رائحة الموت!
أطلقَت باخرة الركاب الكبيرة نجمة المحيط صَفَّارتَها الأخيرة، كأنَّها تُودِّع الميناء، ثم انطلقَت صوب المحيط العريض … وقد راحت أضواء ومعالم «الدار البيضاء» تخفُت وتتضاءل، حتى تلاشت تمامًا. ولم يعُد يُحيط بالباخرة من كل جانبٍ غير المياه السوداء، والنجوم البعيدة الشاحبة الإضاءة بأعلى. ترامَق الشياطين في صمت، وهم واقفون أمام حاجز الباخرة الكبيرة … وقد أوى الركَّاب إلى قمراتهم، وساد سكونٌ على سطح الباخرة.
وقال «قيس»: أظن أننا سنُضطَر للعودة في أول باخرةٍ عائدةٍ من «نيويورك»، حالما نلمس الشاطئ هناك.
هدى: لا تكن متشائمًا؛ فمن يدري ما قد يحدث؟
قال «عثمان» ضاحكًا: إنَّها المرة الأولى التي نرجو فيها أن يتم اختطافُنا … ومن المؤسف أنَّ من نريده أن يختطفنا، لا يريد أن يُحقِّق لنا هذا الغرض!
ابتسَم بقية الشياطين لعبارة «عثمان». وقال «خالد»: إنَّ الأمل لم يتبدَّد بعدُ؛ فلعل هؤلاء المختطِفين يخرجون علينا من قلب المحيط بزوارقهم السريعة، أو يأتون بطائرات هليوكبتر، ويقومون باختطافنا من قلب السفينة.
اعترض «أحمد»، قائلًا: يبدو هذا أسلوبًا غبيًّا … فهؤلاء المختطفون — حسبما أخبرنا رقم «صفر» — لا يلجَئُون للقوة أو كشفِ أنفسِهم بمثل تلك الصورة.
إلهام: هناك احتمالٌ بأنَّ هؤلاء المُختطِفين … قد اكتشفوا خدعتَنا … ألم يفكِّر أحدكم في ذلك؟
تساءلَت «هدى»: ماذا تقصدين يا «إلهام»؟
أجابت «إلهام»: لقد وضع رقم «صفر» الطُّعم في الصنارة أمام السمكة لتلتهِمَها … ولكن ألم يفكِّر أحدكم في احتمال بأنَّ السمكة تعرف أنَّ الطُّعم يحوي خلفه مخاطرةً قاتلة؛ بمعنى أنَّ هؤلاء المُختطِفين قد أدركوا حقيقتنا بوسيلةٍ ما؛ لذلك تجنَّبوا اختطافَنا.
أحمد: هذا احتمالٌ بعيد؛ فكيف سيهتدون إلى هذه الحقيقة؟
إلهام: «ربما من خلال متابعتهم لأبطال كرة السرعة في مصر، ومعرفة أننا لسنا من هؤلاء الأبطال.
أحمد: لا أظُن ذلك؛ فإنَّ أبطال كرة السرعة في مصر غير معروفين على الإطلاق، ووسائل الإعلام لا تهتَم بهم.
عثمان: دعونا لا نسبق الحوادث … ولنَنتظِر ونَرَ.
خالد: إذن، فليس أمامنا غير الذهاب إلى قمراتنا … والنوم.
تثاءب «قيس» قائلًا: أعتقد أنَّ هذا أفضل ما نفعلُه.
أومأ الباقون برءوسهم موافقين … ثم اتجهوا هابطين إلى قمراتهم … ومن خلف أحد أركان الباخرة، أطلَّ وجهٌ متجهم بلحيةٍ صغيرة، ورأسٍ أصلع تمامًا، وقد دسَّ يده في جيبه، وتقلَّصَت أصابعه على مسدسٍ سريع الطلقات … على حين ارتسمَت في عينَيه نظرةٌ باردة … مخيفة.
