متفرقات
قصة مستوردة
دخل القصَّاص المبتدئُ إلى مبنى الدار الصحفيَّة الشهيرة، وسأل عن مكان إحدى المجلات التي تَصدُر عنها، ولم تكن إجراءاتُ الأمن آنَذاك صعبةً أو معقَّدة، وسرعان ما وجد نفسَه في غرفة رئيس التحرير، ولما عرَض عليه ما أتى من أجله حوَّله إلى المُحرِّرة المختصَّة، وهناك حدث ما لم يكن يتوقَّع. كان القصَّاص قد تخرَّج لتوه بالجامعة، ولكنه كان يُفضل أن يكتب قصصه الأصيلةَ المستمَدَّة من تَجارِبه في القرية التي أتى منها، وأن يُحاكيَ أسلوب الدكتور محمد حسين هيكل بعد أن أذهلَتْه قدرتُه على البيان، وأسرَتْه بلاغتُه المطمئنة أو قُل خُطاه المتَّئدة؛ فأسلوبُه لا يلهث فيتعثَّر ولا يتمهَّل فيضل.
وعرَض الشابُّ قصتَه على المحرِّرة — وكانت أقربَ إلى الأُقصوصة منها إلى القصة، فقرأَتْها على الفور ونظرتْ إليه وابتسمَت، وقالت في ثقةٍ وَرِقَّة: «هذا عظيم، ولكن الأسلوب لا يصلحُ لقُرَّائنا، كما أننا نُفضِّل القصص المترجَمة على القصص المحليَّة؛ لأن الأجانب يُجيدون تحليل نفسية المرأة، ومعظم قُرائنا كما تعلم من الجنس اللطيف.» ولم يحزن الشابُّ ولكنه — شأن كل ناشئ — كان قلقًا على مصير قصَّته فعاد يسألها عمَّا يُمكنه أن يفعل، وبنفس النبرات الواثقة نصَحَته المحررةُ أن يكتب «قصة مترجَمة»! وتردَّد الشابُّ أولَ الأمر ثم ابتسم ابتسامةً يُخفي بها ارتباكَه وقال في صوتٍ خفيض: «ولكني لا أستطيع الترجمة؛ لأن معرفتي باللغات الأجنبية محدودة.» وخُيِّل إليه أن نبرات الثقة في حديثها زادت وهي تقول: «ولهذا لم أطلبْ منك أن تُترجم قصة بل أن تكتب قصةً مترجَمة!» وإزاءَ هذه الدهشة التي عقَدَت لسانَه استمرَّت قائلةً: «أقصد أن تكتب قصةً مثل القصص التي ننشرُها في مجلتنا — ويمكن أن تستمدَّ مادتَها من أبوابِ رسائل القُراء، وستُلاحظ أنها في الغالب من الجنس اللطيف، ولكن المهم أن يكونَ أسلوبُها مترجمًا، أعني أن يُوحيَ بأن القصة مترجمة؛ مثل أسلوب قصصنا المترجمة، وأن تكون الأسماءُ التي تختارها للشخصيات أجنبيةً، وأن يكون مسرحُ الأحداث في الخارج، ويُستحسَن أن يكونَ في إحدى البلاد غيرِ المألوفة للمِصريِّين، وستجد أوصافَها في قصصنا المترجمة، ولا داعي طبعًا لأن تذكر اسمَ مَن تُترجم عنه أو اللغةَ التي تُترجم منها؛ فهذا لا داعيَ له لأننا لن نذكرَه في المجلَّة، ولن نذكرَ اسمك بطبيعة الحال ولكنَّنا سندفع لك أجْرَ مؤلفٍ لا أجرَ مترجِم.»
وبعد محاوَرةٍ قصيرة غادر الشابُّ الدارَ الصحفية، ولم يدخلها إلا بعدَ أعوام طويلة تقتربُ (حسَبَما يقول) من العِشرين، ولكنه ورث من ذلك اليوم كراهيةً لكلِّ ما هو مترجم، ونشأ في قلبِه عَداءٌ لما أسْمَتْه المحررةُ بحق «أسلوب الترجمة»، واستمرَّ هو في مُحاكاة أسلوب الدكتور هيكل حتى اكتشف أنه لا يستطيع مُحاكاةَ أساليبِ الكُتَّاب، بل ولا يستطيع أن يتخذ من الكتابة هوايةً خاصَّة، فهجَرها واقتصر على القراءة، ولم ينسَ أن يتَجنَّب كلَّ ما كُتب عليه «قصة مترجمة».
عادت إلى ذِهني هذه القصةُ الحقيقية — وليعذرْني القارئُ إن أنا تعمَّدتُ إخفاء الأسماء وحرَّفتُ بعض التفاصيل؛ إمعانًا في الإخفاء — عندما رأيتُ بعض «المترجَمات» التي تنشرها بعضُ دُور النشر في دولةٍ عربية شقيقة بعضُها غُفْلٌ من اسم المترجم، وبعضُها عليه اسمٌ زائف! وراعَني إقبالُ الشباب في مصر على اقتناءِ هذه وتلك — وبعضها ذو ثمنٍ باهظ — دون اكتراثٍ لاسمِ المؤلِّف أو المترجِم! وعجبتُ للسرِّ في هذا الإقبال، بينما تحفل رفوفُ المكتبة العربية بقصصٍ ومسرحيات لمؤلِّفين مِصريين وغير مصريين وأغلبُها بديعٌ رفيع — هل لَحِقَت الأدبَ لعنةُ «المستورَد» — أي سِحر السِّلعة المستورَدة وما توحي به من جودة؟
ولكن الذي أعاد القصةَ إلى الحياة حقًّا هو ما أسْمَته المحررةُ «أسلوب الترجمة» أي أسلوبَ الرَّطانة الذي كان يُحذِّرنا منه أستاذنا المرحوم الدكتور أمين روفائيل (والذي لا يذكره الدكتور شكري عيَّاد بطبيعة الحال في كتابَيه الأخيرَين عن الأسلوب). فما هو هذا الأسلوب؟ إنه مستوًى لُغوي محدودُ الكلمات والعبارات، غريبُ الأبْنِية والهياكل، يوحي بالأصلِ الأجنبيِّ ولا يَرْقى إليه، ويزخر بالعبارات التي أسأنا ترجمتَها في بداية عهدنا بالترجمة، فأصبحَت عَلَمًا على اللَّكْنة مثل حسَنٌ، حسَنًا، يا للسماء! وما إليها، إلى جانب ما أُسمِّيه بالكنكنة — كان يمكن أن يكون كذلك، ولو لم يكن كذلك — والعجيب أن يَنزع الكثيرون من الطامحين إلى كتابة القصة القصيرة إلى استخدام هذا الأسلوب؛ ظنًّا منهم بأنه يوحي بالحداثة أو المودرنية، أو عجزًا منهم عن استيعابِ الأساليب العربية الأصيلة، والأدهى أن تتسرَّب سِماتُ هذا الأسلوب العجيب إلى اللغة العربية المستخدَمة في شتى المجالات (أي دون اقتصارٍ على لُغة الصحافة)، بل وأن تُصبح من سِمات اللغة المستخدَمة في الحديث اليومي دون أن يكون لدى المتحدثِ علمٌ باللغة الأجنبية التي قِيسَت عليها العباراتُ والكلمات الدَّخيلة.
وكثيرًا ما أتساءل: هل هذا من تأثير ترجمات الأفلام التي يراها المتفرِّج اليوم بلا انقطاعٍ على الشاشة الصغيرة؟ (وهي ترجماتٌ لا داعي للتعليق على رَداءتها وانحطاطِ أسلوبها وابتعادها عن الأصل) أم هو مِن تأثير الترجمات الزائفة التي تُلقي بها في أسواقنا دورُ النشر في ذلك البلد الشقيق؟ أم هو من تأثير الانغماس في العامِّية في أجهزة الإعلام المسموعة والمرئية؟ بل قد يكون ذلك نتيجةً لاتجاهِ المبتدِئين في صناعة الصحافة إلى الكتابة الإبداعية، دون أن يكون لديهم الاستعدادُ اللُّغوي الكافي، ثم انغماسهم فيها مع ما يلقَوْنه من تشجيعٍ في النشر والتنويه بأعمالهم! وربما تكون هذه العواملُ مجتمعةً من أسباب انتشار أسلوب الترجمة. ولكنني على يقينٍ من أن المستورَد في هذه الحالة لا يداني المحليَّ في أيِّ مظهر من مظاهره.
احتراف الأدب
هل الأدب حِرْفة؟ أي هل يستطيع إنسانٌ أن يعتمد على الكتابة الإبداعية في كسب عيشِه؟ وأقصد بالاعتماد عليها عدمَ الانخراط في السِّلك الوظيفي أيًّا كان نوعُ الوظيفة — ولو كانت تدريسَ الأدب نفسِه؟
حاولتُ الإجابة على السؤال أولَ الأمر من وجهةِ نظر تاريخية، فبرَزَت أهمُّ مشكلة تُواجه الكاتبَ أو المفكر، وهي مشكلة تحديد معنى كَسْب العيش. ومن قبلِها بطبيعة الحال معنى الكتابة الإبداعية — رغم الوضوح الخادع للمصطلَح الأخير. فمفهوم الإبداع متغيِّر، وهو لا يقتصر على كتابة الأنواع المختلفة من الأدب الخيالي (القصة القصيرة، الرواية، الشعر، المسرح)، بل يتعدَّاه اليوم إلى النقد — فالنقد يعتبر فرعًا أساسيًّا من فروع الأدب — وهو يقتضي في رأي المحدَثين طاقةً إبداعية نستدلُّ عليها من التفاعل الوجداني والفكري في آنٍ واحد مع العمل الأدبي الذي يتعرَّض له الناقد، ومن قُدرة الناقد المبدِع على الربط بين مظاهر العمل الأدبيِّ المحدَّد وبين غيرِه مما يُزامنه أو مما سبَقه، وكذلك بينه وبين الأُطُر الفنِّية والفكرية التي ينبع منها ويصبُّ فيها؛ إما في عصره، أو في الأدب بصفةٍ عامة، باعتباره كِيانًا مطلقًا، كما نستدلُّ عليها من قدرة الناقد على بَلْورة كلِّ ما يخرج به في هذا الصدد في لُغةٍ موجَّهة إلى جمهورٍ بعينه، وتهدف إلى إحداث تأثيرٍ معيَّن، مهما كانت درجة الموضوعية التي يلتزمها.
أما كسبُ العيش فمفهومٌ جِدُّ عسير؛ فهو يتغيَّر في العصر الواحد، بل وفي البلد الواحد، بل ويكاد يتغيَّر من أديبٍ إلى أديب. أما عبر العصور فهو يتغيَّر تَبعًا لتغيُّر المعايير الاقتصادية السائدة، وتبعًا لمفهوم الضروريات والكماليات؛ فما كان كماليًّا بالأمس قد يُصبح ضروريًّا اليومَ بسبب إيقاع الحياة اللاهث (كوسائل الانتقال مثلًا)، وما لم يكن معروفًا بالأمس قد يُصبح ضروريًّا في الغد (مثل وسائل العلاج الحديثة ذات التكاليف الباهظة)، وما لم يكن يتتبع نفقاتٍ كُبرى بالأمس قد أصبح يَبتلي الإنسانَ بأنواع الهموم (مثل نفقات التعليم والكِساء للأسرة).
والمطَّلع على حياة هذا الشاعر يعجب كيف استطاع أن يحدَّ من حاجاته الاقتصادية، فلم يكن يَشغل فِكرَه إلا الأحذيةُ الجلدية المتينة التي تُعينه على السير مسافاتٍ طويلة، وكثيرًا ما تلمح في ثنايا رسائله واليوميات التي كتبَتْها أختُه اهتمامًا بالغًا. وقد أجرى أحدُ الدارسين حسابًا استخلصَ منه أنه عندما بلغ الستِّين كان قد سار على قدَمَيه مسافةً تَزيد على ١٨٠٠٠٠ ميل!
ولكن هذا الشاعر لم يلبث — بعد أنْ حقَّق لنفسه ذُيوعًا عريضًا — أن قَبِل وظيفةً شرفية (أو اسميَّة) في مصلحة الضرائب، بل قبل أن يكون شاعرَ البلاط وهو المنصب الذي كان قد شغَلَه «ألكسندر بوب» شيخ الكلاسيكيين و«روبرت ساوذي» الرومانسيُّ الأشهَر من قبلِ وردزورث! بل إنه قد تحوَّل في شعره من الثورية المتطرِّفة إلى الرجعيَّة الكاملة، وكتب سلسلةً طويلة من السوناتات السقيمة العقيمة عن أحد الأنهار وسلسلةً أخرى بعُنوان السوناتات الكنَسية! وسرعان ما هاجمَه شعراءُ القرن التاسع عشر لهذا التحوُّل وتلك الرِّدة، فكتب «براوننج» قصيدتَه المشهورة في هجائه بعنوان «القائد المفقود»، وهو يَعني في الحقيقة الذي ضلَّ الطريق، مثلما كتبَ الشاعر العظيم اللورد بايرون هِجاءه المعروفَ لشاعر البلاط الأسبق «روبرت ساوذي»!
ولكنَّ احتراف الأدب وحياة التقشف ظلَّا مثَلًا يَطمح إليه الأدباءُ في النصف الثاني من القرن التاسعَ عشر، وحاوله بعضُ صِغار الفنانين والشعراء لا يُذكَر منهم اليوم سوى «دانتي غبريال روزني» وجماعته، بينما كان «ماثيو أرنولد» مثلًا — شاعر العصر الفيكتوري وناقده العظيم — مفتشًا في وزارة التربية والتعليم، وأما في القرن العشرين فقد انهار هذا المثَلُ تمامًا ولم يَعُد من الممكن ولا من المستحسَن أن يتفرَّغ أديبٌ للأدب؛ إذ لم يعد مفهومُ الأدب مقصورًا على إبداع العمل الأدبي، ولم تَعُد متطلَّباته مقصورةً على إحكام الوسيلة اللُّغوية، بعد أن تعقَّدَت أنماطُ الحياة، وأصبح على الأديب أن يَشغَل نفسَه بدراسات وقراءات غير أدبيَّة، بل وباهتمامات فِكرية تتخطَّى حدود العصر، ولم يَعُد في إمكان الناقد أن يجهل العلومَ السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفلسفية والنفسية! ولقد انتَفَتْ تمامًا فكرةُ الناقد الفنِّي البحت — أي الذي يقتصر على نقد الشكل — إذ لم يَعُد الشكل منفصلًا عن المضمون، وما تَشعُّب الأشكال الفنية وتعقيدُها إلا انعكاسٌ لتشعُّب المضمون وتعقيدِه! كما لم يعد الأديب قادرًا على احتراف الأدب — حتى ولو كان يُدِرُّ عليه ما يكفي لكسب عيشه ويزيد!
الفنان والتعليم
من المفهومات الخاطئة التي شاعت فأوشكَت أن تُصبح لشيوعها صحيحةً؛ مفهومُ المقابلة بين الفنِّ والعلم، أي تصوُّر الكثيرين أن الفنَّان لا حاجةَ له بالدراسة؛ باعتبار أن الدراسة عملُ العلماء لا الفنانين أو الأدباء. وينطبق هذا بصفةٍ خاصة على التفرقة بين الناقد والأديب؛ إذ كثيرًا ما يُقال إن الأول عالمٌ والثانيَ مبدِع؛ ومِن ثَم فعلى الأول أن يَدرس ويعلم، بينما لا يحتاج الثاني إلا إلى التأمُّل، ثم استنطاق موهبته الإبداعية التي لا تحتاج إلى عونٍ من ثمار قَرائح البشر؛ فهي ربَّانية يولَد بها المرءُ ولا يكتسبها.
ويستندُ هذا المفهومُ إلى خطأَين في التفكير؛ أولهما الخطأ في فَهْم معنى الموهبة وعلاقتها بالإبداع، والثاني هو الخطأ في فَهْم طبيعة عمل الفنان أو وظيفته. أما الأول فإنه لم يُصحَّح إلا منذ عهدٍ قريب، وقد كان مَحوطًا بالألغاز قرونًا وقرونًا — وذلك بعد نهضة علم النفس الحديث وتشعُّبه، بعد أن كان مقصورًا في فترةٍ ما على مجالات بعينها (أهمُّها علم النفس المرَضي)، فأصبحنا نُدرك المزيدَ عن دقائقِ عملية الإبداع وعمليةِ التذوق الفني — ونحن مَدينون في هذا الصدد لرائد هذه الأبحاث في العالم العربي أستاذنا الدكتور مصطفى سويف، وأصبحنا نعرف أن المادةَ التي يُشكِّلها الفنان — أو ما أسميتُه من قبلُ بالواقع — لا تقتصر على تَجارِب الحياة من أحداثٍ وأحاديثَ وصورٍ ورُؤًى، بل تتضمَّن تشرُّبًا لروح العصر وهو ما لا يتحقَّق إلا بالتعليم، أي بالقراءة المتصلة والاستيعاب المتواصل لعلوم العصر. وإذا كنتُ قد كرَّرتُ الإشارة إلى العصر هنا فذلك لأن مفهوم العلم أو العلوم يختلف من عصرٍ إلى عصر؛ فقد تسود العلومُ الدينية في عصرٍ ما، وقد تَسود العلوم الفلسفية أو العلومُ الطبيعية، وهلمَّ جرًّا؛ ولذلك فالفنان أو الأديبُ ينحدر من تراثٍ أدبي أو فني صِرْف، ولكنه ينتمي للماضي الأدبي والحاضر الفكريِّ معًا.
وتحضرني كلماتُ ابنِ رَشيقٍ في كتابه «العُمْدة» عن اتِّساع نطاق المادة التي يتناولها الشاعرُ العربي مع اتساعِ نطاق المعارف العربية نتيجةً للفتوحات الإسلامية، فاطِّلاع العرب على الثقافات الأجنبية واتصالاتهم بالحضارات القديمة وهو يُطلق على هذه «المادة» لفظ «المعاني» وهو يَعني أحيانًا الصور الفنية — كما بيَّنت ذلك في كتابي «النقد التحليلي» (١٩٦٣م) — ويعني به «الأفكار» التي يتناولها الشاعرُ أحيانًا أخرى.
وهذه المعاني أو الأفكار عادةً ما تكون وليدةَ العصر الذي يعيش فيه الفنان. وسواءٌ قَبِلنا آراءَ قطب الذاتية في هذا الصدد، وهو الشاعر الإنجليزي «وليم وردزورث»، أو قُطْب الموضوعية ت. س. إليوت؛ فإننا لا بد أن نُواجه في كل مرة هذه الحقيقةَ الساطعة، وهي أن المادة الفنية لا يُمكن أن تقتصرَ على التراث، بل لا بد أن تتضمَّن علوم العصر. وقد يكون هذا ثمرةً لجهدٍ فردي أي لتحصيلٍ فردي من جانب الفنان؛ فالشاعر الرومانسيُّ «شلي» كان يقرأ منذ بزوغ الفجر حتى منتصف الليل باللُّغات اليونانية واللاتينية والإيطالية والإسبانية والفرنسية، ويذكر مَن ترجَموا له أنه كان يَغْفو من شدة الإرهاق وحاجتِه إلى النوم أثناء النهار، وأنه كان دائمًا يحملُ كتابًا معه يختلسُ القراءةَ فيه حتى ولو كان في حفلةٍ أو مَأدُبة (وقد لا يعلم الكثيرون أن ت. س. إليوت حاصلٌ على درجة الدكتوراه؛ فهي المُعادل الحديثُ لنوعٍ من التعليم القديم)؛ أقول: قد تكون هذه الإحاطةُ ثمرةَ جهدٍ فردي، وقد تكون نتيجةً لروح العصر التي تتمثَّل في الجهد الجماعي للمفكرين (من علماء وأدباء)، وخيرُ مَن يُعبر عنها هو الناقد.
وقد تنبَّهَ إلى هذه الحقيقة الناقدُ الإنجليزي والشاعر «ماثيو أرنولد» حين قارنَ بين امتياز الشعراء، لا على أساس الشكل وحده، بل على أساس ثَراء المادة الفكرية، وقد هَداه بحثُه إلى أن النقَّاد هم الذين يُوفِّرون هذه المادةَ للأديب، فكان يقول: إن على الناقد أن يُوجِد تيارًا من الأفكار الحديثة الصائبة بحيث يجدُ الفنانُ نفسَه في إطارٍ يضمن لعِلمه العُمقَ ويكتب له البقاء، وكان يضرب المثلَ لهذا الشاعر الألماني العظيم «جوته». وقياسًا على هذا نجد أن «روح العصر» (وكان الناقد الإنجليزي وليم هازليت أولَ مَن ابتكر هذا التعبير) يمكن أن تُفسر لنا طبيعةَ المادة التي يتناولها الفنانُ في عمله.
