مع لويس عوض
«الفردوس المفقود»: درس في الترجمة بقلم: د. لويس عوض
كنا ونحن شبابٌ نأخذ الترجمةَ مأخذَ الجِد. فقد كنا ننظرُ إليها أولًا على أنها نوافذُ تُفتَحُ على الثقافاتِ والحضارات الأخرى قديمِها وحديثِها؛ فهي إذن جزءٌ لا يتجزَّأ من السعي الوطنيِّ لبناءِ عقل الأمَّة ولترقية مَشاعرها وتهذيب ذَوقها وتوسيع مَداركها ومعارفها، بل ولتصحيح كلِّ هذه الأشياء. وكنا ننظرُ إليها ثانيًا على أنها أداةٌ من أدوات إثراء اللُّغة العربية ذاتِها وتطويرها؛ لتُصبح أقدرَ تعبيرًا عن مُناخ العصر واحتياجاتِه في الآداب والفنون والعلوم، وفي شئون الحياة اليوميَّة.
وكان الجاهلون باللغات الأجنبية بينَنا لا يقلُّون امتنانًا للمترجمين عن العارفين بهذه اللغات. فلم نكن قد أُصبنا بعدُ بداء الغَطرسة القوميَّة التي تجعل بعضَنا الآن ينظر إلى كلِّ فكرٍ وارد من الخارج على أنه «غزوٌ ثقافي». حتى ذلك الشاعر الكبير الذي قال عن اللغة العربية: «أنا البحرُ في أحشائه الدرُّ كامنٌ» لم يجد غَضاضةً في أن يُترجم بعضَ أجزاء «البؤساء» لفيكتور هوجو، ليس فقط لِيُثبت أن العربية تَصلح وِعاءً للأدب القصصيِّ العظيم، ولكن ليشرك أبناءَ أمته في انفعاله بروائع الأدب العالمي.
وكانت هناك مدارسُ ومدارس في الترجمة.
كانت هناك مدرسةُ المنفلوطيِّ في الترجمة الأدبية، وهي مدرسةٌ تقوم على الاقتباس. ولا أظنُّ أن مصطفى لطفي المنفلوطي كان يعرف لغاتٍ أجنبية. وكنا نقرأ ونسمع أنه كان يختار روايةً مترجمة ترجمةً عادية ناقصةً في البلاغة، فيَصُبُّها بتصرفٍ كبير في لُغته البليغة التي اشتَهَر بها في «النظَرات» و«العَبَرات». وهكذا خرَجَت روائعُ الأدب الغربية مثل «ماجدولين» و«بول وفرجيني» و«في سبيل التاج».
ثم كانت هناك مدرسةُ محمد السباعي وعباس حافظ، وهذه اقتربَت من الترجمة كما نعرفُها، فقد كان هذان الأديبان يُتقِنان الإنجليزيةَ أو الفرَنسية ويُترجمان عنهما رأسًا، ولكن ببلاغةٍ تكاد تُضارع بلاغةَ المنفلوطي. غير أنهما كانا أسيرَين لبعضِ أساليب البلاغة العربية؛ كالسجع والجِناس والطِّباق وغيرِ ذلك من عناصر البيان والبديع، فكانا يُضيفان إلى العبارات معانيَ ليست فيها، أو يحذفون منها معانيَ من أجل حُسن الجَرْس والجَزالة العربية. وربما أضَفْنا إلى هذين الأديبَين أحمد لطفي جمعة المحامي. وقد كان لهؤلاء الثلاثة فضلُ تعريفنا في أواخر العشرينيَّات وأوائل الثلاثينيَّات بقصص موباسان وتشيكوف وغيرِهما.
