شوارد

لدى الباب قطة

لدى باب مسكننا قطة. وهي قطة لم تُقرر بعدُ أن تكون أليفة؛ بحيث تسمح لمن يُطعِمها أن يمسحَ ظهرها أو يمسَّ رأسها، ولكنها قرَّرت منذ ما يقرب من عامين أن تُقيم في المنزل أمام عددٍ من الشقق التي تُقدم لها الطعام أو الدِّفء في الشتاء، ومنذ ذلك الحين تحسَّن صوتُ مُوائها فأصبح طبيعيًّا بعد أن كان حشرجةً لا تكاد تُبين، وأصبح فِراؤها ناعمًا (فيما يبدو) برَّاقًا زاهيًا كثيفًا، وحمَلَت وأنجبَت عدة مرات، وظل أحدُ أبنائها لصيقًا بها حتى بعد أن اكتمل نموُّه واشتدَّ عوده، وزال عنها الخوفُ القديم من قطط الشارع الزائرة للمنزل بحثًا عن الطعام، أو الذكورِ المتقدِّمين طلبًا للزواج منها في مواسمَ معينة، فأصبحَت تموء في وجوه هذا وذلك، وتُقوِّس ظهرها غضبًا، أو تتمسَّح بركن من أركان السُّلَّم في سعادة ورضًا.

ولم أعجب للتحوُّل الذي طرأ عليها في الأيام الأخيرة في عادات طعامها ومَيلها إلى التدقيق في اختيارِ ما تقبلُه منه؛ فالنعمة البادية عليها تفرض عليها ألَّا تلتهمَ كلَّ ما يُقدَّم لها؛ إذ زال قلقُها على المستقبل، ولم تَعُد تخشى الغدَ — فيما يبدو — بل أحيانًا ما تُظهِر اطمئنانًا غيرَ معهود في قطط الطريق، فلا تلتفت إلى الطعام المقدَّم برهةً من الوقت، أو تشمه ثم تُشيح عنه بوجهها، ربما انتظارًا لما هو أشهى منه أو لوجبةٍ خاصة تتوقَّعها من أحد السكان الكرماء.

وليس من الغريب أن أهتمَّ بهذا التحوُّل الشامل في حياتها؛ فقد شهدتُ تحولاتٍ مماثلةً في حياة كثير من البشر من أبناء مصر، ووجدتُ أنني لستُ أولَ كاتب يهتمُّ بالقطط وحياتها؛ إذ يبدو أن هذا الحيوان الأليف الذي صاحبَ الإنسان آلافَ السنين قد شغَل كثيرًا من الكُتَّاب في شتى أنحاء العالم. وذكرتُ أنني قرأتُ أن المصريين القُدماء كانوا أولَ من استأنس القط، وأنَّ أقْدَم صوره وتماثيله موجودةٌ في معابدهم، وأنهم أسْمَوه «باشت» وأن هذه اللفظة نفسها قد تطوَّرَت إلى «باس» و«بوس» و«بسبس» والكلمة الأجنبية «بوسي». وذكرت أيضًا أن القطَّ غير المستأنس كان العربُ يُسمونه «السِّنَّور» ويُسمُّون المستأنسَ منه «الهرة» وأن اهتمامهم به لم يكن يقلُّ عن اهتمام غيرهم من الشعوب الأولى — فكان رمزًا لبعض الخصائص البشرية التي أعلى الإنسان القديم قيمتها — فهو صائدٌ ماهر، وهو ذو عضَلاتٍ مرنة تُمكِّنه من الوثب مسافاتٍ طويلة، وهو يتمتَّع بعينَين تتفتَّح حدَقتاهما في الظلام فتُمكِّنه من الرؤية في الأماكن التي نعتبرها مُظلمة، كما أن على عينيه عدساتٍ عاكسةً للضوء فكأنهما تُشعُّ نورًا في الظلمة يُخيف الأعداء، وأهمُّ من هذا وذاك جميعًا أنه يتمتع بالاستقلال أو ما يُشبه الإباء والشَّمم؛ فهو بريءٌ من خضوع الكلب وخنوعه لا يقبل أن يمتلكَه أحد، ولكنه يُقيم علاقتَه على أساس الصداقة و«المصلحة»، وهو إلى هذا كله كَسول إذا لم يكن لديه داعٍ للنشاط، ويقول العلماء إنه إذا توافر له ما يُغنيه قضى سبعة أثمانِ عمره نائمًا أو مستلقيًا في استرخاءٍ وحسب!

ولم يهمل الأدباء هذه الخِصال في القطة، فكثرت الإشارات إلى حياة القطط في الروايات والأشعار، فلم ينسَها أحمد شوقي وكتب ت. س. إليوت ديوانًا كاملًا عن قططه، وفي مصر كتب محمد عبد العزيز (المخرج المسرحي) روايةً عن قطةٍ له، كما يكثر المخرجون السينمائيون من استخدامها رموزًا في أفلامهم ولكنني أهتمُّ بقطتنا لدى الباب لسببٍ آخر لم يخطر ببال أيٍّ من هؤلاء ما أسميته بالتحول إلى حياة الترف، وما صاحَبَه من تعديل علاقاتها بمجتمع البشر والقطط على حدٍّ سواء.

أنجبَت هذه القِطة على مدى عامين ما يربو على عِشرين قطًّا وقطة، وتفرَّق أولادها في كلِّ مكان يطلبون الرزق، بينما لم تكترث هي إلا لنعيم حياتها وهنائها، واختيار أقوى الأزواج وأعتاهم، وحدَّدَت لنفسها ما تريده من الدنيا في هذه الحقبة الجديدة، ألا وهو التمتُّع بملاذِّ الحياة الجسدية بعد أن تهيَّأ لها رغدُ العيش وغدَت تتقلَّب في أعطاف النعيم غيرَ عابئة بما يدور حولها.

وأصبحت القطة المذكورة نموذجًا لما حدَث للكثيرين من مَعارفي الذين ابتسَم لهم الحظ؛ إذ انتقَلوا إلى اليُسر بعد العسر، وأصبح همُّ الواحد منهم أن ينعمَ ببالٍ هنيَّةٍ جادَ بها الدهرُ دون انتظار؛ إذ أمِنوا شرَّ الفقر، ولم يعودوا يخشَون الجوع في الغد، فاقتنى أحدُهم زوجة جديدة (جميلة وصغيرة) سعد بها وأسعَدَها، وأنجب رهطًا جديدًا بعد أن كبر أولاده من الأولى. واكتشف أن القراءة همٌّ لا يحملُه إلا الإنسانُ فأقلع عنها واستراح، وأن الوعي بما يدور من حولِه مسئوليةٌ كُبرى تنوء بحملها الجبال، بل أمانةٌ أبَت السمواتُ والأرض والجبال أن يحملنَها وأشفقنَ منها، فتخلى عنها راضيًا، واقتصَر في أفراحه على ما يُهيِّئه المال والبنون — زينةُ الحياة الدنيا — من مُتَع ومَلاذَّ.

ورأيت في القطة صورةَ إحدى الطالبات السابقات اللائي تلقَّين العلم على يدَيَّ في الجامعة، ثم قيَّض الله لها زوجًا نابهًا يُحكِم فنون جمع المال، فانطلقَت معه إلى أحد البلدان الشقيقة ليبدَآ رحلة النعيم، ولينهَلا من مُتَع الحياة الرخيَّة ما شاء الله لهما، وامتدَّ بهما المقام فتراخَت في دروسها، ثم أقلعَت عن القراءة، وكفَّت تمامًا عن الدرس والتحصيل، وخلَدَت إلى السُّكون الذهني، وأصبحَت أنباؤها لا تأتيني إلا لِمامًا بعد أن تحوَّلَت في قضاء عطلات زوجها وأطفالها إلى أوروبا بدلًا من مصر.

