مؤتمر كيمبريدج
الأدب العربي في مؤتمر كيمبريدج
كان عنوان مؤتمر الأدب العالمي الذي انعقَد هذا العام في جامعة كيمبريدج العريقةِ ببريطانيا هو «الكاتب المعاصر» — وقد تشرفتُ بتمثيل مصر فيه لأول مرة — أي إنه حدَّد موضوعًا لا يتصل بمناهج النقد أو الدراسة الأكاديمية بقدر ما يتصل بمشكلات المؤتمر في موضوعَين يصبَّان في الموضوع الرئيسي: أولهما تشابهُ مشكلات الكاتب المعاصر في كل مكان، وثانيهما هو التطورُ الهائل الذي شهده الأدبُ الإنجليزي على أيدي الكُتَّاب المعاصرين في إنجلترا بصفةٍ خاصة، وفي العالم بصفةٍ عامة. أما الموضوع الأول فقد برَز من خلال المناقشات التي دارت حول أبحاث المؤتمر، ويمكن أن نُحدد ملامحَه فيما يلي:
أصبحَت وسائل الإعلام التي تُهيمن اليوم على قنوات الأدب والفن القديمة ذاتَ تأثير يتفاوت ضررًا وضرورة، ولكنه محتوم، ومن هنا تنبع ضرورةُ علم السيميولوجيا أو السيميوطيقيا السريعة في معظم الأحيان.
امتدَّ الصراع بين الكاتب وعمَلِه — وهو الصراع الذي كان دائمًا ما يقتصر على الأنماط الفنية التي ظلَّت حتى عهدٍ قريب من «اختصاص» النقاد — إلى القارئ، بحيث أصبح القارئ عنصرًا فعالًا في جدَلية الإبداع الفني. ومعنى هذا ببساطةٍ أن الكاتب اليوم لا بد أن يوجِّه كتابته إلى قارئٍ معين، وأن يتصوَّرَ أنه يُحادثه حديثًا حميمًا لا حديثًا عامًّا.
زالت الفواصل التي كانت تُفرق بين المبدِع والناقد؛ ومن ثم أصبحت الكتابة في ذاتها عملًا إبداعيًّا ونقديًّا معًا! وقد نوقشت هذه الفكرةُ مناقشةً مستفيضة من جانب المبدعين الذين يكتبون النقد (وما أكثرَهم!) والنقادِ الذين يكتبون الأدبَ الإبداعي، وعلى رأسهم «مالكوم برادبري» و«دافيد لودج». وانتهى المؤتمر إلى رأيٍ شبهِ إجماعي يقول فيه إنه إذا أمكن التفريقُ بين العمل الإبداعي والعمل النقدي على أساس العناصر الخيالية والخلَّاقة في الأول وعناصر التوصيف والتحليل والحكم في الثاني، فلا يمكن التفريق بين كاتبِ هذا وذاك؛ لأن الكاتب المبدع يُمارس العمليات «النقدية» الثلاثَ أثناء الكتابة، والناقد يشترك مع المبدع في أعمال خياله وملَكاته الإبداعية.
أما الاتجاه الثاني فهو الميل إلى «التوثيق» في كتابة النص، أي إدراج مادة عِلمية صحيحة في الرواية والمسرح بل والشعر، بحيث تكون قنواتُ الإحالة بين العالم البديل الذي يخلقه الفنُّ وعالم الواقع المادي الحقيقي قنوات مفتوحة وطبيعية أي غير زائفة. وهذا يعني ألَّا يقتصرَ الفنُّ على إبداع عالم خاص قائمٍ بذاته، قد لا يشترك مع العالم الخارجي إلا في الحقائق الأساسية، بل إنه يخلق عالمًا يسهل على القارئ أو المشاهد أن يتبيَّن فيه تفاصيلَ عالمِه الحقيقي.
وقد يبدو للوهلة الأولى أن الاتجاهَين متناقضان، ولكنهما في الحقيقة متكاملان.