وهكذا لم تكن الدقةُ أو ما نُسميه «الأمانة» في النقل هي الاعتبارَ الأول في الترجمة، بل كانت بلاغة التعبير. فإذا كان النصُّ في القصة يقول باختصار: إن البطل قبَّل البطَلة، كان عباس حافظ يقول: «فطبَع قُبلةً دون حس على فَم الكونتيس»! ومنذ أوائل القرن علَّمَنا المترجمون أن نقول إن شعار الثورة الفرنسية كان «الحرية والإخاء والمساواة» بدلًا من أن نقول إنه كان: «الحرية والمساواة والإخاء». تقول: وما الفرق؟ وما ضرَرُ هذا التقديمِ والتأخير؟ أقول إن معناه أن الفرَنسيِّين دعَوا إلى تقديس «المساواة» قبل تقديس «الإخاء»، بكل ما يترتَّب على ذلك من مبادئ المساواة أمام الله وأمام القانون، والمساواة في المواطنة وفي الحقوق والواجبات، والمساواة في حقوق الإنسان. هذه المساواة قدَّمَها الفرنسيُّون على الإخاء كما قدَّموا الحريةَ على المساواة؛ لأنه بالحرية يحصل الناسُ على المساواة، وبالمساواة يتحقَّق الإخاءُ بين البشر. أما في العربية فقد عدَّل المترجِمون هذا الشعارَ لتستقيمَ العبارة مع أصولِ الخَطابة؛ حيث الجملة ينبغي أن تنتهيَ بنهايةٍ ممدودة لا بنهايةٍ مكتومة. وهكذا ضحَّوْا بالمعنى من أجل الفصاحة.
ولعل أرقى ما بلَغَته هذه المدرسةُ الأدبية في الترجمة البليغة كانت ترجمات أحمد حسن الزيات لرواية «آلام فيرتر» لجوته، وترجمته ﻟ «رافاييل» و«البحيرة»، و«جرانز نييلا» للامارتين، وهي من روائع الشعر الفرنسي التي لم نكن نكفُّ عن قراءتها في أوائل الثلاثينيَّات. كان الزيات أرقى أبناءِ مدرسة الترجمة الأدبية هذه؛ لأنه جمَع بين جمال الصياغة دون افتعال، والاقتراب من النصِّ ما أمكنَ ذلك. أما خليل مطران فكان كثيرًا ما يُضيف عباراتٍ رنَّانةً لا وجود لها في الأصل؛ لتُدوِّيَ على المسرح من أفواه الممثِّلين كما في ترجمته ﻟ «هاملت» شكسبير؛ فإذا كان الأصلُ يقول: «أُقسِم» أضاف مطران: «وإنه لَقسَمٌ لو تعلمون عظيم». في سبيل «الإيفيهات» كان كلُّ شيء مباحًا، كأنما المترجمُ يريد أن يُشارك المؤلف في الإبداع.
ومع تقدُّم الثلاثينيَّات تطورَت الترجمة الأدبية تطورًا كبيرًا بفضل جهود الدكتور محمد عوض محمد مترجِم الجزء الأول من «فاوست» لجوته، وبفضل أحمد الصاوي محمد مترجم «تاييس» لألفونس دوديه، و«الزَّنْبقة الحمراء» لأناتول فرانس. وبهما انتهى عهدُ البلاغيَّات وحلَّت محلَّ البلاغة اللفظية قوةُ الأسلوب عند محمد عوض محمد، ورشاقةُ العبارة عند أحمد الصاوي محمد، مع الاهتمام بالأمانة في النقل.
ولم تكن هذه كلَّ مدارس الترجمة التي عرَفَتها مِصر؛ فقد عرَفَت مصرُ منذ رفاعة الطهطاوي مدرسةً أخرى تميزَت بالأمانة والرَّصانة معًا، وهذه هي المدرسة التي ازدهرَت بترجمات فتحي زغلول لبعض أعمال ديمولان «سر تقدُّم الإنجليز السكسون»، وجان جاك روسو «إميل أ والتربية الاستقلالية»، وجوستاف ليبون «روح الحضارات». وهذه المدرسة أثمرَت لغةَ القانون والقضاء والتشريع بوجهٍ عام، ولغةَ الفكر التاريخي والفلسفي، كما نجدُه في ترجمة طه حسين لكتاب زينوفون «الدستور الأثيني»، وترجمات لطفي السيد لكتب أرسطو: «السياسة» و«الأخلاق» و«الكون والفساد». كلُّ هذه ترجماتٌ تتَّسم بالدقة وبالعبارة المحكَمة البعيدةِ عن الزخرف اللفظيِّ الذي كانت تتميزُ به الترجمات الأدبية.