ولكن التحول الذي أصاب القطةَ لا يقتصر على مَن أقلَعوا عن القراءة، ولكنه ينسحبُ على عشَراتٍ ممن أعرفُهم من بلدي ومن القاهرة أيضًا؛ إذ أعرف من بينهم مَن أنجبَت أحدَ عشَر ولدًا هاجَروا جميعًا دون تعليم ودون اكتسابِ حِرفة إلى البلدان الشقيقة، وأعرف واحدًا ما انفكَّ يطلب الزوجةَ بعد الزوجة ويُنجب الطفلَ بعد الطفل حتى وافَته المنيةُ وهو في رَيْعان شبابه، بعد أن خلَّف لأخيه تركةً مُثقلة بالأعباء والهموم.

إن الراحة والكسلَ هما هدفٌ يحلم به الإنسانُ منذ أن طُرِدَ من جنة الخلد، وهما كما يقول البروفيسور ميلر في كتاب حديث عن علم النفس غاية كلِّ حي، ولكن الراحة التي تأتي بعد لغَبٍ فتُصيب عقل الإنسان بما يُشبه الشلل، تهبط بمستوى الإنسان إلى درجات الوجود الدنيا، مستوى النبات الذي لا ينتقل من مكانه، بل يأتيه الغذاءُ والماء والهواء دون حركة، ومستوى القطة التي يأتيها رزقها رغَدًا فتأكل وتتزوج، وتُنجب وتموت. ونحن لا نريد أن نكون قططًا على أبواب أحد.

الفراغ والقضية

جمعَني مجلسٌ في بلد من بلدان أوروبا بنفرٍ من المثقَّفين المغتربين الذين أقاموا سنواتٍ طويلةً بتلك الديار، فاستوطَنها البعضُ واكتسب جنسيتها، وحاول ذلك البعضُ الآخر فلم يُفلح، وأكَّد فريقٌ ثالث أنه لا يمكن أن يُغير لونَ جلده؛ فهو مصري وسيظلُّ مصريًّا إلى النهاية. وسرعان ما تحوَّل الحديث إلى السياسة، فبدأتُ أسمع نبراتٍ لم أسمع مثيلًا لها منذ الستينيَّات في أوائل فترة إقامتي في بريطانيا، فأعادت إلى ذاكرتي أيامَ الأحلام الكبرى، وطفقتُ أُحلل وأصنِّف ما سمعتُ أيامًا متوالية، تبِعَتها أسابيعُ من المناقشات مع مُمثِّلي كل تيار من التيارات «النفسية» و«الفكرية» التي شهدتُها حتى انتهيتُ إلى نتائجَ أعتقدُ أنها تهمُّ كلَّ مشتغِلٍ بالثقافة في بلادنا في هذا الوقت بالذات. وها هي أهمها:

يعتنق معظمُ المغتربين فكرة، هي أقربُ إلى النظرة العامة منها إلى النظرية، مفادها أن بالعالم العربي اليوم فراغًا «عقائديًّا» نشأ عن انحسار الفكر الاشتراكيِّ القديم الذي بُني على أساسِ نزعة التحرُّر والاستقلال، والذي كان يمكن أن يُؤدِّيَ إلى نهضةٍ كبرى لولا تدخُّلُ أهل «اليمين» الذين سيطَروا على مُجريات الأمور في هذا الجزء من العالم طَوال العَقدَين الماضيَين، والذين تَبْدو آثارُ تدخلهم في الحياة العامة أكثرَ من آثار تدخلهم في شئون الثقافة على المستويَين العام والخاص.

ومن زاوية هذا الفراغ «العقائدي» تهاجم نسبةٌ كبيرة من المغتربين (معظمهم من «العقائديِّين» القدماء) كلَّ ما يدور في مصر والعالم العربي، ويرفع واحدٌ من هؤلاء لواء ثورة شخصية على الجميع شعبًا وقادة، وينتقون من صحف المعارضة (ومن الصحف القومية) الأخبارَ والتعليقات التي تدعمُ ما يذهبون إليه، ويُردِّدونها فيما بينهم بعد تضخيمها وتفخيمها طبعًا، وينتهون من ذلك كلِّه إلى أنه لا حلَّ «لمشاكل» مصر إلا إذا عادوا هم أنفسُهم فشَغَلوا المناصبَ القيادية في شتى المجالات وأعادوا مصرَ إلى العهد الذهبيِّ للأيديولوجيا «العقائدية» وما أدَّت إليه من قوةٍ عسكرية واقتصادية واجتماعية لم تشهد مصرُ مثيلًا لها في نظرهم منذ أقدم عصورها.

ومن بين المثقفين المغتربين نسبةٌ أقلُّ ترى أن «الحلَّ» يتمثل في إحلال قضيةٍ جديدة محلَّ «القضية» القديمة؛ أما «القضية» القديمة فكانت بناءَ الدولة العصرية القوية «المشروع القومي»، وأما القضية الجديدة فهي بناء الحكومة الإسلامية على أكتاف لابسي الجلابيب البيضاء من ذوي اللِّحى، فهم وحدهم المسلمون — في نظرهم — وهم وحدهم القادرون على فَهْم الحكم الإسلامي. أما صورة هذا الحكم فهي غائمةٌ مُظلمة في نظر مُعظمهم؛ إذ ينحصرُ ما يقولونه دفاعًا عنه في انتقادِ ما يُخالف الإسلامَ في نظرهم من ممارسات اقتصادية أو اجتماعية وحَسْب؛ أي إن معظم ما يقولونه في هذا الصدد سلبي، ولا يكاد يصل إلى حدِّ الإيجاب إلا في النُّدرة النادرة.

وتوجد نسبةٌ أخرى من المثقفين المغتربين الذين يعيشون الحاضرَ دون بكاء على الماضي، فهُم هانئون بما آتاهم الله من فضله، يحمدونه ويشكرونه على نعمائه إذ قيَّض لهم أعمالًا تُدرُّ آلافَ الدولارات في بلادٍ متقدمة تُوفر لهم الرعايةَ الاجتماعية والصحية وكلَّ ما يطمحون إليه من مَسرَّات الدنيا، في مجالات العلم والثقافة والترفيه، وكل ما تطمح إليه نفسُ المثقَّف. وقد رأيتُ منهم مَن يمارس الموسيقى والغناء، أو يلعب الشطرنج، أو يقرأ بنهَم، أو يكتب حين تُتاح له الفرصة، أو يخدم أبناء وطنه بدءًا بأسرته وانتهاءً بأهل جِلْدته. ولم تنقطع صلةُ هؤلاء بالوطن الأم؛ فلكلٍّ منهم مكانٌ في مصر يقضي فيه شطرًا من العام، وأصدقاءُ يركن إليهم في المُلِمَّات ويتطارحُ معهم الرأي؛ فهو في وِفاق مع نفسه وزمنه، وأنا أذكر الزمنَ هنا لأنه مِفتاح إدراكنا لنظرية الفراغ والقضية.