الرواية في مفترق الطرق
لم يتعرض فنٌّ أدبي للجدل والمناقشة في مؤتمر الأدب العالمي الذي انعقدَ في «كيمبريدج» هذا العامَ مثل فنِّ الرواية أو القصة الطويلة. وربما كان ما يَصدُق على الرواية من آراء عامةٍ يَصدُق أيضًا على سائر ألوان الفنون الأدبية — مثل علاقة المؤلف بالنصِّ المكتوب، وعلاقة التاريخ بالواقع وعلاقة الواقع الخارجي بالواقع الفني وما إلى ذلك — ولكن عدد الكتب الجديدة التي صدَرَت عن نظريات هذا الفن وفصَّلَت القولَ فيه يُبين أن نظرية الرواية قد وصَلَت إلى مُفترَق طُرقٍ بعد سنوات التجريب الطويلة التي تلَت الحربَ العالمية الثانية. فما هي ملامحُ الطرق التي تقف النظرية في مفترقها؟
أول طريق هو نظرية النقد الكلاسيكي التي تربط بين المؤلِّف والنص المكتوب ربطًا زمنيًّا، قائلةً بأن المؤلف يسبق النصَّ المكتوب في الزمن مثلَما يسبق الأبُ ابنَه.
وتقول النظرية الكلاسيكية أيضًا إن الرواية ارتبطَت بالواقع ارتباطَ المرآة بالحياة؛ أي إن الرواية تعكس واقعًا محددًا حتى ولو ظهرت الصورة معكوسةً أو حتى مقلوبة، وإن اللغة هنا ما هي إلا وسيلة من وسائل الربط بين الواقع أو بين التاريخ وبين ذهن المتلقِّي الذي ينفتح على صورةٍ محدَّدة ثابتة من صور الحياة، فيستوعبها ويُحللها، ويقبلها أو يرفضها.
وأما الطريق الثالث فهو عسير شاق؛ إذ هو يتصل بتحليل عملية التذوُّق باعتبار أن اللغة وسيلةٌ من الوسائل التي يستخدمها الكاتب، أي إنها ليست الوسيلةَ الوحيدة؛ إذ تشترك معها وتشتبك وسائلُ كثيرة، أهمها على الإطلاق ما أسماه نقاد الستينيَّات «البِنيَويُّون» ونقادُ السبعينيَّات «ما بعد البِنْيويِّين» بالنظُم أو الأبنية. وهذه النظم أو الأبنية مستمَدَّة من علم اللغة في الأصل، ولكنها أصبحت تُطبَّق في ميادينَ ثقافية منوعة، وأصبحت من الوسائل التي يستعين بها المفكِّرون في تحليل العلاقات المتشابكة بين الأدب والحياة. ولنضرب مثلًا واحدًا لتوضيحِ ما نعني.
عندما قال الفارسيُّ مخاطبًا عُمرَ بن الخطاب رضي الله عنه: «حكَمتَ فعدَلتَ فأمِنتَ فنِمت» كان في الحقيقة يعكس نظامًا أو بناءً مُحكَمًا يقوم على السببية؛ فتوالي حرف الفاء يوحي بذلك كما يدلُّ الفعلان الأخيران، ولكنَّ الفاء الأولى تفيد التواليَ فحسب؛ فليس من المحتوم أن يَعدِل مَن يحكُم، ولكنه من المحتوم أن يأمنَ العادلُ فينام؛ أي إن البِنْية هنا تُغيِّر من معنى الفاء وتفرض منطقًا معيَّنًا لا ينبع من الدلالة الحقيقية للألفاظ! وقِسْ على هذا الأبْنيةَ المختلفة التي تَزْخر بها اللغاتُ الحية، وتوحي بضُروبٍ من المنطق لا يمكن استشفافُها من المعاني أو الدلالات الظاهرية للألفاظ.
