مصر في عيون العالم

مصر في مؤتمر القاهرة

العام يَطوي صفحته، والأيام تجري لاهثةً، والنشاط الدافق في جامعتنا يوحي بإشراقٍ عام جديد أكثرَ مما يوحي بأُفول عامٍ غارب، فما إن انفضَّ مؤتمر طه حسين حتى انعقد مؤتمرُ الأدب المقارن حول صور مصر في أدب القرن العشرين. فأصبح قسمُ اللغة الإنجليزية الذي نظَّم المؤتمرَ خليَّةَ نحل، وازدحمَت قاعاتُه الفسيحة بالدارسين والأُدباء من شتى أنحاء العالم، يُناقشون مصر، بل لم يكن لهم همٌّ على مدى أيامٍ ثلاثة سِوى مصر وصورها.

وفي الفسحة ما بين جلستَين، كان كثيرٌ من الأساتذة الأجانب ملتفِّين حول الكتب المصرية التي تُقدم الأدبَ العربي الحديث مترجَمًا إلى الإنجليزية — في المعرض الصغير الذي أقامته هيئةُ الكتاب — حين لمَحتُ البروفيسور كريستوفر نوريس الأستاذ في جامعة أكسفورد واقفًا بقامته القصيرة ولحيته الحمراء يتطلَّع بعيونٍ شاردة من نافذةِ غرفة الأساتذة، وقد بدأ ضوءُ الشمس يتسلَّل إليها. وعندما اتجهتُ إليه لمَحني فاستدار وقال فجأةً: «كان الضباب يكتنفُ الأهرام هذا الصباحَ كأنه غلالة الزمن!» وعجبتُ ولم أعلِّق، فعاد يقول: «تُرى كيف تُحسون بالزمن وأنتم الزمن نفسُه؟»

لقد انطوى عام ١٩٨٩م بعد أن عِشناه نحن المشتغِلين بدراسة الآداب الأجنبية نبضًا دافئًا في قلوبنا؛ فأنظار العالم على مِصر وآداب مصر وفنونِ مصر منذ أن فاز نجيب محفوظ بجائزة نوبل، وتزايدَت الطلبات على شراء الكتب المصرية التي تُقدم الأدبَ العربي الحديث بالإنجليزية كأنما يريد العالم أن يُعيد اكتشافَ مصر، ولقد وجَدتُ في رحلاتي هذا العامَ إلى بلدانٍ شتى في قارات العالم الأربع أن «مِصْريتي» تَسبقُني، وأن اسم مصر قد عاد له رنينه المتميِّز، وكان هذا الإحساس هو دافِعَنا على تدارُس الاختلاف في صورة مصر في أدب القرن العشرين في ذلك المؤتمر غيرِ المسبوق في تاريخ جامعاتنا.

ولم يكن من الغريب أن تدور معظمُ الأبحاث في المؤتمر حول محورٍ واحد لم تُحدِّده اللجنةُ التحضيرية (برئاسة الدكتورة هدى جندي رئيسة القسم)، ولكنه برَز بصورة طبيعية في مجالات التخصُّص المختلفة للمشتركين، ألا وهو الزمن!

فسواءٌ كان البحث يتعلق بصورة مصر في أوائل القرن العشرين (في أدب برنارد شو أو جيمس جويس مثلًا) أو في منتصَفِه (وليم جولدنج أو لورانس داريل أو إ. م. فورستر)؛ فالإطار الذي يضمُّه هذا إطار الزمن أو مصر باعتبارها صورةً استعارية لأبعاد الزمن المتشابكة المحيِّرة كما ذهَبَت إلى ذلك د. هدى الصدة في بحثها، فإذا كان الكُتَّاب والشعراء قد أحبُّوا مصر عندما اكتشَفوها، في القرن التاسع عشر باعتبارها «واحة زمنية» يرتادها الإنسان ليرويَ ظمَأه إلى الماضي؛ فهُم يُحبونها اليوم باعتبارها نموذجًا لامتزاج جهد الإنسان بحياة الطبيعة امتزاجًا يدفع به إلى الأمام، دون أن يُفقده وعيَه بامتداده في الزمان والمكان، ويقرب بينه وبين ثوابت الكون ودوائر الحياة، فيُلغي الفواصلَ بين الأيام حتى ليرى في أعمقِ أعماقه صور حياته الدائمة الدائبة على ضِفاف الوادي حافلة ثرية عامرة بالقيم التي غرَسها أجدادُنا في هذه الأرض، فنَمَت وازدهرَت وأصبحت جزءًا لا يتجزَّأ من وعيِنا الجَمْعي، بل من اللاوعي الجَمْعي لأبناء هذا الوطن جميعًا.

فكتاباتُهم نِبراسُ هذا الجيل وهُداه؛ قاسم أمين ولطفي السيد وسلامة موسى، والرافعي وطه حسين وهيكل والعقَّاد والمازني وغيرهم.

وأذكر أنني سُئلت أثناء مناقشةٍ دارت أمام الكتب المترجَمة المعروضة أثناء المؤتمر عن الجيل السابق لجيلنا، وكان السائلُ عربيًّا يريد أن يعرف سرَّ تركيزنا في الترجمة على أدبِ ما بعدَ نجيب محفوظ؛ فأجبتُه الإجابةَ التي أجابها د. سمير سرحان ذات يوم في إحدى ندوات هيئة الكتاب وهي أنهم موجودون في هذا الجيل — فلولا طه حسين وهيكل ما كان يوسف إدريس، ولولا العقَّاد والمازني وشكري ما كان عبد الرحمن الشرقاوي وصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي، ولولا الرافعي ولطفي السيد ما كان أحمد بهجت وعبد الرحمن فهمي، ولولا توفيق الحكيم وأحمد شوقي ما كان سعد الدين وهبة وفاروق جويدة؛ فتاريخنا القريب حلقاتٌ متداخلة موصولة، ومصر القرن العشرين شامخةٌ في اتصالِ فِكرها وأدبها مهما شابَها من شوائبَ بين الحين والحين؛ فهي شوائبُ غريبة عليها ومآلُها إلى الزوال؛ إذ إن في هذا البلد حبْلَ اتصالٍ ثقافيٍّ متينًا يُمكِّنها من تخطي «الشوائب» مثلما أبقى عليها حيةً نابضة على مَرِّ القرون ورغم الخطوب.

وعندما اختتم المؤتمرُ أعماله بندوةٍ عن الترجمة شارك فيها د. مجدي وهبة ود. أنجيل بطرس سمعان ود. سمير سرحان وكاتب هذه السطور كان الإحساسُ يسيطر على الحاضرين بأن صورةً جديدة لمصر قد تبلورَت في هذا العقد، صورةً ساهم في رسمها أدباؤنا ومفكِّرونا على مدى القرن العشرين — وإن كانت لم تخرج إلى العالم إلا في السنوات الخمس الأخيرة بالتحديد؛ فهي الفترة التي ظهَرَت فيها معظمُ الروايات العربية المترجَمة إلى الإنجليزية كما ذكرت د. أنجيل في حديثها — والتي أسهمَت فيها هيئة الكتاب إسهامًا كبيرًا وكانت كلمة الختام التي ألقتها د. هدى جندي موجزةً مؤثرة؛ لأنها مسَّت في أعماقنا ذلك الوترَ الحساس الذي كثيرًا ما تحجبه عنَّا مشاغلُ العيش، وتَر انتمائنا إلى هذا البلد القديم الجديد؛ حيث يجتمع الزمن في لحظةٍ خاطفة وتمتدُّ اللحظة فتصبح الأزلَ والأبدَ معًا … ونظرتُ مِن حولي إلى الجيل الجديد من الأساتذة الذين كُتب عليهم أن يحملوا الشعلة ويُنيروا الطريق من بعدِنا ففاض قلبي بالأمل: إننا نستقبل التسعينيات ببسمة الواثق في هذا الجيل، فهذا الجيلُ هو مصر التي لم يُناقشها أحدٌ في ذلك المؤتمر الفريد.

الوعي المزدوج

في ديسمبر عام ١٩٨٩م عُقد في قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب بجامعة القاهرة مؤتمر عِلمي عالمي عُنوانه «صورة مصر في أدب القرن العشرين» تحدَّث فيه أساتذةٌ كِبار من شتى بلدان العالم المتقدِّمة إلى جانب الأساتذة المصريين، وتناول كلٌّ منهم جانبًا من جوانب هذا الموضوع الهام، وكان عددُ الحاضرين أكبرَ من المتوقع، فامتلأَت بهم جنبات القاعات، وانتشرَت الأحاديث الجانبية هنا وهناك، وأحيانًا ما حَمِيَ وطيسُ النقاش فتعالت الأصواتُ متنافرةً ومتناغمةً معًا، باللغات الإنجليزية والعربية والفرنسية! وفي هذا الخضمِّ الزاخر تلاشت الفروقُ الثقافية واللُّغوية؛ إذ كان كلٌّ من المشتركين يحاول أن يفهم ما يعني صاحبه اقترابًا من الصورة التي احتلَّت مكان القلب وإن بدَتْ صورًا عديدة لا صورة واحدة .. مصر!

ركَّز بعضُ الباحثين على صور مِصر الفرعونية في الرواية الأوروبية والأمريكية الحديثة، وتناوَلوا أساطيرنا بغيرِ قليل من التفصيل؛ إذ تتبَّعوا تطوُّر معاني بعضِها ومدى تأثيرها على التفكير الغربي الذي كان وما زال يتوسل بالأساطير باعتبارها عناصرَ استعاريةً أو رمزية تُجسِّد بعض المعاني الجوهرية لحياة الإنسان التي لا يستطيع العقلُ «البارد» أن يُدرك كُنهَها أو يَسْبر أغوارَها، وتناول باحثون آخرون صورَ مصر الحديثة — ابنة القرن العشرين — التي صنَعها رُوَّاد الفكر الحديث الذين حاوَلوا أن يربطوا مصرَ بالعالم اليوم، فتعلَّقَت أبصارُهم بأوروبا، وحاوَلوا جاهدين تخطِّيَ حواجز الزمن، والانتقالَ من مصر القرون الوسطى (القُروسطية) إلى مصر الحديثة التي تمثَّلَت في حُلم الخديوي إسماعيل «قطعة من أوروبا»، وتمثَّلَت في أذهان الروَّاد بلدًا مستقلًّا يحكمه أبناؤه حكمًا ديمقراطيًّا، يسوده العدل والحرية والإخاء والمساواة (قيم الثورة الفرنسية)، وينعم فيه الناس برخاءٍ وازدهار في شتى علوم العصر وإبداعاته الفنية؛ قياسًا على إنجازات أوروبا النهضة وأوروبا العصر الحديث أيضًا.

