لماذا الرجال أكبر حجمًا من النساء؟
مَن يريد تحديد ما إذا كان البشر نسلًا مُعدَّلًا من شكلٍ معين كان موجودًا قبلهم، فمن المفترض أن يسأل أولًا عمَّا إذا كانوا متفاوتين، ولو قليلًا، في البنية الجسدية والقدرات العقلية؛ وإذا كانوا كذلك بالفعل؛ فينبغي أن يسأل عمَّا إذا كانت تلك الفروق تنتقل إلى نسلهم وفق القوانين السائدة لدى الحيوانات الأدنى رتبةً أم لا. أكرر مرة أخرى، هل نستطيع أن نجزم، على حد معرفتنا، بأن التفاوتات ناتجة من الأسباب العامة نفسها لدى كائنات حية أخرى، ومحكومة بالقوانين العامة نفسها التي تنطبق على تلك الكائنات؟
الإجابة عن كل ذلك هي «نعم» بالطبع. فكما هي الحال لدى كائنات أخرى، يختلف نسل البشر قليلًا عن آبائهم، ما يُنشئ مجموعة متنوعة من الأفراد. وإذا كان الأفراد لديهم خصائص معينة تجعلهم أنجح، بمعنى أنها تجعلهم يتركون نسلًا أكثر عددًا بدورهم، فإنَّ هذه الخصائص ستنتشر بين المجتمع وتصبح شائعة على مر ملايين السنين. هذا هو المقصود بالانتقاء الطبيعي. وهي عملية بطيئة تستغرق زمنًا طويلًا. أي إنَّ الآلاف القليلة التي انقضت من السنين منذ إقامة الحضارة البشرية لم تكن كافيةً لإحداث تغيير ملحوظ في آثار تلك العملية، وكلنا نحمل خصائص تطورت هكذا وكانت نافعة لأسلافنا. لذا فلا بد أن الرجال أكبر حجمًا من النساء لأن هذه كانت «استراتيجية» تطورية نافعة لأسلافنا، حتى وإن لم تكن مهمة جدًّا في المجتمع الحديث.
مع أننا لسنا متيقنين تمامًا من الكيفية التي بدأ بها التكاثر الجنسي، كما ألمحتُ سابقًا، فإنه أدى إلى استراتيجيات تطورية مختلفة لدى الذكور والإناث، ما أسفر عن منافسة بين الجنسَين تشكل جزءًا من المنافسة التطورية بين الأفراد في أي نوع.
وهذا جدير بالتوضيح؛ لأنه من السهل أن يختلط علينا الأمر فلا نعرف بالضبط أيُّ الأفراد هُم المشاركون في المنافسة التي تُعد جزءًا أساسيًّا من التطور بفعل الانتقاء الطبيعي. عادة ما يُضرَب المثل هنا بأسود تطارد غزلانًا لتأكلها. ربما تظن للوهلة الأولى أن الأسد الساعي إلى الأكل ينافس الغزال الساعي إلى الهرب. لكن المسألة أكثر تعقيدًا من ذلك بقليل. فالأسد سيصطاد أبطأ غزال؛ لذا فإنَّ ما يهم الغزال في الحقيقة ليس أن يركض أسرع من الأسد، بل أن يكون أسرع من أبطأ غزال راكض في القطيع. أي أن الغزلان يتنافس بعضها ضد بعض على ألَّا تكون بطيئة. وبذلك ففي الأجيال المتعاقبة، سيكون البقاء من نصيب الغزلان الأسرع، ولأنها تعيش لتورِّث حمضها النووي إلى نسلها، سيصبح مجتمع الغزلان في المجمل أسرع مع تعاقب الأجيال واحدًا تلو الآخر. وبالمثل، فالأسود التي تتكيف تكيفًا أفضل مع اصطياد الغزلان وأكلها بسرعة وبمخالب حادة وأسنان قوية ستكون هي الأنجح في جلب الطعام إلى جماعتها، وإطعام نسلها، وبذلك ضمان بقاء حمضها النووي.