فإذا أضفنا إلى هذا ما جاء به نقَّادُ ما بعد البِنْيوية من ضرورة إدراج الإيحاء والإيماء وسائر الإشارات والعلامات الاجتماعية في النص المكتوب؛ وجدنا أن لغة الرواية أصبحت أعقدَ بكثير مما يريد أصحابُ المذهب الواقعي القديم إيهامَنا به. فالتأكيد هنا على القارئ وعلى السياق الثقافيِّ الذي يقرأ الرواية في ظلِّه — وهذا اتجاهٌ جديد رغم أن «دافيد لودج» يؤكد أنه موجودٌ منذ الستينيَّات، أي منذ أن طوَّر نُقادُ ما بعد البنيوية مناهجَ استخدام النظم في عام السيميوطيقا. وقد تساءل «لودج» وهو ممن كتَبوا في البِنيوية وثاروا عليها: كيف نستطيع تعديل النظم التي تعمل في ظلِّها حتى نُنصف الكاتبَ والقارئ جميعًا؟ لقد انفصلَت لغة النقد عن لغة القارئ، وأصبح النقادُ يخاطبون بعضهم بعضًا.
وأما الطريق الرابع فهو قديم ويتصل بدَور العقائد أو الأفكار في الرواية، ولكنه اكتسَب أهميةً جديدة نتيجة لجهود «تيري إيجلتون» في نظرية الأدب بصفةٍ عامة، وكتابات «ليونارد دافيز» في الثمانينيَّات، وأهمها الكتاب الذي صدَر هذا العام ١٩٨٧م بعنوان «مقاومة الروايات: الأيديولوجيا في الرواية». وبإيجاز يقول «دافيز» في الكتاب الأخير إن روايات التراث غير صالحة؛ لأنها لا تدفع إلى التغيير؛ فهي تنقد الحياة وتُحللها، ولكنها تُبقي على الأيديولوجية السائدة دون مناقشة. والرد على هذه المقولة يسير؛ إذ ينبغي أن يتساءل المرءُ عمَّا إذا كان الكاتب يكتب الروايةَ بهدف التغيير أم لا؟ ونحن لا نستطيع أن نفرض على كل مؤلفٍ أن يكتب ما نريد أو ما يريد الناقد! ويستعين أنصار «دافيز» بنقاد المدرسة التفكيكية التي تفصل بين الرواية والحياة، ويعتمدون في حُججهم على آراء «باختين» التي أتى بها من أربعين سنةً أو أكثر.
إن نظريات الرواية قد تشعَّبَت فاختلطَت وتضاربت، ولكنَّ الرواياتِ المكتوبةَ حديثًا تتطلبُ إعادةَ النظر في التراث الروائيِّ العالمي، ونحن نُدرك أن الاختلاف وليدُ الإنتاج الجديد الذي يفرض علينا إعادةَ النظر والتقييم.
تحرير المرأة .. منهج نقدي
عندما يُذكَر تحرير المرأة ينصرف الذهنُ إلى القضايا الاجتماعية المتصلةِ بعمل المرأة وأوضاعها في العمل والمنزل، ومساواتها بالرجل في شئون الحياة العامة وما إلى هذا السبيل. ولكنني فُوجئتُ في مؤتمر كيمبريدج للأدب العالمي — والذي عُقد في يوليو من هذا العام — بأن ثَم اتجاهًا لجعلِه منهجًا في النقد الأدبي! ولم أفهم ولم يفهم غيري من أدباء العالم المجتمعين في قاعة المناظرة كيف يصبح الدفاعُ عن حقوق المرأة — أيًّا كانت درجةُ تعصبنا لهذه الحقوق — منهجًا نقديًّا! وهذه هي القصة باختصار.
إن اللغة تُفرق بدايةً — كما تقول «سبيفاك» بين ضمير المذكَّر وضمير المؤنث في الإنجليزية. وتفرق بين الآنسة والسيدة — (في أمريكا لا يستخدمون هذه التفرقة الأخيرة بين مس ومسز، وإنما يستخدمون اختصارًا جديدًا لكلمةٍ غير موجودة هي مز، ولا مقابل لها في العربية إذ قد تعني الآنسة أو السيدة). وكذلك يُفرق الأدباء بين المرأة والرجل في رواياتهم، بل إن الكاتبات أيضًا يُفرِّقن بين الرجل والمرأة، وذلك بالتأكيد على خصائصَ لكلٍّ منهما تجعل الطفلَ منذ البداية يتأثر بأفكارٍ مسبقة ومنحازةٍ دون أن تدريَ إلى الرجل. ولذلك فلا بد من المراجعة الشاملة لكل النصوص الأدبية التي هي حصاد تراث اجتماعي بائد. والتي لا تزال تحظى بالمكان الأول في مناهج الدراسة الأدبية، حتى يتبينَ الطالب فيها فداحةَ التزييف الذي ارتكبه الكتَّاب رجالًا ونساءً عبر العصور — أي تزييف صورة المرأة الحقيقية عن طريق ربطِها بالأوضاع الاجتماعية البائدة.