أما الخطأ الثاني فهو يتعلَّق بطبيعة عمل الفنان — وهذا أيضًا لم يُصحَّح إلا منذ عهدٍ قريب — إذ كان يُظَنُّ أنه مصوِّر وحسب أوانه مجرد مِرآة تعكس حياة الناس (في مجتمعه مثلًا) أو حياةَ الطبيعة؛ ومِن ثَم كان النقَّاد يُركزون في دراستهم على جوانب «المهارة في المحاكاة» ومدى صدق التصوير، وقد كان للشاعر الإنجليزي «كولريدج» — وهو أبو النقد الحديث — فضلُ تحرير الأذهان من هذا الخطأ الفادح حين أسهَب في «السيرة الأدبية» في الحديث عن الخيال الإبداعي وعمل المخيِّلة الإبداعية (وأنا أستخدم هنا المصطلحَ الذي أتى به ابنُ خَلْدون قبل كولريدج بما يَزيد على أربعة قرون).
وبفضلِ هذا المفهوم أصبح الجميع يُدرِكون أن عمل الفنان يتمثَّل في إعادة تشكيل الواقع لا تصويره، وأن جهد التفكيك والتحليل لا ينفصلُ عن جهد التجميع والتشكيل؛ ولهذا لا بد للذِّهن من أن يحكم فنَّ التفكير التحليلي الذي لا يأتي إلا بالدراسة واستيعاب المنهج العلميِّ الحديث.
ولقد قيل قديمًا إن كل فنَّان يُضمِر في داخلِه ناقدًا — يتحكَّم في اختيار المادة وتحديدِ الشكل، بل ويُصدر أحكام القيمة. ولذلك كان أفضلُ الفنانين هم أفضلَ النقاد دائمًا — وأضيف إن أفضلَ النقاد مبدِعون — فمَلَكة الإبداع تتضمَّن جهدًا مركَّبًا لا غِنى عنه للناقد والفنان جميعًا، ولا غِنى لأيِّهما عن معارف العصر، وهو ما لا يتأتَّى بالتعليم والدراسة.
خرافة الكمال
لم يتردَّد الشاعر المبتدئ في الاعتراض عندما أبدى له أحدُ زملائه نقدًا، وكان اعتراضُه عنيفًا وحاسمًا؛ فهو يستند إلى ما شاع في الخمسينيَّات — نقلًا عن مدرسة النقد الحديثة الأوروبية الأمريكية — من أن العمل الفنيَّ كائنٌ مستقلٌّ له قوانينه الخاصة، وأنه كاملٌ في ذاته، لا يحتمل الزيادة ولا النقصان، ولا يمكن ترجمته، ولا يمكن نقلُه من صورةٍ إلى صورة، أي مِن شكلٍ أو وسيط إلى شكلٍ أو وسيط آخر (كالرواية والمسرحية والقصيدة وما إليها)، وإلا مُسِخ وشُوِّه وخمد، ولم يَعُد — باختصار — عملًا فنيًّا.
وتعجَّب زميله الذي يكتب الشعرَ أيضًا من هذا العنف غيرِ المتوقَّع؛ فقد كان اعتراضُه يسيرًا، منطقيًّا إلى أبعد الحدود، بل لا يَعْدو أن يكون اقتراحًا بتقسيم القصيدة إلى قصيدتين؛ لأنها تنقسم — في صورتها الحاليَّة — إلى لحظتين تُمثلان رؤيتَين لا يجمع بينهما تماثلٌ أو تناقض، ولا يشدُّهما تقاربٌ أو تقابل، ولا يتصلان بتناظرٍ أو تضاد، ولا يؤدِّي أحدهما إلى الآخَر ولا ينبع منه، ولا يكاد يربِط بينهما سوى ما يربط بين القصائد المتفرقة في ديوانٍ واحد!
وكنتُ أتابع المناقشةَ ولكنني لم أتعجب؛ إذ وجَدتُني في موقف الزميل الناقد رغمًا عني ذاتَ يوم وعامُ ١٩٨٦م يؤذِنُ بالأفول، حين أبديتُ نفسَ الملاحظة لقصيدةٍ في ديوان الشاعرة وفاء وجدي، واعترض أحدُ الزملاء على حقِّ الناقد في التعديل أو اقتراحِ ما يمكن أن يُغير من شكلِ القصيدة. باعتبار العمل الفني كِيانًا مطلقًا لا يجوز المساسُ به. وطَفِقت أتأمَّل هذا الموقف الناشئَ من إساءة فَهْم المذهب الفني الحديث؛ فلا شكَّ أن النقد الحديث لا يقصدُ القول بكمالِ أيِّ عمل فنِّي، ولكن ما هي أسباب سوء الفهم؟
السبب الأول في رأيي هو معنى اصطلاح «العمل الفني» بدايةً؛ فنحن نَقْنع بالشكل الخارجي للعمل في تحديد انتمائه إلى أسرة الفن — فما دام منظومًا ومُقفًّى (أيًّا كان نوعُ النظم والقافية)، ويقدِّم رؤيةً ما؛ فهو قصيدة، وما دام منثورًا ويحكي وقائعَ وبه شخصياتٌ وأحداث؛ فهو قصة ورواية، وما دام مكتوبًا بالحوار وبه مواقفُ وما إلى ذلك؛ فهو مسرحية. ونحن نُسرع في الحكم باستقلاله وكماله حين نُقرر أنه عملٌ فني! وما أبعدَ هذا كلَّه عما يَعنيه النقدُ الحديث!
إن النقد الحديث يقول في الحقيقة إن «العمل الفني» يطمح إلى الكمال؛ أي إنه في صورته المثاليَّة كامل، ولكنه لا يَرْقى إلى هذه الصورة المثالية أبدًا؛ فهو مرتبطٌ بنقصان البشر، وما هو في الحقيقة إلا سجلٌّ مجسِّد لمشاعرَ وأفكارٍ أبعدَ ما تكون عن الكمال شكلًا ومضمونًا، وكلنا يذكر قولَ العماد الأصفهاني: «إني رأيتُ أنه لا يكتب إنسانٌ كتابًا في يومه إلا قال في غدِه: لو غُيِّر هذا لكان أحسَن، ولو زِيدَ كذا لكان يُستحسن، ولو قُدِّم هذا لكان أفضل، ولو تُرِك هذا لكان أجمل، وهذا مِن أعظم العبر، وهو دليلٌ على استيلاء النقص على جملة البشر.»
ويعرف الكثيرون دهشة الشاعر الإنجليزي «جون كيتس» حين اطَّلع على مُسوَّدات «الفردوس المفقود» للشاعر الأعظم «جون ميلتون»، فأصابتْه صدمةٌ أوقفَتْه عن الكتابة فترة؛ إذ شاهد بعينَي رأسه التعديلاتِ التي أمْلاها ميلتون على بِنائه للنصِّ العظيم، وقد كان يتصوَّر أن شعر ميلتون لجماله وإحكامه كاملٌ يقترب من المثال؛ أي لا يقبل التعديلَ والتبديل، وأنه مِن ثَم لا بد أن يخرج من فم الشاعر في صورة كاملة!
ومن هذه الزاوية نرى أن كلَّ «عمل فني» هو — إلى حدٍّ ما — «مشروع» عمل فني، وأنه لا يتَّخذ الصورةَ النهائية — مثل مشروعات القرارات والقوانين — إلا بعد الموافَقة عليه، سواءٌ كانت بإجماع القُرَّاء والنقَّاد في زمنٍ ما ومكانٍ ما، أو بغالبية الأصوات، أي باتفاق جمهور القرَّاء ومعظم النقَّاد، أو بتزكية بعض النقَّاد المعاصرين له ممَّن يتمتَّعون بحساسيةٍ مُرهَفة ربما اختلفَت عن حساسية العصر. وحتى عندما يُقبَل العملُ الفني بالصورة التي أسميتُها «الصورة النهائية» فإن ذلك لا يكون إيذانًا بالكمال أبدًا! فالصورة المكتمِلة ليست كاملة؛ لأنها تستندُ إلى معاييرَ ما تَفتأُ تختلف من مكانٍ إلى مكان ومن عصرٍ إلى عصر، ومن جمهورٍ إلى جمهور في نفس الزمان والمكان!
أما السبب الثاني فهو مفهومنا للنقد وعملِ الناقد. لقد تجاوَزْنا مرحلةَ اعتبار النقد عَملًا طُفيليًّا يُمارسه مَن لا يستطيع الكتابةَ الإبداعية أو اعتبار النقد نشاطًا ذهنيًّا «غير فني» يقتصر على تِبيان المثالب (وعندما تجاوزنا المرحلةَ الأخيرة أمْعنَّا في التجاوز حتى أصبح الكُتَّابُ، وبخاصة مَن يبدَءون هذا الطريقَ الشاق، يتوقَّعون المديحَ والثناء، ولا يقبلون تبيان العيوب والنقائص). ولكنَّ الأخطر من ذلك هو تصوُّر نُقادنا وجودَ معايير مطلقة للأحكام النقدية — وهذا خطأٌ يُداني تصوُّرَ وجود معايير مطلقة للأشكال الفنية. وإذا كان صحيحًا أن الناقد يهتدي في استنباط الأحكام بالتراث الفنِّي؛ فهو لا يخضع للأشكال السائدةِ في التراث طول الوقت؛ لأن هذه الأشكال وما يُمليها من أفكار ما تفتأُ تتغير. والناقد ذو طاقة إبداعية دفينة، تتجلَّى في إدراك الخطِّ الذي تسير فيه الأشكالُ والأفكار تحولًا وتبدُّلًا. وفي إقامة العلائق الباطنة والظاهرة بين الأعمال الفنية في عصرٍ ما أو عند فنانٍ بعينه، والأهمُّ من هذا كلِّه قدرتُه على اكتشاف النمط الفنِّي المحدد الذي يختارُه الفنان؛ ومن ثَم قدرته على اكتشاف أماكنِ كسر هذا النمط بفضلِ طاقة الاستشفاف لديه — وهي طاقةٌ تستند إلى موهبةٍ فِطرية صقَلتْها الدراسة وهذَّبها طولُ قراءته للأعمال الأدبية وطولُ استقرائها.
ولذلك فعندما يتعرَّض ناقدٌ مرهَف لعملٍ فني ويقترحُ تعديلًا ما، فإنه يفعل ذلك نِشْدانًا للكمال — مصيبًا كان أم مُخطئًا — أي إنه يشارك الفنانَ موقفه وجهدَه من زاويةٍ جديدة، وإذا كَثُر عددُ النقاد كثر عددُ الزوايا وتعدَّدَت الوجهات، واستطاع الفنانُ أن يرى ما لا يستطيع أن يراه وحده.
عاد إلى الطيور
عندما تهبُّ أولى نسمات الخريف الباردة، تُقلِع أسرابُ الطيور الأوروبية من غابات «بوهيميا» وما حولها، مهاجرةً إلى دِفء أفريقيا، وتتوقَّف قليلًا عند ساحل البحر المتوسط في انتظار البدر، وعندما يكتمل البدرُ في ليلةٍ من ليالي سبتمبر، تَعبر الأسرابُ البحرَ لتصلَ مع الفجر إلى ساحل مصر، وعيونها تبحث عن السواد في الصحراء، أي عن البقاع الخضراء التي تَزدانُ في ذلك الفصل بثمراتٍ ناضجة، تُحبها طيورُ أوروبا وتعشق رحيقها، وما تَلبث أن تهبط على كل غُصن وفَنَن، حذرةً خائفةً في الغربة، وإن أدفأ قلوبَها اقترابُ موسم التزاوج إذ سترتعُ في غابات السودان وتُنشد أناشيد الزفاف، قبل أن تعود في مايو إلى أوروبا إلى أعشاشٍ جديدة تبنيها إلى جوار أعشاش الآباء.
وقبل شروق الشمس في الأيام الأولى من سبتمبر ينتظر الصيادون السمَّانَ بشِباكهم على ساحل رشيد، وينتظر البعضُ الآخر من هُواة الصيد هذا الفيضَ من الطيور، بينما يتجوَّل رجلٌ مع ابنه في غبَش الإصباح ومعهما مِنظارٌ مُقرِّب، يُحاولان أن يرصدا هذه الطيورَ في دُكْنة السحَر، ويشرح الأبُ لابنه وهما يسيران وسط حقول السمسم والذرة التي تتوسَّطُها أشجارُ نخيل باسقة تبتعدُ عن بعضها البعض بما لا يَزيد على ثمانية أمتار، يشرح الأبُ لابنه الذي ما زال بين النوم واليقظة رصْدَ الطيور وتمييزَ أنواعها من ظلِّها والضوء من خلفها في السماء؛ أي بطريقة «السلويت» وما تنقضي الساعة حتى يكونا قد رصَدا عددًا من الطيور وتحدَّثا عن خَصائصها؛ فهذا هو القُمْري — من فصيلة الحمائم — الحذِرُ الخائف أبدًا، يقصد أعلى النخيل ويقبع على السَّعَف وسط الخُوص ليُضلِّل الطالب، ولكنه يهبُّ طائرًا إن اقترب ظلُّ البشر! وها هو الضوع واسمه هنا «أبو النوم» لأنه ينام على قاعدة «الجريدة» أي على الكرنوفة (أو القحف) طوالَ النهار فاتحًا فاه لتدخُلَه الحشرات! وقد عرَفه الشاعر العربي وعَجِب له قائلًا:
وها هو الصُّفَّير، واسمه هنا الشاويش؛ لأنه ذو ريشٍ أصفر فاقعٌ لونه مثل بزة الجاويش الرسمية! وها هو الوقواق، ويُسمُّونه هنا «السقساق» الذي يضعُ بيضه في عُشِّ غيره ولا يحتضنُ أفراخَه أبدًا!
ثم تُشرق الشمس وتصحو الطيورُ من وَعْثاء الرحلة وتبدأ في البحث عن الطعام، فهذا موسمُ الفواكهِ أيضًا؛ موسم البلح والمانجو والقشطة الخضراء، «وإذن فوجِّه مِنظارك المقرِّب إلى الفاكهة الناضجة تجد تلك الطيورَ تتناول طعامَ الإفطار!»
وعندما تسطعُ الشمس في السماء ويُقبل الضحى، تهدأ حركة الطيور إلا من قرناص يَنشُد جعرانًا أو دودة، أو من دقناش يزهو بألوانه، وسائر الطيور الصُّغرى كالقبَّرة والوروار والخضيري التي تملأ الجوَّ شقشقةً وشَدْوًا متصلًا حتى الهاجرة.
وكبر الابنُ وكبرَت معه الأشجار التي كان والدُه قد غرَسَها في فدَّانَين اقتطعَهما من قلبِ الصحراء وأحالهما جنةً وارفة الظلال حتى تجتذبَ الطيور الزائرة، واعتاد الصبيُّ منظر الخضرة وسط الرمال، واعتاد انتظارَ طيور أوروبا (ويسمُّونها في رشيد «طيور النيل»؛ لأنها تأتي مع فيَضان النيل)، وأحبَّ تمييز أصواتها وألوانها، واعتاد رؤيةَ والده عاكفًا على كتبٍ ضخمة بالإنجليزية حافلةٍ بصور الطيور الملوَّنة المطبوعة على ورقٍ سميكٍ لامع، ينقل منها ملاحظات، مثلما اعتاد رؤيتَه مُنكبًّا على كتب الأدب العربي القديم ينقل منها مختاراتٍ في كرَّاسات كثيرة، يُتحِف بها أبناءه من وقتٍ لآخَر، أو متحدثًا عن الطيور التي عرَفها العرب، أو منشدًا ما قيل فيها من شعر.
لقد ارتبطَت الطيورُ في أعماق البشر بنزعة الحُرية والانطلاق؛ نزعةِ التحرُّر من الالتصاقِ بالأرض، فهي سابحةٌ في جوِّ السماء، تُبصر البشر من عَلٍ وعيونهم تتطلَّع إليها من الأرض، وهي تُنذرهم بالغيوم أو الجوِّ الصَّحْو، وتتَهادى أو تَهْوي، تُرفرف أو تدف، تُحلق أو تحوم، فيرَون فيها رموزًا لما يدفُّ بين جوانحهم ولِما يُحلِّق في خيالهم! ولكنها قبل هذا وذاك رمزٌ لِلُّغز الأكبر؛ لغز الروح.
لقد صوَّر الفراعنةُ الروحَ في صورة طائر، واستعار القرآنُ العظيم صورةَ الطائر في معنًى مُشابِه وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ، واقتبس هذا المعنى الشاعرُ الرومانسي الكبير «كولريدج» عندما جعل الملَّاحين يربطون طائرَ القادوس الذي قتَله الملَّاح الهرم في عُنقه (بدلًا من قِلادة الصليب) إيحاءً بتحمُّلِه الوِزرَ وحده! ولكن السِّمة الأساسية التي شدَّت الشعراءَ إلى الطيور هي صوتها الذي يأتي من السماء! والشعر الرومانسي يزخر بالطيور التي نسمعُها ولا نراها! وهذا هو ما جعل العقَّاد يرى في الكروان هذا اللغز:
إن للطيور سحرًا يرتبط بالتجريد؛ أي باستحالتها أصواتًا صافيةً مجرَّدة، وهي أصواتٌ ترتبط بأصوات السماء، مثلما يقول «شلي» عن القبرة، ومثلما يقول «كيتس» عن البُلبل، ومثلما يقول «وردزورث» عن الوقواق! والصوت في ضمير البشرية كلام — والكلمة طاقة خلَّاقة، بل هي طاقة الخلق نفسُها.
كان الصبيُّ يعرف أن أباه يحبُّ الطيور لألوانها وجَمالها وطباعها وكان دائمًا ما يتمنَّى أن يرى كتابه «طيور مصر» مطبوعًا في أبهى حُلَّة، حتى يُحاكي نُظراءه من كتب العالم، ولكنه لم يكن يعرف سرَّ تلك العلاقة اللُّغزية إلا حين مات والدُه وعاد به إلى مسقط رأسه رشيد؛ ليعود الجسدُ إلى الرمال، والكتاب بعدُ في المطبعة، وتعود الروح إلى الطيور.
عن البراءة والتجرِبة
منذ مائتَي عام كاملة أصدَر رسَّامٌ مغمور يعيش في أحد أزقَّة لندن مجموعةً من القصائد القصيرة التي تختلف كلَّ الاختلاف عما عَهِده القرنُ الثامنَ عشر من فنِّ الصنعة وحذق البناء، وتستخدم لغة ساذجة مما يدور على ألسنة البسطاء والأطفال، وأطلق على الديوان اسمَ «أناشيد البراءة»، وربما كان هذا هو ما أوحى للدكتور مصطفى محمود أن يُصدِر كتابًا يحمل نفسَ العنوان منذ سنواتٍ قليلة.
كان عام ١٧٨٩م عامًا حافلًا بالنسبة لذلك الرسَّام — واسمه «وليام بليك» — كما كان حافلًا بالأحداث السياسية في أوروبا؛ إذ شهد اندلاعَ الثورة الفرنسية، وشهد تباشيرَ الصراع الذي غيَّر وجه الحياة في أوروبا، كان «وليام بليك» آنَذاك في الثانية والثلاثين، وكان يعمل مع زوجته في إعداد اللوحات الخاصة بكتب الأدباء بطريقةٍ بدائية؛ إذ كان يرسمها بطريقة الحفر على الخشب، ثم يعدُّ منها لوحاتٍ زنكوغرافية يُلوِّن كلًّا منها بنفسه؛ ولذلك فلم يلتفت النقادُ إلى ذلك الديوان الأول، وظلَّ «أناشيد البراءة» كتابًا مطويًّا لا يلتفت إليه أحدٌ حتى أصدر «بليك» الديوان المكمِّل له عام ١٧٩٤م وأسماه «أناشيد التجرِبة»، وفيما بين هذا وذاك أصدر ذلك الشاعرُ الرسَّام عدةَ دواوين وعدةَ كتب؛ أهمها «سفر ثل، ١٧٨٩م» و«زواج الجنة والجحيم، ١٧٩٠م» و«أبواب الفردوس، ورؤى بنات ألبيون، ١٧٩٣م» مما يُطلِق عليه النقادُ كتبَ النبوءات.
وفي عام ١٩٨٤م أصدر «لاريسي» أحدُ كبار نقاد الأدب الإنجليزي كتابًا عن «وليام بليك» يدحض كلَّ ما ذهب إليه النقادُ في أوروبا وأمريكا منذ الخمسينيات عن هذا الشاعر؛ من أنه صوفيُّ النزعة منفصلٌ عن مجتمعه، لا علاقة له بما يدور في دُنيانا، وقد ثبت بصره على ما يدور في عالم الروح أو في العالم الخفيِّ الذي يربط وجودَنا على الأرض بوجودنا في عالم الخلود؛ إذ ذهب «لاريسي» إلى أن مفهوم البراءة والتجرِبة ذو دلالةٍ اجتماعية عميقة، وإلى أن «بليك» كان شاعرًا يعيش هذه الحياةَ بكلِّ أبعادها وأنه كان يعي تمامًا أوجُهَ الظلم الاجتماعي والقهر الذي كان يسودُ المجتمع البريطاني في ظلِّ النظام السياسي القائم؛ ومن ثَم فهو يُخرج تفسيرًا جديدًا يتفق مع مذهب المشرِف على سلسلة الكتب التي تتضمَّن هذا الكتابَ وهو الناقد النابهُ «تيري إيجلتون» وفحواه أن الفنان إذا كان صادقًا فهو مرتبطٌ بقضايا عصره وهو يُسهِم في تعميق الوعي بها، حتى لو لم يكن يهدف إلى ذلك وحتى لو لم يُعلن صراحةً عن مقصده.