وعندما جاء موعد إلقائي البحثَ القصير الذي ساهمتُ به في المؤتمر وهو صورة مصر في الأدب العربي، وجدتُ أن قول «مالرو» الكاتب الفرنسي الشهير، الذي عمل ذاتَ يوم وزيرًا للثقافة، بأن مصر كانت أولَ بلد في العالم يصلُ إلى مفهوم الدولة الحديثة يُسيطر على تفكيري ويلحُّ على ذهني إلحاحًا! لقد درَس «مالرو» تاريخ مصر دراسةً مستفيضة وانتهى إلى أن هذا الإنجاز المصريَّ هو في حقيقة الأمر فريدٌ متميز، واستند في ذلك إلى قراءاته في تاريخ شتى الدول، وخصوصًا دول العالم القديم، فوجد أنَّ لمصر شخصيةً متميزة فرَضَت عليها هذا النسَق (وهو ما أثبته الدكتور جمال حمدان في كتابه الرائع شخصية مصر) وأن البناء الحضاري الراسخ لهذا البلد اقتضى هذا التميُّز والتفرُّد، وأن جميع جهود الغُزاة لطمس هذه الشخصية كان لا بد أن تبوء بالفشل؛ لأنها تنبعُ من عناصرَ جُغرافية وثقافية (بالمعنى العريض لهذا المصطلح) يصعب قهرُها.

وعدتُ إلى البحث القصير الذي سأُلقيه فوجدتُه قد أغفل عناصرَ يمكن تداركُها، وعناصرَ أخرى دفعَتْني إلى الخوض من جديدٍ في هذا الموضوع من زاويةٍ أخرى، أما عنوان البحث فكان «الماضي باعتباره طريقَ المستقبل»، وكنتُ أعرض فيه الاتجاهَ الحاضر الذي يتهدَّد شخصية مصر كما نعرفها، وهو العودة إلى ماضٍ مبهَم ليس هو بالفرعونيِّ (قطعًا) ولا هو بالعربي الخالص — بسبب استحالة التطابق بين حياة البادية وحياة الحضر — ولا هو بالعثمانيِّ أو المملوكي! إنه ماضٍ وحَسْب، وهو يجمع في طيَّاته عناصرَ من هذه الحقب جميعًا، تصبُّ كلها فيما أسميتُه بالشخصية المصرية التي يُطلق عليها يحيى حقِّي تعبير «الخلَّاط»، وربما كان يقصد به البوتقة التي تنصهر فيها العناصر، وتتَّحد اتحادًا كيميائيًّا بحيث لا يمكن فصلُ أحدِها عن الآخَر.

وبعد أن ألقيتُ البحثَ ودار حوله النقاش وجدتُ أنني يمكن أن أضع يدي على عنصرٍ بعينه يمكن في إطاره تصحيحُ مسار الفكرة؛ إنه الوعي المزدوج بالماضي والحاضر الذي أصبح يُمثل السِّمة الأولى لتفكيرنا عن مصر والمصريين هذه الأيام. ولو كان هذا الوعي منتظمًا — أي لو كان يَفصل في ثناياه بين صورة الماضي، أو صوره الكثيرةِ المتناقضة، وبين صورة الحاضر المستقاة من أوروبا — لهان الأمر! ولكن هذا الوعي المزدوج هو في الحقيقة مختلطٌ مشوَّش؛ لأن صور الماضي التي تبرز في وعي المصريِّ الحديث تمتزج امتزاجًا متنافرًا بصور الحاضر، فتؤدي إلى البلبلة والحيرة أحيانًا، وإلى التصلُّب والعنادِ والتعصب الأعمى أحيانًا أخرى.

فالمصري الحديث، ابنُ القرن العشرين يُقال له إنك عربي لأنك تتكلم العربية، وإنَّ عليك — لهذا السبب — أن تُقيم علاقاتٍ متينة (تقترب في قوتها من وشائج الانتماء) مع الماضي السحيق في جزيرة العرب وبادية الشام، فتُراثك أيها المصري هو تراثُ أبو دهبل الجمحي، وبَيْهس الجرمي، وهدبة بن حَشْرم، وأيمن بن خُريم، وشيب بن البرصاء، والعديل بن الفرخ (إذا اقتصرنا على العصر الأموي). ويقال له إن عليك أن تستوعب هذا التراثَ وأن تهضمه هضمًا حتى تستويَ نفسُك العربيةُ ويصحَّ انتماؤك، وفي سبيل ذلك عليك أن تعرف اللغة القديمة وتُكابد في ذلك الأمَرَّين، وحبذا لو بدأتَ من الجاهلية فرضعتَ لَبَان آدابها وتشرَّبتَ طرائق حياتها، وغُصتَ في بحار قيمها وأخلاقها؛ فهي جذور العرب، والأصول التي لا بد من العودة إليها حتى تضَع قدَمَيك على الأرض الصلبة حقًّا.

ويُكابد المصري — كما قلتُ — الأمَرَّين في إقامة تلك العلاقات مع ذلك الماضي السحيق، بينما يقول له كلُّ ما حولَه إن العالم قد تغيَّر، بل إن طريق الحاضر الذي يؤدي إلى المستقبل لا مكان فيه لوضَّاح اليمَن ولا للوليد بن يزيد؛ فهو يدرس العلوم الحديثة، وينشأ في جوٍّ حضاري أبعد ما يكون عن الفيافي والقفار، فيحس إنه يضمُّ إلى وعيه «العربي» القديم وعيًا عربيًّا من نوع آخر — وأقصد به الوعيَ بنظامِ حُكم مختلِف، ونظام اقتصاديٍّ جديد، ووسائل انتقال سريعة، وعلوم تتوسَّل بأجهزة وآلات تتطلَّب قدرًا كبيرًا من التجريد والتركيز الذهني، مثل الرياضيات والفيزياء وشِعاب علم الهندسة الحديثة — النظري منها والتطبيقي — مما يستحيلُ معه تطويعُ وعيه بالانتماء إلى عالم الماضي السحيق الذي ما زال رغم ذلك يفرض نفسَه على وعيه في كل وقتٍ فيُصيبه بالتشتُّت والتمزق.

الوعي المزدوج إذن مَردُّه إلى ازدواج الزمن .. الزمن التراثي الكامن في اللغة القديمة، الزمن المعاصر المتجسِّد في حياته اليومية. وهو ازدواجٌ له تَبِعاتٌ كِبار؛ لأن ازدواجية اللغة (إذا شئنا مثلًا قريبَ المنال) تعني ازدواجيةً في التفكير وازدواجيةً في الشعور بالانتماء، مما يصيب صورةَ الذات بشرخ أو بصَدْع قد يصعب رأيه، ومن عواقب هذا الشرخ أو الصدع الانفصالُ عن الواقع وحدوثُ تهرُّؤٍ نفسي قد يصل إلى حد الشيزوفرينيا — بمفهومها الحديث — وقد بدأنا نشهد مظاهرها حولنا في الانفعالات والتشنُّجات التي تصدر من حولنا إزاء كلِّ مَن يمس اللغة العربية أو يُقرُّ بالواقع الذي لا يمكن إنكاره، وهي أنها تطورَت واختلفت! وهي تصدر في صورٍ محمومة إزاءَ كل مَن يدعو إلى اللَّحاق برَكْب العصر والتطور ونحن على مَشارف القرن الحادي والعشرين، بل ونلمح مظاهرَها أيضًا في رنة التواكل (باسم الدين، والدينُ منها بَراء) في أقوال الشباب، وفي اتجاه الكثيرين إلى محاكاة بعض الشعوب في أزيائها في محاولةٍ للعودة إلى ملابس الصحراء منذ ألفٍ وخَمسمائة عام، والملبس بُعدٌ من الظواهر الاجتماعية ولا صلةَ له بالدِّين في أصوله أو فروعه!

كيف تتصل ازدواجيةُ الوعي بصورة مصر في أدب القرن العشرين؟ وكيف تُضيف البُعد الناقص إلى البحث الموجز الذي ألقيته في المؤتمر؟ الإجابة على هذا السؤال هي دون مبالغةٍ أننا نحمل في وِجداننا وعقولنا صورتين لمصر؛ الأولى هي التي صوَّرها العربُ لها في رسائلهم وأشعارهم عن الأرض التي فتَحوها، والثانية هي صورة الدولة التي أرسى أجدادُنا أركانَها وأقاموا بُنيانَها، والتي تولَّينا نحن منذ استقلال مصر عن الإمبراطورية العثمانية بعْثَها وإحياءها، وتناقضُ الصورتين له حديث آخر.

صورة مصر الأولى

كانت كتابات العرب الأوائل عن مصر لا تنمُّ عن إدراكهم لتاريخ مصر القديم أو عن أدنى وعي بأنها دولةٌ ذات حضارة عريقة؛ فأوصاف القادة العسكريِّين والسياسيين تتناول خيراتها وخصبها وغِناها وشعر شُعرائهم يرسم صورةً تقترب في جمالها وكَمالها من الجنة الموعودة، والشعر الذي كُتب في محاسن مصر لا يوحي بأنَّ فيها بشرًا أو بأن هؤلاء البشر ينتمون إلى هذه الأرض التي كانت يومًا ما تملك كلَّ مقومات الدولة بالمفهوم الحديث. ولا يزيد ما قيل في وصف مصر آنَذاك على أبياتٍ متفرِّقة لا تصل إلى طول القصيدة، وبعضها مقطوعاتٌ بها عيوبٌ عَروضية وردَت في كتب التاريخ؛ إذ كان من عادة المؤرخين أن يستشهدوا بأبيات متفرقة أو بالمقطوعات وبالقصائد أحيانًا من باب الزينة، أو محاكاةً لكتب الأدب، أو تحقيقًا لمفهوم الكتاب — إذا كان الكتاب جامعًا لا يمكن أن يخلوَ من الشعر — فنحن نقرأ مثل ذلك في خُطط المقريزي وفي كتاب النجوم الزاهرة لجمال الدين أبي المحاسن بن تغري بردي، وتاريخ الطبري وتاريخ المسعودي، وغيرها من الكتب التي لا تتناول الأدبَ كما نعرفه اليوم.