إن المدخل الذي يجب أن نسلُكَه إلى «نفسيَّة» الفريقين الأوَّلين هو توقُّف الزمن لديهم عند اللحظة التي غادروا مصر فيها، وقد غادرَها معظمُهم في فترة التحولات الكبرى في أوائل أو منتصف السبعينيَّات وما زالت أذهانهم حافلةً بأحداث الستينيَّات، ولما كان عددٌ كبير منهم يعمل في المجالات الإعلامية فقد كان لكلٍّ منهم صولاتٌ وجولات في ساحات «العمل العام»، ولكلٍّ منهم «ذكريات» في عدة مواقع من مواقع «العمل الثقافي» الذي ارتبط آنذاك بما أسميتُه «العمل العام»، بل إن بعضهم ربط نفسه بقضية من القضايا التي وطَّن نفسه على اعتناقها مدى الحياة، وعلى اعتبار الإخلاص لها إخلاصًا للحياة نفسِها. أي إن ارتباطه بقضيةٍ ما أصبح مصدرًا للمعنى الذي يهبُ لحياته قيمة؛ ومن ثَم أصبح يتمسَّك بهذه القضية تمسُّكَه بالمعنى غيرَ عابئٍ بمرور الزمن أو بالتحولات التي شهدها العالمُ من حوله.

والحقُّ أننا لم نتخلَّف عن الزمن حتى يُمكنَ القولُ بوجود فراغ أو بعدم وجود قضية، بل إننا سبَقْنا الزمن — وليس هذا من قَبيل الفخر الأجوف — حين أدركنا أن طريق الستينيَّات (طريقَ الحروب الإقليمية الخاسرة، والارتجالات الاجتماعية باسم الاشتراكية، والانغلاق على أنفسنا باسم الاستقلال، وامتهان الإنسانية باسم الشرعية الثورية) طريقٌ لا يؤدي إلى ما كنا نَنشُده ونتمنَّاه، بل هو طريقٌ مسدود كما يشهد بذلك الآن مَن كانوا مِن دُعاته؛ ومِن ثَم طَفِقنا نُراجع أنفسنا ثقافيًّا (وسياسيًّا) حتى أصبحَت قضايا الماضي غيرَ ذاتِ موضوع، ونشأَت قضايا جديدةٌ أهمها في نظري قضيةُ الثقافة نفسها في عالم يتغيَّر بسرعةٍ لاهثة من لحظةٍ إلى لحظة.

ولا أبالغ إذا قلتُ إن وجود هؤلاء المِصريين وأضرابِهم في الخارج يُمثل في ذاته قضيةً من القضايا التي لم تكن مُثارة في الستينيات؛ فهم امتداد للثقافة العربية (بمعنى أسلوب الحياة، وبمعنى جماع المعارف والآداب الإنسانية التي تُبلوِرُ هذا الأسلوب)، وهم صورُ انفتاحِ مصر على العالم بصورة غير مسبوقة في تاريخنا، وأذكر ما قاله لي الدكتور شبايك في لوس أنجيليس عام ١٩٨١م، بعد أن أشار إلى أن عدد المصريين في ولاية كاليفورنيا وحدها قد تجاوز ربع المليون: «إننا ظاهرة ثقافية لا يمكن تجاهلها.»

أما الوجه الآخر لهذه القضية والذي لا يعي الكثيرون بوجوده، فهو اتجاه أنظار المِصريين بصورةٍ متزايدة إلى الخارج، وتغيُّر ما يَشغَل نفوسَ الشباب وعقولَهم عما شَغَل آباءهم، فلم يَعُد عالم نجيب محفوظ يُمثل لهم إلا الماضيَ الذي توارى إلى الأبد، ولن تجدَ بين شباب الجامعة في مصر (ولا أقول في الخارج) مَن يذكر أو يستطيع أن يتصوَّرَ طبيعة هذا الماضي. وأعتقد أن سرعة التحوُّل التي اتَّسم بها القرن العشرون هي المسئولةُ عن الاضطراب العظيم والبلبلة التي تَكمُن وراء تصوُّر وجود فراغ أو إساءةِ معنى وجود «القضية» أو «القضايا» الثقافية — ولهذا حديثٌ آخر.

مصريون خارج مصر

ذكرتُ في مقال سابق أن وجود أعدادٍ هائلة من المصريين خارج مصر لم يعد مجردَ ظاهرةٍ ثقافية، ولكنه يُثير قضيةً ثقافية تُلح على أذهان المشتغِلين بالثقافة ووجدانهم. وإذا كان لنا أن نقتربَ من الظاهرة أولًا قبل التصدِّي للقضية؛ فلا بد من التمييز في البداية بين المِصريين المقيمين في البلدان العربية وبين المصريين المقيمين في البلدان الأجنبية؛ فالفريق الأول يُثير قضيةً تختلف عن القضية التي يُثيرها الفريقُ الآخر؛ لأن أفراده عادةً ما يعودون إلى الوطن ولو في سنٍّ متأخرة، ولأن القيم الثقافية التي يذهبون إليها والتي يعودون بها لا تختلف في النوع عن القيم المصرية، ولكنها تختلف في الدرجة فقط، ومن هنا فإن درجة التحوُّل الثقافي محدودةٌ وإن كانت مهمةً وجديرة بالنقاش المتعمق.

أما الذين يُقيمون في بلدان أجنبية فمُعظمهم مستوطنون لا يعودون إلى مصر إلا للتواصل مع الوطن القديم ولقاء الأحبة والأصدقاء ممن لم تُتَح لهم فرصةُ العمل أو الإقامة بالخارج، أو ممن أُتيحت لهم الفرصة فلم يغتنموها أو لم يقبلوها، أو من الذين أقاموا فترةً محدودة في الخارج للدراسة أو للعمل ثم عادوا. ومعظم المقيمين في البلدان الأجنبية من المصريين يندرجون في فئة المهاجرين أي الذين رحَلوا من مصر بقصد الإقامة خارجها إلى الأبد، ومعظمهم أيضًا ممن رحَلوا في السنوات الخمس والعشرين الأخيرة؛ أي إنهم من الجيل الأول للمستوطنين ولم يبلغ أبناؤهم بعدُ مبلغ الرجال (بحيث يصبح الجيلُ الثاني راسخَ الجذور في التربة الجديدة)؛ ولذلك فإن الهُوَّة الثقافية التي تفصلهم عن الوطن الأمِّ لم تتَّسع بعدُ بالقدر الذي يجعلهم ينتمون تمامًا إلى بلدانهم الجديدة.

ومبلغ علمي أنه كانت لدينا في مصر وزارةٌ مكلَّفة برعاية هؤلاء، وهي لا شك وزارةٌ مهمة، والمهام المَنوطة بها كثيرةٌ وحيوية، والجهود التي تبذلها جديرةٌ بالثناء، ولكن الواقع الذي يعيشه هؤلاء لا تُجْدي في التصدي له جهودٌ حكومية؛ فهو ثمرةُ تراكُمِ أحداثٍ كثيرة وظروفٍ تاريخية لا حيلةَ لأحد في دفعها، وإن كنا نستطيع أن نرسم حدود المشكلة كما تتراءى لنا عن كثب، ولنبدأ بالتسليم بوجودها، فالاعتراف بالمشكلة أول خطوة على طريق التصدي لها (ولا أقول حلها).

وأنت تعرف أن هناك مشكلةً ما عندما تُواجه حيرةَ المغترب الذي تبلغ ابنتُه مبلغ النساء والذي يريد تزويجها من واحدٍ من أبناء جِلدته فيستعصي عليه الأمر؛ إذ يتلفَّت حوله فيجد أن الذكور من أبناء مَعارفه قد ارتبَطوا بأجنبيات، وأن إعادتها إلى مصر بقصدِ الزواج وحده سخفٌ لا مبرِّر له؛ فهو يعني قلقلةَ حياتها العمَلية أو العِلمية أو العائلية، فإذا حدث وكان لها صديقٌ أجنبي يريد الزواجَ منها زادت حيرةُ والدها وربما وافق قائلًا إن سعادة ابنته فوق كلِّ اعتبار، ومُضمِرًا في نفسه أن هذا معناه قطعُ كلِّ صلةٍ بالوطن الأصلي.

