كيف نعرف أن أينشتاين كان على صواب؟
اكتشاف أينشتاين أن الكتلة والطاقة قابلتان للتحول فيما بينهما كان مُستمَدًّا من نظريته الخاصة للنسبية، التي نُشرت عام ١٩٠٥. وتُعَد النظرية «خاصة» بمعنى أنها حالة خاصة لأنها لا تتعامل إلا مع سلوك الأشياء التي تتحرك في خطوط مستقيمة بسرعة ثابتة (أي بسرعة متجهة ثابتة) بعضها بالنسبة إلى بعض. غير أن معادلة أينشتاين الشهيرة لا تظهر في تلك الورقة البحثية بالفعل، لأنه لم يُدرك هذا المعنى الضمني لنظريته إلا بعدما أرسل تلك الورقة لتُنشر. لذا ظهرت المعادلة أولًا، بصيغة مختلفة قليلًا، في ورقة بحثية أخرى نُشرت لاحقًا في العام نفسه، وهي بمثابة حاشية، أو خاتمة، للورقة الأولى. وقد وصف أينشتاين كيف خطرت الفكرة بباله في رسالة إلى صديقه كونراد هابيشت بتاريخ سبتمبر ١٩٠٥:
خطرت ببالي أيضًا نتيجة أخرى لورقة الديناميكا الكهربائية. وهي أن مبدأ النسبية، ومعادلات ماكسويل [المعنية بالظاهرة الكهرومغناطيسية]، يستلزمان أن تكون الكتلة مقياسًا مباشرًا للطاقة الكامنة في الجسم. فالضوء يحمل كتلة معه. وفي حالة الراديوم، يُفترض أن تشهد الكتلة انخفاضًا ملحوظًا. الفكرة مسلية ومغرية.
وعلى حد تعبيره في الورقة المنشورة، «كتلة الجسم مقياس للطاقة التي يحويها».
والعكس أيضًا صحيح. فالشمس تبقى ساخنة بتحويل الكتلة إلى أشكال أخرى من الطاقة، ولكن يُمكن تحويل أشكال أخرى من الطاقة إلى كتلة. فإذا ركلت كرة ما، فستجد أن معظم الطاقة الزائدة يُخصص لزيادة سرعة الكرة، ولكن ثمة قدرًا ضئيلًا يُخصص لزيادة كتلتها قليلًا. وفي حالة الأشياء التي تتحرك بوتيرة أبطأ بكثير من سرعة الضوء، تكون الزيادة في الكتلة أصغر بكثير من أن نلاحظها. ولكن إذا كان أينشتاين محقًّا، فسنجد أن ميزان توزيع الطاقة يتغير في حالة الأجسام التي تتحرك بسرعة مكافئة لجزء كبير من سرعة الضوء. ومن ثم، إذا ركلت جسمًا كهذا، فستجد أن كمية كبيرة من الطاقة الزائدة تُخصص لزيادة كتلته، بينما ستُخصص نسبةٌ أقل لزيادة سرعته؛ ولذا فلن يتسارع إلا بمقدار ضئيل. كل هذا نشأ من النظرية الخاصة.
