عن الأجيال الأدبية
تواصل الأجيال
في فترةٍ لم يبعد العهدُ بها دار حوارٌ هادئ في الصحف القومية حول ما أطلَق عليه البعضُ صراع الأجيال الأدبية، وأعترفُ إنني عندما اشتركتُ في هذا الحوار الذي نادرًا ما احتدَّ أو احتدمَ مع بعض الشوامخ من كُتَّاب العصر وأساتذته، كنتُ منساقًا بحماسِ شبابٍ يوشك أن يُولِّي، وغيرَ مُدرِكٍ لخطأٍ منهجيٍّ كنتُ قد وقعتُ فيه قبل ربع قرن في سياق دراستي للشاعر الإنجليزي «جون كيتس» وهو ما أسماه أستاذنا الدكتور مصطفى سويف «الخَلْط بين العمر الزمنيِّ والعمر الفنِّي».
عاد إلى ذهني ذلك الخطأُ، وعادت المناقشة التي دارت بيننا بتفاصيلها الدقيقةِ ذات مساءٍ أثناء رحلةٍ إلى أسوان، وكان في المقصورة معنا د. رشاد رشدي ود. لطيفة الزيات ود. فاطمة موسى، وكنا نحن الثلاثة — «سمير سرحان» و«عبد العزيز حمودة» وأنا — ما زلنا مُعيدين نُحضِّر لدرجة الماجستير حين تَطرَّق الحديثُ إلى التفتُّح المبكِّر لعبقرية الشاعر كيتس الذي كتَب أروعَ قصائده وهو في أوائل العِشرينيَّات (وتُوفِّي في الخامسة والعشرين) ومدى علاقته بمُعاصريه من جيل الرومانسيِّين الأوائل، وأذكر حماسي لفكرة الهوَّة بين الأجيال متأثرًا بما قرأتُه عن تأثُّر كيتس بميلتون وشيكسبير، لا بوردزورث وكولر بدج — وكيف نبَّهني د. سويف إلى ضرورة الفصل بين العمر الزمنيِّ الذي يربط بين المعاصرين وبين العمر الفنِّي الذي يمتدُّ عبر الأجيال؛ ليُقيم وشائجَ بين أدباء الماضي والحاضر، وأذكر الآن أن هذه الفكرة قد صاحبَتْني إلى إنجلترا حين قرأتُ كتابًا من تأليف العالمة النرويجية «ثورا بالسليف» يرصد تأثير وردزورث على كيتس، وكيف أنني انتقدتُه في ضوء الخطأ الذي كنتُ قد وقعت فيه قبل عامين!
وربما لم أكن مَلومًا وحدي على هذا الخطأ الذي عُدت إليه في الكهولة؛ إذ استدرَجَني وزملائي إليه مقالٌ مثير للكاتب الكبير (والمشاغب الأكبر) يوسف إدريس، أشار فيه إلى أنه ينتمي إلى آخِر جيلٍ عبقري تُخرجه مصر! وشجَّعني على أخذِ كلامه مأخذَ الجِد ما نُشر من أحاديثَ للمسرحيِّ العظيم نعمان عاشور وشيخ الفلاسفة زكي نجيب محمود — غيرَ واعٍ بأن الخطأ المنهجيَّ يُخفي أيضًا تصورًا خاطئًا لا يصحُّ لي أن أقبَلَه — فالتسمية قد تعني ما يُسمَّى في اللغات الأوروبية بالفَجْوة بين الأجيال، أي عدم قدرة جيلٍ ما على تَفهُّم جيلٍ لاحق أو ثورة جيل جديد على الأنماط الفكرية للجيل الذي سبَقَه، ولكنَّ هذا المفهوم الاجتماعي الصِّرف لا يُمكن تطبيقه على الأدب إلا في أضيقِ الحدود؛ لأن تاريخ الأدب لا تتحدَّد مراحله أو مدارسه أو حركاته أو اتجاهاته بالتقسيمات الزمنية، وما التواريخُ التي نضَعُها إلا حدودًا مُصطنَعةً تُعين الدارسَ على رصد الظواهر وتذكُّرِها، وإذا كانت القرون حدودًا زائفة فما بالك بالأجيال؟! ولقد سبَقَ لي أن عرَضتُ في «الأهرام» نظرية «الدورات الأدبية» التي يُفضي بعضُها إلى بعض ويأخذ بعضُها برِقاب بعض، ومعنى هذا بطبيعة الحال ضرورةَ النظر إلى الأدب باعتباره كائنًا يتمَّتع بحياةٍ دائمة متواصلة، وإن اختلفت أشكالُه وتعددَت صوره، ومعناه أيضًا أن حركةً ما من الحركات الأدبية لا تنتهي تمامًا عندما تحلُّ موجةٌ جديدة، حتى وإن بدت مُناقضةً لها في اتجاهها الفكريِّ أو في أشكالها الفنية، بل إنها حتى حين تناقضها تَزيد من الوعي بها حتى تكتملَ الدورة ويَحينَ موعدُ عودة الحركة الأولى، بينما نرى أن ما كان موجةً جديدة قد أصبح اتجاهًا قديمًا يظلُّ كامنًا حتى يحينَ موعدُ بعثه.