وأنت تعرف أنَّ هناك مشكلةً ما عندما يشكو إليك مغتربٌ أن أولاده لا يعرفون العربية، أو أن أحدَهم يُنكر عُروبته، أو لا يحبُّ أن يشير إليها، خصوصًا إذا كانت والدته أجنبية، أو أنه لا يقول عن مصر (التي زارها مرةً أو مرتين) إلا كلامًا يُثير الأسى والشجن؛ فهو إما غاضب أو ساخر، وكل مقارنة يعقدها بين أساليب الحياة هنا وهناك تَزيد مِن أساه وشجنه.

وأنت تعرف أن هناك مشكلةً ما تجتمع مع نفرٍ من أبناء المغتربين الذين لا تربطهم بمصر إلا زيارةٌ عابرة أو حادثة صغيرة تمخَّضَت عن تجرِبة أليمة في التعامل مع الجهاز البيروقراطي، فانحصرَت معرفتهم بمصر في هذه التجرِبة، وجعلوا يتَبارَوْن في التندُّر بما قاله ذلك الموظفُ أو ذاك، وما فعله «عبد الروتين» بأوراقهم أو إزاءَ بعض مسائلهم الإدارية، فهم صغارٌ بعدُ لا تربطهم بالوطن نشأة ولا تلاحُم وجداني، وربما وجدتُ من العسير إيضاحَ الحقائق التي تُفسر (وإن لم تكن تُبرر) سلوك هذا أو ذاك، أو تأكيد حقيقة مصر الأم الرَّءوم، بعيدًا عن الوظائف والروتين.

وليست المشكلةُ مقصورةً على أبناء الجيل الجديد، ولا هي خاصة بفئة من فئات العمر، بل لا أبالغ إذا زعمتُ أن المشكلة الأولى تكمن في التحول من «المصرية» الكاملة في جيل الآباء إلى «المصرية الاسميَّة» في جيل الأبناء؛ فالصفات التي ارتبطت بصورةٍ تقليدية بالشخصية المصرية — كالطِّيبة، (بمعنى العزوف عن الإيذاء، والتسامح)، والكرم (بمعنى عدم تقديس النقود والقيام بواجب الضيافة، بل وإنفاق ما في الجيب حتى يأتي ما في الغيب)، والذكاء (بمعنى الذكاء الفطري وكذلك سَعة الحيل والمكر)؛ أقول إن هذه الصفات تصطدمُ بثقافةٍ أوروبية لا تكترثُ للقيم التي تكمن وراء هذه الصفات وتؤدِّي إلى صدامٍ من نوعٍ ما بين ثقافة الآباء وثقافة الأبناء.

وربما كانت بعضُ الصفات المرتبطةِ بالمجتمع الأوروبي — مثل احترام الوقت (والمواعيد) والعمل والانضباط وما إلى ذلك — لازمةً للجيل الجديد مثلما أفاد منها الجيلُ الأول، ولكنها تصطدمُ دون شكٍّ بما ترسَّب في أعماق المصريِّ من قيم هي جماع مشاعرَ وأنماطٍ وأحاسيسَ تُمثل حصادَ ثقافة القرون الغابرة، والصدامُ يؤدي إلى فجوةٍ هائلة بين أبٍ لاقى الأمَرَّين في سبيل هذه الحياة المستقرَّة في الخارج، وعانى معاناةً هائلة في سبيل تأمين سُبل العيش له ولأسرته في أوروبا، وبين الولد الذي ينشأ فيجد كلَّ شيء ميسَّرًا وأن الحياة أمامه موطَّأةُ الأكناف، فلا يكاد يُحس بما فعله الوالدُ حتى يُهيئها له. ولقد عرَفتُ نماذجَ متعددة من هذا التناقض الذي يشهد بعمقِ المشكلة؛ فجيل الأبناء يميل في حالاتٍ كثيرة إلى نِشْدان المتعة وطلب المسرَّات وقد اختفَت من عيونهم مُثلُ الكفاح والنضال في سبيل العلم وفي سبيل تَسنُّم ذُرا التفوق فيه، أو العمل المضني لإثبات الامتياز وتأمين المكانة المرموقة مثلما فعل الجيل الأول، ورأيتُ الأماكن البارزة التي يَشغَلُها الآباء مُهدَّدةً بأن تصبح شاغرةً إذ لا يستطيع أبناؤهم شَغْلَها، بل ولا يكترثون لضياعها. وهنا لا بد أن أؤكد هذا الاتجاهَ إلى التفوق والامتياز باعتباره من عناصر الثقافة المصرية القائمة على العلم والعمل عبر القرون.

الظاهرة إذن وما تُثيره من قضايا تتطلَّب إدراكًا من جانب الجيل الأول لجميع أبعادها، وجهدًا متواصلًا من المقيمين في الوطن الأمِّ لضمان استمرار صورة مصر بلد العلم والعمل — وأم التفوُّق والامتياز.

الضحك والهزل

يخلط الكثيرون بين الضحك والهزل، وربما كان ذلك الخلطُ هو سرَّ شيوع المهازل التي تُسمى — تجاوزًا — بالهزليات المسرحية أي «الفارْس FARCE» وهي أبعدُ ما تكون في الحقيقة حتى عن هذا اللون المسرحيِّ المعترَف به عالميًّا، والتي أصبحت السمةَ الغالبة للمسرح المصري المعاصر، بل وسر ذيوع المفهوم الجديد للمسرح والذي ينحصر في أنه مجموعةٌ من الضحكات التي لا معنى لها. وفي هذه العبارة الأخيرة (وفي جملة الصلة بالتحديد) يكمن الفارقُ بين الضحك والهزل؛ فالضحك نشاط إنساني له معنًى، والهزل هو اللهو أو اللعب الذي لا معنى له.
وعندما وصَفَت الكاتبة الإنجليزية «مسز ويب» الشعبَ المصري بأنه يحبُّ الضحك؛ كانت في الحقيقة تشير إلى خصيصة لم تجدها في شعوبٍ أخرى، وكانت تُحس بأنها من خصائص الإنسان الراقية التي تُحسَب له لا عليه، بدليل أنها قرنَت بينه وبين ما يُسمى اصطلاحًا بالميل إلى التفكُّه أو بالقدرة على رؤية الجانب الفَكِه للأشياء SENSE OF HUMOUR والتي كانت تعتبرها من خصائص الشعب البريطاني دون غيره. ومن معاني المصطلح الأخير سَعة الصدر (أي القدرة على قَبول الرأي المخالف دون غضب، والاحتمال والتسامح)، وهي الترجمة الصحيحة لما جرى العُرف على ترجمته بسعة الأفق BROAD-MINDEDNESS؛ ولذلك فإن صدور هذه الشهادة من كاتبة إنجليزية لم تَعِش طويلًا (١٨٨١-١٩٢٧م) ولم تكتب كثيرًا (خمس روايات ومقالات مجموعة) ولم تَزُر مصرَ مطلقًا فيما أعلم؛ يدعو إلى الدهشة. ولولا صدورُ كتاب جديد هذا العامَ يتضمَّن مقالاتٍ جديدة لم تُنشر لها وبعضَ خطاباتها المجهولة؛ ما التفتَ أحدٌ إليها.

ويبدو أن السيدة «ويب» قد عرَفَت عددًا من المصريين الذين كانوا يترددون في أوائل القرن على إنجلترا طلبًا للعلم، وربما كان ذلك في أعقاب الحرب العالمية الأولى مباشرةً؛ خروجًا على قاعدة الدراسة في فرنسا آنذاك، ويبدو أن السلطات البريطانية التي كانت تُشرف على «نِظَارة المعارف» في مصر في تلك الحقبة كانت تريد تشجيع المصريين على التزود بالثقافة الإنجليزية دعمًا للوجود البريطاني في مصر، حتى لا ترجح كفة التعليم الفرنسي إلى الأبد في الشرق العربي.