عادةً ما يستحيل رؤية الضوء القادم من نجم بعيد عند مروره قُرب حافة الشمس، أو تصويره، وذلك بسبب وهج الشمس نفسها. ولكن أثناء كسوف الشمس، أي عندما يحجب القمر ضوء الشمس، تصبح النجوم التي تبدو قريبةً من الشمس في السماء (لكنها بالطبع تكون بعيدة جدًّا عنها في الواقع) مرئيةً ويمكن تصويرها. ومن حسن الحظ الشديد، حدث كسوف شمسي في مايو ١٩١٩، ولم يَكُن لدى البريطانيين آنذاك بعد نهاية القتال أثناء الحرب العالمية الأولى سوى وقتٍ كافٍ بالكاد لينظموا بعثتَين لرصد الكسوف: إحداهما من البرازيل والأخرى من جزيرة برينسيبي، قبالة ساحل أفريقيا الغربي شمال خط الاستواء مباشرة. ثم أمكَن بعدئذٍ مقارنة الصور الفوتوغرافية لنمط النجوم حول موقع الشمس في السماء بصورٍ سابقة التُقطَت للنجوم في الرُّقعة نفسها من السماء في الموسم المعاكس (في شهر نوفمبر تقريبًا)، عندما كانت الشمس في الجانب المعاكس من الأرض؛ لذا كانت هذه النجوم في سماء الليل آنذاك. أظهرت المقارنة أن النجوم الأقرب إلى الشمس بدَت مُزاحةً قليلًا إلى الجانب وقت الكسوف؛ بسبب تأثير انحناء الضوء. وكان مقدار التأثير مشابهًا لِمَا توقعَته تنبؤات النظرية العامة، وليس تنبؤات نظرية نيوتن. أُعلنَت النتائج في اجتماع مشترك نُظِّم خصيصى بين الجمعية الملكية والجمعية الفلكية الملكية في لندن في نوفمبر ١٩١٩، وتصدرت العناوين الرئيسية في كل أنحاء العالم. ومن هنا بدأ أينشتاين يُعَد أشهر عالِم في العالَم.
أكد مايكل جلادرز، أحد أعضاء فريق شيكاغو، أن «ما يحدث هنا هو أحد تجليات النسبية العامة [قيلت هكذا]؛ فبدلًا من رؤية الصورة العادية الخافتة لهذا المصدر البعيد، ترى صورًا مشوهة جدًّا ومُكبرة جدًّا للمصدر، ومتعددة أحيانًا كما في هذه الحالة، بسبب الكتلة ذات الجاذبية المتداخلة بيننا وبينه».
وباستخدام برنامج كمبيوتر «ألغى» التشوهات الناتجة من تأثير عدسة الجاذبية — ويقوم على فهم نظرية أينشتاين — أنشأ الفريق صورة للمجرة تُظهرها كيفما كانت ستبدو لو كان لدينا تلسكوب قوي بما يكفي لنراها مباشرة. وقد كشف ذلك عن مناطق تشهد (أو كانت تشهد) ولادة نجوم جديدة، إذ ظهرت في شكل نقاط ضوئية ساطعة. وتتجلى هذه المناطق بسطوعٍ أشد من أيٍّ من مناطق تكوُّن النجوم في مجرتنا درب التبانة، ما يُحسِّن فهم علماء الفيزياء الفلكية لكيفية تكوُّن النجوم والمجرات. غير أن عدسة الجاذبية لا تقدم دليلًا على صحة نظرية أينشتاين فقط؛ بل صارت أداة معتادة لدى علماء الفلك الموقنين تمامًا بصحة معادلات أينشتاين بقدر يقين المرء من أن الشمس ستشرق كل يوم.
لذا فإنَّ أينشتاين أو (نظرية أينشتاين) على صواب بلا ريب. ولكن يوجد دليل أخير جميل يؤكد صحة أشهر معادلة في العلوم تأكيدًا مباشرًا. فالفيزيائيون يستطيعون بالفعل قياس مقدار الكتلة المكافئ لكمية معينة من الطاقة.
وقد اكتسبوا هذه القدرة من آلات ابتُكرت في ثلاثينيات القرن العشرين لفحص بنية المادة؛ وهي «مُسرِّعات الجسيمات» النموذجية الأصلية. فالنظرية (الخاصة أو العامة) للنسبية تصف سلوك الأشياء التي يتحرك بعضها بالنسبة إلى بعض؛ ومن هنا جاءت تسميتها. وفي المثال الذي أريد استخدامه هنا، يعني هذا أننا يحق لنا أن نعتبر أنفسنا ثابتين (أي «في إطار مرجعي ثابت» أو «في حالة سكون»، بمصطلحات الفيزيائيين) ونستخدم معادلات أينشتاين لوصف سلوك جسيمات سريعة الحركة في المختبرات هنا على كوكب الأرض. ومن أمثلة هذه الجسيمات السريعة الحركة الإلكتروناتُ والبروتونات، التي تحمل شحنة كهربائية؛ لذا يُمكن التلاعب بها باستخدام مجالات كهربائية ومغناطيسية، ومن أمثلة هذه المختبرات مختبر فيرمي لاب في شيكاغو، والمنظمة الأوروبية للأبحاث النووية (سيرن) في جنيف.