وهذه نقطة أخرى مثيرة للاهتمام. فاللبؤة هي التي تصطاد وتجلب الطعام إلى جماعتها. لكن الأسد الذكر أكبر حجمًا بكثير، مع أنه يقعد متكاسلًا أغلب الوقت. فكيف يساعد ذلك في ضمان توريث حمضه النووي؟ مع مَن يتنافس؟ يتنافس مع غيره من الذكور التي تريد أن تحل محله وتستولي على جماعته من الإناث. وهو ما يعطينا أول تلميح عن السبب الذي جعل الرجال أكبر حجمًا من النساء؛ ولكن قبل أن أخوض في تفاصيل ذلك، يجب أن أوضح المزيد عن آلية عمل التطور.
ثمة استراتيجيتان متطرفتان متناقضتان تمامًا تعززان فُرص توريث نُسَخ من الحمض النووي للفرد إلى الأجيال المتعاقبة. الأولى هي إطلاق عدد هائل من نُسخ مادتك الوراثية على أمل أن يظل القليل منها باقيًا. وهذا ما يُسمى «نموذج الدَّرْدار والمحار» لأن كلًّا من هذين النوعين يمارسانه. فإذا نظرت إلى تكاثر الشتلات التي تنمو تحت ظُلَّة من فروع إحدى أشجار الدَّرْدار، فسترى هذه الاستراتيجية أثناء سريانها؛ صحيح أن الكثيرين منا لم يشاهدوا يرقات محار بالفعل، لكنها هي الأخرى بالغة الصغر وتُنتَج بغزارة مماثلة. تتضح لك الغزارة المُفرطة الكامنة في هذه الاستراتيجية عندما تتوقف لحظة لتُذكِّر نفسك بأن عدد أشجار الدردار في الغابة سيظل كما هو إذا بقيت شتلةٌ واحدة فقط من الشتلات العديدة التي تنتجها كل شجرة طَوال حياتها لتنمو وتصبح شجرةً ناضجة. ومن ثم، تنشأ هنا منافسة ضارية، وتُتاح فرص كثيرة لتأخذ عملية التطور بالانتقاء الطبيعي مجراها. أكرر مرة أخرى أن المنافسة تكون بين أفراد من النوع ذاته، وأن الأفراد الأكثر مواءمة لبيئتهم (الأكثر مواءمة كأنهم قطعةٌ ملائمة لأحجيةٍ ما) تنتقيهم الطبيعة ليبقوا ويتكاثروا بدورهم.
أمَّا على النقيض، فتوجد الاستراتيجية التي أُحب أن أسميها «كل بيضك في سلة واحدة»، لأنها حرفيًّا هي الطريقة التي تستخدمها الطيور التي تضع بيضها في أعشاش. تقوم هذه الاستراتيجية على إنتاج عدد قليل جدًّا من النسل في المرة الواحدة، لكنهم يحظَون بحماية ورعاية متقنة إلى أن يصيروا قادرين على الاعتناء بأنفسهم. يتجلى هذا بوضوح شديد في سلوك العديد من الطيور، والشيء الأشد لفتًا للانتباه أن هذا، في معظم الحالات، يتطلب قدرًا هائلًا من الجهد لدرجةٍ تستلزم مشاركة الوالدين كليهما لضمان بقاء أفراخهما على قيد الحياة. وعلى عكس نموذج «الدَّرْدار والمحار» الذي لم يكن الوالد يفعل فيه شيئًا على الإطلاق لمساعدة النسل، فإنه في استراتيجية «كل البيض في سلة واحدة» يبذل الوالدان جهدًا، إلى حد الإنهاك في كثيرٍ من الأحيان، لتنشئة أفراخهما الصغيرة. ونحن جميعًا على دراية كافية بدورة حياة الطيور لذا فلا داعيَ إلى الإسهاب في هذه النقطة. لكن ثمة نتيجة واحدة مثيرة للاهتمام ربما تكون متعلقة بمسألتنا (البشرية). ففي الحالات التي يتشارك الوالدان العمل هكذا، غالبًا ما يكون الفرق الظاهري بين الوالدين الذكر والأنثى طفيفًا جدًّا. وعادة ما يُضرب المثل هنا بالبجعات؛ إذ تضع بضع بيضات فقط كل عام، بمعدل بيضة واحدة في كل مرة، ويتشارك كلا الوالدين واجبات تنشئة الصغار، ومع أن الذكر أكبر حجمًا بقليل من الأنثى، يَصعُب التفرقة بينهما بنظرة سريعة.