أما التفسير الجديد للبراءة ومعنى البراءة بصفةٍ عامة، فهو عدم إدراك وجود الشرِّ أو عدمُ قَبول وجودِه، وما الشرُّ في أبسط صوره إلا مُعاداةُ الحياة — وألوان هذه المعاداة كثيرةٌ مثل إحداث الضرر والإيذاء والإساءة التي قد تتَّخذ صورًا ماديَّة صريحة؛ كانتهاك قوانينِ الإنسانية وثوابتها، بالسرقة والقتل والاغتصاب وما إلى ذلك، وقد تتَّخذ صورًا نفسية؛ كالحقد والكراهية والحسد والبغضاء، وقد تكون المعاداة عداءً للنماء والازدهار والخير إما بدافع الغَيرة والحسد أو بدافع النقمة والتلذُّذ بالإيذاء (وهو الشر الصافي).
وأما معنى التجرِبة فهو عكسُ ذلك، أي إدراك وجود الشر وتقبل وجوده باعتباره عنصرًا أساسيًّا من عناصر تكوين النفس الإنسانية، أي باعتبار دوافعه عناصرَ غريزية مركَّبة في الإنسان لا يَسلم منها أحدٌ ولا تخلو منها أيُّ نفسٍ بشرية، وفي هذا الإطار يُعيد «لاريسي» تعريف موقف «بليك» من شرور عصره، كما يفتح لنا بابًا جديدًا نفهم منه كيف استطاع الأدبُ الحديث أن يُعيد تشكيلَ العلاقة بين البراءة والتجرِبة بحيث لم يَعُد ثَمة مَن يمكن أن يكون بريئًا كاملَ البراءة أو مُجرِّبًا كاملَ التجرِبة، بل أصبح الأدبُ يُصور الإنسانَ باعتباره كائنًا يتمتع بقدرٍ ما من كلٍّ منهما ويتفاوت قِسطُه من التجربة وفقًا لما يُصادفه من صور الشر.
وفي هذا الإطار أيضًا تبرز لنا معانٍ جديدةٌ لما سبق أن قاله النقادُ عن ضرورة الإحساس بالدهشة لدى الشاعر؛ فالشاعر الأصيل في دهشةٍ دائمة؛ لأن لديه براءةً دائمة! أي إنه لا يستطيع تقبُّلَ وجودِ الشر، ويدهش دهشةً صادقة كلما صادفَه أو سمع عنه! وهو أيضًا يدهش لسلوكِ الأوغاد مهما كان عِلمه بانحطاطِهم وخِسَّتهم؛ لأن لديه قلبًا لا يتغيَّر مهما توالَت عليه التجارِب، وهو يعجب من حِقد الحاقدين، ولا يُوطِّن النفس على قَبوله، ويظل دائمًا أبدًا يظن الخير بالناس مهما قيل له عنهم، ومهما كان اقتناعه المنطقيُّ باختلاط الخير بالشر في كل نفس بشرية!
وكذلك فإن الشاعر الصادق في حَيرةٍ دائمة بين ما يَعرفه (عن طريق التجربة والعقل) وبين ما يُحسُّه (عن طريق القلب الصافي أبدًا)؛ فهو نهبٌ لصراعٍ محموم لا يَفتُر إلا ليشتدَّ ولا يَخمُد إلا ليتَّقد بين ما ينبغي أن يكونَ وما هو كائن؛ ولذلك قال النقَّاد قديمًا إن للشاعر قلبَ طفل لا تُلغيه حِكمةُ الشيوخ، وهو ينظر إلى الدنيا كلَّ يوم كأنما يراها لأول مرة، فلا تستطيع العادةُ ولا يستطيع التَّكرارُ أن يُلقِيَ بحجاب الأُلفة الغليظ على بصَره! فهو ينظر إلى السماء كأنما يُشاهدها أولَ مرة وتهتزُّ نفسه لجمال الطبيعة كلَّما نظر إليها، حتى ولو كان يَسكن الريفَ وحتى لو كانت صورُ الطبيعة تسكن روحَه ومخيلته! ولذلك فهو مدفوعٌ دائمًا بالرغبة في نقل هذه الانفعالات وهذه الرُّؤى إلى مَن حوله، راجيًا منهم أن يُشاركوه فرحتَه ودهشتَه بجمال الكون وجمال الإنسان!
لقد كان هذا دأبَ الشاعر الإنجليزي «شلي» ولقد قاله صراحةً في مقاله الأشهر «دفاع عن الشعر»، كما أنه يُفسر إلى حدٍّ ما انقطاعَ الموهبة عن الشاعر الإنجليزي الرومانسي «وردزورث» عندما بلغ مرحلةَ التجرِبة ولم يَعُد يدهش لما يرى! وهو يُفسر استمرارَ كِبار الكتاب في الكتابة مدفوعِين بدهشة البراءة وعُمق الإحساس بوجود الخير، مهما أنكروا ذلك. والدهشة لمرأى الشر لدى البريء تُولِّد إحساسًا بالحزن — لا بالغضب الذي يدفع إلى القيام بعملٍ ما — وهو حزنٌ ما تَفْتأ دفقاتُ البراءة أن تَغسله وتُزيله — حتى يراه مرةً أخرى — فيُخرِج بين هذا وذاك عملًا إبداعيًّا عظيمًا.
عن الكبير والصغير
كنا في ندوة نتحدثُ عن أدب الأمس واليوم، وكان المذيع الذي يتولَّى نقل الندوة مهذَّبًا رقيقًا، فجعل يُقدم كلَّ متحدثٍ للمستمعين متبوعًا بلقَب «الكبير»؛ فهذا كاتبٌ كبير وذاك ناقدٌ كبير وما إلى ذلك، حين مال عليَّ أستاذنا الدكتور أحمد هيكل وهمس قائلًا: «لم يكن يُقال الكاتب الكبير إلا للعقَّاد في أيامنا!» وصمَت. ولكنني انثنيتُ أُفكر في هذا الذي قاله: ما معنى «الكبير» وما معنى انشغالِنا بالألقاب والأوصاف التي لا تنتهي أحيانًا؟
وكنتُ في ذلك الوقت منهمِكًا في قراءة «النجوم الزاهرة» لابن تَغْري بَرْدي الأتابكيِّ فتوقفتُ عند فصلٍ يُفصل فيه القولَ عن ألقاب المماليك. وراعَني أنه حين تتضاءلُ قوة المملوك تكثرُ ألقابُه، وكذلك الحال عندما تضعف مؤسسةٌ ما؛ فالألقاب — والله أعلم — تُعوِّض مَن تلتصقُ أسماؤهم بها عن ضعفِهم! وعندما قصَصتُ ذلك على صديقي الأستاذ أحمد صليحة، الذي تخصَّص في تاريخ مِصر القديمة، قال لي إنه من الثابت تاريخيًّا أن الألقاب تَكثُر وتكبر عندما تضعف هياكلُ البُنيان، فتجد خادمَ المعبد يُشار إليه بألقابٍ كثيرة لا تتناسبُ مع مكانته المتواضعة، لا يكاد يُطلِقها أحدٌ على كبير الكهَنة في عصور قوَّة الدولة! وعدتُ أتأمَّل أصنافَ الألقاب التي أضافها المؤلِّفون إلى أنفسِهم في صدور كتبِهم، وعلى بطاقاتهم فوجدتُ عَجبًا! وجدتُ أن أكبر الأساتذة يذكر اسمَه مجردًا من اللقب الوظيفيِّ لا زهدًا فيه وإنما إدراكًا منه لانعدام العلاقة بين الوظيفة وبين الكتابة الإبداعية، بينما يعمد المتوسِّطون (ولا شك أن بين الكبار والصغار درجةً وسَطًا) إلى إدراج بعضِ الألقاب من باب التعريف، وبعض الصفاتِ أيضًا من باب التأكيد، أما الناشئة والصغار فإنهم يُصرُّون على إدراج كل شيء — من الدرجاتِ العلمية والمناصب إلى الجوائز التي حصَلوا عليها وما إلى ذلك — حتى لَكأنهم يفرضون أسماءهم فرضًا على القارئ!
وتأمَّلتُ الحال في البلاد التي سبقَتنا في مِضمار التأليف والنشر، فوجدتُ أنه لا فرق على الإطلاق بين الكبير والصغير من ناحية الألقاب؛ فلا يُذكر اسم الكاتب إلا مجردًا من كلِّ لقب، وكذلك نفعل بطبيعةِ الحال عندما نُشير إلى أعمالهم في ثنايا أبحاثنا باللغات الأجنبية، بل إن ذِكْر اللقب العلميِّ لناقدٍ شهير أو أديب كبير معناه الحطُّ من قدره! وما زلتُ أذكر أنني وقعتُ في هذا الخطأ عام ١٩٦٥م عندما كتبتُ في إحدى فقرات رسالتي التي تقدمتُ بها لدرجة الماجستير من جامعة لندن: «إن الدكتور ف. ر. ليفيز يقول كذا …» فقال لي الأستاذ المشرفُ مؤنبًا: «أعرف أنك لا تحترم آراء ليفيز كثيرًا، ولكن لا داعيَ لهذه الإهانة!» وتساءلتُ عمَّا يعنيه بهذا فاتضحَ أن ليفيز وهو ناقدٌ من أكبرِ نقاد إنجلترا المحدَثين لم يحصل في حياته على درجة الأستاذية مطلقًا وإن كان قد تَمنَّاها وسعى لها سعيًا، بل وتخطَّاها بكتاباته التي ملأَت الدنيا وأثَّرَت في الحركة النقدية الحديثة … وهكذا فإن في الإشارة إلى درجة الدكتوراه التي يحملها تذكيرًا بعدَم ظفَرِه بالأستاذية؛ ومِن ثم إهانة ضِمْنية له! وقِس على ذلك مَن يذكر اسم الشاعر والناقد ت. س. إليوت مسبوقًا بدرجة الدكتوراه!
ولكن ما هو المقياس الذي نُطبقه عند الفصل بين الكبير والصغير؟
ولكننا في العالم العربي نقنعُ بمعيارٍ واحد من هذه المعايير، ونُركِّز عليه أشدَّ التركيز؛ ألا وهو قدرة الكاتب على صناعة اسمٍ له؛ أي على الشُّهرة التي قد يصل إليها عن طريق المعايير الأساسية أو الثانوية التي أشرتُ إليها، وقد يصل إليها نتيجةً لظروف لم تتوافر لغيره، بل قد يصلُ إليها نتيجةَ منصب (يُتيح له أن يجعل اسمه يلحُّ على أسماع الناس) أو لقبٍ (يَفرض به سُلطةً أدبية أو عِلمية) وهو في أيِّ الحالات ليس كبيرًا إذا قيسَ بالمعاييرِ السالفة!
فلْنُراجع تاريخنا القريبَ لنرى أن هذه المعاييرَ صادقة، وأن مَن تسرَّب إلى طائفة الكبار في زمنه بسبب معاييرَ زائفةٍ قد طواه النسيانُ أو أصبح هامشًا من هوامش التاريخ الأدبي، ولْنتردَّدْ قليلًا قبل أن نُطلق على هذا أو ذاك لقبَ «الكاتب الكبير»!
غدًا تبدأ الحياة
للشاعر الإنجليزي إدوارد ينج قصيدةٌ يسخر فيها من التَّسويف الذي يَدفع بعضَ الناس إلى انتظار الغدِ باعتبارِ أن الغدَ لا بد أن يكون بدايةَ حياةٍ جديدة. الواحد من هؤلاء يقول إنني لن أفعلَ كذا إلا إذا أعدَدتُ له اليومَ عُدَّتَه. فإذا مر اليومُ وجاء الغدُ أصبح الغدُ هو اليوم. وعاش الإنسانُ دومًا في انتظارِ غدٍ لا يجيء أبدًا.
وقد ألحَّت هذه القصيدةُ على ذهني عندما زار مِصر مغتربٌ ممن قضَوا في أوروبا فترةً طويلة، ثم سنَحَت له فرصةُ العمل في كندا لِيَكسِبَ المزيد من المال. فقَبِلها راضيًا شاكرًا حظَّه السعيد. ثم زار مصر لِيُودِّع أخاه وأهله في بلدةٍ إقليمية على شاطئ البحر المتوسط قبل الرحيل. والتقيتُ به في القاهرة ساعةً أو بعض ساعة شكا لي فيها ما سوف يُواجهه من هموم، فابنتُه الكبرى في الجامعة وهي لا تعرف من العربية إلا شذَراتٍ تَعلَّمتْها في المنزل (أو في مدرسة المغتربين). وابناه في المدرسة الإعدادية. وقد بدأ القلق يُساوره على مستقبل هؤلاء الأبناء؛ فمَن يا تُرى سوف يتزوج ابنتَه إذا طالت غربتُه فأمعَنَت في الطول؟ وماذا يا ترى يكون مصيرُ الأبناء؟
وعندما ذكَرتُ له جادًّا أن مصر هي بلَدُه، وهي أمُّه الرَّءوم. وأشرتُ إلى أملاكه التي تُدِرُّ عليه دخلًا كبيرًا، وإلى عمله الذي ما زال يحتفظ به في إحدى الوزارات، مؤكدًا أن الحياة في مصر يُمكن أن تُحقق له آمالَه؛ وجدتُه يبدأ حِسبة غريبةً مؤدَّاها أنه وضَع ترتيبًا معيَّنًا لاستثمار مبلغٍ معيَّن، وبناء عَقار معيَّن، وأن عليه أن يكسب مقدارًا آخر من المال (محسوبًا بآلاف الدولارات طبعًا) حتى تستقيمَ له الأحوال، وينجحَ الترتيب؛ ولهذا فهو يؤجل الحياةَ في مصر حتى يستطيع تدبيرَ هذا المبلغ وتكتملَ له خُطة النجاح.
وسافر صديقي الذي يدقُّ أبواب الكهولة، وإن كانت الحياةُ الرغدة في أوروبا تُخفي حقيقة سنِّه، والتقيتُ بعده بالعديد من الأصدقاء الذين عادوا في صَيفنا الحاليِّ لقضاء العطلة أو جانبٍ منها في القاهرة، وكلٌّ منهم يحمل آمالًا بأن يبدأَ الحياة غدًا عندما تكتملُ له مشروعاته المالية، ويصلُ إلى طُمَأنينةٍ في الرزق لا تتأتَّى لأقرانه، بل للسَّواد الأعظم من المصريِّين وراعَني أن كُلًّا منهم بلا استثناءٍ يؤكد أنه لا بد عائد، وأنه لن يقضيَ شيخوخته في الغربة. وراعني وأدهشَني أن كلًّا منهم مشغولٌ بموضوع أوحد لا يُبارح خياله؛ ألَا وهو المال، وطرُق استثماره، وأن كلًّا منهم حتى المثقَّفين من زملائي الذين جمَعتْني بهم أيامُ الدراسة لم يَعُد يتحدَّث إلا في العُملات الصعبة والعملات السهلة. وفيما يتبدَّى في مصر من نَواحي القصور التي نَلمسُها جميعًا في حياتنا اليومية، وأنَّ انشغالهم بالثقافة انحسَر أو تلاشى، وأن فكرة العمل من أجل رسالةٍ أو لبناءِ الوطن قد أصبَحَت ضربًا من السخرية المؤلِمة في أعينهم؛ فالمال هو قانونُ الحياة الأعظم، وهو القوة والبطش والسلطان في نظرهم، حتى حين يُنكرون ذلك.
وذكَرتُ زميلًا مِصريًّا قابلتُه في إدنبره عاصمة اسكتلنده عام ١٩٧٠م أثناء رحلةٍ إلى تلك الأصقاع الجميلة. وكان قد أتى مِن مِصر لِيَدرُس الطب. ولكنه اكتشفَ وسيلة لكسبِ المال شغَلتْه عن دراسة الطب، فكان حالُه مثلَ حال الأزهري الذي ذكَره طه حسين في الأيام؛ قضى عشرين عامًا لم يظفر بالدرجة ولم يستيئس من الظفَر بها. وسمعتُ من أحد الأصدقاء الذين عادوا في العام الماضي من ذلك البلد أنه تَوسَّع في عمله وأصبح تاجرًا للُّحوم يُشار إليه بالبَنان، ولا يعرف إلا القليلُ من أهل البلد علاقتَه بالطب، ولكنهم يعرفون أنه مصري. وهو يقول لكلِّ مَن يقابله من المِصريِّين إنه يَدرُس الآن للدكتوراه (بعد قرابة أربعين سنة)، وإنه لا يقبل أن يعودَ إلى مصر إلا بعد ظفَرِه بالدرجة.
ونظرت إلى مَن عادوا مُختارين من بلاد الغربة، فوجَدتُ أنهم ينقسمون إلى قسمين بصفةٍ عامة؛ القسم الأول هو الذي قنَع بما اقتصَد من مالٍ أصلح به حالَه فعاد مُبكرًا ليستقرَّ به المقام في مصر؛ إما في عمله الأصلي (بعد كِفاح)، أو في عملٍ مُشابه. سواءٌ تَطلَّب ذلك نظام الوظيفة القديم أو تحرَّر منها. والقسم الثاني يضمُّ مَن عاد بسبب طُول الغربة التي ملَّها وملَّتْه. وبسبب إحالته إلى المعاش في سنٍّ مبكرة أو متأخِّرة. فجاء كارهًا للغربة مقبلًا على مَراتع الصِّبا يريد أن يعود للحياة من حيث تركَها، فلم يَجِدها إذ كَبِر الأقران وهدَّهم الزمن، أو رحَلوا عن الدنيا وترَكوه قائمًا؛ فهو دائمًا أبدًا يبحث عن الماضي فلا يجده، وهو يزعمُ أنه لم يمرَّ زمنٌ ولم تتغيَّر الدنيا، وهو يَرْنو إلى مِصر اليوم مُحاولًا أن يجد فيها مِصرَ الأمس مُصِرًّا على ألَّا يرى الهُوَّة التي تفصل بينه وبين ما كان عليه وما كانت الدنيا عليه.
إن نمط الغربة من أجل المال أصبح مألوفًا إلى حدٍّ جعَلنا نعتبره القاعدةَ التي لا استثناء لها، وأصبح الجميع يَحلُمون بأن يبدَءوا الحياةَ غدًا عندما يعودون، إذا عادوا! أما مَن لا يعودون — وليس عددُهم بقليل — فهم الواقعيُّون الذين تصالَحوا مع الزمن وكَفُّوا عن خِداع النفس، فأصبحوا يرون اليوم حاضرًا والغدَ مستقبلًا، فلا بأس إطلاقًا في أن يعيش المصريُّ في بلدٍ تُصبح له وطنًا جديدًا؛ فهو هنا يعيش الزمن كما ينبغي وقد نفى فِكرةَ بداية الحياة غدًا، وإن كان عليه في هذه الحالة أن يُقيم جُسورًا مع مِصْرِ الحاضر بالزيارة والتواصل والتفاعل؛ حتى لا تتراجع صور مصر إلى ماضٍ غابرٍ يخلق منه صورةً ضبابية لمستقبلٍ لا يجيء أبدًا.
معنى التراث
كتبتُ في هذا المكان قبل عدة أسابيعَ سُطورًا عن معنى الزمن، فصَّلتُ فيها القول عن الزمن الفردي (النفسي) والجماعي (الإنساني) والاجتماعي، وذكَرتُ أن مِن صور الزمن الاجتماعي أحوالَ الناس في مجتمعٍ ما كما ينقلها لنا التاريخ، وأن مِن أسباب الخلط في تفكيرنا هو الإحساسَ بالزمن الفرديِّ أي بالماضي في صورة الزمن الاجتماعي؛ أي تحويل الحنين إلى الماضي، وهو عاطفةٌ بشرية طبيعية، إلى حنينٍ غامض عامٍّ إلى صورٍ من التاريخ، فإذا نحن نُضْفي عليها صفاتٍ ليست فيها، بل هي نسجُ مشاعرنا وطبيعةُ شوقنا إلى ما فات، وإذا نحن نتصوَّر بعض العصور المظلِمة في صورٍ من البهاء لا يمكن أن يشهَد بها التاريخ الصادق.
