عملية التفاوض
أشرنا بالفعل إلى ضرورة وصول الدول داخل النظام الدولي إلى اتفاقات تعاون تحل المشاكل المرتبطة — أو على الأقل، تقلِّلها إلى حدٍّ كبير — التي تسبَّب فيها نظام الطاقة المعتمِد على الكربون والاحترار العالمي المتواصل. إن التفاؤل الناتج عن الاعتقاد بأن السوق وبراعة الإنسان ستستجيبان بسرعة وفاعلية لهذه التحديات لم يختفِ بشكل كامل، ولكن حتى المدافعون الأشداء عن ذلك يُقِرُّون الآن بإمكانية أن السوق لن تستجيب بسرعة أو بفاعلية كافية حيال ندرة الطاقة والتدهور البيئي. مع ذلك، بينما لا تزال بعض الشكوك موجودة في التفاصيل حول ما يحدث ومدى سرعة حدوثه وماذا يمكن أو يجب القيام به، فإنه يتزايد أيضًا الإقرار بأن التغيرات البيئية في بعض المناطق يمكن أن تكون دائمة، وأننا نعرف ما يكفي لإدراك الحاجة إلى بذل جهود تعاونية لخلق اقتصاد طاقة جديد يمكن أن يعيق أو يقلل من معدل نمو الاحترار العالمي.
(١) فترة انتقالية
كانت توقعات الانتقال الحميد إلى نظام دولي جديد متعجلة؛ فقد جلبت العولمة الرخاء، ولكن عدم المساواة ازداد أيضًا، ولم تقدِّم الانتخاباتُ في الدول الحديثة العهد بالديمقراطية الفوائدَ المتوقعة على الفور، وقاومت العديد من الأنظمة الاستبدادية التحولات المرجوة بكل قوة. علاوة على ذلك، مع استمرار تَفاقُم بعض النزاعات القديمة وظهور نزاعات أخرى جديدة، اختفت فكرة الانتقال السلس والتدريجي لنظام عالمي جديد. وأدى انهيار البنية المالية العالمية في عام ٢٠٠٨ وما بعده، فضلًا عن عدم اليقين والقلق بشأن ما قد يحل محلها، إلى زيادة صعوبات تحويل اقتصاد الطاقة في العالم، وصعوبات تجنب التركيز المفرط على حسابات المصلحة الذاتية القصيرة الأمد.
(٢) أسوأ مخاوفنا
-
صعود الصين والهند؛ المتنافستين القويتين على الموارد والقوتين الاقتصاديتين والعسكريتين الصاعدتين، واللتين ليستا على استعدادٍ دائمًا للتعاون في السعي لتحقيق المنافع العامة الدولية أو للحدِّ من استخدامهما للوقود الكربوني.
-
القومية العدوانية لروسيا بوتين.
-
الصعوبات التي يواجهها الاتحاد الأوروبي في الحفاظ على زخمه التكاملي، لا سيما مع إضافة عدد كبير من الدول الفقيرة ذات الثقافة السياسية المختلفة.
-
تزايد العداء للولايات المتحدة في ظل إدارة بوش وتشيني؛ وهو الأمر الذي ستجد أيُّ إدارة — حتى إدارة أوباما الأكثر شعبيةً — صعوبةً في تغييره بسرعة.
تخلق هذه التطورات تعقيدات متعددة الأبعاد وشكوكًا حول كيفية التفاوض على اتفاقات تعاونية في خضم الكثير من المصالح المتباينة والصراعات الأيديولوجية والضغائن الملتهبة ومستويات التنمية المختلفة. أو بعبارة أخرى، استُبدِل بالرؤى الحميدة التي ظهرت بعد الحرب الباردة للعولمة والديمقراطية رؤية خبيثة على الأرجح لصراع ومنافسة متجددين، وسياسة جغرافية رجعية وخطيرة. في هذه الظروف، فإن الفجوة المألوفة بين الحاجة إلى مستويات عالية من الحوكمة الدولية الفاعلة والتعاون، وقدرة أو رغبة الدول أو المؤسسات الدولية في توفير هذه الحوكمة؛ من المتوقع أن تكون أوسع من أيِّ وقت مضى.
يمكن أن يُستمد استنتاج مماثل من إمعان التركيز على السياسة الجغرافية للطاقة. فلأكثر من ثلاثة عقود، بغض النظر تقريبًا عن سعر النفط المتقلب، حذر مختلف العلماء وخبراء النفط والشخصيات السياسية، أحيانا بشدة، من الأخطار التي تنتظر العالم المتقدم — بل تنتظر أيضًا الدول النامية غير النفطية — إذا لم تُبذل جهود كبيرة للحد بشكل جذري من الاعتماد على مصدر طاقة هو العامل الرئيسي المتسبب في الاحترار العالمي، والذي من المتوقع أن يصبح أكثر ندرةً وتكلفةً، والخاضع إلى حدٍّ كبير لسيطرة قوًى عدائية و/أو غير مستقرة. قوبلت هذه التحذيرات بتجاهل من كثيرين؛ لأن الرأي العام لم يُوقظ بما فيه الكفاية لتغيير السلوكيات؛ حيث تقوض التقلبات الحادة في الأسعار دعم تطوير أنواع وقود بديلة أكثر تكلفة. وجاءت مقاومة إضافية من شركات الطاقة الكبيرة القادرة على الضغط على الحكومات الضعيفة والمنقسمة غير الراغبة في المخاطرة بسياسات قد تكون مكلفة.