وأيًّا كان مصدرها، فالشهادة في ذاتها جديرةٌ بالتأمُّل خصوصًا إذا وُضِعت بجوار شهادات الكثيرين من أبناء بريطانيا الذين عاشوا في مصر أو اختلَطوا مباشرةً بالمصريين، ونحن نفهم من هذا وذاك أن ما راع الأجانبَ في الشخصية المصرية هو قدرتها على السخرية من الواقع وتلوينِه بألوان متناقضةٍ بحيث يكتسب العديدَ من الصور، فإذا كان مريرًا خفَّت مرارته، وإذا كان عابسًا انفرَج عبوسه، وإذا كان حالكًا تبدَّدَت بعضُ ظلماته، وذلك عن طريق قوة الخيال التي تُعتبر من الملَكات الخلاقة في ذهن الإنسان.

والمصري يفعل ذلك من تِلقاء نفسه، دون أن يدفعه أحدٌ إليه؛ فهو يضحك من مصائبه، ويسخر من أحواله، وهو على استعدادٍ في جميع الأحوال للضحك لا لأنه هازل؛ بل لأنه جاد، وجِدُّه معناه قدرتُه على تقدير قِيَم الأشياء ومعرفة ما يمكن التغلبُ عليه وما لا يمكن قهره، فإذا استحال عليه أن يقهر عدوَّه ضحك منه، وإن رأى أن سخريتَه منه ستَزيد من وعي مَن حوله به سَخِر منه بلا هوادة.

أما المعنى الآخر للميل إلى الفكاهة، وهو سَعة الصدر والطاقةُ على تقبُّل الاختلاف، فربما كان مصدرُه لدى المصريين طولَ معاشرتهم للأجانب وطبيعةَ نظرتهم للإنسان أيًّا كانت صورته، وهي نظرةٌ إبداعية في جوهرها؛ فالمصري عندما يشاهد غريبًا أو ما هو غريبٌ عليه، يضعه في إطارٍ مختلف ويقبله داخل هذا الإطار، بل هو يحاول أن يُوسع من أبعادِ هذا الإطار حتى يجعلَه مرنًا متعدِّدَ الألوان، بل وكثيرًا ما ينسج حوله أطُرًا أخرى تُضْفي على غرابته طرافةً تؤكد «المسافة» التي تفصله عنه؛ ومِن ثَم تُيسِّر له قَبوله.

وهذه «المسافة» هي العنصر الفاصل الذي يفرق بين الكوميديا والتراجيديا؛ إذ لا يضحك الإنسانُ إلا على ما هو غريبٌ أو مَن هو غريب عنه، و«الضحك» منه في ذاته حكمٌ عليه، وقد يقترب الحكم من الإدانة أو يقتصر على تأكيد الخطأ أو الزلل فحسب؛ ومن ثَم كانت الكوميديا سلاحًا حادًّا يستخدمه الإنسانُ في محاربة النقائص والعيوب، وهو مذهبٌ جادٌّ من مذاهب المسرح الرفيع بشتى ألوانه التي سبق أن تعرَّضتُ لها في كتابي «فن الكوميديا» (١٩٨٠م) مثل كوميديا الموقف، وكوميديا الشخصية، وكوميديا الكاريكاتير وما إلى ذلك، فالإنسان، كما قيل بحق، يضحك بعقله، ولولا عقلُ الإنسان ما ضحك؛ لأن ضحكه يقوم على إدراكٍ معيَّن، والكاتب المسرحيُّ يحرص على توفير مقوِّمات هذا الإدراك في صورةٍ فنية متماسكة لها معنًى موحَّد. ومن ثَم قد لا يُقهقه المتفرج وقد لا يُجلجل ضحكه وهو يُشاهد إحدى الكوميديات العالمية؛ لأن المعنى يمَسُّ عمقًا بعيدَ الغَور في نفسه يُبقي على الضحك داخليًّا لا تدلُّ عليه إلا البسمات الخافتة.

ولذلك كان الكُتَّاب الساخرون جادِّين — من فكري أباظة ومحمد عفيفي إلى محمود السعدني وأحمد رجب وأحمد بهجت — وكذلك رسَّامو الكاريكاتير وكُتَّاب المسرح، بل والشعراء؛ واستمع إلى حافظ إبراهيم:

قد غَدا القوتُ في يدِ الناس كالْيا
قوتِ حتى نَوى الفقيرُ الصِّيامَا
ويَخالُ الرَّغيفَ في البُعد بدرًا
ويظنُّ اللحومَ صيدًا حَرامَا
إن أصاب الرغيفَ من بعدِ كدٍّ
صاح مَن لي بأن أصيب الإداما

بل إن العقَّاد نفسه (شيخ الجِدِّ) لم يخلُ ديوانه من السخرية! أما الهَزْل الذي نراه اليوم على مسارحنا فهو لونٌ من ألوان التهرُّؤ الفني الذي لا أعرف والله كيف أصفُه. إنه يثير الضحكات ولا شك، وهو يُثيرها بطرقٍ غليظة لا تتطلَّب الكثير من إعمال العقل، ولكنه يفتقر إلى الرُّؤى الموحَّدة التي ترفعه إلى مصافِّ المسرح الحقيقي، ولا يمكن بدون الرؤية الموحَّدة أن يكون للعمل معنًى فني.

إن صورة المسرح في بلدٍ ما ترتبط بصورة عقل شَعبه ووجدانه. فهل أصبحنا شعبًا هازلًا؛ أي لاهيًا عابثًا؟ وهل نملك في هذا العصر وهذه الحقبة العصيبة من تاريخ العالم أن نلهوَ ونعبث — كما يقول صلاح عبد الصبور في «تذييله» لمسرحية «مسافر ليل»؟ لقد أثارت شهادةُ المسز ويب أشجاني، تلك السيدة التي عاشت تُصارع المرض وكانت ذاتَ رؤية مأسوية (مثل توماس هاردي) ولكنها أقرَّت للمصريين بسَعة الصدر وحبِّ الحياة والإشراق. فلنضحك ما شاء الله لنا أن نضحك. ولكن حاشا لله أن نكون من الهازلين.

ثمن الكتاب

قال صديقي في رنَّة انزعاج بادية: «أرأيتَ إلى أسعار الكتب كيف الْتهبَت واشتعلَت؟ لقد اشتريتُ كتاب كذا وكذا بمبلغ كذا وكذا.» وقدَّمتُ إليه في البداية الردَّ الذي اعتدتُه في هذه الأحوال والذي يُفسر غلاء الكتب في إطار غلاء كل شيء؛ لا في مصر وحدها، بل في العالم كلِّه. وانثنيتُ أُحصي الأسبابَ التي أصبحتُ أعرفها جيدًا والتي تتصل بارتفاع أسعار الورق وأحبار الطباعة، وما إلى ذلك من مُستلزَمات الإنتاج، والارتفاع الموازي (وإن كان لا يصل إلى نفس الدرجة) في أجور العاملين بالطباعة والنشر، وما يتصل بذلك من تكاليف الإعلان عن الكتاب وتسويقه — ثم توقفتُ وشَرعت أنظرُ للأمر من زاويةٍ أخرى تمامًا، وهي زاوية القارئ والمشتري.