في الصباح التالي، سارت الأمور سيرًا طبيعيًّا … وكان ضمن أمتعة الشياطين أدواتُ كرة السرعة، وسرعان ما نصبوها في مساحةٍ خالية بسطح السفينة، واندفَعوا يتدرَّبون عليها في مهارة، خاصة «إلهام»، التي أبدت براعة وسرعةً مذهلة في اللعبة … حتى إنَّها لم تنتبه إلا وبقية الشياطين قد توقَّفوا عن اللَّعِب وراحوا يراقبونها في إعجاب … ثم تعالى التصفيقُ من جمهور المشاهدين، فتوقَّفَت «إلهام» عن اللَّعِب، وقد ظهر عليها الخجل.
وقالت «إلهام» بإعجابٍ للمشهد الجميل الذي أمامها: كأنَّ الشمس قد أنهكَها التَّجْوال والحرارة الشديدة فرأت أن تأخذ حمَّامًا باردًا في قلب المحيط.
قال «أحمد» باسمًا: منذ الآن سأكون قريبًا منكِ يا «إلهام»، لأستمع إلى هذه التشبيهات الجميلة، لأُدوِّنَها في كراستي، ثم أنشرَها في كتابٍ باسمِك.
ومن الخلف، غَمغَم صاحبُ اللحية الصغيرة في صوتٍ خافتٍ ساخر: إنَّك لن تعيش طويلًا لتنشُر هذا الكتاب … ولا حتى سطرًا واحدًا منه.
وراقَب ذو اللحية الصغيرة الشياطين وهم يتَّجهون إلى قاعة الطعام … ثم أعطى إشارةً صغيرة من يده … وعلى الفور، تحرَّك أربعة رجالٍ آخرين، كانوا واقفين فوق سطح الباخرة، على مسافة قريبة.
تحرَّك الرجال الأربعة، وقد أدركوا … أنَّ وقت العمل قد حان!
منتصف الليل …
شَعَرت «إلهام» بشيءٍ من التوتُّر، لا تدري له سببًا … وتقلَّبَت فوق فِراشها، داخل القمرة المُظلِمة، وألقت نظرةً إلى الفِراش المجاور لها، فشاهدَت «هدى»، وهي مستغرقة في نومها … فأغمضَت «إلهام» عينَيها محاولةً النوم.
وفجأة، شَعرَت كأنَّ هناك من يُحاوِل فتح الباب، بدَس مفتاحٍ فيه، فتنبَّهَت حواسُّ «إلهام» بشدة … فقد كان سمعُها حادًّا … وتساءلَت: تُرى من الذي يحاول دخول القمرة عَنْوة؟
وقفزَت من فِراشها، وقبل أن تتمكَّن من إيقاظ «هدى»، كان الباب قد انفتَح، وظهر في مدخله شابٌّ نحيل، بوجهٍ ذي عظامٍ بارزة، وفي يده مسدس، صوَّبه نحو الفِراشَين، وبدَت عليه الدهشة، عندما وجد فِراش «إلهام» خاليًا، فتلفَّت حوله، وقبل أن يستدير، هوت «إلهام» فوق رأسه بحقيبةِ ملابسَ كبيرة، فترنَّح لحظة، وطارت قدَم «إلهام» لتُطيحَ بمسدسه، ثم أمسكَت به من ياقته، صائحةً في سخرية: لن تجد هنا ما تسرقه أيها الغبيُّ … غير بضعِ ضرباتٍ ستحصُل عليها مُضطرًّا.
وقبل أن تهمَّ بضرب الشاب، جاءها صوتٌ من الخلف يقول: «إذا حاولتِ إظهار بطولتِك … فسأُضطَر أيضًا لإظهار مهارتي … في إطلاق الرصاص.
تلفَّتَت «إلهام» بدهشة، فشاهدَت ذا اللحية الصغيرة، ممسكًا بمسدسٍ كاتمٍ للصوت، يُصوِّبه نحوها، وعيناه مملوءتان بالشر والوعيد.
واستيقظَت «هدى» فجأة، وقد ملأَتها الدهشة، فما إن شاهدَت المسدس المصوَّب نحوها، حتى هتفَت: ماذا تريدان منَّا؟
أجابها ذو اللحية: لا شيء، غير أن تمكُثا هادئتَين … وتُطيعا أوامري.
وألقى بحبلٍ إلى زميله قائلًا: قيِّد أيديَهما.
