ الْجُيُوشِ أَنَّهُ ظَفِرَ بِالِانْتِصَارِ — فِي إِحْدَى الْمَعَارِكِ — بِفَضْلِ خَطَئِهِ وَغَفْلَتِهِ وَعَدَمِ تَبَصُّرِهِ! وَحَدَّثَنِي قَائِدٌ آخَرُ: أَنَّهُ تَحَالَفَ عَلَى خِيَانَةِ وَطَنِهِ وَبَيْعِهِ لِأَعْدَائِهِ، وَأَنَّهُ عَرَّضَ أُسْطُولَ بِلَادِهِ غَنِيمَةً بَارِدَةً لِمَدَافِعِ الْعَدُوِّ، وَلَكِنَّ الْقَدَرَ عَاكَسَهُ، فَاضْطُرَّ جُنُودُهُ إِلَى إِطْلَاقِ مَدَافِعِهِمْ عَلَى الْعَدُوِّ، وَتَمَّ لَهُ بِذَلِكَ كَسْبُ الْمَعْرَكَةِ عَلَى الرَّغْمِ مِنْهُ، وَسُلِكَ فِي عِدَادِ الْأَبْطَالِ!
وَرَأَيْتُ كَثِيرًا مِنْ أَفْذَاذِ الزُّعَمَاءِ الَّذِينَ أَسْدَوْا أَجَلَّ الْخَدَمَاتِ لِلْعَالَمِ، وَوَهَبُوا نُفُوسَهُمْ لِلْخَيْرِ، وَقَدْ نَسِيَهُمُ التَّارِيخُ، وَعَفَّى عَلَيْهِمْ، وَأَغْفَلَ أَسْمَاءَهُمْ إِغْفَالًا.
(٦) جَزَاءُ الْإِخْلَاصِ
وَرَأَيْتُ شَيْخًا مَحْزُونًا مُشَرَّدَ الْفِكْرِ، وَإِلَى جَانِبِهِ فَتًى فِي مُقْتَبَلِ شَبَابِهِ لَا يَتَجَاوَزُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ مِنْ عُمْرِهِ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ مَصْدَرِ أَحْزَانِهِ وَمَبْعَثِ آلَامِهِ؛ فَقَصَّ عَلَيَّ قِصَّتَهُ الْمُحْزِنَةَ، قَالَ: «إِنَّ هَذَا الْفَتَى الَّذِي تَرَاهُ هُوَ وَلَدِي، وَقَدْ فَقَدْتُهُ فِي إِحْدَى الْمَعَارِكِ، وَقَضَى نَحْبَهُ وَهُوَ يُدَافِعُ عَنِ الْوَطَنِ إِلَى جَانِبِي.
وَقَدْ كُنْتُ قَائِدَ بَارِجَةٍ حَرْبِيَّةٍ كَبِيرَةٍ، وَأَبْلَيْتُ فِي مُحُارَبَةِ الْعَدُوِّ أَحْسَنَ بَلَاءٍ، حَتَّى هَزَمْتُ الْأَعْدَاءَ هَزِيمَةً مُنْكَرَةً. وَقَدْ كَلَّفَنِي ذَلِكَ الِانْتِصَارُ ثَمَنًا غَالِيًا هُوَ فَقْدِي هَذَا الْفَتَى، وَكَانَ وَحِيدِي وَسَلْوَتِي فِي الْحَيَاةِ!»
ثُمَّ بَكَى الرَّجُلُ — مُتَأَلِّمًا — وَاسْتَأْنَفَ كَلَامَهُ قَائِلًا: «وَلَمَّا وَضَعَتِ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا عُدْتُ إِلَى وَطَنِي أَلْتَمِسُ الْمُكَافَأَةَ عَلَى مَا قَدَّمْتُ لِبِلَادِي مِنْ خَيْرٍ، وَطَلَبْتُ أَنْ أُرَقَّى إِلَى مَنْصِبِ قَائِدِ الْأُسْطُولِ الْعَامِّ الَّذِي قُتِلَ فِي تِلْكَ الْمَعْرَكَةِ؛ فَلَمْ يُصْغِ أَحَدٌ إِلَى كَلَامِي، وَآثَرُوا بِذَلِكَ الْمَنْصِبِ الرَّفِيعِ — الَّذِي أَسْتَحِقُّهُ بِجَدَارَةٍ — فَتًى فِي مُقْتَبَلِ شَبَابِهِ لَا عَهْدَ لَهُ بِرُكُوبِ الْبِحَارِ، وَخَوْضِ الْمَعَارِكِ، وَرَأَوْا أَنَّ الْغِرَّ الْمَفْتُونَ الَّذِي لَا يَصْلُحُ لِشَيْءٍ فِي الْحَيَاةِ أَجْدَرُ مِنِّي بِالرِّيَاسَةِ، وَأَحَقُّ بِالْمَجْدِ. وَإِنَّمَا آثَرُوا عَلَيَّ هَذَا الْفَتَى لِأَنَّهُ ابْنُ جَارِيَةٍ مُقَرَّبَةٍ مِنَ الْإِمْبِرَاطُورِ، فَلَمَّا ضَجِرْتُ بِالْغَبْنِ، وَرَفَعْتُ ظُلَامَتِي أَطْلُبُ إِنْصَافِي، غَضِبَ عَلَيَّ أُولُو الْأَمْرِ، وَاتَّهَمُونِي بِالْإِهْمَالِ وَالتَّقْصِيرِ فِي وَاجِبِي، وَعَاقَبُونِي — عَلَى ذَلِكَ — أَشْنَعَ عِقَابٍ.
فَاعْتَزَلْتُ الْعَالَمَ — مُنْذُ ذَلِكَ الْيَوْمِ — وَقَضَيْتُ بَقِيَّةَ حَيَاتِي فِي دَسْكَرَةٍ (مزرعة) صَغِيرَةٍ، بَعِيدَةٍ عَنِ الْحَاضِرَةِ، وَآثَرْتُ هَجْرَ النَّاسِ، وَالْبُعْدَ عَنْ مَكَائِدِهِمْ وَأَحْقَادِهِمْ.»