صحيح أن الاختلافات بين الجنسين تبدو واضحةً في أنواع أخرى من الطيور. فذكر الطاووس مثلًا، بذيله الكبير الملون، لا يمكن الخلط بينه وبين أنثى الطاووس. لكن هذه الاختلافات غالبًا ما تكون نتيجة المنافسة بين الذكور لاجتذاب زوجة. فمن الواضح أن إناث الطواويس تنجذب بالفعل إلى الذكور ذات الذيل الملون الكبير، ومع أن لا أحد يعرف كيف بدأ هذا، فمن الواضح أن تفضيل الإناث للذيول الأكبر جعل الذكور ذوي الذيول الأكبر يورثون حمضهم النووي إلى الأجيال القادمة، وبذلك يتزايد طول ذيولهم بمرور الوقت حتى تصبح عائقًا يمنع الذكور من البقاء على قيد الحياة. لكن هذا النوع من الانتقاء الجنسي مسألة أخرى.
وإجمالًا، لا تختلف استراتيجية «البيض في سلة واحدة» في جوهرها عن نموذج «الدَّردار والمحار». ففي هذه الاستراتيجية أيضًا سيبقى عدد أفراد النوع، وليكُن البجع مثلًا، ثابتًا إذا أنتج كل زوجَين من البجع طَوال حياتهما فردَين فقط يبقيان حتى سن البلوغ. كما أنها أيضًا تشهد «هَدرَ» كميات هائلة من الأفراد، وبقاء قلة قليلة من الأفراد المتكيفين جيدًا. وهذا يمنحك شيئًا جديرًا بأن تتأمله في المرة القادمة التي ترى فيها بطةً أمًّا تسبح عبر بركةٍ وخلفها طابور من صغارها. وهو أنه من المرجح ألَّا يبقى أيٌّ منها على قيد الحياة حتى سن البلوغ.
لكن استراتيجيات التكاثر لا تقتصر على هذه الأمثلة المتطرفة. بل توجد أنواع عديدة من الكائنات تمارس استراتيجياتٍ مختلطة من أنواع مختلفة؛ إذ تتضمن تقديم بعض الرعاية من الوالدين ولكن بقدرٍ أقل بكثير من تلك التي يقدمها زوجان من البجع مثلًا. إذ يجب الوصول إلى توازن بين إنتاج الكثير من النسل، لتضمن «انتشار» العديد من نسخ حمضك النووي، والقدرة على رعاية النسل فترة كافية ليحظَوا بفرصة ليبقوا على قيد الحياة، والأهم من ذلك، أن يتكاثروا بدورهم. وهذا يؤثر مباشرة في فهمنا للأسباب التي تجعل الذكور أكبر حجمًا من الإناث في بعض الأنواع الثديية، بينما تجعل الإناث أكبر حجمًا من الذكور في أنواع أخرى.