مَن الذي يشتري الكتب؟ نستطيع أن نفترض أن القرَّاء هم الذين يشترون الكتب، وهذا افتراضٌ معقول؛ لأن النسبة الضئيلة من المشترين الذين لا يبتاعون الكتبَ من أجل قراءتها، بل من أجل جمعِها أو التباهي بامتلاكها تُعتبر استثناءً يمكن إغفاله، فالشخص الذي يدخل مكتبةً ما ويُخرج نقودًا من جيبه لشراء كتابٍ ما، عادةً ما يفعل ذلك بقصد قراءته، سواءٌ قرأه بعد ذلك أم لا. وهذا القارئ الشاري هو محورُ اهتمامنا اليوم. فعندما بدأَت النهضة الحديثة في الطباعة والنشر بعد الحرب العالمية الثانية، كان القارئ من «المتعلمين» أو من «أبناء المدراس» كما كانوا يُسمَّون، وكان يُمثل رأسَ الحربة لجيلٍ جديد من «المثقفين» الذين أشار إليهم ريتشارد كروسمان في كتابه بعثة فلسطين (١٩٤٦م) باعتبارهم طليعةَ ثورةٍ وشيكة في مصر؛ إذ كان يرى فيهم قوةً ما تفتأُ تتزايد، وتُنذر بتغيُّر اجتماعي قريب.

كان معظم هؤلاء من أبناء «القادرين»، ولم يكن طه حسين قد أعلن ثورته التعليمية بعد في عام ١٩٥٠م بقولته الشهيرة إن التعليم كالماء والهواء، وما تلا ذلك من إلغاء المصاريف الدراسية التي حجَبَت الكثيرين عن التعليم العام، وأهدَرَت طاقات الكثيرين من أبناء هذا الوطن النجباء. وكان المتعلمون يعملون في الحكومة — في «الدواوين» التي بدأَت تتكاثر وتنتشر — ويتقاضَون رواتبَ قاربَت بينهم تدريجيًّا وبين أبناء الطبقة المتوسطة «البرجوازية» من التجَّار وأربابِ الصناعة بصفةٍ أساسية. ولم تمضِ أعوامٌ على قيام الثورة حتى أصبح هذا الوضعُ راسخًا؛ إذ أرسَت الثورةُ مبدأ المجَّانية بصورةٍ لا رجعة فيها، وأمَّنَت العمل في «الدواوين» لخريجي الجامعات (التي كَثُرت) والذين كان عددهم طبقًا لإحصاء عام ١٩٦١م يَزيد على ١١٠٠٠٠ في شتى التخصصات.

كانت هذه القوة القارئة في الستينيَّات هي نفسها القوةَ الشرائية للكتب، ولم يكن من العسير تسويقُ سلسلةٍ مثل الألف كتاب الأولى، أو روايات الكُتَّاب النابهين آنَذاك، وأذكر أننا عندما أخرَجْنا مجلةَ المسرح الأولى في مطلح عام ١٩٦٤م (وكان رئيس التحرير هو الدكتور رشاد رشدي رحمه الله) أخذنا نَزيد عددَ المطبوع من الأعداد الأولى التي كانت تختفي فور صدورها حتى وصَل إلى عشَرة آلاف، كما زاد ثمن النسخة بعد ذلك من خمسة قروش إلى عشَرة قروش. وقِسْ على ذلك المجلَّات الأخرى والكتبَ الأخرى التي لم تكن أسعارها تَزيد على قروش معدودة، تمثل نسبةً ضئيلة من دخل (المثقف) الموظَّف، أيًّا كان تخصصه.

وعندما حدث التحول التاريخي في السبعينيات إلى الاقتصاد الحرِّ أو ما يُشبه ذلك من بعيد، وقع خللٌ في «تركيب» هيكل القراء، إذ انتعَشَت طبقةٌ برجوازية جديدة تتَّسم بكل سِمات البرجوازية التاريخية، من عُزوفٍ عن العلم والثقافة بصفة عامة، ونشدان المتعة وأطايب العيش، وإنفاق المال بسخاءٍ على السلع الاستهلاكية، وساعدَ على ذلك — دون شك — تدفقُ الثروات العربية في أيدي العائدين الذين أتَوا معهم بطرائقَ أخرى للعيش غير الثقافة والتعليم، وهذه من سخريات القدر؛ إذ إنهم ما كانوا ليُحققوا ما حقَّقوه دون علم وتعليم.

واستمرَّ هذا الاتجاهُ دون توقُّف حتى التسعينيات، بل إنه ازداد رسوخًا وتمكُّنًا من مجتمَعِنا؛ إذ إنه لم يقتصر على الظواهر الاقتصادية التي ذكَرتُها في بداية المقال، ولا هو مقصورٌ على ثبات الدخول الضئيلة للمثقفين الموظَّفين (مما يعني هبوطها النِّسبي، أي بالنسبة إلى مستويات دُخول الكاسبين الآخَرين) بل إنه أحدثَ أكبرَ خلل يمكن أن يحدثَ لثقافةِ دولةٍ قامت على العلم والتعلم؛ ألا وهو الكفر بقيمة العلم لِذاته، وحلول قيمةٍ أخرى محلَّها هي قيمة كسب المال — وهذه هي الطعنة الحقيقية التي أصابت عمَلَنا الثقافي في مجال الطبع والنشر.

لم يَعُد القارئُ اليوم، وأنا أقصد القادرَ على شراء الكتب، يُقبِل على الكتاب من أجل ما به من «علم»، ولكنه يُدرِج الكتابَ بين طائفة المُتَع التي يوفِّرها له المال — فهو يَنشُد الإثارة فيُقبل على كتب المذكرات السياسية وكتب «المؤرخين» الذين يسبُّون عهدًا بعينه أو يكيلون له المدائح، وهو يَنشُد الاطمئنان واليقين فيقرأ الكتب الدينية، وهو يَنشُد العجائب والغرائبَ فيقرأ عن الجنِّ والسحر وعالم الأرواح (الذي هو غيبٌ لا يجوز الخوض فيه)، وهو ينشُد التسلية والتسرية فيقرأ القصصَ الساذَجة سواءٌ كانت مؤلَّفةً أو مترجمة.

أما طالب العلم، الذي ينتمي إلى دائرةٍ ضاقت فأمْعنَت في الضيق؛ فهو يُواجه كتبًا أجنبيةً ذاتَ أسعار تُمثل التضخُّم الذي اجتاح البلدانَ المتقدمة، أو كتبًا عربية يُمثل سعرُ الواحد منها عشَرةً بالمائة من مرتَّبه بعد أن كان يُمثل واحدًا بالمائة أو أقل! وأذكر أنني شاهدتُ في معرض الكتاب منذ عامين كتابًا أجنبيًّا لا يزيد عددُ صفحاته على مائة، ويزيد سعره على مائة جنيه، فتصفَّحتُه فلم أجد له من القيمة ما يُبرر هذا السعر «الإجرامي»، وكِدتُ أن أقرأه كلَّه واقفًا لولا خشيةُ الاتهام بالسرقة! والقول بأن تتحمَّل هيئةُ الكتاب وحدها عبءَ توفير الكتب الزهيدة الثمن قولٌ ساذَج؛ فالهيئة مؤسسة واحدة من بينِ شتى المؤسسات العامة والخاصة التي تقوم بطبع ونشر الكتب، وهي تنهض بأعباءٍ لا تستطيعها غيرُها، والتكاليف واحدة لدى هذه وتلك، وليست في يدِها عصًا سحريةٌ تستطيع بها تخفيضَ أسعار مستلزمات الإنتاج التي ارتفعَت أسعارُها عالميًّا (بل هي غيرُ مُعفاة من الرسوم الجمركية).