ومعنى هذا أيضًا أن الاتجاه الأدبي — أيًّا كان لونُه — لا يموت أبدًا، بل يظلُّ يُومض خلالَ الرماد حتى تعودَ وَقْدتُه الأولى، ولكنه حين يعود يكون قد تلوَّن بما ساد المجتمعَ من اتجاهاتٍ أخرى تؤثِّر في لون اللهب الجديد وتتحكَّم في حِدَّة ضِرامه. ولْنضرب مثلًا لهذا بضربَين من ضُروب الرومانسية؛ الأول عربي عريق، والثاني أوروبيٌّ حديث. أما الأول فقد صاحبَ تاريخَ الأدب العربي على امتداده، يلتهب في كلِّ فترة من فترات الفَوَران الاجتماعي والفكري، ويَخْبو في كل فترةِ خُمود وثباتٍ وجمود، وهو كلما عاد اختلفَت صورته، حتى حين كان يبدو لغير المتمعِّن أنه «إحياء» أو «بعث» للماضي وحسب. وأما الثاني فقد صاحبَ كلَّ نهضة فكرية في أوروبا، وارتبط أحيانًا بالثورة والتحرُّر أو بالمثالية أو الفردية أو بالنزوع إلى الخيال، ولكنه كان دائمًا يستند إلى ما استندَ إليه الاتجاهُ العربي من إيمانٍ بقدرة الذِّهن على قهر الظواهر وبقدرة القلب على استيعاب الوجود.
ويلتقي الاتجاهان في كلِّ موضع في تاريخ الأدبَين على فتراتٍ من المحال أن نُحدِّدها بالأجيال، بل إنها قد تدوم قرونًا وقد تَقصُر حتى لا تتجاوزَ السنوات المعدودةَ؛ فالزمن هنا يخدع الباحثين كثيرًا؛ فالثبات الذي يوحي به الشكلُ التقليدي لشعر «شوقي» يُخفي في طيَّاته رومانسيةً دفَّاقة لا تكاد تَبين؛ لشدة حِرص الشاعر على التمسُّك بالمصطلح القديم ويَصدُق هذا القولُ على «البارودي» من قبله؛ فهي رومانسيةُ المثال والقيم المطلقة — وهي ضربٌ من الضُّروب التي بيَّنها البروفيسور «لاف جوي» في «التمييز بين الرومانسيات». ولقد ظلَّ هذا الاتجاه خبيئًا حتى وُجِد في مدرسة الديوان مَن يُفصِح عنه أيَّما إفصاحٍ — وإنْ بدا للقراء في العقود الأولى من هذا القرن أن العقاد لا يكاد يشتركُ مع شوقي في شيء!
