الْفَصْلُ السَّادِسُ
(١) عَوْدَةُ «جَلِفَر»
وَحَانَ يَوْمُ الرَّحِيلِ مِنْ جَزِيرَةِ السَّحَرَةِ، فَاسْتَأْذَنْتُ الْحَاكِمَ فِي الْعَوْدَةِ مِنْ حَيْثُ أَتَيْتُ، فَأَذِنَ لِي بِذَلِكَ، فَسَافَرْتُ مَعَ رَفِيقَيَّ عَائِدَيْنِ إِلَى «مالدونادا»، وَبَقِينَا بِهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا مُتَرَقِّبِينَ مَقْدَمَ السَّفِينَةِ الْمُسَافِرَةِ إِلَى «لوجناج». حَتَّى إِذَا حَلَّ مَوْعِدُ السَّفَرِ رَكِبْتُهَا بَعْدَ أَنْ زَوَّدَنِي رَفِيقَايَ وَأَصْحَابُهُمَا بِكُلِّ مَا أَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الزَّادِ فِي تِلْكَ الرِّحْلَةِ.
وَلَبِثْنَا فِي السَّفِينَةِ شَهْرًا كَامِلًا، وَهِيَ تَمْخُرُ بِنَا عُبَابَ الْبَحْرِ، ثُمَّ هَبَّتْ عَلَيْنَا عَاصِفَةٌ هَوْجَاءُ؛ فَاضْطَرَّتْنَا إِلَى تَحْوِيلِ السَّفِينَةِ صَوْبَ الشَّمَالِ؛ لِتُسَاعِدَنَا الرِّيَاحُ التِّجَارِيَّةُ الَّتِي تَهُبُّ فِي تِلْكَ الْجِهَةِ.
وَفِي الْيَوْمِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ أبريلَ عام ١٧٠٨م دَانَيْنَا مِينَاءَ «شوجنج»، وَأَلْقَيْنَا مَرَاسِيَ سَفِينَتِنَا عَلَى بُعْدِ مِيلٍ مِنْهَا بَالْقُرْبِ مِنْ أَحَدِ أَنْهَارِهَا الْكَبِيرَةِ، وَلَبِثْنَا نَتَرَقَّبُ وُصُولَ الدَّلِيلِ. وَلَمْ يَمْضِ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ سَاعَةٍ حَتَّى قَدِمَ عَلَيْنَا دَلِيلَانِ، ثُمَّ صَعِدَا إِلَى سَفِينَتِنَا وَسَارَا بِهَا نَحْوَ الشَّاطِئِ خِلَالَ الصُّخُورِ الْخَطِرَةِ الْمُنْبَثَّةِ فِي تِلْكَ الْجِهَةِ، حَتَّى بَلَغْنَا الشَّاطِئَ آمِنِينَ.
(٢) كَاتِبُ الْمِينَاءِ
وَسَأَلَنَا الدَّلِيلَانِ: مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْنَا؟ فَأَجَابَهُمَا أَحَدُ الْبَحَّارَةِ: «إِنَّنَا قَادِمُونَ مِنْ مالدونادا.» ثُمَّ ذَكَرَ لَهُمَا أَنَّنِي سَائِحٌ أَجْنَبِيٌّ عَظِيمُ الْخَطَرِ.
وَلَقَدْ أَسَاءَ إِلَيَّ ذَلِكَ الْبَحَّارُ أَبْلَغَ إِسَاءَةٍ حِينَ أَفْضَى إِلَيْهِمَا بِأَنَّنِي غَرِيبٌ عَنْ تِلْكَ الْبِلَادِ. وَمَا أَدْرِي: أَيُّ شَيْءٍ حَفَزَهُ إِلَى أَنْ يُخْبِرَهُمَا بِذَلِكَ؟ وَلَنْ يَعْدُوَ أَمْرُهُ أَحَدَ احْتِمَالَيْنِ: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ تَعَمَّدَ خِيَانَتِي، وَقَصَدَ إِلَى إِيذَائِي، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَصِيرَ النَّظَرِ مَأْفُونَ الرَّأْيِ. وَهُوَ فِي كِلْتَا الْحَالَيْنِ مُسِيءٌ مَلُومٌ.