هذه هي خُلاصة الحجَّة (أو القضية أو الرسالة) التي تدعو لها «سبيفاك»، ولا تقلُّ عنها أهميةً سائرُ الحجج التي طرَحها أعضاءُ المؤتمر وشغَلَت ساعاتٍ طويلةً من صباح يوم مشرق من أيام شهر يوليو! أما صُلب القضية فلم يكن عليه خلاف، وأما تحويل مبدأ نُصرة المرأة إلى منهج أدبي فكان عليه خلافٌ كبير! وأُولى نقاط الخلاف محاولة طمس الفروق اللغوية التي تُعين القارئَ أو المتكلم على إدراك جنس المتحدث.
وبعد المناقشات التي اتَّسمَت بدرجة كبيرة من العنف انفضَّ الحشدُ لتناول القهوة، فإذا بالفسحة تتحوَّل إلى قاعة مناقشات غير رسمية؛ إذ الْتقَت آراءُ ثلاثة من أساتذة الأدب في فرنسا وإيطاليا واليونان، وهنَّ من السيدات (والأخيرة والدها مصري وُلد في الإسكندرية) على وضع منهج نُصرة المرأة في مكانه الصحيح؛ بحيث يمكن التمييز بين الصورة التاريخية للمرأة في دراستنا للأدب العالمي والصورة الحاليَّة لها في الأدب المعاصر، وانضمَّت إليهنَّ كاتبتان من بولندة وألمانيا الشرقية وقُلن بصراحة: نعم لنُصرة المرأة باعتبارها امرأةً، لا باعتبارها رجلًا!
وبعد انفضاض النقاش عادت إلى ذهني صورةُ الروائية المعاصرة «مارجريت درابل» وهي تتحدَّث عن فنِّها الروائي وأدبها بصفةٍ عامة، وذكرتُ أن هذه السيدة قالت كلامًا يتَّفق مع كلام الكاتبة الأيرلندية «إدنا أوبريان» مفاده أن استعار الحرب ضد الرجل يُضمِر عدم الرضا عن الأنوثة والشوقَ الدفين عند المحارِبات إلى أن يَصِرن رجالًا، وهذا ما لا تتمناه «درابل» ولا ترجوه «أوبريان»!
ولقد قلتُ في آخر النقاش إنني من بلادٍ تتمتع فيها المرأةُ بحرية تحسدها عليها الأوروبيات، ومنذ طفولتي وأنا أشهد المرأةَ تعمل جنبًا إلى جانب مع الرجل في الحقل والمدرسة والمصنع … ولا شك أنه ما زال أمام المرأة شوطٌ طويل حتى تَنفُضَ عنها ما بادَ من تقاليد القهر، ولكنَّ هذا لا يأتي بطريقة «سبيفاك»!
الثبات والتغيير في كيمبريدج
وفي أول لقاء لأدباء العالم هذا الصيف في كيمبريدج، كان الإحساس سائدًا بأننا نعيشُ في ظلال الثبات التاريخي الذي حمَلَت لواءه الجامعتان؛ ومن ثَم كانت المفاجأة حين وجَدنا المشرِف على الندوة نفسَه، البروفيسور «كريستوفر بيجسبي» يسخر من تقاليد كيمبريدج، ويعزو تخلُّف الإنجليز اجتماعيًّا إلى التراث الأكاديميِّ الذي غرَسَته الجامعتان الكبيرتان، وكذلك كان البروفيسور «تيرنس هوكس»، وهو مِن أعلام علم اللغة والسيميوطيقا، لاذعًا في هجومه على التقاليد الجامدة التي لا تكاد تُمَسُّ، وقد تبعهما في ذلك حشدٌ كبير من كبار الكُتَّاب والنقاد الإنجليز، ولْنرصُدْ بإيجاز ملامحَ التغيُّر والجمود التي رصَداها.