وقد أجهدتُ نفسي لأعثرَ على شِعر عن مصر يسبق داليَّةَ المتنبي المشهورة، فلم أعثر إلا على أبياتٍ منثورة هنا وهناك؛ فالمتنبي الذي وُلد وعاش في أوائل القرن الرابع الهجري يعتبر من أوائل مَن رسَموا لمصر صورتَها القديمة أي صورتها في أعين العرب في القرون الأولى من الفتح العربي، وهي صورةُ بستان من الأعناب «فقد بَشِمْنَ وما تُغْني العناقيد» أي صورة تتناقض مع طبع البدويِّ الذي يتفاخر بقدرته على الترحال، ويُعرب عن ضيقه بالاستقرار:

ذَرَاني والفَلاةَ بلا دليلٍ
ووجهي والهَجيرَ بلا لِثامِ
فإني أستريحُ بذي وهذا
وأتعبُ بالإناخة والمُقامِ
عيون رواحلي إنْ حِرْتُ عَيْني
وكلُّ بُغَامِ رازخةٍ بُغامي
وقد أرِدُ المياهَ بغيرِ هادٍ
سِوى عَدِّي لها بَرْقَ الغَمامِ
أقَمتُ بأرضِ مِصرَ فلا ورائي
تَخُبُّ بي المَطِيُّ ولا أمامي
يقول ليَ الطبيبُ أكلتَ شيئًا
وداؤك في شَرابِك والطَّعامِ
وما في طِبِّه أنِّي جَوادٌ
أضرَّ بجِسمِه طولُ الجَمَامِ

ومَن تلا المتنبي من الشعراء واصلَ وصف مصر باعتبارها الروضةَ الجميلة أو البستان المزهِر، وقد تضمَّن كتابُ حوادث الدهور لأبي المحاسن المذكور (الجزء الأول، دار الكتب، رقم ٢٣٩٧) بعضَ الأبيات عن النيل ومصر، نقتطفُ منها ما يؤكِّد استمرار الصورة الأولى لمصر، والتي تبرز في بعض الكتب مثل فضائل مصر للكِنْدي، أو تلك الرواية الغريبة التي أوردَها النويري في نهاية الأرب (ج١، ص٣٤٧) عن قولٍ منسوب لآدم عليه السلام:

قال عبد الله بن عمرو: لما خلَق الله عز وجل آدم، مثَّل له الدنيا شرقَها وغربها، وسهْلَها وجبلها، أنهارها وبِحارها، وبناءها وخَرابها، ومَن يسكنها من الأمم، ومَن يملكها من الملوك، فلما رأى مصر، رآها أرضًا سهلةً ذاتَ نهر جارٍ، مادتُه من الجنة، تنحدر فيه البرَكة، ورأى جِبلًا من جبالها مكسوًّا نورًا لا يخلو من نظر الربِّ عز وجل إليه بالرحمة، في سَفْحه أشجارًا مثمرة، فروعها في الجنة تُسقى بماء الرحمة، فدعا آدمُ في النيل بالبرَكة، ودعا في أرض مصر بالرحمة والبرِّ والتقوى، وبارك على نيلها وجبَلِها سبع مرات، وقال: «يا أيها الجبل المرحوم، سفْحُك جنة، وتُربتك مسكةٌ تُدفن فيها عرائسُ الجنة. أرض حافظة مطبقة رحيمة. لا خلَتْكِ يا مصر بركة، وما زال بكِ حفظ، وما زال منكِ مُلكٌ وعز، يا أرض مصر فيكِ الخباء والكنوز، ولكِ البرُّ والثروة، سال نهرُك عسلًا …»

وقد أوردتُ هذا المقتطَف لورود كلمة الجنة فيه أربعَ مرات، وكذلك كلمة الأرض، والدارسُ الحديث لن يَغيب عن فِطنته أن الرواية استعاريةٌ إذ أنَّى لعبد الله بن عمرو بن العاص أن يعرف ما قاله آدمُ عليه السلام حتى يستشهدَ بكلماته كما جاءت دون تبديل؟ فهي استعارةٌ يقصد بها أن الإنسان يرى في أرض مصر صورةً لجنة الخلد، وهي تُمثل ما رآه العربُ في تلك القرون الأولى في مصر. وأما الأبيات التي أشرت إليها من كتاب حوادث الدهور؛ فربما كانت قد كُتِبت في عصر أبي المحاسن، وربما رُوِيَت عن شعراءَ سابقين أو نُحِلَت، وهي على أيِّ حالٍ تُصور ما نرمي إليه. يقول صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي:

لِمْ لا أهيمُ بمِصْرٍ
وأرتَضيها وأعشَقْ
وما تَرى العينُ أحلى
مِن مائها إنْ تَملَّقْ

وقال ابن سلار:

لَعَمرُك ما مِصرٌ بمِصرٍ وإنَّما
هي الجنَّةُ العُليا لمن يتَذكَّرُ
وأولادُها الوِلدانُ من نسلِ آدَمٍ
وروضَتُها الفِردوسُ والنيلُ كوثرُ

وللقاضي شهاب الدين أحمد بن فضل العمري أبياتٌ نقتطف منها ما يلي:

لمِصْر فضلٌ باهرٌ
لعيشِها الرَّغْدِ النَّضِرْ
في كلِّ سفحٍ يلتقي
ماءُ الحياةِ والخُضَرْ

فكلٌّ مِن هؤلاء يذكر الماءَ أو النيل ومِثلهم ما أورده نفسُ الكتاب؛ إذ يُورد أبياتًا لأبي الحسن عليِّ بن بهاء الدين الموصليِّ الحنبلي؛ منها:

بها ما تلَذُّ العينُ من حُسنِ مَنظرٍ
وما تَرتضيه النفسُ من شَهَواتِها
وتُرْبتُها تِبْرٌ يَلوح وعَنبرٌ
يَفوحُ وتَلْقى بَعْد بُعدِ حياتِها
زمُرُّدةٌ خَضراءُ قد زِينَ قُرْطُها
بلُؤلؤةٍ بيضاءَ مِن زَهَراتِها

ويقول ابنُ الصائغ الحنفي:

ارْضَ بمِصْر فتِلك أرضٌ
من كلِّ فنٍّ بها فُنونُ
ونِيلُها العَذْبُ ذاك بحرٌ
ما نظَرَت مِثلَهُ العُيونُ

وأخيرًا نُورد للشيخ برهان الدين القراطي ما يلي:

حلا نِيلُ مصرٍ وهْوَ شَهْدٌ ومَن يَذُقْ
حَلاوتَه يومًا مِن الناس يَشهدِ
أيَا بَرَدَى بالشَّامِ إنْ ذُبْتَ حَسرةً
وغيظًا فلا تَهْلِكْ أسًى وتَجلَّدِ

والواقع أن هذا ليس بغريب؛ فكما أوضح أحمد أمين في فجر الإسلام، كان العرب يُعانون شظَف العيش وقسوةَ حياة البداوة، فلما جاءوا إلى مِصر قبل الإسلام ورأَوُا الخِصْب والنَّماء، ارتبطَت صورتُها في أذهانهم بالنعيم، وكان أسهلَ عليهم بعد الإسلام أن يرَوُا الجنة الموعودة (وهي غيب) في صورها الاستعارية الواردةِ في القرآن مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ (الرعد: ٣٥) كأنما تجسَّدَت في مصر، خصوصًا بسبب اهتمام أوائل المفسرين بمصر، وأنا لا أُشير إلى الكتب التي تتناول فضائلَ مثل كتاب فضائل مصر لأبي زولاق أو الكتاب الذي يحمل نفسَ العنوان للكِنْدي، ولكن أقول الأوائل ممن يُستشهَد بأقوالهم بعد القرآن والحديث، كقول ابنِ عباس مثلًا: «إن مصر سُميت بالأرض كلِّها في عشَرة مواضعَ من القرآن»، أو كقوله في مثالٍ آخَر: «دعا نوحٌ عليه السلام لابن ابنه بيصر ابن حام وهو أبو مصر، فقال: اللهم إنه قد أجاب دعوتي، فبارِكْ فيه وفي ذُريته، وأسكِنْه الأرضَ الطيبة المباركة التي هي أمُّ البلاد» (نهاية الأرب، ص٣٤٦-٣٤٧)، وقد اتَّبع المؤلفون هذا المنهجَ وزادوا فيه منذ القرن الرابع الهجري، وحتى فجر النهضة الحديثة.

وقد شرَحَت لنا الخلفيةَ التاريخية اللازمة لفهم الإطار الثقافي لهذه الصورة الدكتورة سيدة إسماعيل كاشف، في كتابها الرائع مصر في فجر الإسلام (القاهرة، ١٩٤٧م)، ثم في كتابها الموجز مصر في عصر الولاة (سلسلة الألف كتاب)، ويتضح منها أن العرب عندما فتَحوا مصر لم يكونوا يُدركون أنهم يواجهون ما يُسمَّى الآن بالتحدِّي الحضاري، أو أن استجابتهم لهذا التحدي قد يتوقف عليها مجرى تاريخِهم نفسه. ولا عجَب في ذلك؛ فتاريخ مصر كان مجهولًا لهم، وكانت الألغازُ تحيط بالكتابة المنقوشة على المعابد، بل لقد ذهبوا في تفسيرها كلَّ مذهب، فتصور البعضُ أنها حروفُ لغة قديمة بائدة (النجوم الزاهرة)، وكانت رسالتهم المحدودة هي الدعوةَ إلى دين الله الحنيف فمَن استجاب هلَّلوا له وكبَّروا ومَن رفض الإسلامَ دفع الجِزْية وانتهى الأمر (تاريخ الطبري، ج٤، ص١٠٦).

أي إن القرون الأولى من الفتح العربي لم تشهَدْ أيَّ لون من التفاعل بين الفاتحين وأهل البلاد، وأقصدُ بالتفاعل الاندماجَ الثقافي أو الحضاريَّ الذي لم يبدأ إلا بعد انتهاء عصر الفتوحات، وبداية عصر التعريب، وهجرة القبائل العربية والتزاوج وبداية عمل بعض العرب بأعمال المِصريين بعد أن كانوا يقتصرون على المِهَن القيادية، سواءٌ في الجيش أو ما نُسميه اليوم بالإدارة العليا.

وكان اعتناقُ المصريين للإسلام وتعلُّمُهم اللغةَ العربية عاملًا حاسمًا في هذا التفاعل، وكان الاتجاه الغالب هو استيعابَ مصر لأهل البداوة، وتحويلَهم إلى نظُم الحياة الحضارية في مصر، بحيث يمكن القول بأن حضارة أهل مصر كانت من عوامل التوحيد؛ إذ كانوا يتألَّفون من شعوبٍ ذات أعراق متفاوتة (انظر تاريخ الإسلام للدكتور حسن إبراهيم حسن، ج١، ٥٤٤)، ثم بدَءوا في التلاحُم وبناء شخصيةِ مصر العربية الجديدة التي سرعان ما تعرَّضَت للعواصف والأنواء في ظلِّ الحكَّام الأجانب حتى فجر النهضة الحديثة.