وربما استعصَت هذه الفكرة على قارئٍ من القُراء، فتصوَّر أنني أَدين بهذا التاريخ كلِّه، أو أنني أُهاجم ما اصطُلِح على تسميته بالتراث؛ ومن ثَم كان لا بد من العودة إلى هذا الموضوع الذي أصبح ساخنًا في هذا الصيف الساخن، بل لا بد من تفصيل القول فيما نَعنيه بالتراث، وما يمكن أن تعنيَ هذه الكلمةُ لكلٍّ منا في مَيدان عمله الخاص.
التراث في اللغة يعني الميراث، أي التَّرِكة التي خلَّفَها لنا الأقدمون؛ قال تعالى: وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا، وكل إنسان له تُراثه الفرديُّ وتراثه الجَماعي؛ فتراثه الفردي هو ما يتركه أبَواه أو أجداده، ولا يقتصر ذلك بالضرورة على التركة المادية بل يتعدَّاها إلى الصفات الموروثة سواءٌ كانت ذِهنية أو نفسية، إلى جانب المبادئ الخُلقية التي تُغرَس في سنوات العمر الأولى فلا تنتزعها ولا تهزُّها أحداثُ الزمن وما يأتي به الجديدان، وأما التراث الجماعي فهو مجموعة القيم والأعراف التي تَسود مُجتمعًا ما نقلًا عن الآباء والأجداد، وقد تستند هذه القيمُ إلى أدبٍ مكتوب أو أدب شفاهي، أو قد تكون مجسَّدةً في قواعد السلوك ونظُم الحياة نفسِها، وبهذا المعنى فالتراثُ الجماعي قريبٌ من الثقافة التي هي في آخرِ الأمر أسلوبُ حياة.
وقد كُتبَ علينا نحن العربَ أن نحمل في صُدورنا وعقولنا أكبرَ كمٍّ من التراث (أي الموروث)؛ بسبب تاريخ لُغتنا الطويل وتعدُّد الأطُر الثقافية التي ازدهَرَت فيها هذه اللغة؛ ففي لُغتنا يَكمُن تاريخنا الطويل، ولغتنا هي مِفتاح إدراكِ أعماق هذا الزمنِ المترامي في صحراء الإنسانية (إن صحَّ هذا التعبير، كما كان طه حسين يقول)؛ فلُغتنا تتضمَّن من النُّظُم الثقافية المتباينة ما لا يتوافر في أيِّ حضارة أخرى! وسوف أضربُ بعض الأمثلة حتى لا يتَصوَّر أحدٌ أنني أبالغ؛ فبعض لغات العالم القديم (الصينيَّة والهندية) ما زالت تحمل جميعَ سِمات ذلك العالم؛ إذ لم تتغير كثيرًا على مر الأزمان؛ لأن مجتمعاتها لم تتغيَّر كثيرًا هي الأخرى، وما زالت أنماطُ التفكير والإحساس القديمة حيَّةً في تلك اللغات القديمة. والبعض الآخَر من لُغات ذلك العالم قد اندثَر معه (كالمِصرية واليونانية القديمة واللاتينيَّة) أو تحول إلى لغاتٍ حديثة مع نُشوء الدُّول الحديثة، أما الغالبية العُظمى من اللغات الصغرى في العالم القديم فقد تضاءلَت وانحسَرَت؛ إما في مجتمعاتها المحدودة، أو في الكتب التي خلَّفَها أصحابُها للدارسين والمؤرِّخين.
وأما نحن فننفردُ بين شعوب الأرض بلغةٍ حيَّة إلى الأبد، وهي لغةٌ لا ترجع بنا تاريخيًّا إلى عصرٍ واحد أو ثقافة واحدة، ولكنها ترجع بنا كما قلت إلى «أُطُر ثقافية» متباينةٍ تبايُنَ العصور والأمكِنة التي ازدهرَت فيها؛ ولذلك فالوَحدة اللُّغوية الظاهرية بين شعوب الأمة العربية تُخفي تاريخًا خاصًّا لكلٍّ منها.
وأنا أستخدمُ اصطلاح «الوحدة اللغوية الظاهرية» عامدًا؛ فما تلك الوحدة إلا ثمرةَ محاولاتٍ حديثة للتقريب بين أنماط الفكر والإحساس؛ ومن ثَم بين أنماطِ الحياة، في عالَمٍ عربي يتميَّز بالتباين كل التباين، وبالاختلاف كل الاختلاف. وما تلك الوحدةُ إلا محاولةً دائبة للتقريب بين عالمنا العربيِّ الذي ورث تاريخًا سياسيًّا واجتماعيًّا منوَّعًا وطويلًا، ولا يستطيع منه فكاكًا، وبين العالم الحديث الذي استطاع أن يضَع التاريخَ في مكانه الصحيح، وأن يُقيم حاضرَه على أسس الواقع القائم لا على أسُس الحسرة على ما فات، أو على صورة المجد التليد بعد أن زال الكثيرُ من هذا المجد من أمم عالم الحاضر.
ومشكلة كلِّ عربيٍّ إذن تكمن في لُغتِه التي تُحيله دائمًا أبدًا إلى الماضي؛ فإذا كان مثقَّفًا محدثًا أي إذا كان يتسلَّح بالنظرة العِلمية الحديثة التي تَهديه إلى أن يزنَ كلَّ شيء بميزان العقل فيَلفِظَ ما هو لا معقول (كما يقول «زكي نجيب محمود»)، ويقبلَ ما يجدُه معقولًا؛ استطاع أن يضع الماضيَ في مكانه الصحيح باعتباره زمنًا بادَ وانقَضى، وأن يقطعَ بأن لنا أن نحكم عليه بما يُرضي الله وبما يُرضي ضمائرنا، فيأخذَ ما هو صالحٌ من قِيَم، ويَنْأى عما هو فاسد. إن المثقف العربيَّ الحديث قادرٌ على أن يُدين ما كان الأقدمون يفعلونه من استعبادِ الناس، سواءٌ في غزوات الجاهلية أو في غير ذلك من العصور على امتداد زَماننا الطويل (في زمن المماليك وزمن العثمانيِّين مثلًا وأزمنةٍ أخرى أتركها لِذَكاء القارئ)، وهو سيُدينُ الاتِّجار بالإنسان، واستذلال النِّساء وقهرهن، واستبداد الحُكَّام وبطشهم، والاعتماد على القوة الغاشمة وحدها وسيلةً للمُلك والتملُّك، دون رجوعٍ للحق ولا اهتداءٍ بدين الله القويم. وهو سيُدين الاقتتالَ بين طوائف المؤمنين، وغزْوَ أمَّةٍ مسلمة لأمَّةٍ مسلمة، وهو الذي يشهد به تاريخُ العرب الطويل، ولن يفخرَ بأيٍّ من هذا باعتباره جزءًا من تُراثنا الذي تحفل به الكتب.
وأخيرًا فلا بد من التمييز بين التُّراث على إطلاقه وبين التراث الأدبي بصفةٍ خاصة، فإذا كان صحيحًا أن الأدب ظاهرةٌ ثقافية وأنه يُدرَس في أطُره الثقافية المحدودة أولًا، ثم في أطُرِه الإنسانية العامة ثانيًا؛ فينبغي أن نَعِيَ ذلك ونحن نقرأ شِعر الجاهليِّين والإسلاميين، ويكفي أن أُحيلَ القارئ إلى الطَّود الشامخ من الدراسات الحديثة في تراثنا الأدبي العربي من طه حسين إلى جابر عصفور. ولا بد في النهاية أيضًا من أن أوضِّح أننا يجب ألا ننظرَ إلى الإسلام — دين الله الحنيفِ الخالد — على أنه جزءٌ من التراث، وإلا كنا نضعه في سياق التاريخ؛ أي سياق الماضي، وهو دينٌ فوق التاريخ وفوق الماضي؛ لأنه فوق الزمن، وينبغي أن ننفيَ عن أذهاننا تمامًا أن أيَّ قراءة للتراث — سواءٌ كان سياسيًّا اجتماعيًّا أو فكريًّا أو أدبيًّا — تَمسُّ دين الله سبحانه وتعالى؛ فلا يَتصوَّر ذلك إلا مَن فسَدَ تفكيرُهم أو مَن أرادوا التمسُّح به ليشتروا به ثمنًا قليلًا.
لمن يكتب الكاتب؟
في مسرحية «الخال فانيا» للكاتب الروسي أنطون تشيخوف، شخصية أستاذ جامعيٍّ اسمه سربرياكوف تضطرُّه الظروف إلى قضاء فترةٍ في مزرعة الأسرة (في أواخر القرن التاسع عشر)، فيجد نفسه مُحاطًا بأفراد لا يقرَءون ولا يكتبون، فيَضيق بالعُزلة والابتعادِ عن حياة المدينة الحافلة بينما يَسخر منه المحيطون به، ويتَّهمه أحدُهم بأنه لا يفهم حرفًا واحدًا في الأدب، ويظلُّ هو حبيسَ هواجسِه وآلامه الجسديَّة حتى يحينَ موعدُ رحيله، دون أن يحسمَ الكاتب موقفَه الخاصَّ من هذا الأستاذ العجيب.
وعندما اشتركتُ مع صديقي سمير سرحان في ترجمة هذه المسرحية في أوائل الستينيَّات لتقديمها إلى المسرح القوميِّ؛ شُغِلنا بعبارةٍ يقولها هذا الأستاذ، مفادها: إننا نحن الكُتَّابَ نُتعب أبصارَنا وعقولنا في القراءة والكتابة دون أن نجد تَجاوبًا أو نُحدِث الأثر المنشود، وعندما عُرِضَت المسرحية بالفعل في عام ١٩٦٤م من إخراج المخرج الروسي «لزلي بلاتون» بالاشتراك مع المرحوم كمال يس كنا نستمع كل ليلة إلى الفنان الراحل محمد الطوخي وهو يؤدِّي هذا الدور المرهق ويُردد هذه العبارةَ دون أن ندريَ أن الزمن سيدور دورتَه فتكتسب دلالةً حيوية أعمقَ بكثيرٍ مما أوحَت به آنذاك!
وكلما تأمَّلت الكتابات المنهمِرة في الصحف والمجلات العربية هذه الأيامَ وعلى مدى الثمانينيَّات برُمَّتها، برَزَت هذه العبارة وتردَّدت أصداؤها في ذهني وشغَلَتني أكثرَ مما شغلتْني في الستينيات وجعَلتْني أتساءلُ عن جَدْوى كلِّ هذه الكتابات إذا كانت أطُر الحياة المفروضة علينا تمنعنا من الاستجابة الصحيحة لها — أو الاستجابة بأيِّ شكل من الأشكال.
فكم من قارئ يَمُرُّ مَرَّ الكِرام على مقالات الصحف السيَّارةِ مهما كانت جِدِّيتُها ومهما بلَغ ثَراؤها، كم من قارئ يتطلَّع إلى عَناوين الكتب المعروضةِ على قارعة الطريق، ثم يشتري أخَسَّها وأبْخسَها! وطَفِقتُ أتساءل عن السرِّ وما سيُفضي إليه إذا استمرَّ الحال على ما هو عليه!
وكان أول سؤال طرحتُه هو: هل الخطأ خطأُ «أطُرِ الحياة المفروضة علينا» حقًّا كما ألمحتُ إلى ذلك، أم خطأُ الكاتب في موقفه أو مادته أو أسلوبه؟ وهل نُعْفي القارئَ تمامًا من مسئولية الانفضاضِ إلى اللهو والمال؟ وإذا كانت المسئولية مشتركةً فكيف نُعدل من أطُر الحياة بحيث يعود الكاتب والقارئ إلى سابقِ عهدهما في سنوات التنوير من هذا القرن نفسِه.
ولم أجد إجاباتٍ شافيةً ولكنني ذكرتُ دراسةً قديمة للكاتب الإنجليزي «الدوس هكسلي» عُنوانها «كُتَّابٌ وقُرَّاء»، ألْقَت الضوء على بعضِ ما اكتنَف المسألةَ من غُموض؛ فالعلاقة بين الكاتب والقارئ في نظرِه تُشبه العلاقةَ في السُّوق بين البائع والمشتري، ويَحكمُها في نظره قانونُ الحاجة وإشباع الحاجة؛ ومِن ثَم فهو يُفسر رَواج بعضِ الكتب بأنها تُشبع حاجةً لدى القارئ أو تستجيب لمطلبٍ من مطالبه، فإذا كان القارئ في عصرٍ ما يَنشُد المعرفة، توقَّعْنا رَواجَ الكتب التي تُقدم له هذه المعرفة مهما غَلا ثَمنُها، وإذا كان يَنشُد التَّسْرية والترفيه، توقَّعْنا رَواج الكتب التي تقوم بهذه المهمة، وإذا كان قد انشغَل بقضايا الفلسفة أو قضايا الدِّين فلا بد أن تَرُوجَ الكتب التي تتحدَّث عن هذه القضايا أو تلك؛ أي إن «الحاجة» تتحكَّم في الرَّواج؛ ومِن ثَم تتحكم في اتجاه الكاتب، ونوع الكتب المطروحة.
وعُدتُ أتساءل ماذا يخلق هذه الحاجة — حتى إذا قبلنا هذا المنطقَ «الاقتصادي»؟ لا شك أن المجتمع مسئولٌ عنها — والكاتب من أعمدة المجتمع الأساسية في كلِّ زمان ومكان، وإذن فلا نستطيع أن نُعْفي الكاتبَ من مسئولية المشاركة في إيجاد الحاجة إلى ما يَكتب أو ما يَكتب سِواه! ونحن نذكر جيدًا أن الشاعرَ والناقد الإنجليزيَّ الأشهر «ص. ت. كولريدج» قد نبَّهَ في أوائل القرن الماضي إلى أن الشاعر يشترك في إيجاد الذَّوق الأدبي اللازم لتقدير أدبِه. ولذلك فإذا انصرف القارئُ اليوم عن القراءة فربما كان السبب هو أنه لا يستطيع أن يجدَ ما يحتاجُه من مادة. وإذا انصرف إلى قراءة مادةٍ من نوعٍ بعينه مثل مَسائل الغيب وعذاب القبر، وتراث عهود الانحطاط فربما كان المجتمعُ قد ساهم في إيجاد هذه الحاجة عندما أوجد مُناخًا يسوده الانشغال بأمور الدِّين وسخَّر أجهزته الإعلامية لتأكيد هذا المناخ، وإذا كان القارئ لم يَعُد يُقبِل على قراءة المادة العِلمية أو الفكرية أو الأدبية فربما كان السببُ هو أن مجتمَعَنا مُمثَّلًا في أجهزته الإعلامية والثقافية — الرسمية وغير الرسمية — وأهمها الإذاعة والتليفزيون والمسرح التجاري ونوادي الفيديو؛ قد صرَفه عنها بتقديم البديل الهزيل وهو الهَزْل الممجوج الذي لا يهدف إلا إلى استِدْرار الضَّحكات الجوفاء بحُجة التسرية والترفيه، أو أفلام العنف والميلودراما «والبورنوغرافيا المقنَّعة» التي أدَّت إلى ازدهار نوادي الفيديو بصورةٍ لم يسبق لها مثيل!
وعدتُ من تساؤلاتي إلى الكاتب ومسئولية الكاتب في مُجتمعنا الذي ما زال يقول إنه يَنشُد المثُل العُليا للاشتراكية (والدستور ينص على أنه يقوم عليها)، فوجَدتُ أن غالبية الكُتَّاب في الصحف والكتب الكثيرة التي دخَلَت إلى مجتمَعِنا من باب حُرية النشر أو حرية الفكر يتَسابقون لاجتذاب القارئ عن طريق الإثارة فحَسْب؛ إما بالفنون الأسلوبية المعروفة مثل التشويق والتهويل، والتجسيم والتضخيم، وإما بالكذب الصريح أو غير الصريح. وإما باللفِّ والدوران في حَلْقة مُفرغة من التفاهات المرتبطة بفنون الفرجة والهزل مثل أخبار النجوم وفضائحهم وما إلى ذلك؛ ومن ثَم فهم يُشاركون في تحمُّل مسئولية إيجاد الحاجة إلى مثلِ هذه المادة، ومسئولية انصراف فئةٍ في أقصى اليمين إلى مَتاهات الميتافيزيقا، وانكباب فئةٍ أخرى تنعم برغد العيش على تَفاهات الفرجة، وحَيرة فئة ثالثة بين أحلام الأيام الخوالي عندما كان الجوُّ نفسُه ينضَح بقَطْر العِلم، ويفوح بأَريج الثقافة. إننا نُتعب أبصارنا وعقولنا كما يقول سربرياكوف؛ أملًا في قارئٍ جادٍّ لم تُصبه صورُ المجتمع التي تُصادفنا في الصحف ووسائل الإعلام باليأس، وقارئ آخرُ ما زال يبحث عن طريقٍ يوصله إلى المستقبل رغم «أطُر الحياة المفروضة» والاتجاهات التي أصبح من الصعبِ فَهمُها — ولا أقول تحليلها.
معنى الزمن
في أواخر عام ١٩٨٩م عقَدَت جامعة القاهرة مؤتمرًا عالميًّا فريدًا حول صور مصر في أدب القرن العشرين، واجتمع الأساتذة والأدباء من شتى أقطار الأرض في قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب يُناقشون التغيُّرَ والاختلاف الذي طرأ على صورةِ بلادنا في أدب العالم، بينما شُغِلتُ أنا ومعي كثيرون بالتغيير الذي طرأ على هذه الصورة في أدبنا نحن؛ ومن ثَم كان البحث الذي ألقيتُه في المؤتمر يتناول مَيْلَنا بصفةٍ عامة إلى رؤية المستقبل في صورٍ مستقاة من الماضي، وهي صورٌ غير واضحة وغير متَّسقة وغير متماسكة، ولكنها تَحْيا وتَكتسب معانيَ جديدة بسبب الحنين الطبيعي إلى كلِّ ما فات ومات، فهذا الحنين الذي يُعيد إحياء الزمن مسئولٌ عن كثير من التخُّبط في تفكيرنا؛ فما معنى الماضي؟ وما معنى الزمن؟
فالإنسان نفسٌ حية اختصَّها الله بالعقل دون مخلوقاته، وهو يتطوَّر على مرِّ الزمان ويتغيَّر، ومهما كانت درجةُ ثَباته في الأرض؛ فهو يتحرَّك ويُغيِّر من صور حياته، ويتحوَّل فِكرًا وعلمًا وعَملًا، وهو يعيش في مجتمعٍ حي يتَّسم بالحركة والتحوُّل هو الآخَر. ولذلك فإذا تكلَّمنا عن الإنسان وعن الماضي فينبغي أن نُنحِّيَ عن عقولنا صورةَ الشجرة التي ما تفتأُ تتكرَّر في أحاديثنا، وتُفسد علينا معنى الزمن وإحساسنا به.
وللزمن عدةُ أوجُه؛ أوَّلها وأعقَدُها هو الزمن الذاتيُّ؛ أي ذلك الكمُّ الهائل من الصور والأفكار المكتسَبة من الخبرات المتراكمة في النفس والتي تتحكم دون وعيٍ منَّا في مشاعرنا وسلوكنا، وقد يصعب علينا — مثلَما قال وردزورث في قصيدته وسيرته الذاتية المقدمة — أن نرصد نشأةَ كلٍّ منها وإن كنا نستطيع أن نرتادَ البِقاعَ الزمنية التي شهدَت نشأتها، فالبحث في الماضي الفرديِّ علمٌ معقَّد يختصُّ به النفسانيون، ويُفْرِدون له البحوث والدراسات المتعمقة، وإن كان الأدباءُ يصولون فيه ويَجولون دون أملٍ في استنطاق كُنْهه وسَبْر غَوْرِه.
والوجه الثاني متصل به وهو الزمن الجَمْعي؛ أي ذلك الخِضمُّ الزاخر من الخبرات البشرية التي تولد مع الإنسان وإن كان بعضُها مكتسَبًا — كما يذهب إلى ذلك الفيلسوف كارل جوستاف يونج؛ إذ يربط بينهما وبين اللاشعور الجمعي (وأنا أستخدم التعبير الذي كان الدكتور عبد الحميد يونس يُفضِّله)؛ أي تلك المناطق المجهولة لنا من نفوسنا جميعًا والتي يشترك فيها أبناءُ البشرية جَمْعاء على اختلافِ ألوانهم وأجناسهم ولُغاتهم؛ ففيها الصور الأولى لكثيرٍ من أنماط مَشاعرنا وأفكارنا والنماذج القديمة أو الفِطْرية لكثيرٍ من الرموز التي درَجْنا عليها وقَبِلْناها دون تحليل.
