سن الدبوس
إن الأب براون دائمًا ما كان يقول إنه توصل لحل هذه القضية أثناء نومه. وكان هذا صحيحًا، وإن كان قد تم على نحو غريب نوعًا ما؛ إذ حدث في وقت جرى فيه إزعاجه وإيقاظه من نومه. حدث الإزعاج في وقت مبكر جدًّا من الصباح بسبب أصوات الدق والطرق في المبنى — أو بالأحرى المبنى غير المكتمل — الضخم الذي يتم إنشاؤه أمام بيته؛ وهو مجمع ضخم من الشقق لا يزال مغطًّى بالسقالات وكذلك لوحات عليها أسماء صاحبيه والقائمين على بنائه؛ وهما السيدان سويندون وساند. كانت أصوات الدق والطرق تتجدَّد على فترات منتظمة وكان يمكن تمييزها بسهولة؛ لأن السيدين سويندون وساند متخصصان في نظام أمريكي جديد للأرضيات الأسمنتية التي، على الرغم مما تتصف به من النعومة والصلابة وعدم القابلية للاختراق والراحة الدائمة (كما هو موضح في الإعلانات)، يجب أن تُضغط في نقاط معينة بمعدات ثقيلة. وقد حاول الأب براون، مع ذلك، أن يستخلص من الموقف ولو قدرًا ضئيلًا من الراحة؛ قائلًا إن الأصوات كانت توقظه دائمًا في الوقت المناسب من أجل حضور قداس مبكر للغاية؛ ومن ثم فهي تقريبًا أشبه ما تكون بمجموعة أجراس معلقة ببرج. كان يقول إنه لأمر شاعري، في النهاية، أن يُوقَظ المسيحيون بالمطارق كما بالأجراس. لكن في الحقيقة كانت عمليات البناء تضغط على أعصابه قليلًا لسبب آخر؛ فقد كانت إمكانية حدوث أزمة عمالية أمرًا يلوح في الأفق مثل سحابة فوق ناطحة السحاب التي بُنِي نصفها؛ تلك الأزمة التي أصرَّت الصحف بشدة على وصفها بأنها إضراب. وفي واقع الأمر، إذا حدث ذلك بالفعل، فهو إغلاق، لكنه كان قلقًا كثيرًا بشأن ما إذا كان سيحدث. وقد يكون ثمة تساؤلٌ عما إذا كان الطرق يشكِّل ضغطًا على الانتباه لأنه قد يستمر إلى الأبد، أو لأنه قد يتوقَّف في أي لحظة.
قال الأب براون، وهو يحدِّق في المبنى بنظارته ذات العدستين المستديرتين: «كمسألة ذوق وخيال، أتمنى أن يتوقَّف البناء. أتمنى أن يتوقَّف في جميع المنازل بينما لا تزال السقالات موضوعة عليها. يبدو تشطيب المنازل مؤسفًا. إنها تبدو نضرة ومليئة بالأمل مع كل تلك الزخرفة الخيالية من الخشب الأبيض، وهي تبدو لامعة ومتلألئة تحت ضوء الشمس؛ والمرء غالبًا ما يشطب المنزل محولًا إياه إلى مقبرة.»
عندما ابتعد عن الهدف الذي كان يفحصه، كاد يصطدم برجلٍ اندفع عبر الطريق باتجاهه. لم تكن معرفتُه به كبيرة، ولكنها كانت كافيةً ليعتبره (في هذه الظروف) نذير شؤم. كان السيدُ ماستك رجلًا قصيرًا وسمينًا ذا رأس مربع يبدو بالكاد أوروبيًّا، وكان يرتدي ثيابًا شديدة الأناقة منحتْه مظهرًا أوروبيًّا بطريقةٍ واضحةٍ للغاية، لكن براون كان مؤخرًا يتحدَّث إلى السيد ساند الصغير من شركة البناء؛ ولم يعجبْه الأمر. كان ماستك رئيسًا لمنظمةٍ جديدة نوعًا ما في السياسة الصناعية الإنجليزية، نشأت على يد متطرفين في كلا الطرفين، وتكوَّنت من جيش محدد من العمال غير النقابيين بينما كانت غالبية العمال من الأجانب الذين تم توظيفهم توظيفًا جماعيًّا في شركات مختلفة، ومن الواضح أنه كان يحوم على أمل التعاقد مع هذا الشخص. باختصار، قد يتفاوض بطريقةٍ ما للتغلُّب على النقابة العمالية وإغراق أماكن العمل بمن يُفسد الإضرابات. وقد استُقطِب الأب براون للاشتراك في بعض المناظرات، حيث جرى استدعاؤه بشكلٍ ما من كلا الجانبين. وقد أفاد الرأسماليُّون جميعهم، حسب معرفتهم الوضعية، أنه كان بلشفيًّا، كما شهد البلاشفة جميعهم أنه كان رجعيًّا ملتزمًا التزامًا صارمًا بالأيديولوجيات البرجوازية؛ لذا يمكن الاستدلال على أنه تحدث بقدر معين من المنطق دون أن يكون له أي تأثيرٍ ملموس على أي شخص. ومع ذلك، فقد كان من شأن الأخبار التي أوردها السيد ماستك أن تُخرِج أي أحد عن المسار العادي للنزاع.
قال السيد ماستك بلكنةٍ إنجليزية ركيكة: «إنهم يريدونك أن تذهب إلى هناك في الحال. ثمة تهديد بالقتل.»
تبع الأب براون مُرشدَه في صمتٍ عبر عدة سلالم إلى منصةٍ في المبنى غير المكتمل، حيث تجمَّعت شخصيات مألوفة، بشكلٍ أو بآخر، من رؤساء شركة البناء. وقد ضم الجمعُ حتى مَن كان على رأس الشركة من قبل؛ الذي كان لبعض الوقت بعيدًا عما كان يحدث على أرض الواقع. كان على الأقل رأسًا تحت تاج، أخفاه عن الأنظار مثل سحابة. بعبارة أخرى، لم يتقاعد اللورد ستانز عن العمل في الشركة فحسب، لكنه أُلحق بمجلس اللوردات وانهمك فيه واختفى، وكانت مرات ظهوره النادرة باهتةً وكئيبة إلى حد ما، لكن هذه المرة، بالتزامن مع ظهور ماستك، بدت تُشكِّل تهديدًا. كان اللورد ستانز رجلًا نحيلًا وطويل الرأس وغائر العينين وله شعر أشقر خفيف للغاية في طريقه إلى الصلع، وكان أكثر الأشخاص الذين التقاهم القَسُّ مراوغةً. لم يكن أحدٌ يضاهيه في استغلال المَلَكَة الأكسفوردية المتمثلة في قول: «لا شك أنك على حق.» بحيث تبدو وكأنها تعني: «لا شك أنك تظن أنك على حق.» أو مجرد التعليق بعبارة: «أتظن ذلك؟» بحيث تشير ضمنيًّا إلى الإضافة اللاذعة: «ستظن ذلك.» لكن الأب براون ظن أن الرجل لم يكن يشعر بالملل فحسب، بل بقدرٍ ضئيلٍ من المرارة أيضًا، لكن كان من الصعب تخمين ما إذا كان ذلك بسبب استدعائه من جبل الأوليمب للسيطرة على مثل هذه النزاعات العمالية، أو فقط لأنه لم يعد في الواقع قادرًا على السيطرة عليها.
