الْفَصْلُ الثَّامِنُ
(١) هَدَايَا مَلِكِ «لوجناج»
لَعَلَّ الْقَارِئَ قَدْ دَهِشَ مِمَّا سَمِعَهُ مِنْ حَدِيثِ الْمُخَلَّدِينَ. وَمَا أَظُنُّهُ قَدْ سَئِمَ هَذَا الْحَدِيثَ الطَّوِيلَ، أَوِ ارْتَابَ فِي صِدْقِهِ؛ فَإِنَّ فِي قُدْرَةِ أَيِّ سَائِحٍ أَنْ يَذْهَبَ مِنْ «الْيَابَانِ» إِلَى «لوجناج» وَيَتَحَقَّقَ — بِنَفْسِهِ — صِدْقَ مَا رَوَيْتُهُ لَهُ.
وَلَقَدْ سَافَرْتُ مِنْ «لوجناج» إِلَى «الْيَابَانِ»، وَحَاوَلْتُ أَنْ أَتَعَرَّفَ رَأْيَ الْيَابَانِيِّينَ فِي أُولَئِكَ الْخَالِدِينَ، وَلَكِنَّ جَهْلِي تِلْكَ اللُّغَةِ وَقِصَرَ الْوَقْتِ الَّذِي قَضَيْتُهُ فِي بِلَادِ «الْيَابَانِ» حَالَا دُونَ تَعَرُّفِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
وَأَكْبَرُ الظَّنِّ أَنَّ كُتَّابَ «الْيَابَانِ» لَمْ يُغْفِلُوا الْإِشَارَةَ — فِي مُؤَلَّفَاتِهِمْ وَأَسْفَارِهِمْ — إِلَى تِلْكَ الْفِئَةِ؛ فَإِنَّهُمْ — فِيمَا أَعْرِفُ — أَهْلُ تَحْقِيقٍ وَجِدٍّ وَفَهْمٍ.
وَلَقَدْ أَلَحَّ عَلَيَّ مَلِكُ «لوجناج» أَنْ أَبْقَى فِي بِلَادِهِ، وَعَرَضَ عَلَيَّ مَنْصِبًا عَالِيًا فِي بَلَاطِهِ؛ فَاعْتَذَرْتُ مِنْ عَدَمِ قَبُولِهِ. وَلَمَّا رَأَى إِصْرَارِي عَلَى الْعَوْدَةِ إِلَى بِلَادِي أَذِنَ لِي فِي السَّفَرِ، بَعْدَ أَنْ أَهْدَى إِلَيَّ مِنْ قِطَعِ الذَّهَبِ أَرْبعًا وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعَمِائَةٍ، كَمَا أَهْدَى إِلَيَّ قِطْعَةً كَبِيرَةً حَمْرَاءَ مِنَ الْمَاسِ، وَقَدْ بِعْتُهَا حِينَ عُدْتُ إِلَى «إِنْجِلْتِرَا» بِمِائَةٍ وَأَلْفٍ مِنَ الْجُنَيْهَاتِ، وَتَفَضَّلَ جَلَالَتُهُ فَكَتَبَ بِخَطِّهِ إِلَى إِمْبِرَاطُورِ «الْيَابَانِ» كِتَابًا يُوصِيهِ بِي. وَكَانَ هَذَا الْكِتَابُ أَثْمَنَ مِنْ كُلِّ مَا أَعْطَانِيهِ مِنَ الْهَدَايَا وَالطُّرَفِ؛ لِأَنَّهُ يَسَّرَ لِي سَبِيلَ الْعَوْدَةِ إِلَى بِلَادِي.
(٢) فِي بِلَادِ «اليابان»
وَفِي الْيَوْمِ السَّادِسِ مِنْ يُونْيُو عام ١٧٠٩م مَثَلْتُ بَيْنَ يَدَيْ مَلِكِ «لوجناج» — فِي احْتِرَامٍ وَأَدَبٍ — وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي السَّفَرِ إِلَى بِلَادِي؛ فَأَذِنَ لِي — وَهُوَ يَأْسَفُ عَلَى فِرَاقِي — ثُمَّ وَدَّعْتُ أَصْدِقَائِي الَّذِينَ عَرَفْتُهُمْ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ.
وَأَمَرَ جَلَالَةُ الْمَلِكِ أَنْ يَكُونَ وَدَاعِي رَسْمِيًّا بِاحْتِفَالٍ رَائِعٍ؛ فَأَحَاطَتْ بِي جَمْهَرَةٌ مِنْ حَرَسِ جَلَالَتِهِ حَتَّى الْمِينَاءِ الْوَاقِعَةِ فِي الْجَنُوبِ الْغَرْبِيِّ مِنْ تِلْكَ الْجَزِيرَةِ.
ثُمَّ أَبْحَرَتْ بِنَا السَّفِينَةُ — بَعْدَ سِتَّةِ أَيَّامٍ — إِلَى «اليابان».
وَمَا زَالَتْ سَائِرَةً بِنَا — وَهِيَ تَمْخُرُ عُبَابَ الْبَحْرِ — حَتَّى بَلَغْنَا «اليابانَ» بَعْد نَيِّفٍ وَخَمْسِينَ يَوْمًا.