وَمَا عَلِمَ الدَّلِيلَانِ أَنَّنِي أَجْنَبِيٌّ عَنِ الْبِلَادِ، حَتَّى أَفْضَيَا إِلَى كَاتِبِ الْمِينَاءِ بِمَا سَمِعَاهُ مِنَ الْبَحَّارِ؛ فَصَبَرَ عَلَيَّ، حَتَّى إِذَا وَطِئَتْ قَدَمَايَ أَرْضَ الْمَدِينَةِ سَأَلَنِي عَنِ اسْمِي وَبَلَدِي؛ فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ قِصَّتِي، وَكَتَمْتُ عَنْهُ اسْمَ بَلَدِي، وَتَظَاهَرْتُ أَمَامَهُ بِأَنَّنِي رَجُلٌ هُولَنْدِيٌّ، وَزَعَمْتُ أَنَّنِي قَدِمْتُ مِنْ «هُولَنْدَا» قَاصِدًا إِلَى الْيَابَانِ.
وَإِنَّمَا اضْطُرِرْتُ إِلَى تَلْفِيقِ هَذِهِ الْقِصَّةِ لِأَنَّنِي كُنْتُ أَعْرِفُ أَنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ فِي بِلَادِهِمْ غَيْرَ الْهُولَنْدِيِّينَ!
وَقَصَصْتُ عَلَى الْكَاتِبِ أَنَّنِي كِدْتُ أُسْلَكُ فِي عِدَادِ الْغَرْقَى بِالْقُرْبِ مِنْ شَاطِئِ «بالنيارب»، وَلَكِنَّ اللهَ أَنْقَذَنِي مِنَ الْغَرَقِ، بَعْدَ أَنْ ظَفِرْتُ بِصَخْرَةٍ قَرِيبَةٍ مِنَ الشَّاطِئِ.
وَذَكَرْتُ لَهُ مَا رَأَيْتُهُ فِي الْجَزِيرَةِ الطَّيَّارَةِ مِنَ الْعَجَائِبِ، ثُمَّ خَتَمْتُ كَلَامِي ضَارِعًا إِلَيْهِ أَنْ يُسَهِّلَ لِي أَسْبَابَ السَّفَرِ إِلَى الْيَابَانِ، حَيْثُ أُبْحِرُ مِنْهَا إِلَى بِلَادِي.
(٣) أَسْرُ «جَلِفَر»
وَلَمْ أَنْتَهِ مِنْ قِصَّتِي وَضَرَاعَتِي حَتَّى فَاجَأَنِي الْكَاتِبُ بِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ إِلَى الْقَبْضِ عَلَيَّ، حَتَّى يَعْرِضَ أَمْرِي عَلَى الْمَلِكِ. وَوَعَدَنِي بِأَنْ يُسْرِعَ فِي الْكِتَابَةِ إِلَى الْبَلَاطِ مِنْ فَوْرِهِ، وَلَنْ يَتَأَخَّرَ الرَّدُّ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا.
ثُمَّ أَمَرَ الْكَاتِبُ رِجَالَهُ أَنْ يُودِعُونِي فِي غُرْفَةٍ مُنْفَرِدَةٍ، وَأَنْ يُقِيمُوا عَلَى بَابِهَا حَارِسًا يُرَاقِبُنِي حَتَّى لَا أَهْرُبَ. وَكَانَ أَمَامَ هَذِهِ الْحُجْرَةِ حَدِيقَةٌ فَسِيحَةٌ ظَللْتُ أَتَنَزَّهُ فِيهَا كُلَّمَا أَرَدْتُ، لِأُرَفِّهَ عَنْ نَفْسِي آلَامَ الْوَحْشَةِ، وَأَحْزَانَ الْغُرْبَةِ.
وَزَارَنِي كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْبِلَادِ، وَتَمَلَّكَتْهُمُ الدَّهْشَةُ إِذْ رَأَوْا أَمَامَهُمْ رَجُلًا قَادِمًا مِنْ بَلَدٍ سَحِيقٍ لَمْ يَسْمَعُوا بِاسْمِهِ طُولَ حَيَاتِهِمْ.