وأخيرًا فقد كانت هناك مدرسةُ الترجمة الصحفية. وكانت سِمَتُها الأولى السلاسةَ في التعبير، سواءٌ تقيَّدَت بالدقة أم لم تتقيَّدْ بها. ولستُ أقصد بالترجمة الصحفية ترجمةَ الأخبار والموادِّ الصحفية على وجه التخصيص، وإنما أقصد كلَّ ترجمة رُوعي فيها أن تكون سائغةً للجماهير الواسعة التي لا تملك الوقتَ ولا الاهتمامَ ولا القدرة على الأناقة اللفظيَّة. وهذه هي المدرسة التي نقلت فيها المئات والمئات من الروايات الشعبية؛ مثل «الفرسان الثلاثة» و«الكونت دي مونت كريستو» و«جزيرة الكنز»، وهي آثارٌ أدبية جَماهيرية، أو الروايات البوليسية؛ مثل «شرلوك هولمز» و«اللص الشريف» و«أرسين لوبين» … إلخ، وقد كانت مدرسةُ السلاسة في الترجمة والكتابة أوسعَ المدارس انتشارًا وأقْواها تأثيرًا على مسار اللغة العربية وتطويرها في القرن الأخير، وهي المدرسة التي صاغت لغةَ الجرائد بما فيها من أخبار وريبورتاجات ومقالات صحفية، وهي أساسُ اللغة الوُسطى التي نستخدمها اليوم، الوُسطى بين لغة الكتابة ولغة الكلام: لغة مَرِنة واضحة، أقدرُ على التعبير عن الحياة اليومية من اللغة الأدبية، ولكنها أفقرُ منها في عناصر الفنِّ والشاعريَّة والجمال.
وقد أدى انتصارُ لغة الصحافة منذ الحرب العالمية الثانية إلى نتائجَ هامة في مسار اللغة العربية: أدى أولًا إلى اختفاء «المقال» كمظهرٍ من مظاهر النثر الفني؛ المقال كما كان يكتبه العقَّاد والمازني وطه حسين، وعامةُ أصحاب الأساليب في العشرينيَّات والثلاثينيات، اختفى في زمنِنا، أو كاد. وبالمثل فقد سادت الرَّثاثة العامةُ لغةَ الترجمة الأدبية منذ الحرب العالمية الثانية حتى ظهرَت ترجمةُ الدكتور حسن عثمان ﻟ «الكوميديا الإلهية» لدانتي في الستينيات، فاعتدل الميزان.
وبعد نحوِ عشرين سنة من صدور «الكوميديا الإلهية» أصدر الدكتور محمد عناني، أستاذ الأدب الإنجليزي بكلية الآداب، ترجمتَه للكتب الستةِ الأولى من ملحمة الفردوس المفقود للشاعر الإنجليزي الكبير جون ميلتون (١٦٠٨–١٦٧٤م) في جُزأَين، فأحيا بذلك تقاليدَ الترجمة الأدبية التي افتقَدْناها، منذ ترجمات الزيات وأحمد الصاوي محمد ومحمد عوض محمد وطه حسين وحسين عثمان. وقد جمَعَت ترجمة محمد عناني بين الأمانة الأكاديميَّة وجَزالة العبارة، فجاء عملُه تحفةً في الترجمة وفي الأدب جميعًا. وهو يستحقُّ منا أصدقَ التحية؛ لأنه جدَّد لنا تقاليدَ الترجمة كفنٍّ جميل، وكل ما نرجوه أن تُتاح له ترجمة الكتب الستة الثانية الباقية من هذه الملحمة؛ حتى يضعَ أمام قُراء العربية عمل ميلتون كاملًا.