وَلَمَّا وَصَلْتُ إِلَى الْمِينَاءِ أَخْرَجْتُ كِتَابَ مَلِكِ «لوجناج». وَلَمْ يَرَهُ ضُبَّاطُ الْمِينَاءِ حَتَّى أَحْسَنُوا لِقَائِي، وَعَامَلُونِي كَمَا يُعَامِلُونَ الْوُزَرَاءَ وَالْأُمَرَاءَ، وَأَعَدُّوا لِي مَرْكَبَةً أَقَلَّتْنِي إِلَى الْقَصْرِ الْإِمْبِرَاطُورِي، حَيْثُ شَرُفْتُ بِالْمُثُولِ بَيْنَ يَدَيِ الْإِمْبِرَاطُورِ، وَرَفَعْتُ إِلَيْهِ كِتَابَ مَلِكِ «لوجناج»؛ فَرَحَّبَ بِي، وَأَكْرَمَنِي أَحْسَنَ إِكْرَامٍ، ثُمَّ أَمَرَ تَرْجُمَانَهُ أَنْ يَسْأَلَنِي عَمَّا أَطْلُبُهُ، فَقُلْتُ لَهُ: لَيْسَ لِي أُمْنِيَّةٌ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ يَتَفَضَّلَ جَلَالَتُهُ، فَيَأْمُرَ بَعْضَ أَتْبَاعِهِ أَنْ يُسَهِّلُوا لِي أَسْبَابَ الْعَوْدَةِ إِلَى بِلَادِي.
ثُمَّ ذَكَرْتُ لَهُ أَنَّنِي تَاجِرٌ هولنديٌّ، أَشْرَفْتُ عَلَى الْغَرَقِ، وَلَقِيتُ الْأَهْوَالَ حَتَّى وَصَلْتُ إِلَى «لوجناج». ثُمَّ أَبْحَرْتُ مِنْهَا إِلَى «اليابانِ». وَلَمْ أَكُنْ أَجْهَلُ أَنَّ الهولنديِّينَ يَتَّجِرُونَ مَعَ اليابانيِّينَ، وَأَنَّ السُّفُنَ التِّجَارِيَّةَ لَا يَكَادُ يَنْقَطِعُ سَيْرُهَا بَيْنَ الْمَمْلَكَتَيْنِ.
(٣) الْعَوْدَةُ إِلَى الْوَطَنِ
فَلَمْ يُخَيِّبْ جَلَالَةُ الْإِمْبِرَاطُورِ رَجَائِي، وَأَمَرَ بَعْضَ ضُبَّاطِهِ أَنْ يُسَهِّلَ لِي أَسْبَابَ السَّفَرِ، وَيُوصِيَ بِي رُبَّانَ السَّفِينَةِ.
وَلَمَّا جَاءَ الْيَوْمُ التَّاسِعُ مِنْ شَهْرِ يونيو عام ١٧٠٩م وَصَلْتُ إِلَى «ناجازاكي» — بَعْدَ سَفَرٍ شَاقٍّ مُتْعِبٍ — فَلَقِيتُ جَمَاعَةً مِنَ الهُولنديِّينَ عَلَى أُهْبَةِ السَّفَرِ إِلَى «أَمِسْتِرْدَامَ» حَيْثُ يَعُودُونَ إِلَى أَوْطَانِهِمْ، فَصَحِبْتُهُمْ — فِي سَفَرِهِمْ — بَعْدَ أَنْ أَوْهَمْتُهُمْ أَنَّنِي هُولَنْدِيٌّ مِثْلُهُمْ، وَكَتَمْتُ عَنْهُمْ حَقِيقَةَ أَمْرِي.
وَأَرَدْتُ أَنْ أُعْطِيَ رُبَّانَ السَّفِينَةِ أَجْرَ السَّفَرِ، وَلَكِنَّهُ — حِينَ عَلِمَ أَنَّنِي طَبِيبٌ جَرَّاحٌ — اكْتَفَى بِنِصْفِ الْأَجْرِ، عَلَى أَنْ أُطَبِّبَ الْمَرْضَى فِي أَثْنَاءِ الرِّحْلَةِ. وَمَا زَالَتِ السَّفِينَةُ تَمْخُرُ بِنَا عُبَابَ الْبَحْرِ، حَتَّى بَلَغْنَا رَأْسَ الرَّجَاءِ الصَّالِحِ؛ فَتَزَوَّدْنَا مِنَ الْمَاَءِ، ثُمَّ اسْتَأْنَفْنَا الْمَسِيرَ.
وَفِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ مِنْ أبريلَ عام ١٧١٠م بَلَغْنَا «أَمِسْتِرْدَامَ»، وَقَدْ مَاتَ مِنْ رِفَاقِنَا — فِي أَثْنَاءِ تِلْكَ الرِّحْلَةِ الْمُضْنِيَةِ الطَّوِيلَةِ — ثَلَاثَةُ رِجَالٍ، بَعْدَ أَنْ أَلَحَّ عَلَيْهِمُ السُّقْمُ وَالْمَرَضُ، وَهَوَى رَابِعٌ مِنْ أَعْلَى السَّارِيَةِ بِالْقُرْبِ مِنْ شَوَاطِئِ «غَانَا»، فَفَاضَتْ رُوحُهُ، وَابْتَلَعَتْهُ الْأَمْوَاجُ؛ فَلَمْ نَعْثُرْ لَهُ عَلَى أَثَرٍ.
وَلَمَّا بَلَغْتُ «أَمِسْتِرْدَامَ» أَبْحَرْتُ — مِنْ فَوْرِي — إِلَى «إِنْجِلْتِرَا» عَلَى سَفِينَةٍ صَغِيرَةٍ؛ فَوَصَلْتُ إِلَى «دون» فِي الْيَوْمِ السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ شَهْرِ أبريل. ثُمَّ ذَهَبْتُ إِلَى بَيْتِي فِي الْيَوْمِ التَّالِي، فَلَقِيَتْنِي زَوْجِي وَوَلَدَايَ وَقَدْ تَمَلَّكَهُمُ السُّرُورُ وَالْفَرَحُ بِعَوْدَتِي سَالِمًا، بَعْدَ أَنْ غِبْتُ عَنْهُمْ عَامًا وَنِصْفَ عَامٍ.