أما الوجه الثالث فهو زمن الجماعة أو المجتمع، وهو لا يتَّصل كثيرًا بأيٍّ من الوجهَين السالِفَين؛ لأنه ماديُّ المظهر، يسهل رصدُه وتحليله، ويسهل قَبوله أو رفضُه وإن كان الأدباء يَلجَئون إليه لتفسير مَلامح الزمن الذاتيِّ أو ملامح الزمن الجمعي وتجسيد بعضها في أعمالهم؛ فالشاعر قد يعود بذاكرته إلى أيام صِباه فلا يستطيع أن يستخرجَ منها إلا صورًا محسوسةً مجسَّدة، مُستقاة مما شاهدَه وسمعه وخَبَرَه في طفولته، وهي صورٌ زال بعضُها فأصبح ينتمي إلى الماضي. وما زال بعضُها باقيًا فهو ينتمي إلى الحاضر؛ ولهذا فقد تتفاوتُ درجة تجاوُبِ القارئ مع هذه الصور الماضية والحاضرة!
ونحن في الشرق مولَعون بصور الماضي؛ نَنشُدها ونُجسِّدها ونسعى إلى إحيائها سعيًا حثيثًا؛ فهذه الصور تؤكد لنا امتدادَنا في الزمان، وتبعث الطُّمأنينة في نفوسٍ يتصل تاريخُها الطويل اتصالًا فريدًا لا تكاد تجدُ له مثيلًا بين أمم الأرض، ولكننا — دون أن نعيَ ذلك — نخلطُ بين الحنين إلى الماضي الذاتي، وحياة المجتمع في الماضي (أو ما أسميتُه زمنَ الجماعة)، فنجد أننا نُضْفي على هَياكل الحياة الاجتماعية القديمة شاعريةً دافقة مُستقاة من ذَواتنا. دون أن يكون لها وجودٌ مادي حقيقي في التاريخ؛ إذ يعود الكثيرُ من أدبائنا إلى عصورٍ ماضية فيُسبِغون عليها صفاتٍ جميلةً خلَّابة هي منها بَراء، ويَنشُدون في أوضاع قديمةٍ بالية مُثُلًا عُليا وقِيَمًا لا علاقة لها بها! وهذا الخلط هو سببُ انشغالِنا بالتراث إلى حدِّ التقديس، وهذا هو الخَلْط الذي ينبغي أن نَحذر منه ونحن نخطو إلى المستقبل، فليست حياةُ أجدادنا المتمثِّلة في آدابهم بالحياة هي التي نبكي على فقدانها أو نتحسَّر على ضَياعها!
لقد انشغلت على مَدى عامٍ كامل بتأمُّل تلك الحياة الماضية، فلم أعثر على ذلك النَّبْع الصافي من الجمال الذي يدفع الكثيرين اليوم إلى التطلُّع والحنين إليه باعتباره نموذجًا لحياة المستقبل، فلم يكن النظامُ السياسي عادلًا مُنصِفًا، ولم يكن النظام الاجتماعي جميلًا باهرًا، ولم تكن الأوضاع الاقتصادية مُحكَمةً كاملة، ولا كان الأدب في مصر منذ نهاية العصر العباسي وحتى فجر النهضة الحديثة أدبًا عبقريًّا حتى نطمحَ إلى عظَمته ونُحاكيه!
إن حركةَ الزمن — في تصوُّري — حركةٌ إلى الأمام لا إلى الخلف؛ ولذلك فأنا أتطلَّع إلى فِكرٍ وأدبٍ ينبعان من زَماننا وينظران إلى المستقبل لا إلى الماضي، وأعتقد أن ثَمة فُروقًا جوهريةً بينهما.
الثقافة والتنمية
عندما عاد الصديق الشاعر إسماعيل أبو زيد من روما؛ ليقضيَ عُطلة الصيف في القاهرة؛ فهو يعمل رئيسًا لتحرير المطبوعات العربية بمنظَّمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة؛ جاءني معه خطابٌ رقيق من الكاتبة الشهيرة فيكتوريا بوتري التي عَمِلَت رئيسةً لتحرير مجلَّة «الفكر والعمل» طَوال رُبع قرن من الزمان تقول فيه إنها الآن بصددِ إصدار مجلةٍ أدبية فصلية جديدة «بالإنجليزية أيضًا»، وسلسلة كتيبات تضمُّ منتخَباتٍ من الشعر المعاصر، وتطلب مشاركةَ الشعراء المِصريين والعرَب في المجلة وسلسلة الكتيبات، بعد أن كُوِّنَت جماعةٌ أدبية لنشر كلِّ هذا في أرجاء العالم وأَسْمتها «جماعة مونتيفاركي».
وتأمَّلتُ ذلك الخِطاب المُسهَب — وما أُرفِق به من قوائم الأعلام الذين انضمُّوا إلى الجماعة الأدبية — فوجدتُ أن أطرَف ما فيه هو العلاقة التي تُقيمها الكاتبةُ هي وأعضاء الجماعة (٢٨ يمثِّلون عشرين بلدًا) بين الثقافة والتنمية. وهي تقول إنها بعد خمسٍ وعشرين سنةً من العمل في منظَّمةٍ ذاتِ طابَعٍ اقتصادي في المقام الأول اكتشفَت أن قضية الثقافة لِذاتها لا تنفصل عن قضية التنمية بشتى أشكالها؛ الاقتصادية والاجتماعية، بل والسياسية؛ إذ إن الاتجاه السائدَ في معظم بلدان العالم الثالث هو فصلُ الثقافة عن الحياة المادية (باعتبار الثقافة بِناءً فَوقيًّا يمكن تناولُه بمعزلٍ عن الأساسيات مثل المأكل والملبس والمسكن والعلاج وما إلى ذلك)، ولأن الفصل بين مَظاهر الحياة الماديَّة وعناصر الحياة النفسية (الذهنية والعاطفية وغيرها) يُمثل جَوْرًا بالِغًا على قضيةِ الإنسان نفسه ويُضِرُّ بقضية التنمية المادية نفسِها.
وانثنَيتُ أُفكر في مدى انطباقِ ذلك على مِصر أولًا — بطبيعة الحال — باعتبارها من البلدانِ النامية، ثم على الوطن العربي بعد ذلك بصفةٍ عامة. واستغرق التفكيرُ أيامًا طويلة ومناقشاتٍ مستفيضةً ومراجعةً شاملة لمفهوماتنا عن «الثقافة» من ناحية وعن معنى «التنمية» و«النمو» بمعناها الاقتصادي الضيِّق من ناحية أخرى؛ فوجَدتُ أننا بلاد تنطبق عليها أكثرَ من غيرها مقولةُ الكاتبة بوتري.
فنحن نُعاني انفصامًا حادًّا في حياتنا بين مفهومنا للتقدُّم المادي وبين المفهوم العامِّ للتقدُّم وهو الذي لا ينفصل فيه التقدمُ الفكري عن سائر جوانب التقدم البشري. وأولُ مظاهرِ هذا الانفصال هو تصورُ إمكانية تحقيق الازدهار المادي دون تحقيق تقدمٍ ثقافي، وقد بُني هذا التصور الخاطئ على نماذجِ ازدهارِ بعض بُلدان العالم الثالث في السبعينيَّات؛ نتيجةً للطفرة في أسعار البترول التي كانت بمثابة خرقٍ لقوانين الجهد البشري وسخريةٍ من عمل العاملين.
والمظهر الثاني هو التصور الساذَج للثقافة باعتبارها مقصورةً على المعلومات التي يَجنيها الإنسانُ من قراءاته خارج أسوار المدرسة أو الجامعة، أو باعتبارها مقصورةً على الأنشطة الفنِّية التي تُقدَّم من خلال قنوات الاتِّصال الجماهيري بُغْيةَ التَّسْرية والترفيه.
فإذا ذكَرْنا ذلك وجَدنا أن العالم — أي المتخصِّص في العلوم الطبيعية — الذي يؤمِن بالخُرافات الموروثة من عهد الجهالة لا ينتمي ثقافيًّا إلى هذا الزمن، ويعتبر مصابًا بتخلفٍ فِكري يَقعُد به عن اللَّحاق بعصر التنوير مهما بلَغ هضمُه للمعادَلات الكيميائية وأسرار الذرَّة! وقِسْ على ذلك مَن يتلقَّى قِسطًا وافرًا من التعليم فلا ينتفع به إلا في الحصول على منصبٍ رفيع، أو في كسب المال، أو في التفاخر بين الأقران، أو مَن يحصل على مال وفير فيُنفقه في مظاهر الرفاهية المادية والانسياق وراء الملذَّات الحسية المحدودة، والإسراف في الإنجاب.
أظن أنَّ هذه النماذجَ التي لا يخلو منها مجتمعٌ تُصبح شرًّا مستطيرًا وخطرًا وبيلًا إنْ هي شاعت في مجتمعٍ يَنشُد النموَّ أو يُطلق على نفسه «المجتمع النامي»؛ فهذه النماذج تسود معظمَ مجتمَعات العالم الثالث المثْقَلة بتُراثٍ ثقافي لا تستطيع منه فَكاكًا؛ فهي حقًّا تُقيم مؤسسات الدولة الحديثة ومظاهر النهضة الحديثة، ولكن ثقافاتها على تَعدُّدها تشترك في عدمِ الإيمان بذهن الإنسان وقيمة العمل والجهد البشري؛ ولذلك علَّق أحدُ أبناء تلك الدول في المؤتمر الذي عقَدَته الجماعة الأدبية الجديدة في إيطاليا من ٢٧–٢٩ مايو ١٩٨٩م على المشكلة الأولى في بلده قائلًا: إن الفرد قد «فقَدَ إحساسه بالهدف»؛ فالمدرس يتصوَّر أنه يقوم بوظيفته من أجل لُقمة العيش وحسب، دون اعتبارٍ للرسالة السامية التي ينهض بها، والطبيب إذا اغتنى أصبحَ عسيرَ المنال.
والواقع أننا لا نختلفُ في مِصر كثيرًا عن بلدان العالم الثالث تلك؛ فأنظارُنا موجَّهة صوبَ أوروبا وأمريكا، ولكن أعماقنا تَزْخر ببعضِ عناصر تُراث التخلُّف والخرافة والجهالة، فنتصوَّر أن الثقافة إضافةٌ يمكن الاستغناءُ عنها في مرحلة التنمية، ونتصوَّر أن الأنشطة الثقافية هي جُهد ترفيهيٌّ يُروِّح عن العاملين! إننا بحاجةٍ إلى ثقافة التنوير التي ما فَتِئ الدكتور زكي نجيب محمود يدعو إليها، وإلى ثقافة العمل المتأصِّلة في نفوس المصريِّين والتي تتعرَّض لأخطارٍ جَمَّة هذه الأيامَ في مواجَهة الثقافة السلَفية حيث ينال الإنسانُ ما لم يُجهِد نفسه في سبيله، فيتلفتُ حوله حائرًا ما يفعل بهذا المال الطائل؟ إن فيكتوريا بوتري وجماعتَها الأدبية على حق؛ فالثقافة لا تنفصل عن التنمية.
ملاليم المترجم
منذ ما يقرب من ثلاثين عامًا عُدت إلى المنزل من دار الإذاعة «حيث كنتُ أعمل محررًا مُترجمًا بقسم الأخبار»، فوجدتُ رسالةً موجزة من صديقي وزميلي السفير أحمد مختار الجمال — وكان آنَذاك في بداية عمله بوزارة الخارجية — يقول لي فيها أسرِعْ إلى مصلحة الاستعلامات فلدينا عملٌ يحتاج إليك! وهُرِعت من فَوري إلى المكان الذي حدَّدَه، فوجدتُ غرفة مكتظَّةً بالزملاءِ والأصدقاء ممن سبَقوني بالتخرُّج في قسم اللغة الإنجليزية، وكلهم مُنكبٌّ على العمل بحماسٍ وفي صمت؛ الأستاذ محمد عبد الله الشفقي (رحمه الله) والأستاذ عبد الفتاح العدوي (رحمه الله) والأستاذ سيد سليمان (الذي يعمل الآن سفيرًا) والأستاذ أنور جلال، وغيرهم. وقبل أن تتاح لي فرصة الحديث معهم أو حتى إلقاء التحية عليهم، وُضِع في يدي كتيبٌ وأُعطيتُ قلمًا وبعضَ الأوراق وجلستُ إلى منضدة وانطلقتُ أُترجم ما أمامي.
كان الكتيبُ يتناول جانبًا من جوانب الحياة في الهند، وكذلك كانت جميعُ الكتيبات التي انكبَّ عليها الزملاء؛ إذ إن الرئيس جمال عبد الناصر (رحمه الله) كان ينتوي زيارة الهند، وكان يريد أن يُحيط بكل ما يستطيع أن يحيط به من معلوماتٍ عن الهند؛ أي أن يُضيف إلى المعلومات السياسية والاقتصادية المتاحة سائرَ المعلومات التي تُهم دارسي جُغرافيا البلدان والشعوب. وبعد أن قضينا ساعاتٍ طويلةً — لم يشعر بها أيٌّ منا — في العمل، قال أحدُنا (لا أذكر مَن كان): إننا بحاجةٍ إلى الشاي أو القهوة حتى نستطيعَ السهر؛ فالليل قد أوغل ولم يتسنَّ لأحدٍ منا أن يغفوَ في الظهيرة. ورحَّب الجميع بالفكرة وكانت فرصةً للتوقف عن العمل دقائقَ تساءلتُ فيها عن الأجر الذي سنَتقاضاه. وكم كانت دهشتي وفرحتي حين علمتُ أن ترجمةَ الكتيب الواحد قد حُدِّد لها خمسة جنيهات كاملة!
كان الأجر آنَذاك قد حدَّده قرارٌ جُمهوري بملِّيمَين للكلمة الواحدة من الإنجليزية إلى العربية وثلاث مليمات من العربية إلى الإنجليزية، ومليم واحد للمُراجع في الحالة الأولى ومليمُين للمُراجع في الحالة الثانية، أما المكافأة الشاملة «الجنيهات الخمسة» فقد كانت تتجاوز ذلك الأجرَ (بسبب ضِيق الوقت والحاجة إلى الترجمات الدقيقة على وجه السرعة)، وكان الأجرُ المرتفع دافعًا قويًّا ألصقَنا جميعًا بمقاعدنا أيَّامًا متواصلةً حتى انتهت المهمةُ وطُبِعت الكتيبات وأعتقد أنَّ بعضها ما زال متاحًا لمن يريد أن يستزيدَ من العلم بالهند!
وفي مارس ١٩٦١م اشتركتُ في فريق الترجمة في مؤتمرٍ دولي لأول مرة في حياتي وكان الأجرُ اليومي للمترجم التحريريِّ خمسة جنيهات (مهما بلَغ عدد الصفحات المترجمة أو عدد الساعات)، وسبعة جنيهات للمترجم الفوري، ارتفعَت بقرارٍ استثنائي عام ١٩٦٤م إلى ثمانيةٍ للتحريريِّ وعشرةٍ للفوري (في مؤتمر منظمة الوحدة الإفريقية في يوليو ١٩٦٤م ومؤتمر قمة عدم الانحياز في أكتوبر ١٩٦٤م)، وكنتُ قد ترجمتُ عددًا من الكتب آنذاك تقاضيتُ عن بعضها خمسةً وعشرين جنيهًا، والبعض الآخر ثلاثة وأربعين (فنون الجنس البشري، الرجل الأبيض في مفترق الطرق، درايدن والشعر المسرحي، حول مائدة المعرفة)، وكان أكبر أجرٍ تقاضيتُه عن ترجمة شكسبير «حلم ليلة صيف، ١٩٦٤م؛ وروميو وجوليت، ١٩٦٥م» وهو خمسون جنيهًا كاملة!
ودار الزمان وعُدت إلى القاهرة بعد عشرِ سنوات في إنجلترا عملتُ أثناءها بالترجمة بعضَ الوقت، وعرَفتُ مدى تقدير الأجانب للمترجِم وفئات أجور الترجمة في أوروبا وفي العالم العربي (حتى البلدان الفقيرة منه)، ولكنني وجدتُ نفس القانون «القرار الجمهوري» مطبَّقًا في مصر! ولم أَعجَب أولَ الأمر؛ فقد كانت القوة الشِّرائية للجنيه لا تزال معقولةً ولكنَّ السبعينيَّات الأخيرةَ أثبتَت ضرورة التغيير، وبالفعل صدر قرارٌ جمهوري جديد عام ١٩٧٨م يُضاعف الأجرَ ثلاث مرات، فوصل أجرُ الكلمة إلى ستَّة مِلِّيمات للمترجم وثلاثة مليمات للمراجع. ومضَت السنون وارتفعَ أجرُ المترجم في المؤتمرات الدولية إلى ٢٥ جنيهًا في اليوم، ثم إلى خمسين ثم إلى مائة، ولا تزال الأجهزة الحكومية حتى هذه اللحظةِ تعمل بقرارِ عام ١٩٧٨م!
لقد أوصَت لجنةُ الترجمة بالمجلس الأعلى للثقافة منذ ما يزيد على ثلاثة أعوام بأن يكونَ أجرُ الكلمة ستة قروش، ووافق جميع المسئولين على هذه التوصية التي ظلَّت تتصاعدُ حتى وصلَت إلى الباب الذي لا يَلِجُه إلا مسئولٌ أكبر! ولعدة أعوامٍ توقَّفَت حركةُ الترجمة أو كادت — إلا ما يتمُّ بمبادَراتٍ فردية أو عن طريق أجهزةٍ غيرِ حكومية — وما زلنا في هيئة الكتاب نُكافح كفاحَ المستميتِ لإقناع المترجِمين الأَكْفاء بالترجمة وهم عنَّا عازفون؛ فمن ذا الذي يَقبل ملاليمَ السبعينيات ونحن على مَشارف التسعينيَّات؟ وكيف تُقنع مترجمًا ضَليعًا أن يَقْنع بجنيهات معدودة وأمامه أبوابُ الأمم المتحدة ودُور النشر الأجنبية تدفع له الأجر المجزيَ العادل؟
وتتمثَّل خطورة الوضع الحاليِّ في أمرين: أولهما عدم تقدير قيمة الترجمة باعتبارها نشاطًا ثقافيًّا أساسيًّا وتجاهل دَورها في إثراء الفِكر العربي، بحيث تخلَّفْنا سنواتٍ بل وعقودًا طويلة عن علوم العصر وآدابِه وفُنونه، ويكفي أن نذكر كلمة التخلُّف مرةً ثانية حتى نتصورَ فداحةَ استمرارِ هذا الحال. أما الثاني فهو أن نعتمدَ على ما يأتينا من ترجماتٍ منشورة في بُلدان أخرى — ترجمات سيِّئة تفتقر إلى الدقة، وتتَّسمُ برَكاكةٍ في الأسلوب وانحطاطٍ في العربية، ولا غَرْو إذ يقوم بها غيرُ المتخصِّصين وتنشرها دُورٌ لا تبغي إلا الرِّبح ولا تأخذ في اعتبارها إلا متطلَّباتِ السوق أولًا وأخيرًا، فنجد أننا مضطرُّون إلى شِرائها «مفوِّضين أمرنا لله» رغم ارتفاع أسعارها وعدم تلبيتِها لِمطالب قُرَّائنا.
إن مشروع الألف كتاب «الثاني» الذي تُصدِره الهيئةُ العامة للكتاب يعمل جاهدًا على سدِّ الفَجْوة في الترجمة، ولكنَّ العقَبة الأساسية لا تزال الملاليم، و«ملاليم» في اللغة نكرةٌ ممنوعة من الصَّرف في المصارف والحياة! فمتى تُستبدَل بها القروش المصروفة؟
رحلة الذات في الزمن
كنا قد شاهَدْنا لتوِّنا مسرحية «أيام زمان» للكاتب الإنجليزي «هارولد بنتر» حين قرَّرنا نحن الأربعة — سمير سرحان وزوجته نهاد جاد، وأنا وزوجتي نهاد صليحة — الرحيلَ في اليوم التالي من لندن إلى مدينة برايتون على ساحل القَنال الإنجليزي، وبالفعل تقابلنا في صباح اليوم التالي في مَحطة القطار، وبعد ساعةٍ أو بعضِ ساعة كنا على الشاطئ نسير صامِتين وقد استغرق كلٌّ منا في تأمُّلاته عن المسرحية. كنتُ قد انتهيت من كتابة ثلاثةِ فصول من رسالة الدكتوراه (في صيف ١٩٧١م)، وكان الفصل الثالث يتناول مسرحيةً للشاعر الإنجليزي الأشهَر «وليم وردزورث» هي «سكان الحدود» التي تأثر فيها بالشاعر الألماني «شيلر»، وكانت نقطةُ انطلاقي في تحليلها هي تغيُّرَ صورة الذات في الزمن، وهي الفكرة التي لم يتطرَّق إليها «شيلر» في مسرحية «اللصوص» وتطرَّق إليها كولريدج في مسرحية «الندم».