ومَكمَنُ الخطر في الصورة الأولى لمصر هي أنها لم تختفِ ولم تتلاشَ على مرِّ القرون.

الصورة المزدوجة

قلت في حديث الأحد الماضي إننا نحمل في وجداننا وعقولنا صورتَين لمصر: الصورة التي صوَّرها العربُ لها في رسائلهم وأشعارهم عن الأرض التي فتَحوها، وصورةُ الدولة الحديثة التي وجَدْنا لها — منذ اكتشاف ماضينا الفرعوني — جذورًا في هذه الأرض فتولَّينا بعْثَها وإحياءها منذ استقلال مصر عن الدولة العثمانية.

وما زالت الصورتان تتَناقضان في كتابات الأدباء المعاصرين شعرًا ونثرًا، فإذا البعضُ يركز على صورِ مصر الفِرعونية؛ نِشْدانًا للذات القومية وتأكيدًا لها، بينما يركز البعضُ الآخَرُ على وَشائج الانتماء العربي، وأقوى هذه الوشائج هو اللغةُ بلا شك؛ فهي التي تُملي أنماطَ التفكير؛ لأن التاريخ المشترك لمصر والعرب يصبُّ فيها ويُخضِعُها لمنطقه. وبين هذا وذاك نجد أن معظم الكُتَّاب يرَون في مصر صورةً مزدوجة تجمع بين الدولة القديمة أيامَ المصريِّين الأوائل والتراث العربي الذي تشرَّبْناه صغارًا ورعَيناه كبارًا، فتخرج لمصر صورتان أحيانًا ما يصعب التوفيق بينهما.

فعندما بدأ نجيب محفوظ يكتب رواياته العربية، كان اتجاهُه الطبيعي إلى تأكيد مِصريته في فترة الصحوة القومية والدعوة إلى الاستقلال يدفعه إلى نِشْدان مصر الفرعونية، ولكن تُراثه العربي اللُّغوي (وهو مُرادف للتراث الفكريِّ والحِسي) جعله يستخدم لغةً فُصحى تقترب من لغة الأقدمين، بل إن الصفحة الأولى من رواية رادوبيس حفلَت بالعبارات والألفاظ التي تطمح إلى مُحاكاة اللغة القرآنية؛ فهي المثلُ الأعلى للبلاغة العربية، وكذلك فعَل محمد حسين هيكل حين وقَّع مقدمة الطبعة الأولى من رواية زينب باسمِ «مصري فلاح»؛ إذ كان دافعُه تأكيدَ الهُوية المصرية الخالصة والشخصية المصرية المتفرِّدة والمتميزة عن الشخصيات العربية الأخرى، وكان العُنوان الفرعي للرواية هو «مناظر وأخلاق ريفية»، بل إن دافعه لتأكيد هذه الشخصية المتفردة جعَله يستخدم اللغةَ العامية لأول مرة في الحوار، وهذا حدثٌ فريد لا ينبغي أن نمرَّ به مَرَّ الكرامِ؛ فهذه هي التي يُسميها علماء اللغة «العربية المصرية» وهذه هي التي تُميز أهل مصر في الريف أولًا، وفي الحضر ثانيًا عن غيرهم من مُواطني البلدان العربية. ومع ذلك فإن لغة زينب فُصحى وبليغةٌ وجميلة، وتشهد للكاتب بالانتماء الذي لا يمكن التشكيكُ فيه لتراثنا الأدبي العربي القديم.

كذلك فعَل أحمد شوقي في صدر شبابه، حين كتَب وهو ابنُ الخامسة والعشرين قصيدة «كبار الحوادث في وادي النيل» وألقاها في المؤتمر الشرقيِّ الدولي في جنيف عام ١٨٩٤م، وكان مندوبًا للحكومة المصرية فيه (الشوقيات: القاهرة، ١٩٦١م، ص١٧)؛ ففي هذه القصيدة التي تشهد بالعبقرية المبكِّرة لشوقي حماسُ الانتماء لمصر، وهو الذي التقَت في عُروقه دماءُ الأكراد والشراكسة واليونان والتُّرك! (مقدمة شوقي للجزء الأول من ديوانه المطبوع عام ١٩٨٩م) وفيها تأكيدٌ لم يسبق له مثيل على شخصية مصر التي تَسري جذورُها في عصور الفراعنة وحضارة الفراعنة، وإن كانت تتكلَّم لغةَ العرب! والقصيدة أكبرُ شاهدٍ على مولد الوعي باختلاف مصر عن جيرانها، بل وعن الدولة العثمانية التي كانت تربطها بها روابطُ قوية، ولكن ذلك كلَّه مَسوق بلغةٍ عربية جميلة تُحاكي لغة القرآن؛ فهو يخاطب رمسيس قائلًا:

ولَك المنشآتُ في كلِّ بحرٍ
ولك البَرُّ أرضُه والسَّماءُ

وهو يقول «حَسِب الظالمون أن سيَسوءوا»، ولا ينسى البكاءَ على زمان السفر بالإبل، فيَنْعي انقضاءَ عصر الناقة (الوَجْناء):

يا زَمانَ البِحار لولاك لم تُفْـ
ـجَعْ بنُعْمى زَمانِها الوَجْناءُ
فقديمًا عن وَخْدِها ضاقَ وجهُ الـ
أرضِ وانقادَ بالشِّراع الماءُ

والوَخْدُ هو السير السريع وسَعةُ الخطوة، وشوقي يُحاكي المتنبي في إخراجه الأبياتَ التي كُتِبت لتجريَ مَجرى الحِكَم والأمثال، ويستخدم حِيَل البلاغة العربية في أزهى عصورها، حتى وهو يتحدث عن رمسيس وسيزوستريس!

رَبِّ إن شئتَ فالفضاءُ مَضِيقٌ
وإذا شئتَ فالمضيقُ فَضاءُ
فاجعَلِ البحرَ عِصمةً وابعَثِ الرَّحـ
مةَ فيها الرِّياحُ والأنواءُ

وأصداء اللغة القرآنية لا تغيب عن القارئ أبدًا؛ فهو ينظر إلى وضع الكلمات (في سورة هود) عندما قال ابنُ نوح لأبيه: سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ، ويذكرنا بالآيات المعروفة يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ (الأعراف: ٥٧؛ والفرقان: ٤٨؛ والنمل: ٦٣)، فالشاعر في هذه القصيدة الفريدة التي تَزيد على ٢٦٠ بيتًا من الشعر العمودي (الملتزم بقافيةٍ واحدة وبحرٍ واحد) يُعلن مولد الازدواجية أو الصورة المزدوجة التي ورثها جيلُنا من أجيال روَّاد الأدب الحديث في القرن العشرين، وكنتُ أتمنى أن يتناولَها الدكتور شوقي ضيف في كتابه الجميل شوقي شاعر العصر الحديث بالمزيد من التفصيل.

ولم يكن توفيق الحكيم أقلَّ وعيًا بهذا الازدواج من شُعراء الجيل السابق؛ فرواية عودة الروح وحدها أكبرُ دليل على الوعي العميق بمِصريَّة مصر، وتميُّزِ شخصيتها عن شخصية مَن حولها من البلدان؛ فهو يدخل البيتَ المصري في روايته، وينزل إلى الشارع كما نقول هذه الأيام، ويُرسي أسُسَ التصوير الواقعي للحاضر في ظلِّ أسطورةٍ فرعونية عن البعث، أو عودةِ الروح إلى الجسد في العالم الآخر — وهي العقيدة الفرعونية التي عاشت في وجدان الشعب المصري آلافَ السنين قبل نزول رسالاتِ السماء وقُدوم الأنبياء.

وفي مسرحية إيزيس يؤكد توفيق الحكيم ولَعَه بهذه الأساطير المصرية القديمة ويتَّخذ منها صورًا «شعرية» يستخدمها في البناء المسرحيِّ نفسِه، بل ويفعل ذلك واعيًا في معظم كتاباته في مجال القصة أو الرواية أو المسرح. فتوفيق الحكيم مثل هيكل وشوقي عاش في أوروبا، وأحسَّ على البُعد في تلك السنوات الأولى من فجر النهضة الحديثة بصورة مصر المستقلة، وإن كان فن المسرح قد فرَض عليه فرضًا أن يستخدمَ اللغة المعاصرة أو أن يُطوِّع اللغة العربية لمقتضيات الحديث لاستخدامه في الحوار، مُحاكيًا في ذلك أبْنيةَ اللغة العربية المصرية دون اللجوء إلى استخدام اللغة العامية.

وإذا كانت العواملُ السياسية قد لعبت دورًا كبيرًا في بروز صورة مِصر القديمة، وأهمُّها حاجةُ أهل مصر إلى سنَدٍ للاستقلال في مواجهة الهيمنة الأجنبية — خصوصًا أيام الكفاح من أجل الجلاء — فإن ثَمة عواملَ أخرى لا يمكن إغفالُها في هذا المقام، وأهمُّها الانفتاحُ على العالم الحديث في أوروبا بوجهٍ خاص وميلاد العلم الحديث وما تقتضيه مناهجه من التجرُّد من الهوى في البحث والتقصِّي. وكان هذا العاملُ الأخير هو الدافعَ إلى ما يُسمَّى بحركة التنوير في مِصر أولًا، وبعد ذلك بعقودٍ كثيرة في غيرها من البلدان العربية. فحركة التنوير كانت تتطلَّب اتباعَ المنهج العلمي دون التعصُّب لرأيٍ أو عقيدة أو جنس، بل إن هذه الحركة هي التي جمَعَت روَّاد التنوير في كل مجال — من محمد عبده وعلي عبد الرازق إلى طه حسين والعقاد والمازني والرافعي وهيكل وسلامة موسى، حتى ما بعد منتصف القرن العشرين.

أما مَكمنُ الصراع في الصورة المزدوجة فهو أن صورة مصر التي رسمَها العرب في أدبهم كانت تتناقضُ مع صورة مصر الحديثة التي رغم ارتكازِها على عناصر المجد التليد تطمح إلى اللَّحاق بركب الحضارة الحديثة في أوروبا. ولم يكن من الغريب آنَذاك أن يتغاضى روَّاد التنوير عن الأدب الذي كُتب في عصور الانحطاط، وهي العصور التي شحبَت فيها ألوانُ شخصية مصر إن لم تكن قد نحلت وتلاشت في ظلِّ حُكم الأجانب الذين حكَموها قرونًا متوالية، وتنازَعوا أمرهم بينهم ما يصنعون بهذا البلد الخصيب؟!