كان العقاد وشوقي يشتركان في العمر الفنِّي وإن اختَلَفا في العمر الزمَني؛ أي إنه دون وجود شوقي لم يكن العقَّاد ليثورَ ثورته، ويُفصِح عن رومانسيته، وكذلك كان علي محمود طه وإبراهيم ناجي يشتركان مع أبناء الجيل السابق في الرُّوح، وإن اختلفَت صورةُ الرومانسية في شِعرهم، فاتخذَت إطارًا جديدًا كالصبغة الفردية والجنوح إلى الخيال — وكذلك كان الشعراء المحْدَثون الذين ارتبطَت أسماؤهم بشعر التفعيلة وإن كانت الرومانسية أقربَ إلى روح الثورة والتحرُّر مع ما يَكْسوها من حزنٍ وألم، فكيف بنا نقسم هذه الاتجاهات تقسيمًا زمنيًّا لا فنيًّا؟
أجيال الرومانسية
عندما ذكرتُ في كتابي عن الشعر العربي المعاصر في مِصر بالإنجليزية أنَّ أقوى تيار في الجيل الذي تلا صلاح عبد الصبور هو تيَّار الرومانسية الجديدة، وحدَّدتُها قائلًا: إنها مزيجٌ من الاتجاه الحديث في العالم والرومانسية الأوروبية؛ لم أكن أتصوَّر أن أُغضِب أحدًا من كبار شعرائنا، ولم أكن أتصور أن أحدًا سيُسيء فَهْم هذه الفكرة غير العويصة. ولكن لاقيتُ نفس المصير الذي لاقاه أحدُ شيوخ النقد الإنجليزي «و. ب. كير» حين قال: إن الشاعر الأصيل أو المُجدِّد لا بد أن يبدأ بالرومانسية؛ إذ غضب منه الكلاسيكيُّون من النقَّاد المعاصرين، مثل «ف. ل. لوكاس المتوفَّى عام ١٩٦٦م» وبعض المحدَثين من الشعراء الذين تصوَّروا أن الحداثة أو المودِرْنية تَعني بالضرورة رفض الرومانسية، وهم لا يقصدون بها في حقيقة الأمر إلا الحركةَ الأدبية الأوروبية المعروفة.
ومَكْمنُ الصعوبة في فَهْم هذا القول كما بيَّن بعضُ الشارحين (مثل نورثروب فراي وماير إبرامز) هو اختلافُ الزوايا التي يُنظَر منها إلى الرومانسية؛ فالناقد الكلاسيكي مدفوعٌ بطبيعته ودراسته إلى الحُكم على الجوانب الشكلية؛ لأنه (أيضًا بسبب تكوينه الفكري) لا يرى في الفنِّ غيرَ الشكل — فعالم الكلاسيكية عالمُ ثباتٍ وقرار — عالم تحكمه قوانينُ راسخةٌ مثل القوانين الرياضية وقوانين الصحَّة والاستواء؛ ولذلك فقَلَّما يُناقش نزعةً نفسية تخرج عن إطار قوانينِه أو خيالًا جامحًا يركض به في دُنيا لا يألَفُها؛ ومن ثَم فهو يؤمن بأن الفنَّ شكلٌ وأن الأفكار (مثل المعاني عند بعض نُقاد العرب) يعرفها العربيُّ والعجمي، وأن الفنَّ ما هو إلا براعةُ البناء وهندسةُ التركيب وحيل الصنعة.
أما النقد الحديث فيدعو إلى عدم الفصل بين الشكل والموضوع؛ فالعمل الفنيُّ كِيانٌ حيٌّ نابض، يتعرَّض للتزييف بل للمَسْخ والتشويه إذا جرَّدتَ شكله لدراسة بنائه، وهذا من أكبر أخطار المدرسة التي ازدهَرَت قبل عشرين عامًا في فرنسا، ولم تلبَثْ أن اندثَرَت — ألا وهي ما يُصطلح على تسميتها بالبنائيَّة أو البِنْيوية — أي الاتجاه إلى رؤية نماذجَ أو أنماطٍ شكلية محدَّدة ومكررة في الأعمال الفنية بغضِّ النظر عن نوع الفكرة أو الإحساس؛ أي إن الناقد البِنْيويَّ كان يُساوي بين عناصرَ متباينةٍ بُغْيةَ تصنيفِها في هيكلٍ يرى فيه الدلالة الكبرى، وكان يُحاكي ما فعَله بعضُ نقاد الثلاثينيَّات الذين أرْسَوْا قواعدَ دراسةِ كل جانب من جوانب العمل الفني — كالإيقاع في الشعر، أو الصور الفنية، أو الألفاظ بأشكالها المختلفة، أو الشخصيات وما إليها — بطرُق الإحصاء والتقسيم والتبويب والتصنيف، وقد لاقت هذه الأنواعُ من الدراسة هوًى في نفوس كثيرٍ في أمريكا؛ إذ إن الأرقام لها سحرٌ خاص وهي توحي بالمنهج العلميِّ الذي يؤدي إلى اليقين، ثم انهار هذا المنهجُ أيضًا عندما نهَض مُعارضوه في ألمانيا (فولفجانج كليمن) وإنجلترا (راجوف) لِيَدحَضوا ما ظاهِرُه علمٌ وباطِنُه تزييف؛ لأن حقائق الأدب مثل حقائق الحياة لا بد من معالجتها معالجةً شاملة في سياقها الحي، وإلا لم تَعُد تَعني شيئًا.