وقد قدم محمد عناني لملحمة «الفردوس المفقود» بمقدمةٍ ضافية، تُعين القارئَ على الإلمام بالخلفية التاريخية التي خرَج منها عمل ميلتون العظيم، كما تُعينه على فَهْم المضمون الديني الخاصِّ بالثورة البيوريتانية التي جسَّدها ميلتون في هذا الأثر الخطير. وقد أظهر محمد عناني في هذه المقدمة فَهمًا نافذًا لطبيعة الصراعات الدنية والطبقية التي خضَّبَت وجهَ إنجلترا بدماء الحرب الأهلية نحوَ منتصَفِ القرن السابع عشر بين دُعاة المِلكية المطلَقة من أصحاب المذهب الكاثوليكي وما يُسمَّى بالكنيسة الإنجليركانية العُليا القائمة على نفوذ الأساقفة وكبار رجال الدِّين من جهة، وبين دُعاة الكنيسة الشعبية المطلَقة من البروتستانت، سواءٌ أكانوا من المشيخيين «أتباع كالفن»، المؤمنين بالجبر، أو من البيوريتان أو المتطهِّرين المؤمنين بالاختيار.
هذه الصراعات بين المذاهب المسيحية التي يدقُّ فَهمها على المسيحيين أنفسِهم أوضحها محمد عناني في لغةٍ سائغة ناصعةِ الوضوح بفضل هذه المقدمة التاريخية العقائدية التي قدَّم بها لترجمته «الفردوس المفقود»، فربَط بين العمل الأدبي والخلفيَّة التاريخية التي أنجبَته، وربط بين التيَّارات الفكرية والروحية والطبقاتِ الاجتماعية والاقتصادية التي أفرَزتْها. ولستُ أقول بهذا إن محمد عناني قد جاء بجديدٍ في هذا المِضمار، ولكنه أثبتَ أنه هضَم هضمًا جيدًا أمهاتِ الكتب التي وضَعها مؤرِّخو الفكر الإنجليزي عن ميلتون والقرن السابع عشر، ولا سيما كتب تليارد وبازيل ويللي ودوجلاس بوش.
و«الفردوس المفقود» ملحمةٌ تُصور قصةَ عصيانِ آدم وحوَّاء، وخروجِهما من الجنة، وتصوِّر ثورةَ إبليس على الله ومعه نفرٌ من الملائكة، وتصور دورَ إبليس في الإيقاع بآدمَ وحواء، وتُمهِّد لاسترداد آدم وحواء للجنةِ الضائعة وَفقًا للتفسير المسيحيِّ في ملحمة ميلتون الثانية، وهي «الفردوس المسترَدُّ» الذي جرى العُرف على تسميتها «الفردوس المردود» وهو تعبير خاطئ.
«عن أولِ عصيانٍ يقترفه الإنسان، وعن ثمرةِ تلك الشجرة المحرَّمة ذاتِ المذاق الفاني الذي أتى بالفَناء إلى الدنيا، وجرَّ علينا الأحزانَ لضياع جناتِ عَدْن زمنًا، ريثَما يُعيدنا رجلٌ أعظمُ ويستردَّ لنا عرشَ النعيم.
أنشدي يا ربَّة الشعر قاطنةَ السماء، يا مَن تدنَّيت إلى الذروة الخبيئة لجبل حوريب أو طورِ سِنين …»
«نار بلا نور، ظلماتٌ بادية للأبصار.»
وأهمُّ ما في ترجمة الدكتور محمد عناني أنه حافظٌ رغم أمانته ودقَّته، على روح ميلتون؛ فهو إذن قد نجا من مصير المترجم الذي يستعبده النصُّ فهو في هلَعِه الدائر من إضافة أَنمُلة أو حذف أنملة أو تغيير أنملة، يقتل الشعراء والرِّوائيين وكُتَّاب المسرح كالدبة التي قتَلَت صاحبها، وأنه رغم مُحافظته على ميلتون لم يتوسَّع في الاجتهاد والتصرُّف بما يُجافي الأمانةَ الصادقة، بل لم يستبِحْ لنفسه ابتكارَ الفنان الفاشل الذي يعجز عن الإبداع فيختال ويحتال بإبداع الغير حتى قيل فيه: «أيها المترجم، أيها الكذاب!»