الصور المتداخلة

ربما أحسَّ بعضُ القراء في مقالاتي عن ازدواجية الصور أو ازدواجية الوعي والانتماء أن التعبير غيرُ دقيق، وربما كان التعدُّد لا الازدواج أقربَ إلى الصحة في وصفِ صورة مصر أو صورها؛ وذلك لأن صورة مصر الحديثة — مصر العربية — تجمع عناصرَ عربية عريقة مكمنُها التراث اللُّغوي والأدبي، وعناصرُ مصرية أقدمُ وأعرق نحملها في كِياننا عبر القرون منذ أن أرساها أجدادُنا الأوائل أصحاب أقدم حضارةٍ على وجه الأرض، وعناصر حديثة تربِطُنا بعالم اليوم منذ اتصالنا بأوروبا في القرن التاسعَ عشر وتشربنا لحضارة هذا العصر الذي يتغيَّر من يومٍ ليوم إن لم يكن من ساعةٍ لساعة. وقد اخترتُ تعبير العناصر عمدًا؛ لأن المصادر الثلاثة التي أشرتُ إليها ليست متجانسةً أو موحَّدةً توحيدًا كاملًا؛ فلا العناصر العربية موحدة — إذ كانت التقاليد العربية تجمع بين أمشاجٍ مختلطة من التقاليد أو من الثقافة — ولا العناصر المصريةُ صافيةٌ — إذ جمَعَت بين بعض تقاليد شعوب البحر الأبيض ممن خالطَ المِصريِّين وامتزَج بهم على مدى ألفِ سنة أو يزيد، منذ بناء الإسكندرية في القرن الرابع قبل الميلاد وحتى الفتح العربي في القرن السابع للميلاد — ولا العناصر الحديثة موحَّدة؛ إذ تجمع بين تقاليدِ أممٍ متباينة في أوروبا، ثم في أمريكا الشمالية في العقود الأخيرة.

ومع ذلك فالباحث الموضوعي المتجرِّد يستطيع أن يتخذ موقفًا خاليًا من العصبية لأيٍّ من هذه الصور التي ظلَّت تتداخَلُ على مرِّ القرون حتى أصبحَت تُشكل نسيجًا متلاحمًا يصعب إخراجُ خيوطه إلا بتدميره، فالوليد يرضعُ لغة العرب، ويتشرَّب معها جانبًا من تراثها، وذلك هو الجانب الذي يَكمُن — كما قلت — في اللغة وأنماط التفكير التي تفرضها المفهومات الأساسية عن الكون والبشر والمجتمع، وطرائق الاستدلال والاستقراء وما إلى ذلك — وهو ينشأ في مجتمعٍ يتوارثُ قيمَ الحضارة القديمة — حضارة الحرث والريِّ وانتظار المحصول والعمل الجادِّ والتأمُّل والعلاقات الاجتماعية التي تفرضها تلك الحياة، فيرثُ جانبًا من تراث الأرض (جمال حمدان، شخصية مصر) وهو يتعلَّم ويتلقَّى ضُروبًا من أنماط التفكير الحديثة وألوان البحث العلمي الحديث، فيتَّجه بعقله ويدَيه إلى الآلات؛ يتعامل معها ويستخدمها، ثم يصنعها، ثم يتوسَّل بها في طرائق مَعاشه، فيكتسب جانبًا من روح العصر، ويمتزج كلُّ هذا في كِيانه فتختلط الصور وتتداخل، وتُخرِج لنا في النهاية إنسانًا مِصريًّا يتفرَّد بوجود هذا الاختلاط الذي يُصبح مصدرَ قوةٍ وضعفٍ في الوقت نفسِه، فكيف يكون ذلك؟

ذكرتُ في آخر حديثي السابق أن صورة الماضي العربية القادمة من خارج مصر كثيرًا ما تلتقي مع صورةٍ مصرية حديثة فيتعذَّر اللقاءُ بينهما وتساءلتُ عن سبب تعذُّر اللقاء — بمعنى التمازُج — الذي أصبح يقضُّ مضاجعَنا هذه الأيام. والإجابة يسيرة وهي أننا حين نعود إلى العناصر العربية في الصورة، لا نعود إليها باعتبارها عناصرَ تاريخية؛ أي عناصرَ حياةٍ بدوية بدائية عرَفَتْها الجزيرة العربية شمالًا وجنوبًا في القرون السابقة للإسلام (وإن كانت قد استمرَّت بعده إلى حدٍّ ما)، ولكننا نعود إليها باعتبارها أمثلةً عُليا للحياة يطمح إليها الإنسانُ في كل عصر؛ ومن ثَم فهي تُمثل في نظر الكثيرين المستقبلَ الذي ترنو إليه الأبصار؛ ومِن ثَم يتعذَّر التوفيقُ بينها وبين صور الحضارة الحديثة التي لم تَعُد مقصورةً على دولةٍ دون أخرى؛ فهي بحقٍّ حضارةُ العصر الذي نعيش فيه ولا مهرب لنا منه، فهو زمننا حقًّا وصدقًا.

ومثلما تعمَّدتُ ذِكر تعبير العناصر، أتعمَّد هنا ذِكر الماضي والمستقبل، فعناصرُ صورة الماضي التي أعنيها تضمُّ فيما تضم عناصرَ عصبيةٍ عَمياء، وتضم عناصرَ استبدادٍ واستعباد وقهر، وتضم عناصرَ جهلٍ يتبدَّى في ترديد الأقوال وروايتها دون تحقُّق وتمحيص، وفي الإيمان بالخرافات والأساطير، وهو ما جاء الإسلامُ لِيَدحضَه ويُرسِيَ مكانه قواعدَ المساواة والتآخي والتسامح والعلم. ولكننا لا نقف لنتساءل عن مدى صلاحية عناصر الماضي التي ذكَرتُها لحياتنا في الحاضر أو المستقبل، بل ولا نتساءل حتى إذا كانت تتَّفق وروحَ الدين ونصوصَه أم لا، بل إننا نقبلُها كما هي مهما كان فيها من مَثالب؛ إذ نرى فيها جذورَنا وننسب إليها فضلَ ما نحن فيه!

إن للماضي سحرًا لا يُقاوَم؛ فهو تاريخٌ حافل ممتع، ولكننا ينبغي أن نقرأ هذا التاريخَ بحذر، واعينَ دائمًا أنه تاريخٌ وليس حاضرًا، وينبغي ثانيًا أن نعرفَ أنه كان يوجد إلى جانب البقع المشرِقة الوضيئة في هذا التاريخ بقعٌ مظلِمةٌ كالحة مخجِلة؛ أي إن علينا — إذا أردنا إدراكَ معنى هذا التاريخ — أن نرى الصورةَ كاملة، ونحن لن نراها كاملةً إلا إذا رأينا بقعَ الظلام إلى جانب بقع النور، وسوف نعرف من خلال ذلك الجهد أن أجدادنا كانوا بشرًا مثلنا، يُصيبون ويُخطئون، وأن صورة الماضي كانت غاصَّةً بما يَشين ولا يُشرِّف، وإذا نظَرنا من وجهةِ نظرٍ موضوعية بحتة وجَدْنا أن صورة مصر في الماضي لا يمكن أن تلتقيَ وتمتزج بصورة الحاضر أو بما نرجوه لها في المستقبل!

إن الذين يَنشُدون الجذور — وجذورنا ممتدَّة في أعماق الماضي البعيد — أحيانًا ما تختلط عليهم أحكام القيمة، مثلما تختلطُ عليهم الصورة؛ فبعضهم يخلط بحُسن نية بين الإسلام العظيم وتاريخ المسلمين الذي أورَثَنا أشياءَ أبعد ما تكون عن الإسلام، وهو يخلط، وفي هذا الخلطِ كلُّ الخطر، بين الإسلام كقيمٍ عُليا تصلح لكلِّ زمان ومكان؛ لأنها فوق الزمان والمكان، وبين ما كان المسلمون يفعلونه باسم الإسلام. ولذلك فأنا أنبِّه دائمًا لضرورة التمييز عند تَصدِّينا للتراث بين التراث الأدبي أو اللُّغوي — تراث العربية الطويلة الحافل — وبين ما يتَضمَّنُه هذا التراثُ من قيم التاريخ؛ إذ إن هذه القيمَ كثيرًا ما تختلطُ بمبادئ الماضي فتكتسب قَداسةً غريبة تكاد تدسُّها دسًّا بين قيم الدين ومبادئه! أي إن علينا حين نقرأ أدب الماضي أن نعرف أنه ينتمي إلى الماضي، ولا ينسحب على الحاضر؛ ولذلك فقد نعجبُ ببراعة المتنبِّي في مدح كافور الإخشيديِّ إذ يقول:

ترَعْرعَ المَلِكُ الأستاذُ مكتهلًا
قبلَ اكتِهالٍ أديبًا قبلَ تأديبِ
مُجرِّبًا فَهِمًا مِن قبلِ تجرِبةٍ
مهذبًا كَرمًا من غيرِ تهذيبِ
حتى أصابَ من الدُّنيا نِهايتَها
وهَمُّه في ابتداءاتٍ وتشبيبِ
يُدبِّرُ المُلْكَ مِن مصرٍ إلى عدَنٍ
إلى العِراق فأرضِ الرُّوم فالنُّوبِ
فالحمدُ قبلُ له والحمدُ بعدُ لها
ولِلْقَنا ولِإدْلاجي وتَأْويبي
وكيف أكفرُ يا كافورُ نِعمتَها
وقد بلَغْنَك بي يا كلَّ مطلوبي

وقد أتيتُ بالبيتين الأخيرين حتى أُرِيَ القارئَ مدى كذب المتنبي في مدحِه كافورًا، فالحمد لله أولًا وأخيرًا، والكفر كلمةٌ مرتبطة بالدين، ولكنَّ حِرْص المتنبي على إرضاء كافور جعَله يُبالغ هذه المبالغةَ الممجوجة. ولقد اقتبستُ هذه الأبياتَ من المتنبي بوجهٍ خاص بسبب شهرته ومعرفةِ القارئ به. أقول: قد نَعْجب ببراعته في صياغة الشعر في مَدْح كافور ثم نعجب ببراعتِه في هجائه إذ يقول:

ما يَقبِضُ الموتُ نفْسًا من نُفوسِهِمُ
إلا وفي يدِه مِن نَتْنِها عُودُ
من كلِّ رخْوِ وِكاءِ البَطْن مُنفتِقٍ
لا في الرِّجال ولا النِّسوانِ معدودِ
أكُلَّمَا اغْتالَ عبدُ السوءِ سيِّدَهُ
أو خانَهُ فله في مِصرَ تمهيدُ
صار الخَصِيُّ إمامَ الآبِقين بها
فالحُرُّ مُستعبَدٌ والعَبدُ مَعبودُ
لا تَشْترِ العبدَ إلا والعَصا معَهُ
إن العبيدَ لَأنجاسٌ مَناكيدُ

والقصيدة مشهورةٌ ومعروفة لكلِّ مَن قرأ التراث العربي؛ ولذلك فهي تدلُّ دلالةً أكبرَ من مئات القصائد وعشَرات الأسماء التي يورِدُها الثَّعالبي في يتيمة الدهر، على فَساد القيم التي نَستقيها من التراث الأدبيِّ فنُدرِجُها في الحاضر دون وعيٍ بأنها تاريخٌ بادَ وانقضى! إن الشعر جميلٌ ولا شك، ولكنه كاذب! وربما كان أعذبُ الشعرِ أكْذبَه، وربما كان أعذبُ التراث كذلك — ولكن مَرامنا الآن مفهومُ القوة وصورة المرأة، ولكلٍّ منهما حديثٌ مستقل.