وبعد ساعةٍ من الصمتِ وتأمُّلِ البحر الذي كان ساجيًا صامتًا؛ قالت نهاد جاد: «ألا يُحاول بنتر في مسرحيته أن يفعل مثلَ شاعرك «وردزورث»؟ إن الصراع في المسرحية يَكمُن في التناقُض بين صُوَر الشخصيات في الحاضر وصُورها في الماضي.» وكأنما سطعَ الضوءُ فجأةً فأنارَ جوانبَ المسرحية المحيِّرة. كنت أتصوَّر أنها مسرحيةُ صراع بين مفهوم الذات لدى الشخصية المحورية، ومفهومِها لدى الشخصيات الأخرى بعد مُضيِّ فترة يتعرض فيها هذا المفهوم للتغير. ورغم أنني لم أكن قد ابتعدتُ كثيرًا عن تفسير نهاد جاد؛ فإن كلماتها الموجَزةَ حسَمَت الأمر.
لم تكن نهاد جاد تزعم أنها ناقدةٌ محترفة، على كَثرة ما كتَبَت من نقدٍ بديع، ولم تكن تدَّعي لنفسها صفةَ الكاتب المسرحيِّ المحترف، على عَظمة ما كتَبَت من مسرح، وكانت دائمًا تقولُ إنها ممَّن يَكتبون من باب الهواية — من باب عشق الأدب وعِشق الفن — دون أن تجعل منه مِهنة أو حِرْفة، ودون أن تستخدمَ مناهجَ نقد المحترفين، أو تسعى لمحاكاة صنعة المحترفين، وإن كنتُ أعتقد دائمًا أن الفنَّ الصادق ابنُ الهواية وأنَّ أصْدَق الفنانين هم الهُواة.
وطلبتُ من نهاد جاد أن تقول المزيدَ عن «أيام زمان»، ولكنها لم تُضِف إلا عباراتٍ محدودةً مسَّت جوهرَ المسرحية ونفَذَت إلى أعماقها، وإنْ بدا صوتُها ونحن نسير على شاطئ البحر كأنَّما يأتي من بعيد؛ كانت تتأمَّل السفنَ التي تكاد تختفي خلفَ الأفق، والمدَّ وهو يَعْلو خلف الصخور، وتُعلِّق بين الحين والحين على حِوارنا دون أن تُشارك فيه برأيٍ قاطع.
كنت أحسُّ دائمًا أن كتابات نهاد جاد تُنبئ عن صورةِ ذاتٍ تُحاول أن تُحافظ عليها وأن تحفظَها من التغيُّر؛ فهي الطفلةُ الوحيدة التي نشأَت في كنَف الكتُب، تَسبح في عالم أحلامها وخيالاتها، لا تُمسك بروايةٍ إلا استغرَقَتها، ولا يقَعُ في يدها كتابٌ إلا استغرَقَته، ثم نسيته كأنما لِتُفسِح المكان لكتابٍ آخر، وكأنما كانت الأفكارُ تتصارع في باطنها؛ مُحاوِلةً تغييرَ صورة الطفلة القارئة الكاتبة، وكأنما كانت تَدفعها بعيدًا عنها لتُزيح عالمَ التجرِبة عن عالم البراءة الأولى، وكانت أفضلُ لحظاتها هي التي تَقضيها وحيدةً ساهمةً شاردة لا يدري أقربُ المقرَّبين إليها ما يدور في نفسِها.
كنَّا نقضي الصيفَ معًا في لندن حتى عام ١٩٧٥م عندما عدتُ إلى مصر ولكن حياتنا كانت استمرارًا لرحلةِ الغربة؛ إذ كانت قد عادت هي الأخرى من رحلةِ عمل في جدَّة أستاذةً للدراما والشعر الإنجليزيِّ في جامعة الملك عبد العزيز، مع سمير سرحان ونهاد صليحة التي عادت من إنجلترا لِتَلحَق بهما هناك.
وأذكرُ أننا عندما التقينا لأول مرة في القاهرة في صيف ١٩٧٥م، كان معنا الروائيُّ المبدع محمد جلال، وكنا نجلس على شاطئ النيل هذه المرةَ وكان موضوعُ حديثنا هو الزمنَ أيضًا! وفي اليوم التالي زُرناها جميعًا في غرفةِ ميلاد طفلٍ جديد هو خالدٌ ابنها، وهناك مكَثْنا هُنيهةً نتجاذب أطراف الحديث ونرسم خُططًا لرحلة جديدة، فلم تكن نهاد جاد ترى الزمنَ إلا حركةً في المكان، وكانت دائمًا تقول لي إن نشأتها (وبالتحديد تَنقُّلها بين البلاد مع والدها الذي كان لواءً في الشرطة) تفرض عليها ذلك النزوعَ نحو التنقُّل.
ولا شك لديَّ أن الدارس لأدب نهاد جاد سوف يجدُ هذا النزوع نحو تحديدِ صورة الذات في الزمن، الصورة التي تتغيَّر بما يُشبه الحَتْم والحسم، وهو نُزوعٌ مأسَوي رغم قالَب الكوميديا الذي كانت تُفضله، فبطَلاتها يُجسِّدْن صورًا لهذا النزوع الذي يأخذ شكلَ الصراع الدرامي؛ عزيزة وفِردوس وعَديلة، وأخيرًا صفيَّة بطلة «ع الرصيف»، التي تصلُ من رحلتها في الكويت إلى مصر لتتساءل مَن أنا؟ وماذا حدث لصورةِ ذاتي أو لِذاتي؟ وكانت تحبُّ أن أُحدثها أنا عن رشيد — بلدي الأول — وعن والدي، وعن صُوَرِنا لِذاتنا التي تتغيَّر في رحلة الحياة.
والآن أجِدُني واقفًا على الشاطئ وحيدًا أرقُب السفينةَ التي حمَلَت نهاد جاد في رحلةٍ جديدة بعيدة، فلا أستطيع أن أُحدِّد صورتَها في الزمن؛ هل هي الطالبة الحالمة التي كانت تكتب الشعرَ عام ١٩٦١م، أم هي الصحفيَّة التي تؤمن بالجيل الجديد وتفتحُ لهم قلبها وصفحاتِ مجلتها «صباح الخير»، أم الصديقة والأخت العَطوف التي كنتُ أشكو إليها بَثِّي وحزني، أم الناقدة ذات الحساسية الصادقة التي كنتُ أقرأ لها مسرحياتي وترجماتي، أم هي الكاتبة المسرحية التي أسعَدَت الآلافَ بجُرأتها وسخريتها من كل شيء؟ إن صور نهاد جاد التي تشكَّلَت في نفسي كثيرة، ولكنها تجتمع في تلك النظرة الحَيْرى المطمئنَّة — في نفس الوقت — في عينَيها؛ فقد كانت تَعرفُ معنى رحلة الحياة الوجيزة ومعنى رِحلة الأبد المديدة، وكأنِّي بها تُناديني من سَفينتها، وكأني أسمعُ رنين كلماتها وهي تُعلِّق تعليقاتٍ موجزةً على هذا الأمر أو ذاك، كأنما هي مَشاهدُ عابرةٌ تمرُّ بها أثناء الرحلة؛ مشاهد الطريق التي ما تَفْتأُ تتغيَّر.
لقد رحَلَت نهاد جاد عن هذا العالَم وتركَتْنا، فمتى تصلُ سفينة الشمس إلى المرفأ، ومتى يَحينُ رحيلنا حتى نصلَ إلى ذلك الشطِّ البعيد؟
معنى عبد الوهاب
عدتُ من الكُتَّاب ذاتَ يوم في مطلع الأربعينيَّات لأجدَ في المنزل جوًّا من الترقُّب واللهفة لم أكن أعهَدُه، وعلى صِغَر سنِّي أدركتُ أن شيئًا ما يوشك أن يحدث — وكان بلا شكٍّ شيئًا غيرَ عاديٍّ في حياة بلدتنا رشيد. كنتُ قد اعتدتُ من الكبار حديثَهم المعاد عن الحرب وأخبار الحُلفاء والمحور، وكان منزلنا قد استضاف عددًا من أفراد الأسرة المقيمين في الإسكندرية والقاهرة ممَّن فَزعوا إلى رشيد؛ احتماءً من غارات الألمان، وكنتُ قد اعتدت أحاديثَهم أيضًا وألِفتُ مناسَباتِ إثارتهم، ولكنَّ جوَّ الترقب الذي ساد المنزلَ ذلك اليوم كان بالتأكيد غيرَ عادي!
ولم أسترِحْ حتى عرَفتُ أن المغنِّيَ الذي كان قد «أحيا فرَحَ» عمي سوف يحضر إلى رشيد ضيفًا على أحد أبناء البلدة من هُواة الطرَب، وأنه ربما «أحيا حفلةً كبرى، مثل حفلات الشيخ مصطفى إسماعيل التي تَسهر معها البلدُ حتى الساعاتِ الأولى من الصباح». وارتقابًا لليوم الموعود كان كلُّ أهل الدار يُحاول أن يَحْدِس أيَّ أغنية أو أية أغانٍ سيُغنِّيها عبد الوهاب، وكان ثَم إجماعٌ على طلب الأغنية التي غنَّاها في ذلك الفرح وهي «بالليل يا روحي أرتِّلُ بالأنينِ اسمَك»، وانتظارًا لليوم الموعود أيضًا جعَل كلُّ مَن يأنَسُ في نفسه القدرةَ على مُحاكاة عبد الوهاب يتغنَّى بها، هي الأغنية الأخرى (ابنة الثلاثينيات أيضًا) «إمتى الزمان يسمح».
والغريب أنني لا أذكر عن الحفلة نفسِها شيئًا؛ إذ فرض علينا أن نأويَ مبكرًا إلى الفراش، ولكنَّ سنوات الحرب سادَتْها ألحانُ عبد الوهاب، وكان والدي يتغنَّى بها ليلَ نهار، كما كنَّا نقوم برحلاتٍ خاصة إلى الإسكندرية لنُشاهد أفلام عبد الوهاب ونحفظَ أغانيَه، وكان يُصحح بعضُنا للبعض إذ لم نكن نملكُ إلا جهازَ المذياع الوليد، و«جراموفونًا» عتيقًا تَصحَبُه عدة أسطوانات تنتمي لجدِّي الحاج أحمد بدر الدين، وهي لمطربي القرن التاسع عشر ومطلع العشرين — أذكر منهم منيرة المهدية وعبد الحي حلمي.
وعندما انتهيتُ من الكُتَّاب ودخلتُ المدرسة الابتدائية كان عبد الوهاب قد أزال الحاجز بين الشِّعر وشعر العامية؛ إذ وجد جيلُنا أنَّ مِن السهل عليه أن يُغنِّي شعر مهيار الديلمي مثلما يُغني شعر أحمد شوقي بالعامية، بل كان جيلنا يتغنَّى بشعر شوقي بالفصحى مثلما يتغنَّى بأهازيج المونولوجستات التي شاعت بعد الحرب، وانضمَّ إلى شوقي في ألحان عبد الوهاب: علي محمود طه، وعزيز أباظة، وبشارة الخوري، ومحمود أبو الوفا، وغيرهم ممَّن سادوا الأربعينيات ضاربين عُرْض الحائط بالفوارق الزائفة بين الفصحى والعامية، بل إن بشارة الخوري (الأخطل الصغير) كان ممَّن تعمَّدوا إهداء عبد الوهاب أغنية يجمعُ فيها بين العامية والفُصحى عمدًا؛ فما هي إلا لغةٌ واحدة — واحدة — وهي أغنية «يا ورد مين يشتريك»، فيقول في بيتٍ واحد:
وكذلك تدفَّقتْ ألحانُ عبد الوهاب أولًا لتُحيي الموسيقى الشرقيةَ القديمة، فكتب الموسيقى في المقامات العربية الموغِلة في شرقيَّتها مثل الرَّاست والبيات (الذي يقترب من الألحان الشعبية) وفي المقامات الكبيرة «الماجور» التي يعجب الإنسانُ كيف طوَّعَها لِتَطْرب الأذنُ الشرقية لها.
لقد تفتَّحَت آذانُ جيلنا على الوعي الفنِّي الجديد قبل أن تتفتَّح عيونُه، فامتزجت الفُصحى بتاريخنا وجذورنا وحضارتنا، وتطور معها عبد الوهاب، حتى إذا كان فجرُ الثورة غنَّى لشعراء العصر، وعلى رأسهم محمود حسن إسماعيل الذي انسابَت كلماتُه على شِفاه الجماهير كأنما هي مِن تأليفهم وإن كانت من وحيهم، وغنَّى للشاعر مأمون الشناوي أحلى كلماته «من قد إيه كنا هنا» ولكامل الشناوي عَذْب فُصْحاه في الأغاني الوطنية والعاطفية الدفاقة، ولعبد المنعم السباعي، ودائمًا — طبعًا — لحسين السيد، رفيق رحلة عمره.
وأذكر أنَّني عندما زُرته في منزله بالزمالك لأول مرة، مع مجموعةٍ من عُشَّاق فنِّه، طلب مني عربونًا على صَداقتنا أن أعزف لحنًا له على عود كان يُعلقه على الحائط في غرفة الاستقبال البسيطة، وكنتُ آنَذاك قد قرَّرت هجران الموسيقى والتفرُّغ للأدب (١٩٥٨م) فارتبكتُ واضطرَب العودُ في يدي. فلم يضحَك ولم يبتسم خوفًا من زيادة إحراجي، ولكنه تبسَّط في الحديث كأنما يُحادث موسيقيًّا مُحترفًا، فقال بصوته الرخيم «تقدر تصورها من الدوكاه»، وأذكر أنني انهمكتُ في العزف بعدها، كأنما كنتُ أُواجه أصعبَ امتحانٍ في حياتي، وهو يُجاملني ويتبسَّط معي حتى انتهيت.
لقد تعلَّمتُ من عبد الوهاب — في ذلك اليوم مثلَما تعلَّمت في الأيام التالية — أن الفنانَ إنسانٌ بسيط مفتوحُ القلب والصدر، وهو لا يتكبَّر مهما كبر، ولا يبتعد مهما فرَض عليه موقعُه الابتعاد، ولقد ظلَّ إلى آخِر أيامه يُفكر ويُناقش ويعمل، ولم يكن يرفض لقاءَ أحدٍ حتى من جيلِ أبنائنا وتلاميذنا، وقد كان له موعدٌ أخلَفَه رغمًا عنه يوم الأحد الماضي مع الشاعر الشابِّ عمر نجم، وكان هذا الشاعر قد طلب الموعد دون أملٍ كبير في اللقاء!
لقد غيَّر عبد الوهاب تاريخ الموسيقى الحديثة فأحيا وجدَّد وطور، وبثَّ روحًا في فنونِنا لا تُضارعها إلا روحُ قادة التنوير من المفكِّرين والعلماء والأدباء، فتاريخُه هو تاريخ القرن العشرين، وسِجلُّه سجلُّ أجيال متلاحقة شارَك في صُنعها اليوم، مثلما سيُشارك في صُنعها بعد رحيله.
عند بائع الصحف
وقفتُ عند بائع الصحف أتأمَّل الكتب التي يُقدمها للقرَّاء على قارعة الطريق، وشدَّني كتابٌ فتصفَّحتُه وأعَدتُها جميعًا وقد تملَّكَني اليأس، هل هذا كل ما يستطيع بائعُ الصحف أن يُقدمه للقراء في مصر؟
إن هذه الكتبَ تنقسم بصفةٍ عامة إلى قسمَين كبيرين؛ الأول سياسي — ويتضمَّن المذكراتِ السياسية وأقاصيصَ الساسة السابقين وفضائحَهم، وكتُب المقالات التي تتضمَّن آراءً حزبية محدَّدة وتتطرَّف للدعوة إلى هذه الآراء، وما يدخل في إطارِ ذلك من القضايا الاقتصادية والاجتماعية. أما القسم الثاني فهو ديني، ويتضمَّن قليلًا من كتب التراث في الفقه والتفسير، وكثيرًا من كتب الآراء التي كُتِبت في عصور الانحطاط والجهالة، والتي يزعم مؤلِّفوها أو ناشروها أنها تُقدم الاجتهادَ، بينما لا تتوافر لأصحابها شروطُ الاجتهاد المعروفة، وفيها من المبالغات والتهويلات والخرافات ما يتَناقض مع ما درَجْنا عليه جميعًا من مبادئ الدِّين الحنيف.
واشتريتُ عددًا من هذه وتلك، على ارتفاع أسعارها، وعكَفتُ عليها أُحاول أن أعرف سرَّ ذُيوعها — وهو ما أكَّدَه لي البائع — وبعد أيامٍ طويلة وجَدتُني أنتهي إلى بعض الخصائص التي تشتركُ فيها على اختلافها، وبعضِ ملامح وَجْبة القراءة التي يُقدِّمها بائع الصحف «العصري» إلى قرَّاء هذا العصر.
وأول هذه الخصائص هي اليقين المطلَق الذي ينطلق منه كلُّ مؤلف، والذي يمنحه الثقةَ الكاملة فيما يكتب؛ فما يقوله هو الحق، وهو يتحمَّس له ويُدافع عنه دفاعَ الواثق الذي لا يتصوَّر احتمال الخطأ ولو من قَبيل السهو أو النسيان. ولا شكَّ أن اليقين هو الهدف الأسمى للجُهد العلمي، وهو أيضًا صفةُ المؤمن الحق، ولكن هذه الكتب ليست عِلميةً بأيِّ معنًى من المعاني، كما أنها لا تُناقش الإيمان؛ فهي تفترض وجودَه في القارئ أولًا قبل أن تُخاطبه. إنها كتبٌ تفترض في القارئ التصديقَ الكامل بحُجة العلم أو الدين حتى تُقدِّم له آراء لا تنتسب في حقيقتها إلى العلم ولا إلى الدين. ومِن ثَم فإن هدف اليقين هنا هو الاعتمادُ على الثقة؛ بُغيَةَ الدعاية لفكرةٍ ما، أيًّا كان حظُّها من اليقين.
وثاني هذه الخصائص هو أن اللون الفكريَّ الذي تُقدمه لا يعرف درجات اللون الرمادي؛ أي إنه ينحو نحوَ الأبيض الكامل أو الأسود الكامل مثلما تنحو أفلام رُعاة البقر الأمريكية الرخيصة، فتُصور الخيرَ خيرًا كاملًا والشرَّ شرًّا كاملًا، وليس بينهما شيء. أي إن هذه الكتب تشترك مع ألوان الفنِّ الساذَج في خَصيصة «المطلق الفلسفي» — وهذا ما لا نفترضه أو ما لا ينبغي أن نفترضه في الكتاب! فهذا كتاب يقول إن الريان شيطانٌ مريد، وكتاب آخر يقول إنه عبقريُّ الاقتصاد الذي جادت به السماءُ على الأرض، وهذا كتاب يقول إن أحد حكامنا السابقين لا يُدانيه إبليسُ في شروره، وكتاب آخر يقول إنه يكاد يكون مَلاكًا منزلًا. وقِسْ على ذلك سائرَ الأحكام والفتاوى التي نقَلَها أصحابها عن الكتب الصفراء؛ فمَن قرأ تعويذةً معينة دخل الجنةَ وحقَّق آمالَه في الأرض، ومَن أهملَ نافلةً من النوافل دخل النار وخاب سعيُه في الأرض.
وثالث هذه الخصائص هو أن غالبية هذه الكتب مكتوبةٌ بلُغة ساذَجة، تعتمد على الانفعال، وتَشوبها الرَّكاكة، وتفترض في قُرَّائها الانتماءَ إلى المذهب التي تَدْعو إليه، كما تعتمد على أنه ذو مستوًى تعليميٍّ متوسِّط، وأن كثيرًا من الحقائق لن تتوافر له، وأن قدرته على التفكير المنطقيِّ محدودة، وأنه لن يُناقش ما تقول بل سيَنبهر ويُصفِّق له ويُهلل. وهي في هذا إذن تقتربُ كثيرًا من الموضوعات الصحفية المثيرة «ولو لم تستند إلى البحث الصحفيِّ والتحري الصادق»، وتبتعد كثيرًا عن مفهوم الكتاب العِلمي الذي يضَعُه الإنسانُ في مكتبته ويعود إليه بين الحين والحين.
وعندما عدتُ إلى بائع الصحف بعد أسبوعَين، لم أقف لأتأمَّل الكتب الموجودة بل وقفت أتأمَّل الكتبَ الناقصة — الكتب التي تُطبَع وتُوزَّع في مصر، ولكنها لا تصلُ إلى باعة الصحف. إنها الكتب التي تزخر بها مكتباتُ الهيئة العامة للكتاب مثلًا، وبعضُ المكتبات الخاصة في وسط البلد، وشتى المكتبات العامة أو التابعة للكليات والمعاهد والجامعات. إنها كتبٌ عِلمية كتَبَها أو ترجَمها أساتذةُ الجامعات ممن يَقبلون التضحية بالمال في سبيل نشر العلم والثقافة.