بشكل عام، فضَّل الأب براون مجموعة الشركاء الأكثر برجوازية؛ السير هوبرت ساند وابن أخيه هنري؛ على الرغم مما اعتمل بداخله من شكوكٍ فيما إذا كان لديهما بالفعل العديد من الأيديولوجيات. في الواقع، حصل السير هوبرت ساند على قدرٍ كبير من الشهرة في الصحف؛ كراعٍ للرياضة وكرجلٍ وطني في العديد من الأزمات خلال الحرب العالمية الأولى وما بعدها. وحظي بمكانةٍ كبيرة في فرنسا، بالنسبة إلى رجل في عمره، وبرز بعد ذلك كقائد منتصر لأرباب الأعمال يتغلَّب على الصعوبات بين عمال الذخيرة. وقد أُطلق عليه لقب الرجل القوي، لكن ذلك لم يكن خطأه. لقد كان في الحقيقة رجلًا إنجليزيًّا قويًّا بشوشًا، وسباحًا عظيمًا، وإقطاعيًّا جيدًا، وعقيدًا متواضع الخبرة مثيرًا للإعجاب. في الواقع، كان ثمة شيء، لا يمكن وصفه سوى أنه تكوينٌ عسكري، يسود مظهره. لقد كان يميل إلى البدانة، لكن كتفيه كانتا لا تزالان مفرودتين؛ وكذلك شعره المجعد وشاربه كانا محتفظين بلونهما البني، بينما كانت ألوان وجهه قد ذبلت وتلاشت إلى حدٍّ ما. أما ابن أخيه فكان شابًّا قوي البنية، له رأس صغير نسبيًّا فوق عنق ممتلئ، كما لو أنه يُنجز أموره ورأسه لأسفل؛ وله إيماءة تبدو غريبةً وصبيانية بعض الشيء بفعل نظارته الأنفية المتوازنة على أنفه الأفطس الذي يُشبه أنف ملاكم مشاكس.
لقد نظر الأب براون إلى كلِّ هذه الأشياء من قبل، وفي تلك اللحظة كان الجميع ينظرون إلى شيءٍ جديد تمامًا. في وسط الأعمال الخشبية، كان ثمة قطعةٌ كبيرة فضفاضة خفاقة من الورق مثبتة، كُتبَ عليها شيء بأحرفٍ إنجليزيةٍ كبيرةٍ غير منمقة تخلَّلها الكثير من الأخطاء، كما لو كان الكاتب إما جاهلًا تمامًا وإما يدعي الجهل وإما يسخر منه. كان نص الكلمات: «يحذر مجلس العمال هوبرت ساند من أنه إذا خفض الأجور وأوقف العمل في الموقع، فإن عليه أن يتحمَّلَ العواقب. وإذا خرجت الإخطارات بذلك غدًا، فسوف يموت بحكم عدالة الشعب.»
لم يكن من اللورد ستانز بعد أن تفحَّص الورقة سوى أن تراجع للخلف، ونظر إلى شريكه، ثم قال بنبرةٍ غريبة نوعًا ما: «حسنًا، إنهم يُريدون قتلك أنت. من الواضح أنني لا أُعتَبر مستحقًّا للقتل.»
سرَتْ واحدةٌ من صدمات التخيُّل الكهربائية الساكنة، التي تثير في بعض الأحيان عقل الأب براون بطريقةٍ لا معنى لها تقريبًا، عبر جسده في تلك اللحظة بالذات. وطرأَتْ عليه فكرةٌ غريبة مفادها أن الرجل الذي كان يتحدَّث لا يمكن قتلُه الآن؛ لأنه كان ميتًا بالفعل. واعترف بمرحٍ أنها كانت فكرة لا معنى لها تمامًا، ولكن كان ثمة شيءٌ يثير لديه الشكوك دائمًا بشأن العزلة الباردة المحبطة للشريك النبيل الهَرِم، وكذلك لونه الشاحب وعيناه القاسيتان. قال في نفسه وهو في تلك الحالة المزاجية الغريبة نفسها: «إن هذا الشخص له عينان خضراوان ويبدو وكأنه ذو دمٍ أخضر.»
على أي حال، من المؤكد أن السير هوبرت ساند لم يكن ذا دمٍ أخضر؛ فدمه، الذي كان أحمر بما فيه الكفاية من جميع النواحي، يسري ببطءٍ لوجنتيه الذابلتين أو المسفوعتين بكل تشبع الحياة الدافئ الذي ينتمي إلى السخط الطبيعي والبريء للأشخاص ذوي الخلق الطيب الدمث.
قال بصوتٍ قوي لكنه مهزوز: «طوال حياتي، لم يسبق لي أن قيل شيئًا من هذا القبيل عني أو حدث بشأني. ربما أكون قد اختلفت …»
قاطعه ابن أخيه باندفاع قائلًا: «لا يمكن لأيٍّ منا الاختلاف حول هذا. لقد حاولت أن أتفق معهم، لكن هذا أمرٌ فظ للغاية.»
قال الأب براون: «أنت لا تعتقد حقًّا أن عمالك …»
قال ساند العجوز وهو لا يزال يرتجف قليلًا: «أقول إننا ربما اختلفنا، لكن يعلم الله أنني لا أحب فكرة تهديد العمال الإنجليز بجلب عِمَالةٍ أرخص …»
قال الشاب: «لا أحد منا يحب ذلك، ولكن إذا كنت أعرفك، يا عماه، فإن هذا قد أنهى الأمر تقريبًا.»
ثم أضاف بعد توقُّف: «أعتقد، كما تقول أنت، أننا اختلفنا حول التفاصيل؛ ولكن فيما يتعلَّق بالسياسة الحقيقية …»
قال عمه بارتياح: «يا عزيزي، كنت آمل ألَّا يكون ثمة خلافٌ حقيقي.» وهذا ما يستطيع أي شخص يفهم الأمة الإنجليزية أن يستنتج منه عن حق أن ثمة خلافًا كبيرًا للغاية. في الواقع، لقد اختلف العم وابن الأخ تقريبًا مثل رجل إنجليزي ورجل أمريكي. كان لدى العم المفهومُ الإنجليزي المتعلق بالابتعاد عن مجال البناء، والتذرُّع برغبته في أن يصبح سيدًا ريفيًّا. أما ابن أخيه فلديه المفهوم الأمريكي الخاص بالانخراط في المجال؛ أي الدخول إلى صميم آليته مثل الميكانيكي. وبالفعل، فقد عمل مع معظم المتخصصين وأصبح على درايةٍ بمعظم عمليات المجال وحِيَله. وكان أمريكيًّا مرة أخرى، من واقع أنه فعل ذلك جزئيًّا كصاحب عمل لإيصال رجاله إلى مستوى عالٍ من الكفاءة، ولكنه فعله أيضًا بطريقةٍ غامضةٍ بصفته ندًّا لهم، أو على الأقل بفخرٍ بإظهار نفسه أيضًا كعامل؛ لهذا السبب كان غالبًا ما يظهر كممثل للعمال، في نقاطٍ فنيةٍ تبعد كثيرًا عن شهرة عمه الكبيرة في السياسة أو الرياضة. وقد أضفَتْ ذكرى تلك المناسبات العديدة، وعندما كان هنري الصغير يخرج فعليًّا من ورشة العمل مشمِّرًا عن ساعديه، للمطالبة ببعض الامتيازات فيما يتعلق بظروف العمل؛ أضفت ذكرى تلك المناسبات العديدة قوة غريبة، بل عنفًا أيضًا، على رد فعله الحالي في الاتجاه الآخر.
صاح قائلًا: «حسنًا، لقد حاصروا أنفسهم جيدًا هذه المرة. بعد تهديدٍ مثل هذا لم يعد هناك شيء سوى تحدِّيهم. لم يبقَ شيءٌ سوى طردِهم جميعًا الآن؛ ودون تأخيرٍ وهنا. وإلَّا فسنكون أضحوكةَ العالم.»