مفهوم القوة

إلى عهدٍ قريب كان مفهوم القوة المادية بشريًّا؛ أي يعتمد على الإنسان نفسِه جِسمًا ونفسًا، وما زال هذا المفهومُ قائمًا إلى حدٍّ ما في ريف مِصر حيث يفرح الأبُ بأبنائه الذكور باعتبارهم مصدرَ قوةٍ يسمُّونها في الريف «عزوة»، وما زالت بعضُ البلدان تفرح بكثرة الرجال باعتبارهم موردَ قوةٍ ومصدرَ منَعة، ولكنَّ الحال قد اختلف في بلدان العالم المتقدمة على مدار القرن العشرين الذي يوشك أن يطويَ صفحته، فأصبحَت القوةُ لا تُقاس بضخامة الجسم ولا بالعضلات المفتولة ولا بالكثرة العدَدية، بل أصبحت تُقاس بمعاييرَ جديدةٍ تستند إلى ما أتت به العلومُ الحديثة من فنون القتل والدمار، وما تعتمد عليه من معلوماتٍ يحصل عليها مَن يريد الغلَبة بشتى الطرق المشروعة وغير المشروعة، وأصبح مِعيارُ القوة هو إمكانَ تدمير آلات الحرب الجبَّارة، أو كشْفَ خُطط القتال لإفسادها قبل وقوعها، وإدراكَ النوايا لإحباطها ومنعِ تحقيقها، فتَلَت الحربَ الساخنةَ ألوانٌ من الحرب الباردة، استُخدمت فيها فنون التهديد وفنون الإرهاب والتخويف؛ أي فنون الحرب النفسية والضغوط الاقتصادية، وكلُّ هذا بإيجاز في إطار العلوم الطبيعية الحديثة التي لم يكن آباؤنا وأجدادنا يُحيطون بشيءٍ منها.

وفي إطار المعاني الجديدة للقوة، اختلف معنى الشجاعة، واختلف معها عددٌ لا يُحصى من القيم التي كان أجدادُنا يحرصون عليها؛ مثل الشهامة والمروءة، والنَّجدة والرحمة، فإذا كان مفهوم القوة تجرَّدَ من المُنازَلة الجسدية المباشرة حيث كان الأبطالُ يَلْتقون في حَوْمة الوَغى ويلتحمون في القتال المباشر؛ فإن الشجاعة أصبحَت قيمةً نفسية تتحوَّل إلى تدبيرٍ عِلمي مجردٍ من هذه القيمة النفسية ذاتِها؛ أي إن الذي يضَعُ خُطةَ قذفِ مكانٍ ما بالقنابل قد يكون خِلْوًا من الشجاعة، بل قد يكون جبانًا رِعْديدًا، بل إن واضع خُطط الحرب قد يفتقر هو نفسُه إلى العنصر البشريِّ بإطلاقه، فقد يكون حاسبًا آليًّا أصمَّ، وقد يتكون من مجموعةٍ من الآلات الحاسبة التي يُديرها شيخٌ هرم خائرُ القُوى، أو امرأةٌ لا شأن لها بالضرب والطِّعان! القائد السياسي الذي يتخذ قرارَ الحرب لا يستطيع اليوم أن يتصورَ وهو في مكتبه مُحاطًا بمستشاريه وأعوانه مدى المعاناة التي يمكن أن يتعرَّض لها مَن لا ناقةَ له ولا جمَل في تلك الحرب! فأمامه أرقامٌ وخلفه أرقام، وعن يمينه أوراقٌ وعن شماله أوراق، وينطبق نفس القول على المقاتل الذي يُطلق النارَ على العدو؛ فهو يُركز اهتمامه على آلةٍ من حديد ونُحاس، والعدو في نظره ليس إنسانًا بقدرِ ما هو هدفٌ محدَّد أُمِرَ بتدميره! وهكذا فإن غياب عنصر التلاحم البشري والاشتباك الجسدي قد حوَّل مفهومَ القوة إلى أشكال تجريدية يُدركها العقل ويعيها دون أن تصل إلى أعماق النفس فتهزَّها وتُثيرها.

ولذلك فالإنسان العربي الذي نشأ في كنَف التراث وتشرَّبه حتى تمكَّن منه، لا يستطيع مهما كان الحال أن يرى صورةَ القوة القديمة حيةً مجسَّدةً ويظلَّ مفهومُ الشجاعة المرتبطُ بهذه الصورة القديمة حائرًا لا يَقَرُّ به قرار؛ وهو مِن ثَم لا يستطيع أن يفهم ما يرتبط بمفهوم الشجاعة من شهامةٍ تتجلَّى في لحظةِ العفو عند المقدرة، أو من مروءةٍ تتجلى في تقديم العون لأسيرٍ وقع في الميدان، أو من نجدةٍ تدفعه إلى غَوثِ ملهوف أعلن توبتَه، وما إلى ذلك؛ فالعربيُّ ابنُ اليوم في أعماقه عربيٌّ من أبناء الأمس، وعندما نشهد سلوكًا محيرًا لابن اليوم فينبغي أن نغوصَ إلى الأعماق حتى نسأل الإنسانَ الكامن في داخله عن سرِّ هذا السلوك!

وأنصَعُ مَثلٍ على المواجهة بين الماضي والحاضر نجدُها في كتاب الشيخ أحمد الرمال بن زنبل، وعُنوانه وقعة الغوري والسلطان سليم وما جرى بينهما، وقد وضعه في القرن السادسَ عشر الميلادي؛ أي العاشر الهجري، ونُشر جزءٌ منه في أوائل القرن العشرين في الأستانة، ثم نُشر بأكمله في القاهرة عام ١٩٦٢م بتحقيق عبد المنعم عامر. ويدور الكتاب برُمَّته عن مفهومَين للقوة وما يتصل بها من قِيَم؛ إذ ينعي المؤلفُ في ثنايا الكتاب على العثمانيين ضعفَهم وجُبنهم وخوَرَهم ونقصَ همَّتِهم، ويُعْلي من شأن المماليك لتحلِّيهم بصفات الأجداد مما أشرتُ إليه آنفًا، وتتجسَّد المقابلة بين المذهبين في اللقاء بين كرتباي الوالي وبين السلطان سليم بعد أن قُبض عليه وأُتِي به أسيرًا، ويورد لنا الشيخ الرمالي جانبًا من الحوار بينهما وما يقوله الأمير كرتباي بالحرف الواحد، وفيما يلي جانبٌ منه:

«اسمع كلامي وأصغِ إليه حتى تعلمَ أنت وغيرك أنَّ منا فُرسانَ المنايا والموت الأحمر؛ فأْمُرْ عسكرَك أن يتركوا ضربَ البندق فقط، وها أنت معك مائتا ألفِ فارسٍ من جميع الأجناس، وقِفْ مكانك وصُفَّ عسكرك، ويخرج لك منا ثلاثة أنفار: عبد الله والفارس الكَرَّار السلطان طومان باي والأمير علَّان. وانظر بعينك كيف يفعل هؤلاء الثلاثة تبقى تعرف روحك إن كنتَ ملكًا أو يصلُح لك أن تكون مَلِكًا، فإن المُلك لا يصلح إلا لمن يكون من الأبطال المجنورة، كما كان عليه السلفُ الصالح رضي الله عنهم، فانظر في التواريخ» (ص٥٨ من طبعة القاهرة).

ثم يستمرُّ قائلًا في سياق مُهاجمته: «استخدِم البنادق بدلًا من السيوف.»

«وهذه هي البندق التي لو رمَت بها امرأةٌ لمنعَت بها كذا وكذا إنسانًا، ونحن لو اخترنا الرميَ بها ما سبقتنا إليه، ولكن نحن قومٌ لا نترك سُنَّة نبيِّنا محمد، ويا ويلك كيف ترمي بالنار على مَن يشهدُ لله بالوحدانية ولمحمدٍ صلى الله عليه وسلم بالرسالة؟!» (نفس المرجع.)

وهذه الأفكار الخاصة بفلسفة الحرب والحُكم لدى المماليك ليست مجردَ أفكار عابرةٍ يمكن تصحيحُها وتصويبها حتى تستقيمَ الحياة، ولكنها ظواهرُ للعيش في الماضي بعد أن تغيَّر الزمنُ واختُرِعت البندقية، وكان لا بد أن تستجيبَ أذهانُ المماليك للتغيُّر، ولكن تفكيرهم ظلَّ مقصورًا وخصوصًا فيما يتَّصل بمفهوم الحكم؛ فهم يتصوَّرون أنه لا بد أن يقوم على الغلَبة؛ أي على القوة الغاشمة كما يشرح ذلك ابنُ خَلْدون في المقدمة باعتبار أن الغلَبة أولُ مراحل الملك، ومعنى ذلك باختصارٍ: أن المماليك وقَفوا في تفكيرهم عند المرحلة الأولى، ولم يُكملوا قراءةَ ابن خَلدون الذي كان قد تُوفي في مطلع القرن السابق (الخامس عشر)! ومعنى إساءة فَهمِهم للتراث ترحيبُهم بسيادة منطق القوة والاستبداد والقهر مما يتناقض مع الإشارة في نفس الفقرة إلى السلف الصالح وإلى سُنة النبي عليه الصلاة والسلام! ومعناه إذن فسادُ التفكير أي فساد المنهج، وفساد المنهج يؤدي إلى الخطأ القاتل الذي يرتكبُه المماليك في رفضِهم استخدامَ البنادق، وانظر ما كان من شأن السلطان الغوري الذي يمتدحُه الجميع اليوم باسم التراث ويترحَّمون على أيامه. يقول الشيخ الرمال:

«وقد جاء بهذه البندقية رجلٌ مغربي للسلطان الملك الأشرف قانصوه الغوري، رحمه الله تعالى، وأخبره أن هذه البندقية ظهرَت من بلاد البندق، وقد استعملها جميعُ عساكر الروم والعرب، وهي هذه، فأمَره أن يُعلِّمها لبعض مَماليكه ففعل، وجيء بهم فرُموا بحضرته فساءه ذلك. وقال للمغربي: نحن لا نترك سنةَ نبينا ونتَّبع سنَّة النصارى، وقد قال الله: فَلَا غَالِبَ لَكُمْ. فرجَع ذلك المغربيُّ وهو يقول: مَن عاش ينظر إلى هذا الملك وهو يُؤخَذ بهذه البندقية، وقد كان كذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» (ص٥٨-٥٩).