إن أزمة ارتفاع أسعار الكتب أزمةٌ تنبع من اختلاف نوعية القراء، وما حدث للقراءة باعتبارها نشاطًا معرفيًّا في بلادنا. وهذا هو مكمنُ الداء الذي يجب أن نُركز جهودنا للقضاء عليه؛ حتى يعود للعلم احترامُه والحدبُ عليه خالصًا من الاعتبارات المادية.

نساء ورجال

«الحركة النسائية» FEMINISM تعبير جديد نسبيًّا؛ إذ بدأ يدل على مناصرة مطالب المرأة وحقوقها في عام ١٨٩٥م، وكان قد دخَل اللغةَ الإنجليزية لأول مرة عام ١٨٥٠م لِيَعني خصائص الأنوثة، وشتان بين المفهومين! وقد شاع في العشرين عامًا الأخيرة — أو قُل بُعِثَ من مرقده — ليحلَّ محل التعبير القديم الذي أشاعته رائداتُ نصرة المرأة الأُولَيات، مثل ماري وولستونكروفت، زوجة الفيلسوف الإنجليزي وليام جودوين ووالدة ماري شلي (زوجة الشاعر شلي والكاتبة الروائية ومخترعة شخصية فرانكشتاين)، وهو تعبير تحرير المرأة EMANCIPATION والذي ظلَّ مقصورًا على السياقات السياسية في المقام الأول والاجتماعية في المقام الثاني، حتى حلَّ محلَّه تعبير له نفس المعنى، وإن كانت دلالته موجَّهة نحو العلاقة بين الرجل والمرأة — والحرية الجنسية بالتحديد — وهو تعبيرٌ WOMEN’S Lib وبرز للدفاع عنه والقتال في سبيله عددٌ من شهيرات الكاتبات من بينهن جرمين جرير (التي عادت فتنصَّلَت من أفكارها عام ١٩٨٤م)، بينما كان دُعاة الحركة النسائية الجديدة قد نشطوا — رجالًا ونساءً — ليُعيدوا النظر في وضع المرأة على جميع المستويات؛ أي في جميع السياقات، الشخصية منها والاجتماعية والاقتصادية والسياسية بطبيعة الحال.

وقد اقتضت «إعادةُ النظر» هذه إعادةَ نظرٍ في تراث الإنسانية المكتوب، فهو مسجَّل من وجهة نظر الرجل فقط، وهنا لا بد من الإشارة إلى أمرين؛ الأول هو ما يقوله دُعاة الحركة من أن تاريخ البشرية المدوَّنَ يتضمن قدرًا كبيرًا من التزييف؛ لأنه يُغفِل الدور الحقيقي الذي لعبته المرأة في تطور المجتمعات البشرية، والثاني هو الظلم الذي حاق بالمرأة فعلًا على مَرِّ التاريخ فحَرَمها من فرصة المساهمة بما تقدر عليه (وهي لا تقلُّ قدرةً عن الرجل) في دفع عجَلة التقدم الإنساني.

ومع تكاثر الكتب التي تدعو إلى إعادة كتابة التاريخ من وجهة نظر المرأة بحيث تُنصفها مثلما أنصفَ التاريخُ الرجل، وبحيث تُبين مظاهرَ الظلم الذي حاق بها في العصور التي سادها الرجال، تكاثَرت كتبُ النقد الأدبي التي تُركز على صورة المرأة في التراث الأدبي، وهي صورةٌ زائفة خلَقَها الرجلُ وأشاعها وتَوارثَها كي تُرسخ المفاهيمَ التي تضمُّ قيمًا مشكوكًا في صحتها؛ فالرقَّة ليست مقصورةً على المرأة، بل ولا الرحمة ولا الحنان ولا العاطفة ولا «العذوبة الزائفة»، وكذلك فليست صفاتُ الغِلظة ولا القوة ولا العقلانية مقصورةً على الرجل، ولكن الأدباء يتَجاهلون الواقع النفسيَّ وحقائق الحياة نفسها ليُضفوا على المرأة الخصائصَ التي ارتبطَت بها في أذهانهم ربما عن حُسن نية، فيُزيفون بذلك صورةَ الإنسان نفسه.

وقد اتَّسم عام ١٩٩٢م بأنه عام «المناظرة الكبرى» في بريطانيا بين دُعاة الحركة النسائية الذين أصبَحوا ذَوي قوةٍ وبأس شديدَين، وتكاثرت كتبُهم وارتبطت بالمذاهب النقدية الجديدة (على رف المكتبة في منزلنا ما لا يقلُّ عن عشرين كتابًا منها، صدَرَت في السنوات القليلة الماضية) وبين المعارضين المحافظين الذين أساءوا فَهْم الحركة النسائية برُمَّتها فتصوَّروا أنها تُشكِّل تهديدًا لحقوق الرجل في مملكته أو تتضمَّن التهديدَ بتغيُّر صورة المجتمع وصورة الأسرة، ناسين أن هذه الصورةَ قد تغيرت بالفعل منذ أن حقَّقَت المرأة استقلالها الاقتصاديَّ فلم تعد «عالة» على الرجل، ولم يعد عليها أن تتحمل في صمت ما يمليه «رب المنزل» الذي لم يصبح «ربًّا» إلا بفضل ما يُنفقه من مالٍ حرَم المرأة أن تكسبه.

وبرَز من هؤلاء كاتبٌ اسمه نيل ليندون أصدَر في الصيف (١٩٩٢م) كتابًا اسمُه «كفانا حربًا بين الجنسين» NO MORE SEX WAR يحاول فيه ردَّ الظواهر الاجتماعية المقلقة في بريطانيا إلى الحركة النسائية، مثل زيادة معدَّلات الطلاق، وتشتُّت الأبناء، وتفتُّت الأسرات، وزيادة الأعباء المالية التي تتحمَّلها الدولة لرعاية الأسر المصابة وهلمَّ جرًّا. ويستخدم ليندون في كتابه ما يُسميه بلغة الأرقام والتي يزعم أنها لا تكذب، وأزعم أنا أنها أكذبُ اللغات! فالرقم في ذاته لا معنى له، وتفسيره قد يكون صادقًا وقد يكون كاذبًا، وتفسيرات ليندون كاذبةٌ في مجملها؛ فهو يتجاهل أبسطَ قواعد البحث العلمي التي نعرفها نحن الأكاديميِّين وهي تعدد العوامل؛ إذ لا يمكن ردُّ ظاهرة مهما كانت سهلةَ الفهم إلى عاملٍ واحد، وإذا كانت الحركة النسائية من عواملِ تشتت الأسرة في بريطانيا؛ فأهمُّ منها عاملُ الثورة على المجتمع وقيمِه (أي على المؤسسة الاجتماعية) التي أعقَبَت الحربَ العالمية، وعامل رفض الدين وقيمه، ولهذا دوافعُه الفكرية في المجتمع الصناعي المادي وعوامل العزلة الفردية وما تلا تفتُّتَ الإمبراطورية البريطانية من تهرُّؤٍ في صورة الوطن كمؤسسة.
وقد ردَّت على الكتاب كاتبةٌ لامعة هي إيفون روبرتس، بكتابٍ صدر في سبتمبر الماضي (١٩٩٢م) وعُنوانه «الولع بالرجال» MAD ABOUT MAN تُكرِّر فيه ما سبق أن قيل في كتب الحركة النسائية، ثم تختتم حُججَها برصد إنجازات الحركة؛ مثل حصول المرأة على أجر مُساوٍ لأجر الرجل مقابل نفس العمل، والتمتُّع بالحق في المِلْكية الفردية، ومن قبل ذلك حقُّ الانتخاب والمشاركة في الحقوق السياسية وما إلى ذلك.