يقول «بيجسبي» في تفسيره لتوقُّف المسرح الإنجليزي عن التطور في الطريق الذي سار فيه المسرح الأمريكي — أي طريق الحركة والأداء والمسرح الشامل، الذي يستعين بالموسيقى والرسم، والتشكيلِ والرقص — إن كُتَّاب المسرح الإنجليزي المعاصرين تخرَّجوا في معظمهم من هاتين الجامعتين، كما أن معظم روَّاد المسرح من الطبقة المثقَّفة التي تربَّت في كنَف التقاليد البريطانية العريقة، وعددُهم لا يتجاوز أربعةَ ملايين وهو عددٌ يتفق مع النسبة المشهورة لتوزيع الثروة حاليًّا في بريطانيا، ويُشار إليها بالمعادلة ٧ = ٨٤ ومعناها أن سبعةً في المائة من السكَّان يمتلكون أربعةً وثمانين في المائة من الثروة القومية.
أما «هوكس» فقد تناوَل معارضةَ التغيير من زاويةٍ أخرى، ألا وهي إلحاح المؤسسة الاجتماعية في بريطانيا على تثبيت اللغة الإنجليزية وإعلاء شأنها، باعتبارها القناةَ الأولى التي تحمل الثقافة العريقة وتنقلها عبر الأجيال، بل وعبر القارات! وقد اتخَذ في بحثه منهجًا طريفًا؛ إذ ضرَب المثل بمُحاولة استغلال أحد أقطاب الأدب في أوائل الأربعينيَّات وهو: ت. س. إليوت لضرب التغيير وقمعِ الاتجاهات الثورية في بريطانيا، بل في ما هو أهمُّ من ذلك وهو جرُّ أمريكا إلى الحرب بعد الهزيمة النَّكراء التي مُنِيَت بها بريطانيا في «دنكرك»، فالتمجيد الذي تلقَّاه إليوت من ناقدٍ كبير مثل «ف. ر. ليفيز» كان في حقيقته محاولةً لإثبات أنه إنجليزي لا أمريكي وأنه كتب قصيدة «كوكر الشرقية»، وهذا هو اسم قرية إنجليزية أطلقَه الشاعر على إحدى القصائد التي أسماها «الرباعيات»؛ لتأكيد هذا الوهم، ولترسيخ فكرةِ التراث المشترَك الذي ينبغي الحفاظُ عليه، ولو كان ذلك يجرُّ أمريكا إلى الحرب!
وينطبق هذا أيضًا على تدريس اللغة الإنجليزية في الجامعات والمعاهد العُليا داخل بريطانيا وخارجها؛ إذ يرى «هوكس» أن اللغة تُستخدم وسيلةً لمقاومة التغيير لا لنشر الثقافة والعلم! بل إنه يُبالغ في تصوير الموقف حين يعتبر أن اللغة نفسَها مؤسسةٌ ينبغي التنبُّه لمخاطر التمسُّك بها والحفاظ عليها؛ إذ تكمُن في أبْنية العبارات نفسِها مفهوماتُ ثبات ومنطق وتعقُّل تعكس وجهةَ نظر القلَّة أو الصفوة التي بيدِها مقاليد الأمور في مجتمع يمرُّ — بالضرورة — بمراحل تحوُّل حاسمةٍ مثل المجتمع البريطاني.
وأخيرًا فإن ثورة الأكاديميِّين والكُتَّاب على تقاليد الجامعتين الكبيرتين كان يمكن أن تكون فارغةً لولا المساندةُ العِلمية التي يتلقَّونها من هذا الحشد الهائل من الدارسين الذين يؤكدون قدرةَ الشباب على الاستجابة لأفكار الكبار وأبحاثهم، حتى ولو كانت سلبيةً أو تتضمَّن قدرًا كبيرًا من الخلاف والاختلاف والمعارضة.