تُعد الثدييات بالأخص مهمةً هنا لأن الاستراتيجيتين المناسبتين للذكور والإناث كي ينجحا في البقاء عبر عملية التطور تتجسدان أساسًا في المثالَين المتطرفَين اللذين أوضحتهما للتو. فالأنثى ليس لديها خيار سوى إنتاج عدد صغير نسبيًّا من النسل ورعايتهم فترةً زمنية معينة قد تطول أو تقصُر. أمَّا الذكر، فيستطيع من حيث المبدأ أن يُلقِّح أعدادًا كبيرة من الإناث ولا يهتم بمصير النسل. غير أن المشكلة التي تواجه الذكر أنه، إذا لم يُسهم في رعاية نسله، فقد لا يبقون على قيد الحياة. يتجلَّى هنا في الخصائص البيولوجية البشرية مثال صارخ لهذا الاختلاف؛ لأن البشر حديثي الولادة يبقون عاجزين تمامًا فترة طويلة جدًّا (يكمن سبب ذلك في قصة تطورية أخرى شائقة مرتبطة بحجم دماغنا الكبير، لكنها لا تقع في نطاق هذه الإجابة). ومِن ثَم، يمكن للمرأة أن تصبح حُبلى بمعدل يصل إلى نحو مرة واحدة في السنة على أقصى تقدير، وحتى لو أنجبت أي إنسانة بضع مجموعات من توأمَين أو ثلاثة، سيكون استثناءً لافتًا إذا استطاعت إنجاب أكثر من ٥٠ طفلًا في حياتها. أمَّا الرجل، فيستطيع بسهولة، إذا وجد عددًا كافيًا من الشريكات المستعدات للتزاوج، أن يضاجع امرأة مختلفة كل أسبوع، وينجب ٥٠ طفلًا في عام واحد؛ ثم ٥٠ طفلًا في العام التالي، وهكذا دواليك على مرِّ عقود. لكن الصعوبة عندئذٍ ستكمن في توفير الرعاية اللازمة لهؤلاء الأطفال إذا أريدَ لهم البقاء على قيد الحياة فترة كافية لتوريث حمضه النووي إلى أي أجيال لاحقة.
تجدر الإشارة إلى أن هذا الافتراض تحقَّق بالفعل وهو مؤكد بالسجلات الموثقة لنساء البشر. ففي المثال الأشد تطرفًا بين الأمثلة المذكورة في السجلات الموثوقة التي بقيت حتى الآن، كان مولاي إسماعيل، آخر إمبراطور مغربي من سلالة مولاي الشريف، قد أنجب ما مجموعه ٥٢٥ ابنًا و٣٤٢ ابنة بحلول عام ١٧٠٣، ولم يتوقف عند هذا الحد (علمًا بأنه تُوفي في عام ١٧٢٧ عن عمر ٥٥ عامًا)، غير أن السجلات اللاحقة غير مكتملة. صحيح أن هذا شيء عظيم له، لكنه مفيد للنساء أيضًا، لأنه يضمن توريث حمضهن النووي إلى أجيال لاحقة. ما يهمنا هنا أنه كان رجلًا ثريًّا مقتدرًا لديه الموارد اللازمة للاحتفاظ بعدد كبير من الزوجات وكل هؤلاء الأطفال (ولعلَّ لقبه «المتعطش للدماء» يعطيك فكرة عن مدى قوته). أمَّا الرجال العاديين في عصره، وكل الرجال العاديون في عصور ما قبل التاريخ، فإنهم لم يستطيعوا تحقيق أي شيء كهذا.
وإذا أردنا التوضيح بمثال غير بشري، فيمكننا القول إنه مثلما تتنافس الغزلان لترى أيُّها يستطيع الركض بسرعة كافية، يتنافس الذكور للحصول على قرينات وإنجاب نسل. وهذا المثال مستمد من دراسة أجراها صاحب الاسم الجميل بيرني لوبوف (ومعناها «الثور») وزملاؤه من حرم جامعة كاليفورنيا في سانتا كروز، وتشمل مستعمرة من أفيال البحر راقبوها على مرِّ عدة سنوات.
تكفينا هنا نتائج عمليات الرصد من موسم واحد فقط في المستعمرة الواقعة على جزيرة آنيو نويفو. ففي ذلك الموسم، كان في المستعمرة ١١٥ ذكرًا، لكن قلة منهم هي التي كانت لديها جماعات من الإناث وكان كلٌّ منهم يحرس جماعته بغيرة شديدة، بينما طُرِد معظم الذكور الآخرين إلى الأطراف الهامشية وكانوا يحاولون التزاوج ببعض الإناث عندما يكون «صاحبها» منشغلًا عن حراستها. لكنهم نادرًا ما كانوا ينجحون. ففي المجمل، هيمن خمسةٌ فقط من الذكور البالغ عددهم ١١٥ ذكرًا على ١٢٣ من أصل ١٤٤ حالة تزاوج؛ أي أكثر بقليل من ٨٥ في المائة من إجمالي حالات التزاوج. ولتحقيق هذا النجاح، لا بد أن يكون الذكور أكبر حجمًا بكثير من الإناث، ليس للتغلب عليهن، ولكن للتصدي للذكور الآخرين وإبعادهم. وبذلك يظفر أكبر الذكور حجمًا بأكبر عدد من الإناث.