قطب ساند العجوز جبينه في غضبٍ مماثل، لكنه تحدَّث ببطءٍ قائلًا: «سأتعرَّض لنقدٍ شديد …»
صاح الشاب بحدة: «نقد! ستتعرَّض للنقد إذا تحدَّيْتَ تهديدًا بالقتل! هل لديك أي فكرةٍ عن مدى ما ستلقاه من انتقادٍ إذا لم تتحدَّ هذا التهديد؟ هل ستستمتع بعناوين الصحف؛ «الرأسمالي العظيم مذعور»، «صاحب عمل يخضع لتهديد بالقتل»؟»
قال اللورد ستانز وقد بدا شيءٌ من الاستهجان في نبرته: «خاصة وقد ظهر في العديد من العناوين بالفعل باعتباره «الرجل القوي في مجال البناء بالصُّلب».»
احمرَّ وجه ساند بشدةٍ مرة أخرى من الغضب وجاء صوته غليظًا من تحت شاربه الكث وهو يقول: «أنت محقٌّ بالطبع. إذا ظن هؤلاء الهمج أنني خائف …»
عند هذه النقطة انقطعت محادثة الجمع ودخل شابٌّ نحيف مسرعًا باتجاههم. كان أول ما لوحظ فيه أنه كان أحد أولئك الذين يعتقد الرجال، والنساء أيضًا، أنهم ذوو مظهرٍ لطيف للغاية بحيث لا يمكن أن يبدوا لطفاء. فكان لديه شعرٌ مجعد أسود جميل وشارب ناعم، وكان يتحدث كالنبلاء، ولكن بلكنةٍ مصقولة للغاية ومنغمة تنغيمًا دقيقًا. عرفه الأب براون في الحال، فهو روبرت راي سكرتير السير هوبرت، الذي كان يراه كثيرًا مسترخيًا في منزل السير هوبرت، لكن دون هذا الجزع في حركاته ولا تلك التقطيبة التي على جبينه.
قال لرئيسه: «أنا آسف يا سيدي، ولكن ثَمة رجلًا ينتظر هناك. لقد بذلت قصارى جهدي للتخلُّص منه. إن معه رسالةً فقط، لكنه أقسم أنه يجب أن يسلمها لك شخصيًّا.»
قال ساند وهو يلقي نظرةً سريعةً على سكرتيره: «تقصد أنه ذهب أولًا إلى منزلي؟ أظنك كنت هناك طوال الصباح.»
قال السيد روبرت راي: «نعم يا سيدي.»
ساد صمت قصير؛ ثم أوعز السير هوبرت ساند إليه على نحوٍ مقتضب بأنه من الأفضل أن يحضر الرجل معه إلى هنا؛ ثم ظهر الرجل بالفعل.
لا أحد، ولا حتى أقل السيدات تدقيقًا، كان سيقول إن هذا الرجل كان وسيمًا للغاية؛ فقد كان له أذنان كبيرتان جدًّا ووجه كوجه الضفدع، وكان يحدق أمامه بثباتٍ شبه مروع، وهو ما عزاه الأب براون إلى وجود عين زجاجية. في الواقع، لقد أُغري خياله إلى تزويد الرجل بعينين زجاجيتين؛ بسبب النظرة المحملقة الثابتة الذي كان يرمق بها الجمع. لكن خبرة القَسِّ، المختلفة عن خياله، كانت قادرةً على اقتراح العديد من الأسباب الطبيعية لذلك الوهج الشمعي غير الطبيعي؛ كان أحدها إساءة استخدام الهبة الإلهية المتمثِّلة في الخمور. كان الرجل قصيرًا ورثَّ الملابس وحمل قبعة مستديرة كبيرة في إحدى يديه ورسالةً مغلقة كبيرة في اليد الأخرى.
نظر إليه السير هوبرت ساند؛ ثم قال بهدوء كافٍ، ولكن بصوتٍ بدا بطريقة أو بأخرى رقيقًا على نحو غريب، يخرج من ملء حضوره الجسدي: «أوه — إنه أنت.»
مد يده ليتسلم الرسالة، ثم نظر حوله نظرة اعتذار، وبإصبع ساكن متأهب للحركة، قبل أن يفتح الرسالة ويقرأَها. وعندما قرأها، وضعها في جيبه الداخلي وقال على عجلٍ وببعض الغلظة: «حسنًا، أعتقد أن هذا الأمر برمته قد انتهى، كما تقول. لا مزيد من المفاوضات التي يمكن إجراؤها الآن. لن نتمكَّن من دفع الأجور التي يريدونها على أي حال، لكن أود أن أراك مرة أخرى، هنري، بشأن … بشأن إنهاء الأمور بشكل عام.»
قال هنري ربما ببعض العبوس، كما لو أنه كان يفضل أن ينهيَها بنفسه: «حسنًا، سأكون في الشقة رقم ١٨٨ بعد الغداء. يجب أن أعرفَ إلى أي مدى ستصل الأمور.»
تحرَّك الرجل ذو العين الزجاجية، إذا كانت عينًا زجاجية بالفعل، مبتعدًا بتثاقل، واتبعتْه عين الأب براون (التي لم تكن بأي حال من الأحوال عينًا زجاجية) بتأمُّلٍ بينما يشق طريقه عبر السلالم ويختفي في الشارع.
في صباح اليوم التالي مر الأب براون بالتجربة غير المعتادة من الاستغراق في النوم؛ أو على الأقل الاستيقاظ مع قناعة ذاتية بأنه لا بد أنه قد استيقظ متأخرًا. وكان ذلك يرجع جزئيًّا إلى تذكُّره، كما قد يتذكَّر المرء حلمًا، حقيقة أنه كان نصف مستيقظٍ في ساعة معتادة ثم عاد للنوم مرة أخرى؛ وهو حدث معتاد بما فيه الكفاية لمعظمنا، ولكنه غير معتاد للغاية للأب براون. وبعد ذلك صار مقتنعًا قناعة غريبة، في هذا الجانب الغامض منه الذي كان عادةً ما يخفى عن العالم، أنه في تلك الجزيرة المظلمة المنعزلة من أرض الأحلام، بين الاستيقاظين، كانت حقيقة هذه القصة ترقد هناك مثل الكنز المدفون.
وهكذا، قفز بسرعة كبيرة، وارتدى ملابسه، وأخذ مظلته الكبيرة ذات البروز الكثيرة، وخرج إلى الشارع، حيث كان الصباح الأبيض البارد ينشق ويتفتَّح مثل الجليد المتناثر حول المبنى الأسود الضخم الذي أمامه. فُوجئ عندما وجد الشوارع تلمع وهي شبه خاويةٍ بضوءٍ بلوري بارد، وأدرك من شكلها أن الوقت لم يتأخَّر كثيرًا كما كان يخشى. ثم فجأة شق السكونَ بسرعةٍ كسرعةِ السهم سيارةٌ رمادية طويلة توقفت أمام الشقق الكبيرة الخالية. خرج اللورد ستانز من داخل السيارة واقترب من الباب، حاملًا (ببطء نوعًا ما) حقيبتين كبيرتين. وفي اللحظة نفسها، فُتح الباب، وبدا شخصٌ ما كما لو كان يتراجع بدلًا من أن يخرج إلى الشارع. نادى ستانز مرتين على الرجل الثاني بالداخل، قبل أن يكمل ذلك الرجل إيماءته الأصلية بالخروج إلى عتبة الباب؛ ثم عقد الاثنان محادثة قصيرة، انتهت بحمل السيد النبيل حقيبتيه صاعدًا بهما إلى أعلى، وخروج الآخر إلى وضح النهار كاشفًا عن الكتفين العريضتين والرأس الملتفت لهنري ساند الصغير.
لم يكوِّن الأب براون انطباعًا عن هذا الاجتماع الغريب إلى حدٍّ ما، إلى أن مر يومانِ وبينما يقود الشاب سيارته الخاصة، ناشد القس لدخولها وقال: «لقد حدث شيءٌ فظيع، وأنا أفضِّل التحدُّث إليك أكثر من ستانز. أنت تعلم أن ستانز قد جاء قبل أيام ولديه فكرة مجنونة تتمثَّل في المكوث في إحدى الشقق التي اكتمل بناؤها للتو؛ لذلك اضطررت للذهاب إلى هناك مبكرًا وفتح الباب له، لكن كل ذلك سينتظر. أريدك أن تأتي معي إلى منزل عمي في الحال.»