كانت أولى مُسرعات الجسيمات عبارة عن أنابيب مستقيمة تحوي داخلها فراغًا، حيث كانت الجسيمات تُسرَّع بطولِ هذا الفراغ. وكانت الجسيمات السريعة الحركة توجَّه آنذاك نحو أهداف مصنوعة من مواد مختلفة، فتُطلِق تفاعلات تكشف عن تفاصيل بنية النوى الذرية. وكلما كان الجسم أسرع كان ذلك أفضل في هذه الحالة، لأن الجسيمات الأسرع تحمل طاقة أكبر وتُحدث تأثيرًا أكبر في الأهداف التي تصطدم بها. لكن هذه المسرعات الطولية كانت مشوبة بعيبٍ قاتل لأن سرعة الجسيمات كانت محدودة بطول الأنبوب الذي كانت تُدفَع بطوله بفعلِ مجالاتٍ كهرومغناطيسية. وللتغلب على هذه المشكلة، اخترع إرنست لورانس، الذي كان يعمل في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، في بداية ثلاثينيات القرن الماضي نوعًا جديدًا من مسرعات الجسيمات صار يُعرف باسم السيكلوترون (أو المسرع الدوراني). وكما يوحي الاسم، يُسرع السيكلوترون الجسيمات المشحونة حول مسار منحنٍ؛ ليس دائريًّا بالضبط، لكنه خارجٌ من مركز غرفة فراغ أسطوانية مسطحة، فتتبع الجسيمات مسارًا حلزونيًّا إلى أن تخرج في شكل حزمةٍ قوية من نقطةٍ قُرب الحافة الخارجية للغرفة. تبقى الجسيمات في هذا المسار الحلزوني بفعل مجال مغناطيسي ثابت، وتُسرع بمجال كهربائي متغير يُضبَط ليمنحها دفعة واحدة كلما أكملت لفة. وهذا يُتيح تسريع الجسيمات إلى طاقات أعلى ممَّا يُحققها المسرع الطولي لأنها تلف عدة مرات.
يُعرَف المعدل الذي يلف به الجسيم (دائرًا في مجال مغناطيسي عمودي عليه)، ويتلقى به كل دَفعة، باسم تردُّد السيكلوترون؛ وهو يعتمد على شحنة الجسيم وكتلته وقوة المجال المغناطيسي. ومن المدهش نوعًا ما أن تردُّد دوران كتلةٍ معينة من الجسيمات يبقى ثابتًا أثناء دورانها في مدار حلزوني ممتد إلى الخارج، لأن الجسيمات تتحرك بسرعة أكبر لمسافة أطول حول دائرة أوسع. لذا فإن تردد الدَّفعة التي يمنحها المجال الكهربائي يبقى ثابتًا ويستمر الشعاع في التسارع. لكن هذا يحدُّ من السرعة التي يمكن أن تصل إليها الجسيمات. فحالما تتحرك بسرعة تكافئ جزءًا كبيرًا من سرعة الضوء، فإنَّ الطاقة الزائدة التي تتلقاها من كل دَفعة من المجال الكهربائي لا تُستهلك في زيادة سرعتها هكذا ببساطة، بل تُضخم كتلتها. لكن تردد السيكلوترون يعتمد على الكتلة؛ لذا تُصبح الجسيمات غير متماشية مع المجال الكهربائي المتغير. وهذا مؤسف لأن السرعة عندئذٍ تصير غيرَ قابلة للزيادة، لكن الكتلة الزائدة مقياس لمقدار الطاقة الإضافية التي تحملها الجسيمات؛ لذا فحتى لو لم تزدَد السرعة كثيرًا، تُحدث الجسيمات تأثيرًا أقوى عند اصطدامها بالهدف، وهذا هو ما يريده المُجرِّبون. أو بالأحرى ستُحدث تأثيرًا أقوى، بشرط أن توجد طريقة لمواصلة تسريعها مع ازدياد كتلتها. وقد كانت هذه هي الحيلة التالية التي توصل إليها المُجرِّبون.