وأهمُّ من هذا وذاك أنه نجا من غواية اللغة العربية التي كان يُمكن أن تستدرجَه إلى حتفِه بفَخامتها وطنطَنتِها. فقد وجَد ما يكفيه من الفخامة والطنطنة في لغة ميلتون، الذي كان يكتب الإنجليزيةَ وكأنه يكتب اللاتينية. فله منا صادقُ التهنئة والشكرِ على ما قد بذل من جهدٍ كبير.
عن الفردوس المفقود
حين يتحدث الدكتور لويس عوض عن عملٍ ما فيصفه بأنه تحفةٌ في الترجمة وفي الأدب جميعًا، وبأنه يجمع بين الأمانة الأكاديمية وجزالة العبارة … وأنه يستحقُّ منا أصدقَ التحية؛ لأنه جدَّد لنا تقاليد الترجمة كفنٍّ جميل — حين يقول كلَّ ذلك ثم يضع صاحبَ العمل في صحبة طه حسين ومحمد عوض وحسن عثمان، فلا يسَعُ صاحبَ العمل إلا أن يسعد السعادةَ كلها، وأن يتقدَّم بالشكر الجزيل لهذه اللفتة التي تؤكد رأي كبار أساتذة الأدب والترجمة في مصر، ومنهم مَن راجَع النصَّ أولًا ثم اختار الكتابَ لجائزة الدولة التشجيعية في الترجمة الأدبية لملحمة الفردوس المفقود للشاعر جون ميلتون.
وقد كان يكفي صاحبَ العمل تقديمُ هذا الشكر، لولا أن الدكتور لويس عوض رأى أن يُبدِيَ ملاحظاتٍ على ترجمة بعض العبارات والألفاظ ممَّا لا يتَّسع له مجالُ الصحيفة اليومية، فجعل غيرَ المتخصِّصين يتصورون أن الترجمة غاصَّةٌ بالأخطاء، ومع ذلك فلقد رأيتُ إحقاقًا للحق، وحتى لا يُسيء البعضُ إدراك مرمى الدكتور لويس عوض؛ أن أوضِّح الأسباب التي دفعَتْني إلى اختيار صيغةٍ دون سواها، أو معنًى دون سواه؛ استنادًا إلى أمهات الكتب وكبار الأساتذة الإنجليز.
وأما الملاحظة الثالثة وهي ترجمة الفردوس بجنَّات عَدْن؛ فالهامش رقم (٢) يقول (نفس الصفحة): الحقيقة أن جنات عدن لم تَضِع كلُّها، وإنما ضاعت الفردوس فحسب، وهي عند ميلتون جزءٌ من عدن — ولكنه يستخدم عَدْنًا هنا للدلالة على الفردوس — وقد اعتمدتُ في هذا على تفسير «فاولر» في طبعته المعتمَدة للنص المذكور في المقدمة، وعلى جمهور الشراح — والجنَّة والجنات كلمتان متواترتان في الكتاب المقدَّس والقرآن.
وأما استخدام فعل «خادع» بدلًا من خدَع فهو مقصودٌ وصحيح — والكلمة موجودة في القاموس الوسيط — وفي القرآن: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ، وهي صيغةُ تكثيرٍ كما يقول الدكتور لويس؛ لأن إبليس حاولَ أكثرَ من مرة أن يخدع حوَّاء، وليس ثَم مُنافق أكبر منه!
فهي ظلمات تستطيع الشياطين فيها أن تعي سوء مآلها وضياع آمالها (كما يؤكد البروفيسور تليارد).