لكن حتى النجاح الضعيف الذي أحرزه الذكور القليلون الذين تسللوا من وراء ظهر صاحب الإناث يُبرز نقطة أخرى مرتبطة بهذا السياق. وهي تتعلق بما يُسمى «التيقن من الأبوة»، وتقوم على الاختلاف الحاسم بين الجنسين. ففي الثدييات، لا يكون لدى الأم أيُّ شكٍّ في أن نسلها هم نسلها بالفعل. صحيح أنه حتى أنثى الطائر لا يمكن أن تكون متيقنة تمامًا من أن كل البيض في العش بيضها هي، كما يتضح في مثال الوقواق. لكن المرأة التي تلد طفلًا وترضعه لا يكون لديها أيُّ شك في أصل هذا الطفل، حتى لو لم تكن تعرف هوية أبيه، كما يحدث أحيانًا. أمَّا الذكر، فلا يكون لديه يقين كهذا. والطريقة الوحيدة التي يستطيع بها أن يتيقن تمامًا من أن النسل الذين أنجبتهم أنثى تزاوج بها هُم نسله بالفعل هي أن يكون قد أبعد كل الذكور الآخرين عنها؛ كما تحاول أفيال البحر أن تفعل، مع أنها لا تنجح في ذلك دائمًا.
ومن منظور التطور، فإنه حتى لدى الأنواع التي تستلزم مشاركة الوالدين معًا لتنشئة النسل بنجاح، قد لا «تهتم» الأنثى بهوية مَن تتزاوج به ما دامت ستحظى بذَكَرٍ ما ليساعدها في تنشئة الأطفال. كذلك فالذكر الذي ينجح في التسلل من وراء ظهر ذكرٍ آخر للتزاوج بأنثى في حمايته يحصل على فوائد عديدة بأقل الأعباء. وهكذا فإنَّ ذلك يضع حدًّا أقصى للعدد الذي يمكن أن تصل إليه جماعة الإناث الخاصة بفيل البحر؛ لأن الذكَر لو وجد نفسه مطالَبًا بحراسة عددٍ يفوق طاقته من الإناث، فسيتحمَّل في النهاية كل الأعباء مقابل فوائد قليلة. ينطوي كل هذا على مدلولات ضمنية مثيرة للاهتمام عن السلوك البشري لن أتطرق إليها هنا، لكنك تستطيع التفكير فيها بنفسك؛ أمَّا في اللحظة الحالية، فسألتزم بالكلام عن الحقيقة الأساسية المتمثلة في أن الذكر يستحيل أن يكون على يقين من الأبوة إلَّا إذا أبعد الذكور الآخرين عن إناثه.
غير أن هذه الاستراتيجية يمكن أن تسبب مشكلات أيضًا، على الأقل في الأنواع غير الثديية. وأستعرض هنا مثالًا مسليًّا من سلوك الزرزوريات (علمًا بأنه مُسلٍّ لنا نحن وليس لها). فالاستراتيجية التي اكتسبتها تلك الطيور تقتضي أن يبقى الذكر مع الأنثى ليضمن عدم حدوث تزاوج بينها وبين أي ذكر آخر. وهذا يعني أنه بعد وضع دُفعة من البيض في العش، يذهب الذكر مع الأنثى عند بحثها عن الطعام. وأحيانًا ما تزور أنثى أخرى العش المتروك بلا حراسة وتترك إحدى بيضاتها فيه. تبدو البيضة الإضافية مماثلة تمامًا لكل البيضات الأخرى، فيعتني بها صاحبا العش ويرعيان الفرخ الصغير الذي يخرج منها، دون أن يدركا أن لديهما فرخًا غريبًا وسطهما. يستنتج هنا اختصاصيو علم الأحياء التطوري الذين يدرسون مثل هذه الظواهر أن ذَكَر الزرزوريات يرى أن الأعباء الزائدة الناتجة من تربية فرخٍ إضافي ليست كبيرة بقدرِ الأعباء التي قد يتحملها لو صار لديه عشٌّ كامل ممتلئ ببيض ليس من نسله.