وَاضْطُرِرْتُ إِلَى اسْتِدْعَاءِ فَتًى مِنْ رِفَاقِي فِي السَّفِينَةِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ «لوجناج»، يُجِيدُ لُغَةَ «مالدونادا»؛ لِأَنَّهُ قَضَى فِيهَا سَنَوَاتٍ عِدَّةً، فَكَانَ خَيْرَ تَرْجُمَانٍ بَيْنِي وَبَيْنَ كُلِّ مَنْ تَفَضَّلَ عَلَيَّ بِالزِّيَارَةِ مِنْ أَهْلِ «لوجناج»، وَسَهَّلَ عَلَيَّ أَسْبَابَ التَّحَدُّثِ إِلَيْهِمْ، وَالْإِجَابَةِ عَنْ أَسْئِلَتِهِمْ.
(٤) كِتَابُ الْمَلِكِ
وَلَمَّا حَلَّ الْيَوْمُ الْخَامِسَ عَشَرَ جَاءَ كِتَابُ الْمَلِكِ يَأْمُرُ بِأَنْ أُرْسَلَ إِلَيْهِ فِي عَشَرَةٍ مِنْ فُرْسَانِهِ يَحْرُسُونَنِي حَتَّى أَمْثُلَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَاسْتَصْحَبْتُ ذَلِكَ التَّرْجُمَانَ، وَمَا زِلْنَا سَائِرِينَ حَتَّى اقْتَرَبْنَا مِنَ الْحَاضِرَةِ.
فَبَعَثَ رِفَاقِي رَسُولًا إِلَى الْمَلِكِ يَسْأَلُهُ أَنْ يَتَفَضَّلَ بِتَحْدِيدِ السَّاعَةِ الَّتِي يَأْذَنُ لِي أَنْ أَشْرُفَ بِالْمُثُولِ بَيْنَ يَدَيْهِ فِيهَا. وَظَلَّ رِفَاقِي يُدَرِّبُونَنِي عَلَى نِظَامِهِمُ الْعَجِيبِ فِي لِقَاءِ الْمَلِكِ يَوْمَيْنِ كَامِلَيْنِ، حَتَّى مَرَنْتُ عَلَى تَقَالِيدِهِمْ، وَعَرَفْتُ كَيْفَ أُقَبِّلُ سُلَّمَ عَرْشِ الْمَلِكِ الرُّخَامِيَّ، وَكَيْفَ أُقَابِلُ جَلَالَتَهُ وَأَنَا أَزْحَفُ عَلَى بَطْنِي، وَأُزِيلُ تُرَابَ الْأَرْضِ بِلِسَانِي.
وَرَأَوْا أَنْ يُسَهِّلُوا لِي أَسْبَابَ اللِّقَاءِ، وَيُهَوِّنُوهَا عَلَيَّ، لِأَنَّنِي أَجْنَبِيٌّ لَمْ أَتَعَوَّدْ أَمْثَالَ هَذِهِ التَّقَالِيدِ الشَّاذَّةِ؛ فَأَمَرُوا بِغَسْلِ الْأَرْضِ حَتَّى لَا يُضَايِقَنِي التُّرَابُ. وَقَدْ عَلِمْتُ — فِيمَا بَعْدُ — أَنَّ هَذَا عَطْفٌ نَادِرٌ خَصَّنِي بِهِ الْمَلِكُ، وَأَفْرَدَنِي بِهِ؛ فَإِنَّ سَرَاةَ الدَّوْلَةِ وَعُظَمَاءَهَا لَمْ يَظْفَرُوا بِمِثْلِ هَذَا الْعَطْفِ.
وَكَانَ مِنْ تَقَالِيدِهِمْ أَنْ يُهِيلُوا التُّرَابَ عَلَى الْأَرْضِ إِذَا قَدِمَ أَحَدُ الْأَعْدَاءِ، أَوِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ، لِيَضْطَرُّوهُ إِلَى اسْتِفَافِ التُّرَابِ.