ألا يمكن أن يُقبِل الناسُ على هذه الكتب يومًا ما؟ إن أسعارها رخيصةٌ إذا قُورنت بأسعارِ تلك الكتب، والمادة العلمية فيها غزيرةٌ ومُغرية، وهي منوَّعة تنوعًا لا حدَّ له؛ فما الذي يصرف الناسَ عنها إلى كتبِ قارعة الطريق؟ هل هو الانصراف العامُّ عن الثقافة الجادَّة إلى قراءة التسلية؟ لا أعتقد ذلك. فلقد شاهدتُ في مَعرِض الكتاب الأخير حُشودًا لا نهاية لها تُقبِل على القراءة الجادَّة! هل هو ارتفاع الأسعار؟ لا أعتقد ذلك؛ فأسعار الكتب التي تطبعها هيئةُ الكتاب على سبيل المثال أقلُّ بكثير من كتب الفضائح السياسية والفتاوى!
هل هو عدمُ توافر الكتب الجادة على طاولات باعة الصحف؟ لا أدري! فربما يُقبل عليها البعض ويُدبِر عنها الغالبية.
وعدتُ مرةً ثالثة إلى بائع الصحف لأنظر إلى المجلات العربية، وإلى عدم وجود الكتبِ المترجمة، وأتأمَّل هذه وتلك … ولكنَّ لهما حديثًا آخر.
الدراما الدينية في التليفزيون
لم أكن أتصوَّر حين دخلتُ قاعة المحاضرات الفسيحةَ في مبنى كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر أن أجد هذا الحشدَ الحاشد، أو أن أجِدَهم من أبناء الريف! كنتُ أتوقع أن يحضرَ عددٌ محدود من أسرة الطالب الذي وقف ليجتاز امتحانَ درجة الماجستير (التخصُّص)، ولكنني لم أتصوَّر أن تخرج بلدةٌ عن بَكْرة أبيها لِتحيَّته والشدِّ على يده يوم الامتحان! وعلمت فيما بعدُ أن طالب الدراسات العليا ذاك هو خطيبُ مسجد البلدة، وأنَّ له صوتًا مسموعًا بين أفرادها، كما علمتُ أن رئيس لجنة الامتحان وهو الدكتور محمد الطيِّب النجَّار — العالم الفاضل ورئيس جامعة الأزهر السابق — كان قد تدخَّل لِيَفُض خلافًا وقَع في البلدة وراح ضحيَّتَه كثيرون، وأنهم مُمتنُّون له وجاءوا ليُعرِبوا عن شكرهم وعرفانهم!
كان المشهد حيًّا وساخنًا، وكانت الملامح تُنبئ عن متابعةٍ دقيقة للمناقشة، وعن استيعابِ كل ما يقوله الممتحنون، رغم أن الموضوع عِلمي شائكٌ وعسيرُ المأخذ؛ ألا وهو الدراما الدينيَّة في التليفزيون! وكنتُ أوقن أن البحث الذي اضطَلَع به مدرسٌ شاب في الأزهر وهو «عبد ربه أحمد الشحوت» سوف تكون له أهميتُه، وسوف يحتفي به كلُّ مسئول عن الدراما في التليفزيون، وشاركَني هذا اليقينَ الدكتور محيي الدين عبد الحليم الذي اشترك معي في الإشراف على الرسالة؛ إذ إنه بحثٌ مَيداني استطلَع آراءَ مئات المشاهدين في الحضَر والريف، من المتعلِّمين وغير المتعلمين، وانتهى إلى أن الدراما الدينية التي يُقدمها التليفزيون المصري حاليًّا تفتقرُ إلى الكثير، وأنها بحاجةٍ إلى تعديل كبير في المسار.
وأول عقَبة تقف في طريق التذوُّق الواسع النطاق لهذا اللون من الفن الدرامي هي اللغة؛ فاللغة الفُصحى المستخدَمة تستعصي في كثيرٍ من الأحيان على الفهم، وتقف حائلًا دون وصولِ المعاني والمشاعر بيُسرٍ إلى جمهور المشاهدين، وأغلبهم كما يقول الباحث من غير المتعلمين ومن الأميِّين. ولذلك فقد أوصى الباحثُ بمراعاة المستويات اللُّغوية المختلفة للمشاهدين عند تقديم هذا اللون من الدراما، ومعنى هذا ببساطةٍ استخدامُ لغةٍ فصحى هي أقربُ ما تكون إلى العامِّية المصرية حتى لا تَنْسدَّ قنوات الاتصال، وحتى لا تتعثرَ «الرسالة الإعلامية» في الطريق.
أما ما لم يَقُله الباحث — وهو ما نبَّهَت إليه الدكتورة فوزية فهيم أثناء مناقشتها للطالب — فهو اقتصارُ الدراما الدينية على التاريخ الإسلامي. والإسلامُ ليس تاريخًا فحَسْب، ولكنه أيضًا واقعٌ حي؛ أي إن الاقتصار في الدراما الدينية على عَرْض التاريخ يُوحي للمُشاهد بأننا أمام تاريخٍ بادَ وانقضى، لا أمام حاضر زاهرٍ زاخرٍ بكل المعاني والقيم التي أتى بها الدينُ الحنيف، وإذا كنا بحاجةٍ إلى التذكير بهذه المعاني التي لا تخلو منها فترةٌ من فترات تاريخنا الإسلامي الطويل. فينبغي أن نذكر أيضًا أننا لم نتَّخِذْه وراءنا ظِهْريًّا، ولم نجعله نَسيًا مَنسيًّا، وكان أكبر دليل على هذا — أثناء المناقشة — وجود أهل بلدة الطالب أمامنا بأصالتهم العميقةِ الجذور، وما تتضمَّنُه هذه الأصالةُ من مَعانٍ لم تُعبر عنها تمثيليةٌ واحدة من التمثيليات التاريخية التي يُقدِّمها التليفزيون.
ودفعني الموقف إلى تأمُّل هذا المشهد الحيِّ من حياتنا المعاصرة: لقد نزَغ الشيطانُ بين أهالي البلدة، فأوقعَ بينهم العداوةَ والبغضاء. ثم تدخَّل عالمٌ جليل فأصلَح ما بينهم، فإذا هم بنعمة الله إخوان، ولولا فضلُ الله ما ساد الوئامُ بينهم؛ ولو أنفق الناسُ ما في الأرض ما ألَّفوا بين قلوبهم، ولكنَّ الله ألَّف بينهم! أوَليس هذا موضوعًا دينيًّا جديرًا بمعالجةٍ درامية شائقة؟ كيف تحوَّلَت البغضاءُ إلى حُب؟ وكيف انقلبَ العداء إلى وِفاق وتضامن؟ لقد وقَرَ الإيمانُ في القلب وصدَّقَه العمل؛ وهذه هي أخلاق الإسلام التي نحتاج إليها اليومَ أكثرَ مِن أي عصرٍ مضى!
وذكرتُ كلامًا مُشابهًا قاله الممثلُ العبقري الراحل عبد الوارث عَسَر، في تعقيبه على تمثيليةٍ إذاعية تناولَت مثلَ هذا الموضوع، وأُذيعت في أوائل الخمسينيَّات، وترَكَت أثرًا لا ينمحي في نفسي؛ إذ قال إن الشيطان يعرف طريقه إلى قلوبنا بأن يُغشي عيونَنا عن معنى الحياة وامتدادِها بعد الموت. فلا نرى بسببه إلا مَغانمَ الدنيا الهزيلة، ولا نُحسُّ إلا بمتاعها القليل وعرَضِها الزائل؛ ومن ثَم نتحوَّل إلى وحوشٍ يتربصُ بعضُنا بالبعض، ناسين ذلك الامتدادَ الروحيَّ العظيم خارجَ حدود المحسوسات.
لم يكن بين الموجودين في القاعة مَن أطلق لِحيتَه، أو تَزيَّا بزيٍّ يُميزه عن سائر أهل الزمان، فالمدرسون الجالسون في الصفِّ الأول يرتدون الحُلَل العادية، وأهلُ البلدة يرتدون ملابسَ أهل الريف. ولكنك كنتَ تُحس أن روح الإسلام تغمرُ الجميع، وأن القيم والمثُلَ العُليا التي تَنشُدُها في التاريخ ماثلةٌ أمامك في الحاضر الحيِّ النابض! وأحسستُ بالفوارق التي صنعَتْها الحضارة وأقامَتْها بين الريف والحضَر تتهاوى. فالكل مؤمنٌ يعرف أن الله لا ينظر إلى صورنا، ولكن إلى ما في قلوبنا.
وامتدَّ بي سيال الفِكر إلى موضوعات الدراما الدينية التليفزيونية المتكررة التي تدورُ حول أصول العقيدة، وتعجَّبت في نفسي؛ هل ثَم مَن يحتاج في هذا الزمن إلى مناقشة وجودِ الله سبحانه وتعالى؟ إن الدراما التليفزيونية تُخاطب المؤمنين، ولن يُشاهِدَها مَن يُخالجه شكٌّ في الدين، ولو شاهدَها ما تغيَّر وما اقتنَع! لا بد من إعادة النظر إعادةً شاملة في هذه الموضوعات أيضًا، إلا إذا كنا نُنتج هذه المسلسلات ابتغاءً للربح مِن بيعها بالدولارِ لغيرنا، وهذا سببٌ واهٍ لا يُبرر كل شيء! والموضوع بعدُ شاسعٌ، وربما عاد إليه الباحثُ في رسالة الدكتوراه.
عن الاغتراب والعودة
لا نختلفُ عن سائر بلدان الأرض في أنَّ بيننا من الأدباء مَن يرحل عن وطنه فترةً من الزمن ثم يعود إليه، ومَن يرحل فلا يعود إلا لزيارة الأهل حينما يَغلبه الحنين، وفي أن أُدباءنا يُحسَبون لنا أو علينا سواءٌ عاشوا بيننا أو بعيدًا عنا، وقديمًا قال مؤرخٌ أدبيٌّ إنجليزي: «سوف تجد أُدَباءَ أيرلندة في كلِّ مكان إلا في أيرلندة.» ومنذ شهورٍ حصَلَت باحثةٌ في جامعة القاهرة على الدكتوراه عن بحثٍ تقدَّمَت به عن الشعراء الإنجليز الذين عاشوا في مِصر إبَّان الحرب العالمية الثانية، ومنهم «لورانس داريل» الشاعر والروائي الإنجليزي صاحب «رباعية الإسكندرية» الذي لا يزال يعيش خارج إنجلترا حتى اليوم، وقد أثبتَت الدكتورة «هدى الصدة» في هذه الرسالة أن الغُربة أثَّرَت تأثيرًا إيجابيًّا في شِعرهم وعقَدَت مقارناتٍ بين الثقافتَين العربية والأوروبية كما تجلَّت كلُّ واحدة في هذا الشعر.
ونحن نذكر في أمْسِنا القريبِ شعراءَ المهجر الذين صاحَبوا حركةَ الإحياء الثانية — أي الحركة الرومانسية في الشعر العربيِّ التي تلَتْ حركةَ الإحياء الأولى — وكلُّنا مَدينٌ بالفضل لهذا التفتُّح الكبير على العالم؛ إذ كان من ثمارِه بُزوغ التيارات الحديثة في الأدب والنقد، ولولاه ما تبلوَرَت في الشعر نظراتُ أصحاب مدرسة الديوان (العقَّاد والمازني وشكري) فالمَهاجر الأدبية ليست بِدعة، وليس الاغترابُ الأدبيُّ مقصورًا على شعبٍ دون شعب، ولا على لغةٍ دون لغة.
وقد جرى العُرف على اعتبار القرن التاسعَ عشر فترةَ اكتشاف الغرب للشرق، واكتشاف الشرق للغرب، ولكنَّ القرن العشرين قد أذاب هذا التقسيمَ القديم.
كيف ندهش إذن عندما نَشهَد هذا الاهتمامَ الكبير بدراسة الآداب العربية في أوروبا وأمريكا، بل وفي الصين وفي الهند، مثلَما نَدرُس نحن الآدابَ الأجنبية؟ وكيف ندهش إذن حين يغتربُ بعضُ أدبائنا فيَعيشون في بلدانٍ لا تتحدث العربيةَ، ثم يكتبون بالعربية أعمالًا أصيلة، تُرجِمَت أم لم تُترجَم؟ ليس هذا مبعثَ دهشة، ولكن لدينا ظاهرة ما أحسبُها إلا مقصورةً علينا، وهي أن البعض ينفصلُ عن التراث عند الذَّهاب، أو يَنبِذُه عند الإياب، وربما كان هذا هو مبعثَ القلق لدى الكثيرين ممن يُتابعون أحوالَ بعض نقادنا وأدبائنا بعد الذَّهاب وعند الإياب.
أما الانفصالُ فمَعناه لا يقفُ عند عدم متابعة حرَكة المجتمع والأدب في مصر (إذ كثيرًا ما يتصوَّر مَن هجَر مِصر في الستينيَّات مثلًا أن مصر لم تُنجب أحدًا بعد كُتَّاب تلك السنوات)، ولكنه يتعدَّى ذلك إلى الخلط بين المعايير الاقتصادية والمعايير الإنسانية في الحُكم على أبناء وطنه وآدابهم؛ إذ يرى البعضُ (في أعماقه) أن الفقر الماديَّ يستتبع بالضرورة فقرًا إنسانيًّا، وأن قوة السلاح تستتبع بالضرورة قوةً إنسانية. ومن ثَم فهم يَنبِذون التراثَ ربما لأنهم لا يعرفونه حقَّ المعرفة (فكم من أستاذٍ للعربية بجامعات أمريكا وأوروبا لا يعرف من الأدب العربي إلا نجيب محفوظ)، وربما لأنهم يرَونه مرتبطًا بصورةٍ حضارية زالت، أو ربما اعتقَدوا أنها ينبغي أن تَزول من الوجود. وأما نبذُ التراث عند الإياب فمعناه وقفةُ تَعالٍ غريبة، تهَبُ بعض العائدين نبرةَ صلَفٍ مُحزنة، مبعثُها الأول في نظري شذَرات من الكلمات الأعجمية (ربما لا يُحسِنون نُطقها)؛ توحي بالتميُّز والانتماء إلى حضارةٍ أخرى أو بالعالمية (لأنهم يكتبون بلغةٍ منتشرة على نطاق العالم الكبير)، ولكلٍّ من هذين الجانبَين — الانفصالِ والنبذ — حديثٌ مستقل.
معنى الأستاذ والأستاذيَّة
جرى العُرف في الحياة الجامعية على المقابَلة بين كلمة «أستاذ» المعرَّبة، وكلمة «بروفيسور» التي شاعَت في اللغات الأوروبية الحيَّة اليوم؛ لِتَعنيَ أعلى منصب علمي في الجامعة — أي المنصب الذي يُتيح لصاحبه أن يُرشِد الطامحين من الطلَّاب إلى سُبل البحث العِلمي والدراسة المتعمقة؛ أي إن الكلمة قد اكتسَبَت معنًى جديدًا يختلف عن معناها القديم الذي ساد حتى القرن الخامسَ عشر الميلاديِّ والذي ذكَره ابنُ تغري بردي في كتابه «النجوم الزاهرة» قائلًا: «الأستاذون هم المعروفون بالخُدَّام والطواشية، وكان لهم في دولتهم المكانةُ الجليلة، ومنهم مَن كان مِن أرباب الوظائف الخاصَّةِ بالخليفة، وأجَلُّهم المحنِّكون، وهم الذين يُدوِّرون عَمائمَهم على أحناكهم كما تفعل العربُ والمغاربة.» بل إن الكلمة قد أصبحَت بديلًا للكلمات التي ألِفْناها في كتب التراث العربي مثل: «العالم العلَّامة والحَبْر الفهَّامة»، أو «الفقيه» أو «الشيخ» وكلها ذاتُ أصلٍ ديني تمامًا مثل كلمة «بروفيسور» الإنجليزية، بل وكلمة «دكتور» بمعنى مُعلِّم التي كانت ترتبط بالدِّين والقانون أولَ الأمر، ثم تحوَّلَت إلى معناها الحالي.
وقد حاكَت الجامعةُ المصرية — منذ نشأتها — نظُمَ الجامعات الأوروبية، فوضعَت سُلمًا لوظائفِ هيئة التدريس، وعلى قمته «أستاذ الكرسي»؛ أي «أستاذ المادة» الذي يُرجَع إليه عِلميًّا وإداريًّا في كل ما يتَّصل بها.
ولدينا في جامعة الأزهر النظامُ القديم؛ أي نظام الشيخ وتلاميذه، الذي يختلف بطبيعة الحال عن النِّظام الغربي، ولكنَّ النظامَين يشتركان في أن الأستاذَ عادةً ما يكون له أسلوبٌ خاص في البحث، يمكن اعتبارُه منهجًا فِكريًّا متميزًا، يقترن باسمه، ويكون عَلَمًا عليه.
ولما كان تطورُ العلم يسير في حلقاتٍ متشابكة متداخلة يُفْضي بعضُها إلى بعض ويأخذ بعضها برقاب بعض، أصبح عملُ كلِّ أستاذٍ بمنزلة امتدادٍ لعملِ مَن سبَقه، حتى وإن اختلَف معه بعضَ الشيء في مذهبه؛ إما بالتعديل الصريح، أو بالتطوير غير المباشر، أو بمجرد التَّشْذيب والتهذيب. بل إن التلميذ قد يأخذ عن أستاذه مذهبَه فيستخدِمُه في الإتيان بالجديد الذي يُحسَب له لا لأستاذه.
ولكن ما جوهرُ عمل الأستاذ؟ وما طبيعةُ علاقته مع طلَّابه؟ إجابة السؤال الأول يسيرة؛ فجوهرُ عمَله هو البحث العلميُّ بأشكاله المختلفة، وأهمها القراءة — بطبيعة الحال — بُغيةَ متابعةِ النتائج التي تنتهي إليها بحوثُ الآخرين والاستفادةِ منها في بحوثه الخاصة، ويعني هذا أن الجانب الأكبرَ من وقته ينبغي أن يُخصَّص للدراسة، سواءٌ كان مكانُها مكتبَه في الجامعة (كما هو الحال في أوروبا) أم كان مقرُّها منزلَه؛ لعدم وجود مكانٍ للقراءة في الجامعة، أو لعدم وجود «مكتب» له أصلًا في جامعاتٍ اكتَظَّت بالطلاب حتى طفَحَت. وإلى جانب هذا يُطلَب منه إلقاء عددٍ محدود من المحاضرات على الطلبة، سواءٌ في مرحلة الليسانس أو البكالوريوس، أو في مرحلة الدراسات العُليا. وعادةً ما تكون هذه المحاضراتُ نابعةً من طبيعة البحث الذي يقوم به، وتابعةً له ربما أضافت إليه وزادته ثراءً؛ نتيجةَ المناقشة مع الطلاب.
أما علاقته مع الدارسين فهي باختصارٍ علاقةُ توجيهٍ لا علاقةُ تلقين؛ أي إن الأستاذ لا يُقدِّم «معلومات» للطالب، بل يُوجِّهه إلى مصادر المعلومات، فإذا أحاط بها الطالبُ ناقشَه الأستاذ فيها على ضوء مذهبه الفكريِّ الخاص. وقد يختلف الطالبُ مع أستاذه هنا، وقد يظهر من الاستقلالِ الفكري والأصالة ما يجعله يثور على أفكارِ أستاذه؛ إما بالرفض أو بالتعديل، وهنا يكون من حقِّ الطالب اختيارُ أستاذٍ آخر يَقْبل مذهبَه الفكريَّ الخاص، ما دام عِلميًّا موضوعيًّا يستند إلى ثوابتِ المنهج العلمي العام الذي لا يختلف من أستاذٍ إلى أستاذ. وهذا هو مربطُ الفرَس كما يقولون! إذ إن كلَّ هذا الكلام يَفترض الجدِّيةَ من الطالب والأستاذ جميعًا، والسعيَ لتحقيق غاية البحث العلمي، وهي إضافة الجديد إلى عالَم المعرفة الإنسانية؛ وهذا هو ما نفتقدُه في جامعاتنا، باستثناءاتٍ تؤكِّد القاعدةَ ولا تنفيها.
فلنتجاوز أسبابَ هذه الظاهرةِ وهي الأسباب التي لا يُنكرها أحدٌ (مثل تحوُّل مفهوم الجامعة تحولًا جذريًّا بسبب الأعداد الهائلة للطلاب، وضيق المكان، وقلة الموارد المالية، وما إلى ذلك)، ولْنتأمَّل النتيجة التي ربما غفَل عنها الكثيرون، وهي تدهورُ وضع الأستاذ في الجامعة بصفةٍ خاصة، ثم تدهور صورته في المجتمع بصفة عامة؛ فهو مُضطرٌّ إلى بذل جهده الأساسيِّ في التلقين، لا في البحث العلمي، وفي الإشراف على رسائلَ لا يصل الكثيرُ منها إلى مستوى البحث العِلمي الناضج، أو إلى ممارسة أعمالٍ خارجَ نطاق العمل الأكاديميِّ المحض؛ إما ابتغاءَ الرِّزق أو لأن المجتمع في حاجةٍ ماسة إلى هذه الأعمال. والسبب — في رأيي — في هذا كلِّه هو فقدانُ الأستاذ نفسِه معنى الأستاذية؛ فهو يترقَّى في السُّلم الوظيفي إلى درجة أستاذ، دون أن تكون له مقوماتُ الأستاذ التي ذكَرتُها آنفًا؛ مثل المذهب الفكريِّ المحدَّد الذي يطرحُه في كتبه ودراساته ومقالاته، ودون أن يكون قد جعَل مِن حياة الجامعة حياةً كاملة تتصلُ فيها قاعةُ الدَّرْس بغرفة المكتب في المنزل؛ بحيث يكون نشاطه هنا وهناك «عملًا» متواصلًا بالقراءة والبحث والكتابة.