لكن لنعُد إلى النقطة الأساسية التي أناقشها هنا. جمعتُ الآن أدلة كافية لأستطيع الإجابة عن سؤال «لماذا الرجال أكبر حجمًا من النساء؟» من منظورِ كائنٍ فضائي يزور الأرض ويدرس سلوك أنواع شتى من الحيوانات الثديية. فمثل هذا الراصد غير المتحيز سيلاحظ أن الذكور أكبر حجمًا من الإناث في العديد من الأنواع، وستكشف له القياسات الدقيقة أن درجةَ هذه الظاهرة، التي تُسمى ثنائية الشكل الجنسي، ترتبط ارتباطًا مباشرًا بعدد القرينات اللواتي يحميهن الذكر؛ علمًا بأنني قلت «يحميهن» لأنني لم أجد كلمة أفضل. أشرتُ سلفًا إلى الأسود وأفيال البحر. ولاستعراض مثالٍ من نوعٍ آخر من الكائنات أقرب صلةً إلى نوعنا، فإنَّ هذا الراصد البيولوجي التخيُّلي القادم من الفضاء لو نظر إلى جماعات الغوريلا، فسيلاحظ أن جماعة كاملة من الغوريلا تكون خاضعةً لهيمنة ذكر واحد أطول من الإناث بنحو ٣٠ في المائة وأثقل وزنًا منهن مرتين؛ وأنه يُبقي كل الذكور البالغين بعيدًا عن إناثه (حتى يكبُر في السن ويصبح واهنًا) ولا يحمل أدنى شك في أبوته لجميع الصغار في تلك الجماعة. ومع أن الحمض النووي للبشر يُشبه الحمض النووي للغوريلا بنحو ٩٨ في المائة، فإنَّ متوسط الفرق في الطول بين الرجال والنساء، بالنظر إلى سكان الكوكب إجمالًا، يبلغ نحو ثمانية في المائة فقط. وهنا يستنتج ذلك الراصد البيولوجي الفضائي غير المتحيز، «بالنظر إلى الإنسان كما ينظر علماء التاريخ الطبيعي إلى أي حيوان ثديي آخر»، أن كل ذكرٍ ناجح، في عصور ما قبل الحضارة، كان قادرًا على الاحتفاظ بجماعةِ إناث مكونة من اثنتَين أو ثلاث على الأكثر، بينما كان الرجال الفاشلون يُضطرون إلى اتباع الاستراتيجيات نفسها التي اتبعها ذكور أفيال البحر الفشَلة، إذ كانوا يحاولون التسلل والتزاوج خلسة.
سيبدو كل ذلك مفهومًا إذا نظرت إلى ظروف عصور ما قبل التاريخ من منظور تطور كلٍّ من الرجال والنساء. إذ ستجد أن عدد الجماعة الأسرية المكونة من رجل وامرأتين فعَّال جدًّا لتنشئة الأطفال، وخصوصًا للمساعدة في الولادة وما بعدها مباشرة، في حين أن الرجل الواحد ما كان ليستطيع أن يحمي، أو يحرس، أكثر من ثلاث نساء بمختلف أطفالهن، حتى لو كان كل الأفراد البالغين مشاركين في أنشطةٍ مثل جمع الطعام. وتتجلى حقيقة نجاح هذه الاستراتيجية التطورية في كل مكان حولنا بالفعل. فالبشر هُم من يهيمنون على عالم الثدييات، وليس الأسود ولا الغوريلات ولا أفيال البحر. لكن إحدى نتائج هذا النجاح أن الاختلاف في الحجم بين الرجل والمرأة لم يَعُد مهمًّا للتطور؛ صحيح أننا نعلم لماذا تطور الرجال حتى صاروا أكبر حجمًا من النساء، لكن هذه الظاهرة، التي تُسمى «ثنائية الشكل الجنسي»، لم تعُد مفيدةً وصارت مجرد أثر متبقٍّ من نمط حياة أسلافنا القدامى.