سأل القس على عجل: «هل هو مريض؟»
أجاب ابن الأخ: «أظن أنه قد مات.»
سأل الأب براون بسرعةٍ بعض الشيء: «ماذا تقصد بقولك إنك تظن أنه ميت؟ هل أحضرت طبيبًا؟»
أجاب الآخر: «لا، ليس لديَّ طبيبٌ أو مريض … لن يفيد استدعاء الأطباء لفحص الجسد؛ لأن الجسد قد هرب، لكن أخشى أني أعرف إلى أين ذهب … الحقيقة هي … لقد أخفيناها لمدة يومين، لكنه اختفى.»
قال الأب براون بلطف: «ألن يكون من الأفضل أن تخبرني بما حدث فعليًّا من البداية؟»
أجاب هنري ساند: «أعرف أنه لَعارٌ مقيت أن أتحدث بتهكُّم هكذا عن هذا العجوز المسكين، لكن الناس يصبحون كذلك عندما يتوترون. وأنا لا أجيد إخفاء الأشياء؛ أهم ما في الأمر دون الدخول في تفاصيل هو … حسنًا، لن أخبرك بالتفاصيل الآن. هذا ما يُسميه بعض الناس على وجه الدقة باللقطة الشاملة؛ من إطلاقٍ للشكوك عشوائيًّا وما إلى ذلك. لكن أهم ما في الأمر أن عمي البائس قد انتحر.»
كانا في ذلك الوقت يتنقلانِ بالسيارة عبر آخر أطراف المدينة وأول أطراف الغابة والمتنزه خلفها؛ كانت بوابات المنزل الكائن بضيعة السير هوبرت ساند الصغيرة تقع على بعد نصف ميل تقريبًا وسط الحشد السميك من أشجار الزان. كانت الضيعة تتكون بالأساس من متنزهٍ صغير وحديقة منسقة كبيرة، تنحدر في مصاطب كلاسيكية مبهرة إلى حافة النهر الرئيسي للمنطقة. وبمجرد وصولهما إلى المنزل، اصطحب هنري القسَّ على عجلٍ إلى حدٍّ ما عبر الغرف الجورجية الطراز القديمة وخرج إلى الجانب الآخر؛ حيث نزلا بصمت عبر المنحدر، وهو منحدر حادٌّ نوعًا ما محاط بالزهور، استطاعا من خلاله رؤية النهر الشاحب ممتدًّا أمامهما في مسارٍ شبه مستوٍ مثلما هو الحال عند النظر من أعلى. وعندما كانا يلتفان حول زاوية المسار، تحت جرةٍ كلاسيكية ضخمة توَّجَها إكليلٌ متنافر بعض الشيء من نباتات الغرنوقي، رأى الأب براون حركةً بين الشجيرات والأشجار الرفيعة تحته مباشرة، والتي بدت سريعةً كحركة طيور مفزوعة.
وفي وسط الأشجار الرفيعة المتشابكة بجوار النهر، بدا أن شخصين يفترقان أو يبتعدان عن بعضهما؛ حيث انسل أحدهما بسرعة داخل الظلال، وأتى الآخر لمواجهتهما؛ مما أدى إلى توقُّفهما وسط صمتٍ مفاجئ ولم يكن في الحسبان. حينها، قال هنري ساند بأسلوبه الغليظ: «أعتقد أنكِ تعرفين الأب براون … يا ليدي ساند.»
كان الأب براون يعرفها بالفعل، ولكن في تلك اللحظة ربما كان سيقول إنه لا يعرفها؛ فقد بدا شحوب وانقباض وجهها مثل قناع المسرحيات التراجيدية؛ كانت تصغر زوجها كثيرًا، لكنها في تلك اللحظة بدت أكبر سنًّا من كل شيء في ذلك المنزل والحديقة القديمين. وتذكَّر القس، بانفعال لا واعٍ، أنها كانت بالفعل أعرق من حيث المكانة والنسب وأنها المالكة الحقيقية للمكان؛ فقد كان ملكًا لعائلتها الأرستقراطية التي تعرَّضت للإفلاس، قبل أن تستعيد ثروتها بالزواج من رجل أعمال ناجح. وبينما كانت واقفةً هناك، ربما كانت تمثل صورة عائلية، أو حتى شبحًا عائليًّا. كان وجهها الشاحب من ذلك النوع الحاد والبيضاوي في نفس الوقت، كالذي يُرى في بعض الصور القديمة لماري ملكة الاسكتلنديين، وبدا أن التعبير المرتسم عليه يكاد يتجاوز الطابع الشاذَّ الطبيعي للموقف، حيث اختفى زوجها مع اشتباهٍ في انتحاره. تساءل الأب براون، بنفس الحركة اللاواعية للعقل، عمن كانت تتحدث معه بين الأشجار.
قالت بهدوء غير مريح: «أظنك تعرف كل هذه الأخبار الرهيبة. لا بد أن هوبرت المسكين قد انهار في ظل كل هذا الاضطهاد الثوري، ودفعه الجنونُ لإنهاء حياته. لا أعرف ما إذا كان بإمكانك فعلُ أي شيء، أو ما إذا كان من الممكن إثباتُ مسئولية هؤلاء البلاشفة المروعين عن مطاردته حتى الموت.»
قال الأب براون: «إنني حزين للغاية يا ليدي ساند. ومع ذلك، يجب أن أعترف أنني في حيرة بعض الشيء. أنتِ تتحدثين عن الاضطهاد، لكن هل تعتقدين أن أي شخص يمكن أن يطارده حتى الموت بمجرد تعليق تلك الورقة على الحائط؟»
أجابت السيدة وقد عقدت حاجبيها: «أظن أن ثمة اضطهاداتٍ أخرى إلى جانب الورقة.»
قال القس بحزن: «إنه لأمرٌ يُظهر الأخطاء التي قد يرتكبها المرء. لم أكن لأتصورَ قطُّ أنه سيكون غير عقلاني هكذا بحيث ينهي حياته من أجل تجنُّب الموت.»
أجابتْ وهي تحدق فيه بجدية: «أعي ذلك، ولم أكن لأصدق ذلك قطُّ، لو لم يكن مكتوبًا بيده.»
صاح الأب براون وقد قفز قفزة صغيرة مثل أرنب أُطلق عليه النار، قائلًا: «ماذا؟»
قالت الليدي ساند بهدوء: «نعم، لقد ترك اعترافًا بالانتحار؛ لذا أخشى أنه ليس هناك شكٌّ في ذلك.» وعبرت المنحدر بمفردها، بكل العزلة التي لا يمكن انتهاكها لشبح العائلة.
نظرت نظارة الأب براون في تساؤلٍ صامت نحو نظارة السيد هنري ساند. وتحدث الأخير، بعد لحظة من التردُّد، مرة أخرى بأسلوبه المحير والغامض نوعًا ما: «نعم، كما ترى، يبدو واضحًا جدًّا الآن ما فعله. لطالما كان سباحًا متميزًا واعتاد أن ينزل مرتديًا روبه في كل صباح للسباحة قليلًا في النهر. حسنًا، لقد نزل كالمعتاد وترك الروب على الضفة؛ وهو لا يزال هناك إلى الآن، لكنه ترك أيضًا رسالةً تفيد بأنه ذاهب لجولة سباحته الأخيرة ثم الموت، أو شيء من هذا القبيل.»
سأل الأب براون: «أين ترك الرسالة؟»
«لقد حفرها على تلك الشجرة هناك، المتدلية فوق الماء، أعتقد أنها آخر شيء تمسك به؛ تحت المكان الذي يوجد فيه الروب مباشرة. تعال وانظر بنفسك.»