ومن هنا كان لكلِّ جيل (وقد يطول زمنًا حتى يقتربَ من القرن أو يقصرُ حتى لا يُجاوِزَ العَقْدَ الواحد) رومانسيُّوه — أي شعراؤه الذين يَصوغون رُؤاهم الأصليةَ في أشكالٍ أدبية جديدة — ولهذا لم يتردَّد «كلينث بروكسي» في وصف شعر «ت. س. إليوت» بالرومانسية، ولم يجد مَن حاولَ أن يُعارض أيَّ تناقض بين الحداثة (أو المودرنية) وبين الرومانسية بعد أن تحرَّر مفهومُها من الاقتصار على المعنى التاريخي؛ ولذلك أيضًا لم أتردَّد في رصدِ الاتجاه الرومانسي في شعر صلاح عبد الصبور والجيل الذي تَلاه عُمرًا ويشترك معه فنًّا وبالتحديد فاروق شوشة ومحمد إبراهيم أبو سنة وفتحي سعيد وفاروق جويدة.
ولكن هل ينطبق هذا القولُ على الشعر فحسبُ أم يَصدُق أيضًا على سائر الفنون الأدبية ونشأة الأشكال الجديدة؟
الأجيال والشكل الأدبي
تدلُّنا الدراسةُ الأدبية الحديثة على أن ثَمة صلةً وثيقةً بين نُشوء نوع أدبي محدَّد وبين المناخ الفكري الذي يَسود في مرحلةٍ ما من مراحل تطور أمةٍ من الأمم، أو مجتمعٍ من المجتمعات، (وأنا أستخدم لفظ «مرحلة» هنا بدلًا من لفظ جيل نُشْدانًا للدقة؛ فهي مساحةٌ يصعب تحديدها وتختلف اختلافًا شاسعًا من بلدٍ إلى بلد) بحيث تستطيع رصْدَ نشأة النوع وتطوُّرِه في إطارٍ فكري محدَّد دائبِ التغيُّر والتحول؛ لأنه لا يقتصر على المعتقَدات والأفكار السائدة في فترةٍ ما، بل يتخطَّاها ليشملَ الرموز التي تحتلُّ مكانًا بارزًا في حياة الجماعة البشرية، والحساسية الفنية التي تتميز بها هذه الجماعة في تلك الفترة؛ ومن ثَم فهو إطار يرتبط بنُظم ماديةٍ ومعنوية وقيميَّة بعضها موروثٌ وبعضها جديد، ولكنها تشترك جميعًا في تشكيلِ ما أسميته بالمناخ أو الجوِّ الفكري العام.
ولذلك فإن الراصد لنشوء فنِّ القصة القصيرة في الغرب مثلًا — مثلما فعل الدكتور شكري عيَّاد في محاولته تأصيلَ هذا الفن الأدبي — لن يجدَ مَناصًا من ربطه بالتغيرات الاجتماعية التي استَحدَثَت أُطُرًا فكرية جديدة في حياة الناس في أوروبا وأمريكا، والراصد لنشأة مسرحية الفصل الواحد لن يلبثَ أن يجد لها جذورًا، لا في الفنون الأدبية وحدها (وأهمها فن القصة القصيرة نفسه)، بل وفي اتجاه المجتمعات الحديثة نحو فلسفة «اللحظة الواحدة» — أي فلسفة تأمُّل الحياة من خلال ما يُسمَّى في لغة السينما ﺑ «اللقطة المركَّزة» — وقد كانت هذه اللحظاتُ أو اللقطات تتوالى في الرواية أو المسرحية أو الملحمة، وغيرِها من الأشكال الأدبية التي عرَفَها تراثُ الإنسانية القديم.