ويكفي أن نسألَ هذا السؤال: كم من الأساتذة الذين تَحفل بهم جامعاتُنا كتَب كتابًا «جديدًا» أو قام ببحثٍ «جديد» بعد حصولِه على الأستاذيَّة؟ إن النسبة ضئيلةٌ ومحزنة، بل لقد اعتَدْنا في مجتمَع الجامعة حديثِ «الإعارة» إلى البلدان العربية الشقيقة؛ حيث يتحدَّد الهدف في جَمْع المال، وقد تَطول الإقامةُ وتمتدُّ، وقد يعود الأستاذُ أو لا يعود، وقد يتحوَّل إلى مسافرٍ دائم التنقُّل والتَّجوال مدفوعًا بضِيق ذات اليدِ أو بالرغبة في بِناء رصيدٍ مالي يَقيه وأسرتَه غائلةَ الزمن. ولستُ أملِكُ لهذه الحال حُلولًا، ولا أعرف منها مَخرجًا، ولكنني أنظرُ فحسبُ إلى النَّماذج المشرِقة من جيل الأساتذة الذين سبَقونا وأتطلَّع إلى يومٍ يعود فيه معنى الأستاذ إلى ما كان عليه في الجيل الماضي، وفي ظني أن هذا ليس مُحالًا ولا متعذِّرًا، بل لن يكون عسيرًا إذا ذكَر كلُّ أستاذ معنى الأستاذية، وأصرَّ على التمسُّك بقيمها ومُثُلِها في زمنٍ اشتدَّت فيه الحاجاتُ إلى القيم والمثُل.
النقد الأدبي … والأوهام!
وقد اهتمَّت الأجهزة الحاكمة في البلدان النامية بهذا الجهاز غيرِ الرسمي اهتمامًا بالغًا وجعَلَت دراسته جزءًا من دراسة الرأي العام، وأفرَدَت لدراسة الشائعة (أي الخبر الكاذب الذي يَشيع فيكتسبُ قوةَ الخبر الصادق) بابًا خاصًّا، وانتهت إلى استخدام ذلك الجهاز نفسِه للترويج للأخبار التي تريدها وتعتبر أنها مفيدةٌ للشعب.
ولكنَّ هذه الظاهرة التي نشتركُ فيها مع سِوانا ذاتُ مذاق خاصٍّ في مصر؛ لأننا شعبٌ يعشق الكلامَ أكثرَ من غيره، ويتميَّز بخِصْب خياله الذي يُولِّد فُكاهات (نكت) لا يُشاركنا فيها الكثيرون، فمُعظم الأحاديث التي تتميَّز بالطرافة في المجتمَعات الحميمة يستند إلى قدرة المتحدِّث على إمتاع السامعين بالأخبار الغريبة، وهي أخبارٌ يؤلِّفها صاحبُها تأليفًا وقد يُصدِّقها أثناء رِوايته إياها، وقد يُصدِّقها فيما بعد، ولكنها بعد فترةٍ تكتسب درجةً من التصديق لا تتوفَّر للأخبار الصادقة.
وإذا كنا نشتركُ مع بلدان العالم كلِّه في هذه الظاهرة أيضًا؛ فإننا نتميَّز عنها بطرافة الشائعة ونوعِها الفريد — كما قلت — لأنَّ لنا خَيالًا خِصبًا نعيش فيه بقدرِ ما نعيش في الواقع! وقد حاولتُ تحليلَ هذه الظاهرةِ في المقدمة التي كتبتُها للترجمة الإنجليزية لرواية «وقائع حارة الزعفراني» لجمال الغيطاني (التي صدَرَت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام ١٩٨٦م، وكادت تنفَدُ في أقلَّ من ثلاث سنوات)، كما حاولتُ رصد جذور تغلغُل الوهم في حياتنا.
وأذكر أن أول مرةٍ اصطدمتُ فيها بهذه الظاهرة كانت في الستينيَّات عندما اجتمعنا في الإسكندرية مع لفيفٍ من «المثقفين» لمناقشة إحدى روايات إحسان عبد القدوس، فبرَز من الحاضرين مَن أكَّد لنا أن كل رواياته مترجَمة، وأنه يعرف «كيف يكتب هؤلاء الناس»، ودُهِشت دهشةً بالغةً وناقشتُه مناقشةً هادئة؛ احترامًا لمكانته العلمية (إذ كان يَشغل منصبًا رفيعًا في الجامعة)، فقال أولًا إنه يستند إلى الثِّقات في هذا الموضوع الذين أخبَروه بهذا، ولكنه اضطُرَّ إلى الاعتراف آخِرَ الأمر أنه «سمع» ذلك من أحدِ الناس (ورفَض بالطبع ذكر اسمه)، وقدَّم لي نوعًا من السيناريو الخياليِّ عن كِبار الكتاب الذين «يسرقون» قصصَ غيرهم، واليوم تعود الأوهامُ إلى حقل النقد الأدبيِّ من بابٍ جِدِّ خطر؛ ألا وهو التوصيف والتصنيف المذهبي أو العقائدي؛ إذ يُطلِق المتحدِّثون لخيالهم العِنان فيرسمون صورًا غريبة لعلاقات مُريبة بين الكتَّاب وأرباب الاتجاهات السياسية، وعادةً ما يبدأ الواحدُ منهم حديثَه بالعبارة الشهيرة التي عانى منها تاريخُ العربية طويلًا؛ ألا وهي «حدَّثَني محدِّثُ صِدق» أو «سمعتُ من مصدرٍ موثوق به»، ولا ثَمة محدِّث ولا ثمة مصدرٌ سوى خيالِ المتكلم!
ولذلك وجدتُني أواجهُ موقفًا مألوفًا أثناء مناقشةٍ في معهد التدريب التليفزيوني مع أحدِ الدارسين عن نجيب محفوظ، عندما لجأ إلى سيناريو مألوفٍ عن معنى فوزِه بجائزة نوبل، واسترسلَ في هذا السيناريو بصورةٍ كادت تُقنع الحاضرين به، فلم أجد أمامي إلا أن أسأله أسئلةً محددة عن مصدر معلوماته، فلجَأ إلى المحاوَرة والمداوَرة، وكنتُ أعلم أنه سيُحاور ويُداوِر، وفي النهاية أقرَّ بأن هذا هو تفسيره الشخصيُّ الذي انتهى إليه من قراءته للموقف، والأرجحُ عندي أنه أُوحي به إليه من بعض الذي يعيشون في الأخْيِلة والأوهام من باب تزجية الوقت على المقهى أو في جلسات المنزل الطريفة التي تحتاج إلى «محدِّث» ماهرٍ يلعب دورَ المؤلف الذي يُسلِّي الحاضرين بحكاياته الغريبة التي يدسُّها في ثنايا أحاديثِ صدق حتى تكتسبَ منها رنَّة الصدق.
وما قيل عن نجيب محفوظ يُقال عن كل مَن يعمل ويُنتج في حقل الأدب وفي النقد الأدبي، فما أيسَر أن يزعم زاعمٌ عِلمه بسرٍّ حتى تتطلَّع إليه العيونُ وتتعلقَ به العقول، فإذا أفضى بالسرِّ المزعوم ولاقى استحسانًا أردفَه بسرٍّ آخَر حتى يفرح السامعون ويَطربوا، ولا غَرْو؛ فلقد أصبحَت التمثيليَّات الخيالية التي يبثُّها التليفزيون جزءًا من حياتنا الواقعية، وتلاشى الحاجزُ الذي يفصل بين الوهم والحقيقة، وأصبح الناس يستشهدون بما يحدثُ في المسلسلات والمسرحيات كأنما يستشهدون بالتاريخ الصادق. وقِسْ على ذلك مَن يقول لي في قاعة الدرس في الجامعة — حيث لا مجالَ للأوهام — «لقد سمعتُ كذا وكذا»، وقد يكون قد سمع ذلك في أجهزة الإعلام، أو في الطريق العام! وقد كنتُ أثور عند سماع هذه العبارة فيما مضى، أما الآن فإنني اعتَدتُها، وكل ما أتمنَّاه أن يُسائل كلُّ «سامع» نفسَه عن مدى مصداقية المسموع، وأن يتريَّث قبل أن ينقلَ أوهامه إلى واهمين جُدد!
لعبة الجامعة
هذه لُعبة من نوعٍ خاص؛ تبدأ في مرحلة الدراسة الثانوية بالتسخين عند نهاية تلك المرحلة وإعلانِ الطوارئ في معظم مَنازل مِصر، وانتشار الذعر والفزع عند ذِكر الامتحان الرهيب — الثانوية العامة — واهتمام أجهزة الإعلام على شتى مُستوياتها وبمختلِف أنواعها بأخبار الامتحان، فبعضُها ينشر أسئلةً وبعضها ينشر إجاباتٍ وبعضها ينشر تصريحات، وبعضها يُذيع الدروس ويُتلفِز المعلومات! وبعد التسخين يأتي دَور مكتب التنسيق وأخبار مراحل القَبول وحِيَل القبول، والباب الخلفي والباب الأمامي، ثم تُغلَق الأبواب وتبدأ اللعبة في أوائل أكتوبر!
واللعبة ببساطةٍ هي محاولةُ الحصول على الشهادة الجامعية بأقلِّ قدر من العلم والمعلومات! أي إن الطلبة يتنافسون أيُّهم يستطيع أن ينجَح ويتخرَّج بأقلِّ جهد، ودون أن تتسرَّب المعلوماتُ إلى ذهنه خوفًا من استقرارها هناك، وخوفًا من تأثيرها على تفكيره أو تعكيرِ صفْوِه، أو تسويد صفَحاته البيضاءِ الناصعة! ولذلك فالطالب يبدأ في اكتساب مهارات اللعبة منذ السنةِ الأولى؛ إما بدراسة طرُق الامتحان استنادًا إلى الامتحانات السابقة، وأقوال الخبراء ممَّن سبَقوه إلى الانتصار في هذه اللعبة، وإما بالتحايُل الفردي استنادًا إلى خبرته الشخصية!
وأهمُّ قواعد هذه اللُّعبة المحافظةُ على الشكل الخارجي للملعب؛ مثل ركوب المواصلات أو التاكسي، وحضور المحاضرات، والتردُّد على المكتبة؛ (للتأكد من وجود الكتب بها) واستنساخ المذكرات، وشِراء الكتب، بل والسهر للاستذكار مع الأصدقاء، ومشاهدة البرامج «العلمية» في التليفزيون! وأهمُّ عنصر في هذا كلِّه هو السهر حتى الصباح ليلةَ الامتحان؛ حتى يتوفَّر للطالبِ القدرُ الكافي من التوتر والارتجاف والارتعاش والرهبة؛ وإلا فما معنى الامتحان إذا لم يكن مِحنة؟
والقاعدة الثانية التي لا تقلُّ أهميةً عن الشكل الخارجي هي رفضُ أيِّ معلومات «خارجة عن المقرَّر»؛ فالطالب يرفض رفضًا باتًّا — فهي مسألةُ مبدأ — أن يقرأ كتابًا أو فصلًا في كتابٍ لا يُقرِّره الأستاذ؛ حتى لا يَزيد من أحمال وأعباء عقلِه! بل هو أحيانًا يتفاوضُ مع الأستاذ تفاوُضًا جادًّا في تخفيض عددِ الفصول المقرَّرة من الكتاب وإلغاء بعضها؛ فهي مثلُ دُيون العالم الثالث، لا بد من إسقاط بعضِها رأفةً بحالِ الطالب! ولذلك فالطالبُ يُحب الأستاذَ المتساهل الذي لا يَقْسو (يا حرام) على أبنائه الطلبة بأن يُقرِّر عليهم كتابًا كاملًا، ويكرهُ الأستاذ الصعب الذي يُطالب الطالبَ بدراسة الكتاب كلِّه، وأحيانًا بدراسة كتبٍ أخرى إلى جانبه (فهذا ظُلم فادح).
والطالب الذي ينتصر في هذه اللعبة هو الذي يستطيع أن يَحدِس النقاطَ الهامة في المقرَّر حتى يستذكرَها فحسب، أو أن «يتصرف» في الامتحان حتى يجتازَه دون جهدِ استذكار؛ فالطالبُ الجديد ليس طالبَ علم — بل هو طالبُ شهادة — وهذه هي الفكرة التي تقوم عليها اللعبة!
أما الأساتذة الذين يعتبرون الفريقَ الآخر الذي يُلاعبه الطلبة فبعضهم يلعب اللعبةَ حسَب قواعدها، فيُحاور الطلبة حتى يضطرَّهم إلى القراءة والاستذكار — معلنًا انتصارَه إذا نجح في إدخال بعض المعلومات «بالعافية» في أذهانهم، وبعضهم لا يعرف قواعدَ اللعبة جيدًا؛ فهو يُمارس العملية التعليمية على افتراضِ أنها عمليةٌ جادَّة لا بد أن تُثمر على مرِّ الزمن، كثيرًا ما يُصيبه الإحباط، بل واليأسُ أحيانًا، وكثيرًا ما يترك الجامعة لعمل مثمر يُرضيه ويُحسُّ فيه بنتيجةِ جهده وكَدِّه!
ومِن بينِ مَن يُجيد أداء اللعبة أساتذةٌ فَقَدوا الحماسَ بعد سنوات من المحاولة، وآخَرون لم يعودوا يُحاولون أصلًا، وفريق ثالث لا يعرف موعدَ انتهاء المباراة فهو مستمرٌّ في المحاولة (لعل وعسى)؛ معتمدًا على أنَّ في الجيل الجديد قلةً جادَّة لا بد أن تحملَ الشعلة من بعده! لقد أدَّى المناخُ الثقافي العام والأوضاع الاجتماعية التي تغيَّرَت بسرعةٍ لم يتوقَّعْها أحدٌ إلى عدم نِشْدان العلم لذاته، بل إن مِن بيننا مَن يُصر على ربطِ التعليم بالعمل؛ بحجة التنمية وخُطة التنمية، مما جعل معظمَ أبناء الجيل الجديد يفقدون قيمةَ العلم والتعليم، وهي قيمةٌ خالصة؛ فهم يرَون مِن حولهم أن الجاهل قد يفوز في لُعبة الحياة، وأن السعادة لا علاقةَ لها بالعلم، وأن النجاح أصبح لا يرتبطُ بتنمية الذهن!
رحيل إنسان عظيم
في خريف عام ١٩٥٧م قيل لنا في قسم اللغة الإنجليزية بآداب القاهرة إن أعضاء هيئة التدريس قد رحَلوا إلى إنجلترا! وكان القولُ غريبًا ومُبالَغًا فيه، ولكنه لم يكن يخلو من الصِّدق؛ إذ إن عودة العلاقات مع بريطانيا عَقِب رحيل قوَّات الغزو في ديسمبر ١٩٥٦م فتَحَت الطريق أمام استئناف البعثات الدراسية، فاتجهَ عددٌ كبير من المدرسين الذين لم يكونوا حصَلوا على الدكتوراه إلى إنجلترا؛ للدراسة والحصولِ عليها. وكان عددُ مَن بقي قليلًا؛ ومِن ثَم ظَلِلنا نتساءل عمَّن سيُدرس لنا هذه المادةَ أو تلك من الموادِّ الإنجليزية؛ فالموادُّ الأخرى ثابتةٌ إذ كان يُعلمنا اللاتينيةَ أستاذٌ أيرلندي (مستر كروفورد) والحضارةَ أستاذ هولندي (فرهايدن) واللغةَ الفرنسية أستاذٌ فَرَنسي (مسيو باكو) والعربيةَ والترجمةَ أستاذان كبيران من قسم اللغة العربية؛ هما الدكتور شكري عياد والدكتور عبد العزيز الأهواني. ولم تَطُل حيرتنا إذ دخَل علينا قاعةَ المحاضرات ذات يوم أستاذٌ، ما إنْ بدأ يتكلَّم حتى أحسَسْنا بأننا نستمعُ إلى متحدثٍ من نوع غيرِ مألوف؛ فلغته الإنجليزية سَلِسةٌ سيَّالة متدفِّقة، وهي مِن نوع السهل الممتنِع، فأنت تُحس أنك تفهم كل ما يقول دون أملٍ في مُجاراته، وهو ينطقها بلهجةِ أبناء جامعة أكسفورد العريقة؛ لهجةٍ تجمع بين دقَّة الصواب وجمال الجَرْس، تَطْرب لها الآذانُ ويهفو إليها القلب.
وتولَّى الدكتور مجدي وهْبة تدريسَ عددٍ من المواد الإنجليزية لنا؛ كان أهمها الشعر والنقد، وشعَرْنا أننا قد انتقلنا معه نقلةً مفاجئة من البدايات إلى صُلب الأدب الإنجليزي (وكنا بعدُ في السنة الثالثة)، وأحسسنا بعدَ قليل بالألفة مع ما يقول، وسرعان ما أصبحَت محاضراتُه ساعةً نشتاقُ إليها ونحرص عليها، ولم تَمضِ شهورٌ حتى حدَث ما لم نتوقَّع؛ إذ انكسَر حاجزُ خوفِنا من اللغة الإنجليزية، وشرَع بعضُنا يسأل أو يُجيب بها، وهو يُبدي من الصبر والحنان ما لم نَشْهده من أستاذٍ سابق (أو أستاذ لاحق)، حتى انتهت امتحاناتُ الفصل الدراسيِّ الأول، وحلَّت عطلة نصف العام.
كان بعضُنا يحلم بأن ينقل بعض تراث الإنجليزية إلى العربية، وكان يُترجم بعض القطع شعرًا ونثرًا إلى العربية، ولا أذكر كيف علم الدكتور مجدي وهبة بهذا، ولكنه عرَض علينا في بداية الفصل الدراسي الثاني أن يعقد مسابقاتٍ في الترجمة الشعرية إلى العربية — وتحقق المشروع وأصبحت المسابقاتُ أسبوعية، وكانت جوائزها كتبًا من مكتبته الخاصة، ثم تنوَّعَت المسابقاتُ لتشمل كتابةَ القصة القصيرة بالعربية والشعر أيضًا، وامتدَّت واتَّسع نِطاقها لتشتركَ فيها أقسامُ الكلية الأخرى وعلى رأسها قسم اللغة العربية.
واستمرَّ النشاط الدائبُ في العام التالي، وتخرَّجْنا في قِسم اللغة الإنجليزية وتفرَّقْنا، وإن مكَث بعضُنا للعمل في الجامعة، وكان من حُسن حظي أنْ توثَّقتْ علاقتي بالدكتور مجدي على مدى سنواتٍ طويلة، فكان لي خيرَ مُرشد ومُعين؛ إذ لمستُ فيه قدرًا من الصفاء ودَماثة الخلُق لا يجدُها الإنسانُ إلا في القصص الخيالية، واقتربتُ منه أشدَّ اقترابٍ أثناء عملي معه في إخراج كتابٍ عن النقد المسرحيِّ الكلاسيكي — هو «درايدن والشعر المسرحي، دار المعرفة، ١٩٦٣م» — وكان لا يبخلُ على طالبٍ بوقته ولا يضنُّ عليه بعِلمه. وفي تلك السنوات البعيدة لمستُ أول بذورٍ لاتجاهه المعجَمي والمَجْمعي في اهتمامه البالغِ باللغة العربية وحَدْبه الشديد على إخراج القواميس التي تنقل إلى لغة الضاد شتى مَعاني اللغات الأوروبية الحديثة.
واليوم رحَل عن دُنيانا هذا الإنسانُ العظيم الذي أمضى عُمرَه في خدمة اللغة العربية، وكان يُمكنه أن يُنتج كتبَه بالإنجليزية أو الفرنسية، مُعلنًا لجيلنا مدى انتمائه إلى هذا الوطن، ومدى حبِّه لهذه اللغة، وقائلًا لنا في كلِّ ما أخرج من معاجمَ متخصصةٍ وغير متخصصة إن دراسةَ الآداب الأجنبية يجب أن تنصبَّ في نهاية المطاف في الثقافة القومية، وفي خدمة لغة الضاد؛ وهذا هو الدرس الذي تَعلَّمَه جيلي من هذا الأستاذ الكبير.
لقد انطفأتْ جَذْوة علَمٍ من أعلام مصر الحديثة، ولكنَّ بَصيص النار ما يزال يتَّقد فيما خلَّفه من دروسٍ ومن أشخاص كان يعتزُّ بهم اعتزازَهم به، رحمه الله رحمة واسعة.