ركض الأب براون عبر المنحدر القصير الأخير نحو الشاطئ وتفحَّص المكان تحت الشجرة المتدلية، التي تنغمس أوراقها تقريبًا في النهر. من المؤكد أنه رأى على اللحاء الأملس الكلمات التي حفرها بشكلٍ واضحٍ لا لبس فيه: «جولة سباحة أخيرة ثم الغرق. وداعًا. هوبرت ساند.» تحرَّكت نظرة الأب براون ببطءٍ إلى أعلى الضفة حتى استقرت على قطعة رائعة من الملابس، لونها أحمر وأصفر وبها شُرَّابات مذهبة. كان هذا هو الروب وقد التقطه القس وبدأ في تقليبه. وبينما كان يفعل ذلك، أدرك أن ثمة شخصًا ما قد تحرك بسرعة عبر مجال رؤيته؛ شخصًا أسمر طويلًا تسلَّل من خلف مجموعة أشجار إلى أخرى، كما لو كان يتتبع مسار السيدة المتوارية عن الأنظار. كان لديه القليل من الشك في أنه الرفيق الذي افترقت عنه منذ قليل. كما كان لا يزال لديه شك أقل في أنه سكرتير القتيل، السيد روبرت راي.
قال الأب براون، دون النظر إلى الأعلى، وقد تركَّزت عيناه على الروب الأحمر والذهبي: «بالطبع، قد يكون تركُ الرسالة فكرة أخيرة جاءت لاحقًا. لقد سمعنا جميعًا عن رسائل الحب المنحوتة على الأشجار؛ وأعتقد أنه قد تكون هناك رسائل موت مكتوبة على الأشجار أيضًا.»
قال ساند الصغير: «حسنًا، لم يكن لديه أي شيء في جيوب الروب، على ما أظن. وبطبيعة الحال قد يلجأ شخص لحفر رسالته على شجرة إذا لم يكن لديه أقلام أو حبر أو ورق.»
قال القس في كآبة: «يبدو هذا مثل التمارين الفرنسية، ولكني لم أكن أفكر في ذلك.» ثم، بعد فترة صمت، قال بصوت مختلفٍ نوعًا ما:
«في الحقيقة، كنت أفكر ما إذا كان من الطبيعي أن يحفرَ شخصٌ رسالته على شجرة، حتى لو كان لديه أكوام من الأقلام، وقدر كبير من الحبر، ورزم من الورق.»
كان هنري ينظر إليه بذهولٍ إلى حد ما، ومالت نظارته على أنفه، ثم سأل بحدة: «وماذا تقصد بذلك؟»
قال الأب براون ببطء: «حسنًا، لا أقصد بالضبط أن سُعاةَ البريد سيحملون رسائل على شكل قطع خشبية، أو أنك سترسل برقية إلى صديق عن طريق وضع طابع بريدي على شجرة صنوبر. إن الأمر يتطلب نوعًا معينًا من المواقف؛ بل يتطلب نوعًا معينًا من الأشخاص، الذين يفضلون حقًّا هذا النوع من المراسلات الشجرية، ولكن، بالنظر إلى الموقف والشخص، فإنني أكرر ما قلته. كان سيكتب على شجرة، كما تقول الأغنية، لو كان كل العالم ورقًا وكل البحر حبرًا؛ لو كان ذلك النهر يتدفَّق بحبر لا ينضب أو كانت كل هذه الأشجار غابة من الريشات وأقلام الحبر.»
كان من الواضح أن ساند قد شعر بشيءٍ مخيفٍ بشأن صور الكاهن الخيالية، إما لأنه وجدها غير مفهومة وإما لأنه بدأ في الفَهْم.
قال الأب براون، وهو يقلِّب الروب ببطءٍ بينما كان يتحدَّث: «كما تعلم، ليس متوقعًا من شخصٍ أن يكتب بأفضل خط لديه عندما يحفر كلامه على شجرة. وإذا لم يكن الرجل هو الرجل نفسه، إذا كنت قد أوضحت فكرتي؛ مرحى!»
كان ينظر لأسفل إلى الروب الأحمر، وبدا في هذه اللحظة كما لو أن بعض اللون الأحمر قد نزل على إصبعه، لكن كلا الوجهين اللذين قُلبا باتجاهه كانا بالفعل أفتح في درجة اللون.
قال الأب براون: «دم!» وللحظةٍ ساد سكون مميت باستثناء أصوات النهر الرخيمة.
أطلق هنري ساند من كلٍّ من حنجرته وأنفه صوتًا لم يكن رخيمًا بالمرة. ثم قال بصوتٍ أجشَّ إلى حدٍّ ما: «دم من؟»
قال الأب براون: «أوه، دمي.» لكنه لم يبتسم.
ثم قال بعد لحظة: «كان هناك دبوس في هذا الشيء وقد وخزت إصبعي، لكن لا أعتقد أنك تُقدِّر قيمة السن … سن الدبوس. أما أنا، فأقدِّره.» وأخذ يلعق إصبعه مثل طفل.
ثم قال بعد فترة صمت أخرى: «انظر، لقد كان الروب مطويًّا ومثبتًا بدبوس. ولم يكن بإمكان أحدٍ فرْدُه؛ على الأقل دون خدش نفسه. بعبارة واضحة، لم يرتدِ هوبرت ساند هذا الروب قط، مثلما لم يكتب على تلك الشجرة، ومثلما لم يُغرق نفسه في ذلك النهر.»
سقطت نظارة هنري المائلة على أنفه المتسائل محدثةً صوت طقة، لكنه بخلاف ذلك كان ثابتًا بلا حراك، كما لو كان قد تجمَّد من المفاجأة.
تابع الأب براون حديثه بمرح: «وهذا ما يُعيدنا إلى وجود شخصٍ ما يميل لكتابة مراسلاته الخاصة على الأشجار، مثل هايواثا وكتابته المعتمدة على الصور. لقد كان لدى ساند وقتٌ طويلٌ قبل أن يغرق نفسه. فلماذا لم يترك رسالةً لزوجته مثل أي رجل عاقل؟ أو، هل نقول … لماذا لم يترك الرجل الآخر رسالة للزوجة مثل أي رجل عاقل؟ لأنه كان سيضطر إلى تزوير خط يد الزوج؛ ودائمًا ما يكون ذلك صعبًا الآن بعد أن أصبح الخبراء بارعين جدًّا في اكتشافه، لكن لا يمكن أن يُتوقع من أحد أن يقلد ولو خط يده، فضلًا عن خط شخص آخر، عندما ينقش حروفًا كبيرة على لحاء شجرة. هذا ليس انتحارًا يا سيد ساند. إذا كان أي شيء على الإطلاق، فهو جريمة قتل.»
أخذت الشجيرات الصغيرة والنباتات النامية تحت الأشجار تتكسَّر وتطقطق عندما نهض الشاب الضخم من فوقها مثل وحش لوياثان، ووقف متجهمًا، وقد اشرأب عنقه العريض إلى الأمام.
قال: «أنا لا أجيد إخفاء الأشياء، وقد شككت في شيء من هذا القبيل، ويمكنك القول إنني توقعته منذ فترة طويلة. وأصدقك القول، لا يمكنني أن أكون مهذبًا عند التحدث عن الرفيق؛ أو عن أيٍّ منهما، في هذا الشأن.»
سأل القس وهو ينظر إلى وجهه بحزم: «ماذا تقصد بالضبط؟»
قال هنري ساند: «أقصد أنك أشرت إلى وجود جريمة قتل وأعتقد أنني أستطيع أن أدلك على القتلة.»
كان الأب براون صامتًا بينما واصل الآخر كلامه متوترًا إلى حد ما.