أما «المناظرة الكبرى» فقد وصلَت ذروتها يوم ٥ أكتوبر ١٩٩٢م حين انقسم المدافعون عن الحركة النسائية ومهاجموها (من الجنسين) إلى فريقَين يستخدمان شتى الأساليب الانفعالية والمنطقية على حدٍّ سواء، يقود الفريقَ المدافع نايجيلا لوسون، بينما ما يزال ليندون على رأس المهاجمين. والغريب أن تلتقيَ بعض حُجج الفريقين دون أن يَدْروا (وهي مسجَّلة في صفحات جريدة التايمز اللندنية) وأهمها وجودُ «عداء» أو «نفور» بين الجنسين — وقد يصل في بعض الأحيان إلى درجة التعصب الذي لا يُصغي صاحبه إلى صوت المنطق.

هل هذا «النفور» أو «العداء» حقيقي؟ هل أدَّت الحركة النسائية إليه؟ هذا هو موضوع الجدل الدائر حتى الآن والذي لم تُفلح الإحصائيات في إيضاح حقيقته.

ترقية أساتذة الجامعة

عندما أقدَمَت الجامعات على تعديل قانونها القديم الذي كان يقصر الأستاذية في كلِّ تخصصٍ على أستاذٍ واحد، وفتحت الطريقَ أمام الجميع للترقِّي إلى تلك «الوظيفة»، لم تنسَ أن تضع بعض الضوابط التي تجعل شاغلَ وظيفة الأستاذية أهلًا لها، فوضَعَت بعض المعايير التي تستند إلى طبيعة تلك الوظيفة نفسها، وأهمها إجراء البحوث العلمية، فالأستاذ الجامعي في المقام الأول باحث، وعمله هو التفكير الدائب، سواءٌ كان ذلك في المعامل والمختبرات أم بين الكتب والأوراق على مكتبه، ولم تنسَ الجامعة أيضًا أن تستعين بمعيار الأقدَمية؛ فالأقدمية في مجتمعنا ذاتُ احترام يصل إلى درجة القداسة والمثل يقول «أكبر مِنَّك بيوم يعرف عنَّك بسنة.»

ومن ثَم وضَعَت الجامعة نظامًا لاختبار أهلية المتقدِّم للترقي يتضمن عرض الأبحاث على لجنةٍ يُختار أعضاؤها من الأساتذة البارزين في التخصُّص العلمي المناسب، وأطلق عليها اللجنة الدائمة Standing Committee تمييزًا لها عن اللجان المخصصة AD HOC أي التي تتشكل لأداء مهمة محدَّدة ثم تنفضُّ، وتتولى هذه اللجنة فحصَ الإنتاج العلمي المقدَّم من «طالب» الترقية، سواءٌ كان مدرسًا LECTURER أم أستاذًا مساعدًا، ثم تكتب تقريرًا ترفعه إلى القسم العلمي الذي ينتمي إليه الطالب، فإذا رأى القسم (الذي يجتمع على مستوى الأساتذة) أن التقرير عادلٌ ومنصف؛ أوصى بقَبوله ورفعه إلى مجلس الكلية (الذي يتكوَّن من الأساتذة أيضًا)، فإذا وافق عليه رفَعه إلى مجلس الجامعة (الذي يتكون من العمداء)، فأصدر المجلسُ الأخير قرارَ الترقية.

وعلى مدى الأعوام العشرين الماضية تقريبًا حقَّق هذا النظامُ نجاحًا لا بأس به؛ فهو كأيِّ نظام قضائي يسمح باختلاف وجهات النظر وبالمداولات والتظلُّم والاستئناف ونقض الأحكام، وقد شهدت أول حالة تظلَّم فيها المتقدمان للترقي لوظيفتَي أستاذ مساعد وأستاذ في أحد أقسام كلية الآداب في أواسط السبعينيات؛ إذ تظلَّما من قرار اللجنة، فاتخذ مجلسُ الكلية قرارًا بتشكيل لجنةٍ أخرى أنصفَتهما، وأخذ العدلُ مجراه، فالنظام الذي يأخذ في اعتباره أن البشر بشرٌ قد يُخطئون مثلما يُصيبون لا بد أن ينجحَ في النهاية مهما كانت العثرات.

ولكن تشكيل اللجان المذكورة على أساس الأقدمية فقط — والأقدمية توحي بالعدل — خلَق هُوَّة بين شباب العلماء وبين قدمائهم، فلم يَعُد التميز أساسًا للانضمام إلى اللجنة (على أساس النشاط العلمي للأستاذ منذ حصوله على الأستاذية مثلًا)، بل عدد السنوات التي يقضيها على ظهر الأرض، ولو دون اقترابٍ من العلم. وأخذت الهوَّة تزداد اتساعًا مع نشأة الجامعات الإقليمية حيث تقلُّ الأقدمية المطلوبة للترقي عن الأقدمية المطلوبة للترقي في الجامعات الكبرى، وازدادت حالاتُ التظلم من أحكام اللجان، والاحتكام إلى مجالس الأقسام ومجالس الكليات ومجالس الجامعات.

وقد ساهم في إيجاد هذه الهوة تسميةُ لجانِ فحص الإنتاج العلمي باللجان الدائمة؛ إذ تصوَّر البعض أنها مؤسساتٌ ثابتة لا يمكن المساسُ بها، ولا رادَّ لأحكامها، ولكنها في الحقيقة لجان مثل لجان (مجالس) الأقسام والكليات، وأعضاؤها قد يكونون أعضاءً في المجالس المذكورة، وهم لا يُشكلون هيئةً منفصلة عن الجامعة أو كيانًا مستقلًّا يمكنه إملاء أي شيء على مجلس الكليات أو مجلس الجامعة. ولذلك نص الشارع على قَصْر مهمتها على كتابة تقريرٍ عن الأعمال العِلمية للمتقدم، ورفعِه إلى هيئات إصدار القرار.

وأظنُّنا في حاجةٍ ماسَّة إلى إعادة النظر في التشكيل الجغرافي أو الإقليمي لبعض هذه اللجان؛ نِشْدانًا للعدل، وإعادة النظر في الأقدمية أيضًا باعتبارها الأساسَ الأوحد الذي يُحقق الإنصافَ والمساواة. فجامعات العالم المتقدم لا تعتمد على الطاعِنين في السنِّ فقط في إدارة شئونها العِلمية — فهؤلاء يُشكلون مجلس شيوخ الجامعة THE SENATE كما هو الحال في جامعة لندن مثلًا، أما الأمور الخاصة بالتعيين والترقية فهي في أيدي الأساتذة النابهين، صغارًا في السنِّ كانوا أم كبارًا. ولقد نجَحَت الجامعة أيَّما نجاحٍ عندما جعَلَت إدارة الأقسام العلمية دورية، أي بالتناوُب بين الأساتذة، وجعلَت عمادة الكليات بالانتخاب؛ فهي وظيفةٌ إدارية لها ملامحُ ومقومات سياسية (وإن كانت لا تتصل بالسياسة Politics) وأثبتَت كُلِّيتنا العتيدة (آداب القاهرة) نجاحًا بعدَ نجاح في تطوير العمل بها عن طريق هذا النظام، ولكننا ننظر إلى بعض لجان الفحص المذكورة وفي حُلوقنا غُصَّة؛ فهي «دائمة» كأنما هي قدَرٌ لا يُغير منها إلا مُغيرُ الأحوال سبحانه وتعالى.

فلْنُعِد النظرَ في معايير الأقدمية؛ فالعلم ليس بالضرورة تراكميًّا، ولا هو كالخمر يحسن بمرور السنين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