رحيل أستاذ
كان عام ١٩٥٧م قد بدأ يَطْوي صفحته حين قال لي الدكتور مجدي وهبة: «خذ هذه القصائدَ إلى الدكتور لويس عوض؛ فهو أقدرُ الناس على الحكم على دقةِ ترجماتك»، واعترَتْني الرهبة، وبدا عليَّ التردُّد، ولكن الدكتور مجدي أكد لي أن الدكتور لويس سوف يُرحب بي، وفعلًا أدرتُ قُرص التليفون بيدٍ هيَّابة، وجاءني صوت الدكتور لويس هادئًا وهو يُحدد لي يوم الأحد التالي، وذهبتُ إليه أحمل كَراستَين مكتظَّتين بقصائدَ رومانسية مترجَمة عن الإنجليزية، وجلستُ على الفور أقرأ له أحدَ النصوص وهو يُتابعني في صمت، وكان يتوقف أحيانًا ليسألَني هل هذه الكلمة العربية قديمةٌ أم مُحدَثة؟ هل وافقَ عليها المجمَع؟ ولم نَدْر بالوقت إلا حين طرَق البابَ طارقٌ يُعلن للدكتور لويس وصولَ زائر، وتنبَّهتُ إلى الساعة فإذا نحن تجاوزنا الحاديةَ عشرة ليلًا، وأردتُ الاستئذان فغضب وقال فلينتظر الزائر حتى ننتهيَ نحن، وفعلًا جلس الزائر يستمعُ حتى انتهينا وخرجت.
وفي الشهور التالية كنتُ أقضي لديه عصرَ يوم الأحد ومَساءه نقرأ الشعر الإنجليزي أو نُراجع ترجمات الشعر، وهناك قابلتُ أحمد عبد المعطي حجازي لأول مرة، وسمعتُ تحليل لويس عوض لإحدى قصائده، وقابلتُ كثيرين من شباب المثقَّفين الين كانوا لا يَرْتوون مهما سمعوا من حديث لويس عوض، وكان رغم هدوء صوته واثقَ النبرات قاطعًا حاسمًا، يمزجُ فلسفته السياسيةَ التي لم يتَخلَّ عنها طولَ العمر بمنهجه الأدبي، ويُخرجها في قالَبِ إيمانٍ لا يتزعزعُ بمِصْريته وحبِّه لأرض مصر، وكثيرًا ما كنتُ أراه حين أزوره منهمكًا في قراءة فصل في كتابٍ عن مصر القديمة، بالفَرنسية أو بالإنجليزية (وكان يُجيدهما إجادةً مطلقة)، وكان يُشجِّعني على الاستمرار في بَلْورة نظرةٍ شاملة للأدب، نظرة تضَع الأدبَ في سياقه الإنساني الكبير ولا تقفُ به عند حدود الطرائق والصور والأساليب الأدبية، ومضَت شهورُ عام ١٩٥٨م الحافلةُ وأنا أحسُّ أن نورًا جديدًا بدأ يُضيء جوانبَ كتب الأدب الإنجليزي الذي أتخصَّص فيه حتى حلَّ الصيف وعدتُ إلى بلدتي رشيد.
ودار الزمان وتخرَّجتُ في الجامعة في العام التالي، وقُبِض على الدكتور لويس عوض وأُفرِج عنه، وانفضَّ سامرُ منزله، وحلَّت الستينيَّات بما غصَّت به من قضايا ومعاركَ فكرية، كان أهمُّها بلا شكٍّ معركةَ جماعة النقاد أو جماعةِ النقد الحديث، التي كانت تدعو إلى تحرير الأدب من الانشغال بالدعوة السياسية المباشرة، والنقَّاد الآخرين، الذين اتَّهَموها بأنها تدعو للفن من أجل الفن، وحاوَلوا تأكيدَ البديهيات تحت شعار الفن للحياة. ورفض الدكتور لويس عوض الدخولَ في هذه المعركة؛ لأنها كما قال لي مِرارًا وتَكرارًا «زائفة»، وقد قابلَني ذاتَ يوم خارج دار الشعب في شارع القصر العيني حيث كان يُقيم، وسار معي حتى ميدان طلعت حرب وهو يُفصل لي القول في مغبَّة تبسيط الأمور بهذه الصورة المخلَّة ونصَحني بالتركيز على دراساتي الجامعية حتى أنتهيَ من الدكتوراه، فالقضية في نظره ليست قضيةَ أو وظيفةَ الفن في المجتمع، ولكنها قضية «وجود» الفنِّ في المجتمع.