فأمسك الشاب النحيل بالحبل، وهو يوجِّه نظراتٍ حادة إلى «إلهام»، ثم اتجه إليها، وقام بتقييدها، وبعدها قام بتقييد «هدى»، وتكميم فم كلٍّ منهما.
ودقَّ قلب «إلهام» بعنف، وهي تتساءل: تُرى هل هذان المجرمان تابعان لرجال «كارلوس»، ولماذا تأخَّرا كل هذا الوقت … وكيف سيقومان باختطافهما من الباخرة المملوءة بالركاب؟
ثم تساءلَت في قلقٍ أشد: ما هو مصير بقية الشياطين؟
شَعَر «أحمد» بالخطوات المُتلصِّصة التي تقتربُ من فِراشه. وكان قد قام قبل نومه هو و«عثمان» بعمل حيلة في قمرتهما؛ فقد قام بربط خيطٍ رفيع من أُكْرة الباب إلى إصبع قدمه، بحيث عند أيَّة حركة للباب، أو محاولة فتحه، تجذب إصبعَ قدمه، فيستيقظ فورًا … وتظاهَر «أحمد» بالنوم … وشاهَد رجلَين يدخُلان القمرة، محاذرَين، شاهرَين مسدساتهما، وتظهَر على وجهَيهِما معالم الجريمة والاحتراف.
ودفع أحدهم بالمسدس نحو جبهة «أحمد» قائلًا: أنت أيها الغبي، انهض حالًا، وإلا سأكون مُضطرًّا لإيقاظك برصاصة في رأسك!
تَظاهَر «أحمد» بالدهشة، وهو يفتح عينَيه، ثم تظاهر بالخوف من المسدس، وهتف: ماذا يحدث هنا؟ ليس لدينا شيءٌ لتسرقاه.
قال أحد المجرمين ساخرًا: لقد جئنا لنَسرقَكما بذاتكما.
وأشار إلى زميله، فاندفَع إلى «أحمد» و«عثمان»، يُقيِّدهما، ويُكمِّم فم كلٍّ منهما.
وتم تقييد «خالد» و«قيس» بنفس الطريقة. ولم يقاوم الشياطين بأي شكل، وقد أدركوا أنَّ هؤلاء الرجال تابعون ﻟ «كارلوس»، وقد جاءوا لاختطافهم أخيرًا.
قاد المُختطِفون الشياطين الستة إلى حُجرةٍ خلفية، في نهاية الباخرة، تُطِل على المحيط، ولا يفصلُها عن سطح الماء غير مترٍ واحد. وفتح ذو اللحية نافذة الحجرة، ولوَّح للشياطين بمسدسه قائلًا: هيَّا، اقفزوا إلى الماء.
ظَهرَت الدهشة على وجوه الشياطين، وتساءلوا في قلق: هل يرغب هؤلاء المجرمون في إغراقهم، بإلقائهم في قلب الماء وهم مقيَّدون؟
ولمَعَت عينا «عثمان» بغضبٍ هائل. وبلغة العيون، سأل «أحمد»: هل سنظل مستسلمين أم نقاوم؟
وجاءته إجابة «أحمد»: لنفعَلْ ما يأمرُوننا به.
وكان «أحمد» يُدرِك خطورة قراره؛ فإنَّ شخصًا موثَقًا، ملقًى في قلب المحيط، لن يكون له أي أملٍ في النجاة، ما لم يلتقِطه شخصٌ آخر.
وعلى البُعد، بامتداد البصر من النافذة المفتوحة، لم يكن هناك غيرُ سطح الماء الغارق في الظلام. وألصق ذو اللحية مسدَّسه في رأس «عثمان»، وهو يقول: هل ستنفِّذون ما أمرتكم به، أم أُلقيكم بنفسي في قلب المحيط، بعد أن أُفرغَ مسدسي هذا في أجسامكم؟!
تقدَّم «أحمد» إلى النافذة المفتوحة، وألقى نظرةً أخيرة إلى الشياطين، ثم قفز منها إلى سطح الماء.
وتبِعَه بقية الشياطين في صمت.
ومن داخل الحجرة في قلب الباخرة، وقف ذو اللحية وهو يضحك ضحكةً عالية ساخرة.