وقد بدأ هذا الاتجاهُ — لا شكَّ — مع بداية العصر الحديث الذي يميل كثيرٌ من الدارسين إلى ربطه بالانقلاب الصناعيِّ في أوروبا وانتشار الصحافة بالمعنى الحديث، وكان من أكبر الداعين له «إدجار ألن بو» الذي كان من أوائلِ مَن حاوَلوا تعريفَ القصة القصيرة، وكانت نظرتُه إلى الشعر ذاتَ دلالةٍ كبرى؛ إذ كان يرفض أيَّ قصيدة يزيد طولُها على المقطوعة، ويستريبُ بأي شكلٍ من أشكال الشعر يُحاول محاكاةَ الأشكال الأدبية المطوَّلة؛ فالشعرُ عنده (مثل اللوحة أو التمثال) فنٌّ مكاني لا زمَني، أي يعتمد على الحيِّز والمساحة لا على التعاقُب والتوالي.
ونحن عندما استقدَمْنا كلَّ هذه الأنواع من الأدب العالمي لم نكن نفتقرُ في الحقيقة إلى القاعدة أو الأرضِ التي يُمكنها أن تستقبلَ وتحميَ نباتاتٍ عربيةً أصلًا من كل هذه الفنون اللغوية؛ ولذلك لم تستغرق المحاولاتُ عقودًا طويلة (كما بيَّن الدكتور عبد المحسن بدر)، ولم نلبثْ أن رسَّخْنا فنونَ الرواية العربية والقصة وما إليها؛ باعتبارها آدابًا قوميةً كثيرًا ما تُطاول الآدابَ العالمية فِكرًا وفنًّا، ولم يلبَث الكُتَّابُ الذين خلَّفوا الروادَ أنْ طوَّروا شكل «النوفلا» ومزَجوا بين المسرح وفنون الرواية (مثل يوسف إدريس وعبد الرحمن فهمي) ومَن ابتدعوا فنَّ «الخاطرة» — وهو صورةٌ مصغَّرة من المقال الأدبي، يُضارع قصيدةَ النثر، ويختلف اختلافًا بيِّنًا عن إنشاء المنفلوطيِّ والرافعي، ومَن برَعوا في كتابة القصة القصيرة جدًّا — أو الأقصوصة.
ولكن الذي لم ننتبهْ إليه في خِضَمِّ هذه الأجيال الشكلية هو التحوُّل الذي طرأ على شكلِ الرواية نفسِها والذي استتبَعه تغيُّرُ المادة التي تتناولُها نتيجةً لتغيُّر المناخ الذي كتبت فيه؛ فكاتب الرواية اليوم — وأنا أقصد الممتاز والمتميِّز — لا يُحاكي نماذجَ قريبةً بل يُحاكي الرواد، حتى ولو كان قد بدأ حياتَه الأدبية مُحاكيًا، بل هو يستلهم أرضَ واقعه ونفوسَ مَن حوله، وهو كثيرًا ما يغوص في تاريخ أمته يستقي منها معانيَ لحاضره، وكثيرًا ما يعتبر اللغة مادةً للتجريب لا وسيلةً للتوصيل فحسب. ولقد كان من عُمق تأثير الجوِّ الفكري والنفسيِّ أن شيخ كُتَّاب الرواية والقصة نجيب محفوظ وجَد نفسه يُغيِّر من منهجه ومِن أطُرِه؛ ليس فقط في البناء والتصوير، بل في اللغة أيضًا. إن إنتاج نجيب محفوظ الأخيرَ درسٌ لنا من أستاذ كبير؛ من فنانٍ ذي حساسية لم يَطُل بها الوقتُ حتى تغيَّرَت مع تغيُّر العصر؛ فهو يُمثل جيلًا جديدًا في كتاباته الجديدة، وأعماله أجيال، تمامًا مثل الموسيقار محمد عبد الوهاب — قمة القمم — الذي يُمثل تطورُه حساسيةَ أجيال كاملة لا جيلًا زمنيًّا واحدًا.