«لقد قلت إن الناس أحيانًا يكتبون رسائل غرامية على الأشجار. حسنًا، في الحقيقة، يوجد بعضها على تلك الشجرة؛ هناك مجموعتان من الحروف المتداخلة معًا هناك تحت الأوراق؛ أظنك تعرف أن الليدي ساند كانت وريثة هذا المكان قبل فترة طويلة من زواجها، وكانت تعرف ذلك السكرتير المتأنق اللعين حتى في تلك الأيام. وأظن أنهما كانا يلتقيان هنا ويكتبان تعهداتهما بالزواج على شجرة العشق. ويبدو أنهما استخدما شجرة العشق لغرض آخر في وقت لاحق. العاطفة، بلا شك، أو المال.»
قال الأب براون: «لا بد أنهما شخصان سيئان للغاية.»
سأل هنري ساند بشيء من الانفعال: «ألم يكن هناك أشخاصٌ مروعون في التاريخ أو سجلات الشرطة؟ ألم يكن هناك عشاقٌ جعلوا الحب يبدو أكثر فظاعة من الكراهية؟ ألم تسمع عن بوثويل وجميع الأساطير الدموية لمثل هؤلاء العشاق؟»
أجاب القس: «أعرف أسطورة بوثويل. وأعرف أيضًا أن الأمر يبدو خرافيًّا للغاية، ولكنها حقيقة بالطبع أن الأزواج كان يتم إبعادهم أحيانًا بهذه الطريقة. بالمناسبة، أين أبعد؟ أعني، أين أخفيا الجثة؟»
قال الشاب بازدراء ونفاد صبر: «أعتقد أنهما أغرقاه، أو ألقيا به في الماء عندما مات.»
رمش الأب براون متفكرًا ثم قال: «إن النهر مكان جيد لإخفاء جثة خيالية، لكنه مكان سيئ للغاية لإخفاء جثة حقيقية. أعني أنه من السهل أن يلقي بها أي أحد هناك ظنًّا منه أنها قد تنجرف إلى البحر، ولكن إذا كان قد حدث حقًّا، فاحتمال عدم انجرافها إلى الشاطئ هو مائة إلى واحد تقريبًا؛ إذ إن فرص طَفْوها ورسوها على الشاطئ في مكانٍ ما هائلةٌ. أعتقد أنه لا بد أنهما كان لديهما مخططٌ أفضل من ذلك لإخفاء الجثة؛ وإلا لكان قد عثر عليها الآن. وإذا كانت هناك أي آثار عنف …»
قال هنري ببعض الانفعال: «لماذا هذا الاهتمام بأمر إخفاء الجثة؟ أليس لدينا ما يكفي من الشواهد فيما كتباه على شجرتهما الشيطانية؟»
أجاب الآخر: «إن الجثة هي الشاهد الرئيسي في كل جريمة قتل. إن إخفاء الجثة، في تسع مرات من أصل عشرة، هو القضية الفعلية التي يجب حلُّها.»
ساد الصمت بينما استمر الأب براون في تقليب الروب الأحمر ونشره على العشب اللامع للشاطئ المشمس، دون أن ينظر إلى أعلى. ولكن، مع مرور بعض الوقت، أدرك أن المشهد بأكمله قد تغير بالنسبة إليه بوجود طرف ثالث، يقف ساكنًا كتمثال في الحديقة.
قال وقد خفض صوته: «بالمناسبة، ما رأيك في ذلك الرجل القصير ذي العين الزجاجية، الذي أحضر لعمك المسكين رسالة بالأمس؟ بدا لي أنه قد تغير بالكامل بعد قراءته لها؛ لهذا لم أتفاجأ بالانتحار، عندما كنت أظن أنه انتحار. هل هذا الرجل هو محقق خاص حقير، أم أنني مخطئ تمامًا؟»
قال هنري بتردُّد: «تبًّا، تبًّا، ربما هو كذلك — إن الأزواج في بعض الأحيان يُشركون المحققين في المآسي العائلية مثل هذه، أليس كذلك؟ أعتقد أنه حصل على أدلةٍ على مؤامرتهما؛ ولذا قاما …»
قال الأب براون: «لا يجب أن أتحدَّث بصوت عالٍ للغاية؛ لأن المحقق الخاص بكم يراقبنا في هذه اللحظة، من على بعد نحو ياردة خلف تلك الشجيرات.»
نظرا إلى الأعلى، وكان العفريت ذو العين الزجاجية بالفعل ينظر إليهما بثبات بعينه البغيضة تلك، وقد بدا في غاية التنافر وسط البراعم البيضاء والشمعية الواقف بينها في الحديقة الكلاسيكية.
نهض هنري ساند مرة أخرى بسرعة بدت شديدة تقطع الأنفاس بالنسبة إلى رجل في مثل حجمه، وسأل الرجل بغضب شديد وعلى نحو مفاجئ عما كان يفعله، وفي نفس الوقت أخبره بأن عليه المغادرة في الحال.
قال عفريت الحديقة: «إن اللورد ستانز سيكون ممتنًّا كثيرًا إذا ذهب الأب براون إلى منزله وتحدث إليه.»
انصرف هنري ساند بغضب، لكن القس عزا غضبه إلى الكراهية المعروفة القائمة بينه وبين هذا السيد النبيل. وعندما صعدا المنحدر، توقف الأب براون للحظة كما لو كان يتتبع أثر النقوش المحفورة على جذع الشجرة الأملس، ونظر إلى أعلى مرة واحدة نحو الرموز الأكثر قتامة وتواريًا والتي يقال إنها سجل لقصة الحب؛ ثم حدق في الحروف الأعرض والأكثر اتساعًا للاعتراف، أو الاعتراف المزعوم بالانتحار.
ثم سأل: «هل تُذكرك تلك الحروف بأي شيء؟» وعندما هزَّ رفيقه العابس رأسه بالنفي، أضاف: «إنها تذكرني بالكتابة التي كانت على تلك اللافتة التي هدَّدتْه بانتقام المضربين.»
قال الأب براون: «إنه أصعب لغز وأغرب حكاية واجهتني على الإطلاق.» وذلك بعد مرور شهر على تلك الأحداث، وهو يجلس قبالة اللورد ستانز في الشقة رقم ١٨٨ والتي انتهى تأثيثها مؤخرًا، وهي آخر شقة تم الانتهاء منها قبل الفترة الانتقالية للنزاع العمالي ونقل العمل من النقابة العمالية. كانت الشقة مؤثَّثة على نحوٍ مريح، وكان اللورد ستانز يتناول الشراب والسيجار، عندما أدلى القس بهذا الاعتراف بعبوس. وقد أصبح اللورد ستانز ودودًا على نحوٍ مدهشٍ إلى حد ما، وبطريقة لطيفة وعفوية.
قال ستانز: «أعلم أن هذا يعني الكثير، في ضوء سجلك المهني، ولكن بالتأكيد لا يبدو أن المحققين، بما في ذلك صديقنا الرائع ذو العين الزجاجية، قادرون على رؤية الحل على الإطلاق.»
وضع الأب براون سيجاره وقال بحذر: «ليس الأمر أنهم لا يستطيعون رؤية الحل. بل إنهم لا يستطيعون رؤية المشكلة.»
قال الآخر: «في الواقع، ربما لا يمكنني رؤية المشكلة أيضًا.»