وَقَدْ رَأَيْتُ — ذَاتَ مَرَّةٍ — عَظِيمًا مِنْ عُظَمَاءِ الدَّوْلَةِ قَدِ امْتَلَأَ فُوهُ بِالتُّرَابِ، فَمَا وَصَلَ إِلَى الْعَرْشِ حَتَّى اسْتَحَالَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْبِسَ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَقَدْ أَصْبَحَ فِي مَوْقِفٍ حَرِجٍ لَا سَبِيلَ إِلَى الْخُرُوجِ مِنْهُ؛ فَإِنَّ تَقَالِيدَهُمْ لَا تَسْمَحُ لِأَحَدٍ مِنَ الْقَادِمِينَ أَنْ يَبْصُقَ أَوْ يَمْسَحَ فَاهُ وَهُوَ مَاثِلٌ بَيْنَ يَدَيِ الْمَلِكِ، وَهِي تُنَكِّلُ بِمَن يُخَالِفُ ذَلِكَ أَشَدَّ النَّكَالِ.
(٥) مُعَاقَبَةُ الْأَشْرَافِ
وَلِهَذَا الْمَلِكِ أُسْلُوبٌ غَرِيبٌ فِي التَّنْكِيلِ بِكُلِّ مَنْ يَحِقُّ عَلَيْهِ غَضَبُهُ مِنْ أَعْيَانِ الدَّوْلَةِ وَسَرَاةِ الْمَمْلَكَةِ وَرِجَالِ الْحَاشِيَةِ، فَهُوَ إِذَا أَرَادَ إِهْلَاكَ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ لَمْ يَلْجَأْ إِلَى صَلْبِهِ أَوْ إِحْرَاقِهِ أَوْ قَتْلِهِ بِالسَّيْفِ، حَتَّى لَا يَمْتَهِنَ كَرَامَتَهُ وَشَرَفَهُ بِهَذِهِ الْقِتْلَةِ الَّتِي يَقْتُلُ بِهَا عَامَّةَ شَعْبِهِ!
بَلْ يَدَّخِرُ لِهَؤلاءِ الْأَشْرَافِ وَسِيلَةً أُخْرَى لِإِهْلَاكِهِمْ، تُمَيِّزُهُمْ مِنْ سَوَادِ الشَّعْبِ وَالدَّهْمَاءِ، فَهُوَ يَأْمُرُ أَتْبَاعَهُ أَنْ يُلْقُوا عَلَى الْأَرْضِ مَسْحُوقًا — فِي مِثْلِ لَوْنِ التُّرَابِ — مِنَ السَّمِّ الزُّعَافِ، ثُمَّ يَأْمُرُهُمْ بِاسْتِدْعَاءِ ذَلِكَ الْعَظِيمِ إِلَيْهِ، حَتَّى إِذَا مَثَلَ فِي حَضْرَتِهِ، وَاضْطَرَّتْهُ التَّقَالِيدُ إِلَى أَنْ يَسْتَفَّ التُّرَابَ — وَهُوَ مُخْتَلِطٌ بِذَلِكَ السَّمِّ الْقَاتِلِ — دَبَّ فِي عُرُوقِهِ دَبِيبُ الْهَلَاكِ، وَمَاتَ فِي خِلَالِ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ سَاعَةً، فَإِذَا تَمَّ لَهُمْ ذَلِكَ كَنَسُوا الْأَرْضَ وَغَسَلُوهَا؛ حَتَّى لَا يَتَعَرَّضَ أَحَدٌ مِنَ الْبُرَآءِ لِلْهَلَاكِ مِنْ بَعْدِهِ. وَإِذَا قَصَّرَ الْخَدَمُ فِي ذَلِكَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْعِقَابُ الصَّارِمُ.
وَلَقَدَ غَفَلَ — ذَاتَ مَرَّةٍ — أَحَدُ الْغِلْمَانِ الَّذِينَ نِيطَ بِهِمْ تَنْظِيفُ الْأَرْضِ، وَقَصَّرَ فِي غَسْلِهَا؛ فَحَدَثَ أَنَّ عَظِيمًا مِنْ عُظَمَاءِ الدَّوْلَةِ رَاحَ ضَحِيَّةَ هَذَا الْإِهْمَالِ، وَسَرَى السَّمُّ فِي جِسْمِهِ، فَغَضِبَ لِمَوْتِهِ الْمَلِكُ وَأَمَرَ بِجَلْدِ الْغُلَامِ بِالسِّيَاطِ عِقَابًا لَهُ عَلَى إِهْمَالِهِ، ثُمَّ دَفَعَتْهُ الشَّفَقَةُ وَالْحُنُوُّ — بَعْدَ ذَلِكَ — إِلَى أَنْ يَصْفَحَ عَنْهُ، وَيُعْفِيَهُ مِنَ الْجَلْدِ، وَيَكْتَفِي بِتَأْنِيبِهِ عَلَى تَقْصِيرِهِ الشَّنِيعِ.