والغريب أنه حتى بعد ثلاثة قرونٍ من انتصار البندقية والمدفع ظلَّ المماليك على عدائهم للحرب بالنار، وكانت النتيجة مثلما يقول الأستاذ حسن جلال في كتابه حياة نابليون أن مَدافع الفرَنسيين حصَدَت المماليكَ حصدًا في موقعة الأهرام رغم استخدامهم الأسلحة النارية. ويُفسر ذلك المؤرخ الكبير عبد الرحمن الرافعي قائلًا: إن المماليك لم يكونوا يستخدمون الأسلحة النارية عن اقتناع، بل كانوا يعتمدون على السيفِ والرِّماح والنبال، وكان مِن بينهم مَن يُشيع فيهم الإحساسَ بالذنب العظيم للرامي بالنار.

ولقد سُقتُ هذا المثلَ لأُدلِّل على معنى الخلط المنهجي الذي ينبع من اختلاط صور الماضي بالحاضر واختلاط القيم النابعة من التراث دون إدراكٍ للتغيير الذي لا بد أن يحدث؛ فهو محتوم ولا مَهْرب منه. وإذا كنا قد عدَّلْنا من مفهومنا للقوة فإننا لا نزال ندهش عندما نجد في هذا العالم الواسع أُممًا تزعم لنفسها التقدم بينما تُمارس منطقَ القوة والبطش، وتُمارس التسلُّط والتحكُّم والقهر، بينما تقول كلامًا لا يَشي بهذا، ونحن ندهش لأننا رضَعْنا في طفولتنا قِيَمًا مُغايرة من التراث، وفي أعماق كل عربيٍّ منهلُ إيمانٍ بالخير لا ينضَب؛ فهو لا يستطيع التوفيقَ بين ما درَج عليه وبين ما يَراه حوله، ويبدو أنَّ هذا قدَرُنا الذي لا فكاكَ منه!

المرأة في الأدب

ورثنا فيما ورثنا من الأسلاف صورًا منوَّعة للمرأة، تدور جميعًا حول جَمالها والمعاناة في الوصول إليها، وقد أدَّى هذا وذاك إلى تقاليدِ الغزَل والنسيب، ودرَجْنا نجرعُ الشعر الذي يتغنَّى بحُسن المرأة ويشكو آلامَ الفراق، بينما اختلف العالمُ اختلافًا نزع «هالة ضوء القمر» — كما يقول أحدُ نقَّاد الغرب — من حول المرأة، وأبْدلَها ضوءَ النهار العادي، بعد أنْ خرَجَت إلى العمل وشاركَت الرجلَ حياتَه في الحقل والمصنع، والمدرسة والمستشفى! والمرأة التي يُقدمها التراثُ إلينا مخلوقٌ صامت، جمَع إلى حُسنه سِحرًا وغموضًا وبُعدًا عن عالم الناس، فأما الصمتُ فمصدره أمران: أولهما عدمُ الحاجة إلى الكلام؛ لأن الكلام جهدٌ لا غَناء فيه من جانبِ كائن لا يتوقَّع أحد أن يَفيض فمُه بلآلئ الحكمة، وثانيهما لأن الصمت يُساهم في جوِّ الغموض الذي يفترضه المجتمعُ في المرأة. ولذلك فنحن لا نسمع المرأةَ في الأدب العربي القديم إلا حين تتقدَّمُ في السن ويزول خطرُ الغموض؛ فأصوات النساء في هذا الأدب خافتةٌ بعيدة واهنة، ولا علاقة لها بأصواتهنَّ التي تملأ علينا حياتَنا الواقعية ليلًا ونهارًا!

وصورة المرأة في الأدب العربي منذ الجاهلية حتى فجر النهضة الحديثة صورةٌ جسدية، لا أجدُ أقدرَ على إيصالها من وصفِ يوم ذي قار الذي ورَد في تاريخ الطبري (الجزء الثاني، ص١٤٨)، وورَدَت الأشعار والأخبار المتصلة به في الأغاني للأصفهاني (ج٢، ص٩٧) والعِقْد الفريد لابنِ عبدِ ربِّه (ج٣، ص٣٧٤)، ومعجَم البلدان لياقوت (ج٣، ص٣٥٢)؛ ففي مختلِف الروايات عن هذا اليوم تبرز قضية وصف المرأة المثالية وهي تبرز في سياق أصل الخلاف بين كسرى أنوشروان ملكِ الفرس والنعمان بن المنذر ملك الحيرة في الجاهلية، وذلك حين رفضَ النعمانُ إهداء جاريةٍ إلى كِسْرى بالأوصاف التالي ذِكرُها:

… جارية معتدلة الخَلْق، نقيَّة اللون والثَّغْر، بيضاء قَمْراء، وَطْفاء كَحْلاء، دَعْجاء حوراء، عَيْناء، قَنْواء، شمَّاء بَرْجاء زجَّاء، أسيلة الخد، شهية المقبل، جثلة الشعر، عظيمة الهامة، بعيدة مَهْوى القُرط، عَيْطاء، عريضة الصدر، كاعبُ الثدي، ضخمة مُشاش المنكب والعضُد، حسَنة المعصم، لطيف الكف، سَبْطة البَنان، ضامرة البطن، خَميصة الخصر، غَرْنَى الوِشاح، رَدَاح الأقبال، رابية الكَفَل، لفَّاء الفخذين، ريَّا الروادف، ضخمة الماكمتين، مُفعَمة الساق، مشبعة الخَلْخال، لطيفة الكعب والقدم، قَطوف المشي، مِكْسال الضُّحى، بَضَّة المتجرَّد، سَموعًا للسيد، ليست بخنساءَ ولا سَفْعاء، رقيقة الأنف، عزيزة النَّفْر، لم تقذ في توس، حييَّة رزينة، حليمة ركينة، كريمة الخال، تقتصر على نسَب أبيها دون فصيلتها، وتستغني بفَصيلتها دون جماع قبيلتها، قد أحكَمَتْها الأمورُ في الأدب، فرأيُها رأيُ أهل الشرف، وعملُها عمل أهل الحاجة، صَنَاعُ الكَفَّين، قطيعة اللسان، رَهْوة الصوت ساكنتُه، تزين الولي، وتشين العدو …

وقد حذفتُ بعض العبارات التي نعتبرها اليوم خارجة، وفيما عدا ذلك أوردتُ النصَّ كاملًا كي أدلِّل على موقفنا التراثيِّ من المرأة؛ فما شأن هذه الجارية (أي الفتاة) التي طلَبها كِسْرى ورفض تقديمَها النعمانُ؟ إنها صورة المرأة المثالية كما ذكرت، ويستطيع القارئُ أن يُحصي أكثرَ من أربعين وصفًا حسيًّا جسديًّا لها، تَتْلوها بضعةُ أوصاف لأخلاقها تدور حول الطاعة والخفَر والحياء والجُنوح إلى الصمت!

وقد اتَّبع الشعراءُ هذه الملامحَ لصورة المرأة في غزَلهم ونسيبهم وتَشبيبهم بلا استثناء تقريبًا، بحيث يستعصي على مَن يقرأ أدبَنا الذي ورثناه أن يرسُم صورةً صادقة للحياة النفسية للمرأة على مدى تاريخِنا الطويل، والأخبار المتناثرة هنا وهناك في كتب التاريخ الأدبي لا تكاد تُفصح عن كائنٍ حي متميِّز، فحياتها الباطنة سر، وهي حتى إذا شاركت الشعراء والأدباء شعرهم وأدبَهم حاكَتْهم وقالت قولهم! فكذلك فعَلَت الخنساءُ في رثاء أخيها، وكذلك فعلَت عائشة التيمورية حين تصدَّت للغزَل! ولْيأذَن لي القارئُ أن أسوق إليه أبياتًا من الشعر وأطلبَ منه أن يَحْدس قائلها:

أبيتُ ومُؤنِسي الخُفَّاشُ ليلًا
وحالي فيه شرَّ الحالتَينِ
فذاك بنورِ عينَيه مُهنًّى
ولي أسَفٌ بحَجْبِ المُقلتَينِ
وأبسطُ للظلام أكُفَّ بَثِّي
وأشقى لوعةً بالظُّلمتَينِ
تَراني مُعرضًا عن كلِّ ضوءٍ
فهل خاصمتُ نُورَ النيِّرَينِ؟
يُنافِرُني السَّنَا فأفِرُّ منهُ
كأنَّ الضوءَ يطلبُني بِدَينِ!
وأجنَحُ للظلامِ جُنوحَ صَبٍّ
دَنا لحبيبه بالرَّقْمتَينِ!