قال الأب براون: «إن المشكلة ليست على شاكلة جميع المشاكل الأخرى، لهذا السبب. يبدو كما لو أن المجرم فعل عمدًا شيئين مختلفين، كان أي منهما ربما ينجح بمفرده؛ ولكن، عندما تم فعلهما معًا، أفشل كلٌّ منهما الآخر. وأنا أفترض، وهو ما أعتقده اعتقادًا راسخًا، أن القاتل هو من علَّق الإعلان الذي يهدِّد بنوعٍ من القتل البلشفي، وكتب أيضًا على الشجرة اعترافًا بانتحار تقليدي. الآن يمكنك القول إن من الممكن، في النهاية، أن الإعلان كان إعلانًا بروليتاريًّا، وأن بعض العمال المتطرفين أرادوا قَتْل ربِّ عملِهم، وقتلوه. حتى إذا كان هذا صحيحًا، فسيظل هناك غموض حول سبب تركهم، أو ترك أي شخص، لدليل مناقض يشير إلى حدوث انتحار ذاتي، لكنه بالتأكيد ليس صحيحًا. ومع ذلك، لم يكن أي من هؤلاء العمال ليفعل شيئًا كهذا، مهما كانت درجة المرارة التي يشعر بها تجاه رب عمله. أنا أعرفهم جيدًا، وأعرف قادتهم جيدًا. إن افتراض أن أشخاصًا مثل توم بروس أو هوجان سيغتالون شخصًا يمكن أن يشهروا به في الصحف، ويضروه بشتى الطرق المختلفة، هو شيء في علم النفس يصفه العقلاء بالجنون. لا، كان هناك شخص ما، وهو ليس عاملًا ساخطًا، لعب دور العامل الساخط في البداية، ثم لعب دور صاحب العمل المنتحر، لكني أتعجب، لماذا؟ إذا كان يعتقد أنه يمكنه تمرير الأمر بسلاسةٍ باعتباره انتحارًا، فلماذا أفسد كل ذلك أولًا بنشر تهديد بالقتل؟ قد تقول إنها كانت فكرة لاحقة طرأت لإصلاح قصة الانتحار؛ كونها أقل استفزازًا من قصة القتل، لكنها لم تكن أقل استفزازية بعد قصة القتل. لا بد أنه كان يعلم أنه قد حوَّل أفكارنا بالفعل نحو القتل، في حين كان يجب أن يصبح هدفه كله هو إبعاد أفكارنا عنه. إذا كانت هذه فكرة لاحقة، فهي فكرة لاحقة لشخص عديم التفكير، لكني أرى أن هذا القاتل شخصٌ عميق التفكير للغاية. هل يمكنك أن تفهم أي شيء من كل هذا؟»
قال ستانز: «لا، لكني أفهم ما تقصده بقولك إنني حتى لم أر المشكلة. الأمر ليس متعلقًا فقط بمَن قتل ساند، إنما يتعلق بلماذا يتهم شخصٌ شخصًا آخر بقتل ساند ثم يتهم ساند بقتل نفسه.»
كان وجه الأب براون عابسًا ويطبق على السيجار بين أسنانه، فتجعدت نهايته وغمق لونها بشكل إيقاعي مثل إشارة نبضة محترقة في الدماغ. ثم تحدث كما لو كان يتحدث لنفسه:
«علينا أن نتابع عن كثب وبوضوح شديد. إنها مثل فصل خيوط الفكر بعضها عن بعض؛ شيء من هذا القبيل. لما كانت تهمة القتل أفسدت حقًّا تهمة الانتحار، لم يكن ليختلق تهمة القتل بطبيعة الحال، لكنه فعل؛ إذن فقد كان لديه سببٌ آخر لاختلاقها. لقد كان سببًا قويًّا لدرجة أنه ربما دفعه حتى لإضعاف خط دفاعه الآخر؛ أن الأمر كان انتحارًا. بعبارة أخرى، لم تكن تهمة القتل تهمة قتل بالفعل. أعني أنه لم يكن يستخدمها كتهمة قتل؛ لم يكن يفعل ذلك لكي يلقي على شخص آخر بذنب القتل؛ بل كان يفعله لسبب غير عادي آخر خاص به. كان يجب أن تحتوي خطته على إعلان بأن ساند سيُقتَل؛ سواء ألقى بالشبهات على آخرين أم لا. لقد كان مجرد الإعلان نفسه، بطريقة أو بأخرى، ضروريًّا. لكن لماذا؟»
أخذ يدخِّن وينفث الدخان بالتركيز الشديد نفسه لمدة خمس دقائق قبل أن يعاود الحديث مرة أخرى. «ماذا يمكن أن يفعل إعلان قتل، إلى جانب الإيحاء بأن المضربين هم القتلة؟ ماذا فعل؟ ثمة شيء واحد واضح؛ حتمًا فعل عكس ما ورد به. لقد طالب الإعلان ساند بعدم طرد رجاله من العمل، وربما كان الشيء الوحيد في العالم الذي كان من شأنه حقًّا أن يجعله يفعل ذلك. عليك التفكير في طبيعة الرجل والسمعة التي يتحلَّى بها. عندما يُطلق على رجل لقب الرجل القوي في صحفنا السخيفة المهتمة بالإثارة، وعندما يُنظَر إليه باعتزاز كرجل رياضي من قِبَل أبرز الحمقى كافة في إنجلترا، فإنه ببساطة لا يستطيع التراجع لأنه مهدد بمسدس. سيكون الأمر مثل المشي في مضمار أسكوت وعلى قبعته البيضاء السخيفة ريشة بيضاء عالقة بها. إن هذا من شأنه أن يكسر ذلك الصنم الداخلي أو المثل الأعلى للمرء، والذي يفضله كل شخص ليس جبانًا على الحياة. وساند لم يكن جبانًا، بل كان شجاعًا، ومتهورًا أيضًا. لقد حدث الأمر على الفور مثل السحر؛ إذ صاح ابن أخيه، الذي اختلط بالعمال بشكل أو بآخر، على الفور بضرورة تحدي التهديد على نحو مطلق وفوري.»
قال اللورد ستانز: «نعم، لقد لاحظت ذلك.» ثم نظر أحدهما إلى الآخر للحظة، ثم أضاف ستانز بلا مبالاة: «إذن تعتقد أن الشيء الذي كان يريده المجرم هو …»
صاح القس بحماس: «الإغلاق! الإضراب أو أيًّا كان ما تسميه؛ إيقاف العمل، على أي حال. لقد أراد أن يتوقف العمل في الحال، وربما أراد أن يأتي مفسدو الإضراب على الفور، وأن يذهب العمال النقابيون في الحال. هذا ما أراده حقًّا؛ الله أعلم لماذا. وأعتقد أنه قد حقق ذلك دون أن يهتم كثيرًا بشأن تأثيره الآخر على وجود القتلة البلشفيين، ولكن بعد ذلك … أعتقد أن خطأً ما قد وقع. أنا فقط أخمن وأتلمس الطريق ببطء شديد هنا، لكن التفسير الوحيد الذي يمكنني التفكير فيه هو أن شيئًا ما قد بدأ يلفت الانتباه إلى الموضع الحقيقي للمشكلة؛ إلى سبب رغبته، أيًّا كان، في إيقاف العمل بالمبنى. ثم بشكل متأخر، ويائس، وغير متسق إلى حد ما، حاول وضع المسار الآخر الذي أدى إلى النهر، ببساطة وفقط لأنه أدى إلى الابتعاد عن المبنى.»
نظر إلى أعلى من خلال نظارته المستديرة، مستوعبًا نوعية الخلفية والأثاث بالكلية، والرفاهية المقيدة لرجل محنك هادئ، ومقارنًا إياها بالحقيبتين اللتين وصل بهما مؤخرًا في شقة جديدة وغير مؤثثة. ثم قال فجأة: «باختصار، كان القاتل خائفًا من شيء أو شخص ما في المبنى. بالمناسبة، لماذا أتيت للعيش هنا؟ وبالمناسبة أيضًا، أخبرني هنري الصغير أنك حددت موعدًا مبكرًا معه عند انتقالك إلى هنا. هل هذا صحيح؟»
قال ستانز: «ليس صحيحًا على الإطلاق؛ فقد حصلت على المفتاح من عمه في الليلة السابقة. وليس لدي أي فكرة عن سبب مجيء هنري إلى هنا ذلك الصباح.»