(٦) فِي ضِيَافَةِ الْمَلِكِ
وَلَمَّا حَانَ مَوْعِدُ مُثُولِي بَيْنَ يَدَيْ جَلَالَتِهِ، وَأَصْبَحْتُ عَلَى بُعْدِ أَرْبِعِ خُطُوَاتٍ مِنَ الْعَرْشِ، جَثَوْتُ عَلَى رُكْبَتَيَّ، وَلَطَمْتُ الْأَرْضَ بِجَبْهَتِي سَبْعَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ نَطَقْتُ بِجُمْلَةٍ لُقِّنْتُهَا تَلْقِينًا — لِأَنَّنِي كُنْتُ أَجْهَلُ لُغَتَهُمْ — وَمَعْنَاهَا: «فَلْيَعِشْ جَلَالَةُ الْمَلِكِ السَّمَاوِيِّ، وَلْتُشْرِقْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ أَحَدَ عَشَرَ قَمَرًا وَنِصْفَ قَمَرٍ!»
فَرَدَّ الْمَلِكُ عَلَى تَحِيَّتِي بِكَلَامٍ لَمْ أَفْهَمْهُ، فَاسْتَأْنَفْتُ قَائِلًا — كَمَا لُقِّنْتُ — جُمْلَةً مَعْنَاهَا: «إِنَّ لِسَانِي عِنْدَ صَاحِبِي!»
فَأَدْرَكَ الْمَلِكُ أَنَّنِي عَاجِزٌ عَنِ الْكَلَامِ بِلُغَتِهِ، وَأَنَّنِي جَعَلْتُ تَرْجُمَانِي وَسِيلَةً لِلتَّفَاهُمِ بَيْنَنَا.
فَأَمَرَ بِإِحْضَارِ ذَلِكَ الْفَتَى التَّرْجُمَانِ. وَظَلَّ يَسْأَلُنِي أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ سَاعَةٍ، وَأَنَا أُجِيبُهُ بِلُغَةِ «بالنيارب» فَيَنْقُلُ التَّرْجُمَانُ كَلَامِي إِلَى لُغَةِ «لوجناج».
وَلَمْ يَنْتَهِ ذَلِكَ الْحِوَارُ حَتَّى أُعْجِبَ الْمَلِكُ بِحَدِيثِي إِعْجَابًا شَدِيدًا، وَأَمَرَ كَبِيرَ الْحَاشِيَةِ أَنْ يُعِدَّ لِي وَلِتَرْجُمَانِي مَكَانًا فِي قَصْرِهِ، وَأَنْ يُعْنَى بِأَمْرِي، وَيَمْنَحَنِي فِي كُلِّ يَوْمٍ كِيسًا مَمْلُوءًا بِالذَّهَبِ؛ لِأُنْفِقَ مِنْهُ كَمَا أَشَاءُ وَفْقَ مَا يَحْلُو لِي.
وَبَقِيتُ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَقَدْ غَمَرَنِي الْمَلِكُ بِعَطْفِهِ، وَلَمْ يَأْلُ جُهْدًا فِي إِرْضَائِي وَالتَّحَبُّبِ إِلَيَّ؛ رَغْبَةً مِنْهُ فِي أَنْ يَسْتَبْقِيَنِي عِنْدَهُ طُولَ حَيَاتِي.
وَلَكِنَّنِي لَمْ أَسْتَطِعِ الْبَقَاءَ طَوِيلًا؛ فَقَدْ لَجَّ بِيَ الشَّوْقُ إِلَى رُؤْيَةِ بَلَدِي وَقَضَاءِ بَقِيَّةِ أَيَّامِ حَيَاتِي بَيْنَ زَوْجَتِي وَأَوْلَادِي.