هل تُصدق أيها القارئ العزيز أن الشاعر هنا هو السيدة عائشة التيموريَّة؟ إنها تُشير إلى نفسها بصفات المذكَّر؛ فهي مُعرِضٌ عن كل ضوء، وهي تجنحُ جُنوح الصبِّ المستهام، وأهمُّ من ذلك أنها وضَعَت نفسها في موضع الرجال؛ شعوريًّا وفكريًّا ولغويًّا! ويكفي لإدراك التناقض بين المرأة التي تُنشد هذا الشعر والمرأة التي يُصوِّرها المُنخَّل اليَشْكُري في رائيَّته المشهورة:

ولقد دخَلتُ على الفَتا
ةِ الخِدْرَ في اليومِ المَطيرِ
الكاعبِ الحَسْناءِ تَرْ
فلُ في الدِّمَقْسِ وفي الحريرِ
فدفَعتُها فتدافَعَت
مشْيَ القَطاةِ إلى الغَديرِ
ولَثَمتُها فتنَفَّسَت
كتنفُّسِ الظَّبْيِ الغَريرِ

ويُروى البيت أيضًا:

(وعطَفتُها فتعطَّفَت
كتعَطُّفِ الظبيِ الغَريرِ)
فدَنَت وقالت يا مُنخَّـ
ـلُ ما بجِسْمك من حَرُورِ
ما شَفَّ جِسمي غيرُ حـ
ـبِّكِ فاهدَئي عني وسِيري
وأحبُّها وتُحبُّني
ويحبُّ ناقَتَها بَعيري

هل كأنَّ المنخَّل اليَشْكري يحلم؟ أم هذا من خيالات الشعراء المقبولة في الجاهلية وفي كلِّ زمان؟ وهل مِن خيالاته التي ولَّدَها تولُّهُه بحبِّ هند بنت النعمان بن المنذر بن ماءِ السماء حاكم الحيرة؟ على أيِّ حال فالتناقض شديدٌ بين المرأة الصامتة التي لا تتحدَّث إلا لتسألَ الشاعرَ عن حال حبِّه أو لتعترضَ عليه (كقول امرِئ القيس:

فقالت سباك الله إنك فاضحي
ألستَ ترى السُّمَّارَ والناسَ أحوالي؟)

أو لتؤكِّد هذا الحبَّ (كما تفعل حبيبةُ يزيدَ بن معاوية التي تقول: إن الخضاب في يدها من أثر البكاء الذي تحوَّل إلى دم)، وبين الشاعرة التي تُحاكي الرجالَ في شعرهم فلا تَبلُغ صِدقَهم ولا تُفصِح عن شيءٍ حقيقي في صدرها!

والحق إن الحوار المصطنَع في تُراثنا الشعري لا يكاد يبلغُ حدَّ الحوار بمعناه المفهوم ولكنه محاورةٌ من طرفٍ واحد — كما نقول في أيامنا هذه — وانظر إلى أبي فِراسٍ الحَمْدانيِّ مثلًا:

تُسائلني مَن أنت وهْي عَليمةٌ
وهل لِفَتًى مِثلي على حالِه نُكْرُ
فقلتُ لها لو شئت لم تتَعنَّتي
ولم تسألي عني وعِندَكِ بي خُبْرُ!
فقالت لقد أزْرى بك الدهرُ بَعْدَنا
فقلتُ مَعاذ الله بل أنتِ لا الدَّهرُ!

أو انظر إلى قول صفيِّ الدين الحلي:

قالَت كحَلْت الجنونَ بالوَسَنِ
قلتُ انتظارًا لِطَيفِكِ الحسَنِ!
قالت تخلَّيتَ بعد فُرقتِنا
فقلتُ عن مَسكني وعن سكَني!

فهذه المحاوَرات التي شاعت في تُراثنا الشعري تُمثِّل وجهة نظر الشاعر نفسِه، ولا تُمثل صدقًا نظرةَ المرأة؛ ولذلك فإن الشعراءَ لم يجدوا بأسًا في أن يستهلُّوا قصائدهم بالحوار مع المرأة إلى جانب الغزَل أيًّا كان موضوعُ القصيدة استنادًا إلى أن هذه «حِلْية» وحَسْب، وأن القارئ ينبغي أن يعرفَ أن الفتيات — ذُكِرَت أسماؤهن أم لم تُذكر — ينتمين إلى عالم الخيال، وأذكر شاعرًا — رحمه الله — كتبَ قصيدة دفاعًا عن دين الله الحنيف فبدأها بهذه الأبيات:

الكونُ من أنفاسِهنَّ تعَطَّرا
والغصنُ للإعجاب مال تَخطُّرَا
يَذْرِفْن في ذهَبِ الأصيل ووَشْيِهِ
دمعًا على الخَدَّينِ لؤلؤُه جَرى
فسألتُهن لم البكاءُ أجَبْنَني
خوفًا على الإسلام أن يتقهقَرا
فأجَبتُهن اللهُ أيَّد دينَهُ
وأقام للإسلامِ فيه غضَنْفرَا

وعندما لُمته على هذه البداية المصطنَعة قال لي إنها من تقاليدنا ونحن لا نستطيع الفكاكَ من أَسْر التقاليد! وعندها ذكَرتُ مئات الأغاني العربية سواءٌ منها المكتوبة بالفصحى أو العامية، والتي ترسم صورًا للعلاقة بين الرجل والمرأة تستند إلى ميراث الشعر القائم على «الخيالات»؛ (فأعذب الشعر أكذَبُه) ولا يمكن أن تتحقَّق بأيِّ صورة من الصور في عالمنا الحقيقي الملموس ونحن نُصرُّ على أن ننقل في شِعرنا الفصيح والعامِّي عن الماضي نقلًا مباشرًا غيرَ واعين بالتغيُّر الذي فرَض نفسه فرضًا على حياتنا؛ إذ ما نزال أسرى ازدواجيةِ الزمن!

عام مصر الرائعة

كان الجوُّ يوحي بأوروبا القديمة، وقد اكْتسَت القاعة أزهى حُللِها، والكل يترقَّب اللحظةَ التي تُقدَّم فيها كريمتا نجيب محفوظ لتسلُّم الجائزة الكبرى، عندما انبعثَت أنغامٌ شرقية حانية، يسودها صوتُ آلة التشيلو وظهر على شاشة التليفزيون الموسيقار المصري ناجي أحمد الحبشي الذي طاف الدنيا بموسيقاه المصرية، وهو يحتضنُ آلتَه المفضَّلة، ورأيت وجهَه الذي كسَتْه الغضونُ وشعره الذي انحسر وما خطَّه الشيبُ إلا قليلًا. وقرأت على مُحيَّاه انفعالًا لم أعهَدْه فيه — ولم أكن قد رأيتُه منذ أوائل الستينيَّات بعد عودته من بعثته في إيطاليا — وأحسستُ بدفقات قلبه في المقامات المينور (الصغيرة) فكأنما كانت الأنغامُ هي مِصرَ التي تعيش في وجدانه، وشعرتُ به يرنو إلينا وهو في تلك الأصقاع الباردة، بينما ترنو إليه أنظارُ العالم تسمع فيه مصرَ وتراها، وغلَبَني التأثُّر فغلَبَتني العَبَرات.

كانت مصر قد تحوَّلَت في تلك اللحظة إلى ذِهن جبَّار يرمز له نجيب محفوظ مثلما يرمز له أبناؤه من الكُتَّاب الذين أبدَعوا إبداعاتٍ رائعة، سواءٌ كانت استمرارًا لمذهبه أو خروجًا عليه، وأحسستُ أن وفاء النيل هذا العامَ كان في معنًى من المعاني رمزًا لتدفُّق العطاء في أرض هذا الوادي، وأن فترات الجدب من حينٍ إلى حين ما هي إلا نُذُر، تُذكرنا بأننا لا بد أن نعمل، وبأننا إذا عملنا فحَرَثْنا وبذَرْنا ورعَينا وسَهِرنا فالحصاد يرعاه ربُّ الكون.

كيف تجتمع في صورةٍ واحدة آلافُ الصور؟ وكيف تتكثَّف لحظات الزمن في لحظة واحدة؟ لا أزعم أنني أعرف الإجابة، ولكن الزمن — هذا اللغز الأكبر — كان قد توقف ليضمَّ شتى المشاعر التي انضغطَت فتبلورَت وسطَعَت كأنها شهابٌ يَذهبُ بالأبصار سَناه. وأطلَّت من ثنايا النفس صورُ مصر والمصريين الذين عرَفتُهم إبَّان مقامي سنواتٍ عشرًا في أوروبا؛ «أذهان العالم» هكذا كانوا يُسموننا في إنجلترا، أيًّا كان ما نفعل وأيًّا كان التخصُّص الذي اختاره كلٌّ منا. فهذا طبيب شابٌّ يعمل في مستشفًى إقليميٍّ عامَين اثنين يُثبت فيهما براعةً مذهلة يُعيَّن بعدها مدرِّسًا للجِراحة في الجامعة، وذاك مهندسٌ تضيق به سُبل العيش في مصر فيعمل في أحد الفنادق عدةَ أعوام ولا يلبث أن يشتريَ سلسلةً من الفنادق! وبين هذا وذاك عشَراتٌ من المصريين الذين عرَفتُهم لا يرضَون بغير القمَّة ويجبرون أممَ الأرض على ألا تخلطَ بين مصريتهم والجنسيات الأخرى.

وانثالَت الصورُ التي تؤدي إلى سؤال أوحد: هل كان على ناجي الحبشي أن يُقيم في السويد حتى نُقرَّ له بالامتياز ونعترفَ له بالتفوق؟ هل كان على موسيقاه أن تأتيَنا عبر الأثير حتى نقول إنه موسيقار عالمي؟ أعَلينا أن ننتظر اعتراف العالم بنا حتى نستردَّ ثقتَنا في أنفسنا؟ لقد كنتُ من المؤمنين دائمًا بعبقرية مصر، وحولي في كلِّ مكان دلائلُ قاطعة على تميُّز الذهن المصري والموهبة المصرية، ولكننا — بكل أسف — ما زلنا نعيش في أطُر العهود الغابرة التي أُجبرنا فيها إجبارًا على احترامِ ما هو أجنبي وازدراءِ ما هو محلي! بل إنَّ بيننا مَن لا يُخامره شكٌّ في امتياز أي عمل أدبي ما دام مكتوبًا بلغة أوروبية، ومَن يُقطِّب جبينه وتَعْلوه سِيماءُ الترفُّع حين ينظر إلى ما هو مكتوبٌ بالعربية، بل إننا ندرس في الجامعة بعضَ صغار الشعراء من الأوروبيين الذين لا يستحقُّون القراءةَ أصلًا، ونتجاهل فُحول الشعراء من المصريين الذين يرقَوْن إلى مصافِّ العالمية الحقَّة.

لقد كان عام ١٩٨٨م عامَ العبقرية المصرية، عامَ مصر الرائعة، فأرجو أن نعيَ الدرسَ جيدًا وأن نحترم مُبدعينا ومُفكِّرينا من الروَّاد والمعاصرين، وألا ننتظرَ جائزة نوبل أخرى حتى نحترمَ القمم التي تعيش بين ظَهْرانَينا ولم تبلغ من العمر أرذَلَه، فربما لا يُكتَب لهذه القممِ أن تبلغَ هذه السن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