قال الأب براون: «آه، إذن أعتقد أن لدي فكرة عن سبب قدومه … أعتقد أنك فاجأته بدخولك لحظة خروجه.»
قال ستانز، وهو ينظر وفي عينيه الخضراوين المائلين للون الرمادي بريق: «ومع ذلك، أنت تظن أنني لغز أيضًا.»
قال الأب براون: «أعتقد أنك تمثل لغزين؛ الأول هو لماذا تقاعدت في الأصل عن العمل في شركة ساند؟ والثاني هو لماذا بعد مرور كل ذلك الوقت عدت للعيش في أحد مباني ساند؟»
كان ستانز يدخن متأملًا، ثم نفض رماد سيجاره، ودق جرسًا على الطاولة أمامه. ثم قال: «إذا سمحت لي، سأستدعي اثنين آخرين إلى مجلسنا. جاكسون، المحقق الصغير الذي تعرفه، سوف يرد على الجرس، وقد طلبت من هنري ساند أن يأتي بعدها بقليل.»
نهض الأب براون من مقعده، وسار عبر الغرفة ثم نظر بعبوس إلى أسفل في المدفأة.
تابع ستانز: «في هذه الأثناء، لا أمانع في أن أجيب عن سؤاليك. لقد تركت شركة ساند؛ لأنني كنت متأكدًا من وجود بعض التلاعُب فيها وأن هناك شخصًا ما يختلس كل المال. ثم عدت إليها، وأخذت هذه الشقة؛ لرغبتي في اكتشاف الحقيقة الفعلية فيما يتعلق بوفاة ساند العجوز في موقع الأحداث.»
استدار الأب براون عندما دخل المحقق إلى الغرفة، ووقف يحدق في البساط الذي كان أمام المدفأة وهو يكرر: «في موقع الأحداث.»
قال ستانز: «سيخبرك السيد جاكسون بأن السير هوبرت قد كلفه بمعرفة اللص الذي كان يسرق الشركة، وقد أحضر مذكرة باكتشافاته في اليوم السابق لاختفاء هوبرت العجوز.»
قال الأب براون: «نعم، وأنا أعلم الآن أين اختفى. أعرف مكان الجثة.»
صاح مضيفه على عجل قائلًا: «هل تقصد …؟»
قال الأب براون، وهو يطأ بقوة على بساط المدفأة: «إنها هنا. هنا، تحت البساط الفارسي الأنيق في هذه الغرفة الدافئة والمريحة.»
«يا إلهي، كيف اكتشفت هذا؟»
قال الأب براون: «لقد تذكرت للتو أنني قد اكتشفت الأمر أثناء نومي.»
ثم أغلق عينيه كما لو كان يحاول تصوُّر حلم، واسترسل بأسلوب حالم قائلًا:
«هذه قصة جريمة قتل تقوم على مشكلة كيفية إخفاء الجثة، وقد اكتشفتها في نومي. كنت دائمًا أستيقظ كل صباحٍ على أصوات الدق والطرق الصادرة من هذا المبنى. وفي ذلك الصباح كنت شبه مستيقظ، ثم نمت مرة أخرى واستيقظت مرة أخرى، متوقعًا أن أجد الوقت قد تأخر، لكنه لم يكن كذلك. لماذا؟ لأنه كان ثمة أصوات دق وطرق في ذلك الصباح، على الرغم من توقُّف جميع الأعمال المعتادة للبناء، لكنه دق متسارع استمر لمدة قصيرة في الساعات القليلة فيما قبل الفجر. تلقائيًّا سيقلق مثل هذا الصوت المألوف نوم أي شخص، لكنه سيخلد إلى النوم مرة أخرى؛ لأن الصوت المعتاد لم يصدر في الساعة المعتادة له. الآن لماذا أراد مجرم مجهول ما أن يتوقف كل العمل فجأة ويأتي العمال الجدد فقط؟ لأنه لو جاء العمال القدامى في اليوم التالي، لوجدوا جزءًا جديدًا من العمل قد أُنجِز في الليل. لقد كان العمال القدامى يعرفون أين تركوا العمل، وكانوا سيجدون أرضية هذه الغرفة بالكامل مثبتة بالفعل. وقد كانت مثبتة من قِبَل رجل يعرف كيف يفعل ذلك، بعد أن اختلط كثيرًا مع العمال وتعلم أساليبهم.»
وبينما كان يتحدث، دُفِع الباب وانفتح وأطل منه رأس بحركة إقحامية؛ رأس صغير فوق عنق عريض ووجه ينظر إليهما من خلال النظارة.
قال الأب براون وهو يحدق في السقف: «لقد قال لي هنري ساند إنه لا يجيد إخفاء الأشياء، لكني أعتقد أنه لم يكن منصفًا في الحكم على نفسه.»
فاستدار هنري ساند وابتعد بسرعة عبر الردهة.
استرسل القس في نبرة تنظيرية: «إنه لم يُخفِ سرقاته من الشركة بنجاح تام لسنوات فحسب، ولكن عندما اكتشفها عمه، أخفى جثة عمه بطريقة جديدة ومبتكرة تمامًا.»
في اللحظة نفسها دق ستانز الجرس مرة أخرى برنين ثابت طويل حاد، ودُفِع الرجل القصير ذو العين الزجاجية أو ألقي عبر الردهة في أعقاب الهارب، بشيء من الحركة الدورانية لشخصية ميكانيكية في لعبة زويتروب. وفي الوقت نفسه، نظر الأب براون من النافذة، متكئًا على شرفة صغيرة، فرأى خمسة أو ستة رجال ينطلقون من وراء الشجيرات والأسيجة في الشارع بالأسفل وينتشرون بشكل ميكانيكي مثل مروحة أو شبكة، ويطاردون الهارب الذي انطلق مثل الرصاصة من الباب الأمامي. لقد رأى الأب براون مخطط القصة فقط، الذي لم يبتعد قط عن هذه الغرفة؛ حيث قام هنري بخنق هوبرت وأخفى جثته تحت أرضيتها التي لا يمكن اختراقها، وأوقف العمل بأكمله في المبنى للقيام بذلك. كان سن الدبوس هو نقطة الانطلاق لشكوكه، ولكن فقط لإخباره أنه قد دُفِع عبر حلقة طويلة من الكذب. كان سن الدبوس يشير إلى أنها حلقة عبثية.
لقد تخيل أنه فهم ستانز أخيرًا، وكان يحب جمع الأشخاص الغريبي الأطوار الذين يصعب فهمهم. لقد أدرك أن هذا الرجل المتعب، الذي اتهمه ذات مرة بأن دمه أخضر اللون، كان لديه بالفعل نوع من اللهب الأخضر البارد من الضمير أو الشرف التقليدي، جعله أولًا يغادر شركة مشبوهة، ثم يشعر بالخزي من تركها لآخرين، ويعود كمحقق مجهد ملول، ليعيش في المكان نفسه الذي دُفِنت فيه الجثة؛ حتى إن القاتل، الذي وجده يتشمَّم بالقرب من الجثة، قام بتقديم الدراما البديلة الخاصة بالروب والرجل الغارق. كل ذلك كان واضحًا بما فيه الكفاية، ولكن، قبل أن يسحب رأسه من الهواء الليلي والنجوم، ألقى الأب براون نظرة واحدة إلى الأعلى على الجزء الأسود الشاسع من المبنى العملاق الذي يصل إلى فضاء الليل، وتذكر مصر وبابل، وكل ما هو أزلي وعابر في عمل الإنسان.
ثم قال: «كنت على حق فيما قلته في البداية. إن هذه القضية تذكر المرء بإحدى قصائد كوبي عن فرعون والهرم. من المفترض أن يكون هذا البناء العالي مائة منزل، ولكنه أصبح في النهاية قبر رجل واحد فقط.»