وحتى رحيلي إلى إنجلترا عام ١٩٦٥م ظلَّت علاقتي بالدكتور علاقةَ قارئ لا يستطيع اتباعَ خُطى أستاذه؛ إذ انشغلتُ بالكتابة للمسرح وبالنقد المسرحيِّ دون أن تكتملَ عُدتي الأدبية درسًا وتحصيلًا. وفي إنجلترا قابلتُه عدة مراتٍ في الصيف، وكنا نسير أميالًا طويلة ونحن نُناقش المسائل الأدبية في مصر التي تتغيَّر من يوم إلى يوم، وكنتُ أزداد كلَّ يوم إيمانًا بضرورة المنهج النقديِّ الذي أرساه لويس عوض في كتبه العديدة، فأنا بطبيعتي موسوعيُّ القراءة، أَجُور على تخصصي بقراءة كتبٍ في فروع أخرى، وكان لويس عوض يُشجعني على هذا، وأذكر أنني ذكرتُ هذا للدكتور شكري عياد أثناء زيارةٍ له إلى لندن في صيف ١٩٦٧م فقال لي: لا بأس ولكن انتهِ من كتابة الدكتوراه أولًا ثم عُد إلى «الصرمحة» بين الكتب!
وعندما عدتُ إلى مصر عام ١٩٧٥م كانت التحولاتُ في الحقل الأدبي أعقدَ من أن أفهمها بعد السنوات العشر في إنجلترا، ولكن لويس عوض كان ثابتًا كالطَّود لا يتغيَّر ولا يتحول؛ فهو يؤمن بقضية الثقافة إيمانًا يقترب من حدِّ التقديس، وهو في هذا تلميذٌ مخلص لأستاذه طه حسين، وللعقَّاد، ولأبناء ذلك الجيلِ من الروَّاد الذين توسَّلوا بالصحافة لنشر رسالة الثقافة، ومن خلالها مبادئ التحضُّر والرقي، فكانت عيناه مثبَّتتَين على أوروبا، يأخذ منها المنهج العلميَّ الصحيح، ويستقي منها قِيمَ الموضوعية والحياد في البحث العلمي، وإن كان لا يثنيه ذلك عمَّا آمنَ به من حبٍّ لمصر يصل إلى حدِّ التفاني فيها.
وفي عام ١٩٧٩م صَحِبتُه إلى مسرح الطليعة ليرى مسرحيةً تسجيلية كتبتُها أنا وصديقي سمير سرحان عن طه حسين، فانهمَك فيما يسمعُ ويرى وتأثَّر تأثرًا بالغًا، وأذكر قولَه لي ونحن في طريق العودة: كيف استطعتما أن تكتبا هذا وسطَ هذا الركام الهائل من الترَّهات؟ وبعدها سافرنا معًا إلى أمريكا مع وفد مهرجان «مصر اليوم»، في صحبة صلاح عبد الصبور، وسهير القلَماوي، ومرسي سعد الدين، وسمير سرحان وفرخندة حسن، ومحمد شعلان وغيرهم، فكانت جلساتنا مناقشاتٍ دائمةً في موضوع لا يتغيَّر وهو التحوُّل الثقافي، أو التحولات الثقافية التي تشهدها مصر.
لقد رحل لويس عوض عن دُنيانا وخلَّف لنا تراثًا هائلًا من الكتب ما بين مؤلَّف ومترجَم، ولكنه خلَّف لنا أيضًا جيلًا من البشر يستطيع أن يحمل الشعلة ويُنير الطريق من بعده، وإذا كان يوسف إدريس قد أحيا أبناء هذا الجيل باعتبارهم أحفادَ طه حسين، فما أحرانا أن نُحيي جيلَ آبائنا، وأن نُلقي الضوء على تراثهم العظيم؛ فنحن وإن اختلفنا عنهم نُقدِّر لهم جهدهم في خدمة الثقافة في بلدنا العظيم.