يجدر التأكيد على أن توقع الأسوأ والتصرف كما لو أنه هو النتيجة الأكثر ترجيحًا للنزعات الحالية ربما يخلق جمودًا سياسيًّا؛ لأن كل الخيارات تبدو سيئة للغاية. ومن المتوقع أكثر أن تتحقق مخاوف المتشائمين لو لم نفعل شيئًا أو نتراجع إلى موقفِ «كلُّ شخص مسئولٌ عن نفسه» اليائسِ، ولكن من المهم أن نؤكد على أن الحتمية البيئية مغالية في التبسيط، وأنه لا يزال بإمكاننا اتخاذ خيارات يمكنها التأثير كثيرًا على مصيرنا، وأنه حتى في أسوأ الظروف لا تزال توجد خيارات يمكن اتخاذها — أو يجب ذلك — من شأنها أن تحسِّن أو تقلِّل من التكاليف والأخطار. وسوف نتناول بعناية أكبر في بقية هذا الفصل موضوعَ إنْ كانت توجد طرق ووسائل لتحسين احتمالات وجود اتفاقيات تعاونية ناجحة.
(٣) إرشادات نظرية التفاوض
- (١)
يجب أن يعكس أيُّ اتفاق مصالحَ الأطراف، ويجب أن يشعر جميع الأطراف أنهم يكسبون من التوقيع أكثر مما يكسبون من الانسحاب.
- (٢)
إن الرغبة في المعاملة بالمثل في المفاوضات المقبلة، والرغبة في الحفاظ على سمعة بالوفاء بالالتزامات؛ سببان مهمَّان للحفاظ على الاتفاق.
- (٣)
إن تخطيطات المدفوعات الجانبية والتعويضات والربط بين القضايا ربما تحثُّ الدولةَ المترددة على التوقيع وتنفيذ الاتفاقيات.
- (٤)
لا بد من أن تكون القيادة من قِبَل أقوى دولة أو دول، وربما تكون ذات أهمية خاصة إذا كانت الدولة القائدة على استعداد لدفع تكاليف المنافع الجماعية للاتفاق (أيْ سوف تدفع في البداية أكثر من حصتها المقررة من التكاليف).
- (٥)
يجب أن يُرى الاتفاق عادلًا، ويجب ألَّا يبدو تقسيم الأعباء غير منصف.
- (٦)
ربما تكون في بعض الأحيان التهديدات المعقولة ضروريةً لضمان الامتثال وتجنُّب الانتفاع بالمجان.
ومن الواضح أيضًا وجود خوف شديد — خاصة في التفاوض مع كثير من المشاركين أو مع أعداء قدامى — من ألَّا يمتثل الطرف الآخر لشروط الاتفاق. فإذا كان تداخل المصالح واضحًا جدًّا، وإذا كانت التوقعات حول ما سيفعله الاتفاق متقاربة، فإن هذا يساعد في مثل هذه الظروف. هذا يعني أيضًا أن الثقة في المشاركين الآخرين في الاتفاق ستكون أعلى إذا وُجدت درجة معينة من الثقافة المشتركة والخبرات المشتركة، ووُجِد تاريخ مشترك من احترام الاتفاقات السابقة. ومن الواضح أن هذه الخصائص تعاني نقصًا في ساحة المفاوضات البيئية التي تجمع معًا مجموعة كبيرة من الدول.
التحليل شيء، والممارسة السياسية ربما تكون شيئًا مختلفًا تمامًا. ومن ثَم، ربما توجد أفضل هذه الظروف، ولكن تفشل في تحقيق النتائج المرجوة، إذا غلبت الخلافات والشكوك المذكورة. خلاصة القول، إذا أردنا التفاوض للخروج من المآزق الحالية، فعلينا أن ننظر إلى ما هو أبعد من المقترحات المنطقية أو العقلانية لنظرية التفاوض للبناء على هذه الأفكار من أجل توسيع نطاق منظورنا. يتمثل جزء من المشكلة في أن الطاقة والبيئة لا يمكن عزلهما عن أيِّ شيء آخر يحدث في الأنظمة المحلية والدولية؛ ففي كل الأوقات، ترتبط هاتان المسألتان بكل شيء آخر تقريبًا، لا سيما القيم، والأيديولوجيات، وتوزيع التكاليف والفوائد، والسلطة السياسية والاقتصادية، وتوقعات التنمية، والجشع التجاري، وربما السمعة الشخصية أيضًا.
توجد نقطتان بسيطتان تُستخلصان من هذه المناقشة: الأولى واضحة؛ وهي أنه يجب علينا أن نبدأ بالاعتراف «بجميع» العقبات التي تعترض التعاون؛ العقبات السياسية والاقتصادية وكذلك العلمية، فتجاهلُها أو الحديث عن ضرورة وجود «إرادة سياسية» مبهمة لحلها أمرٌ عديم الفائدة. والنقطة الثانية هي أن ندرك أن مشاكل الطاقة والبيئة لن تُحَلَّ بمجرد توجيه مناشدات من قِبَل المشاهير أو بالإشارة إلى دراسات علمية مفصلة. المشكلة الرئيسية هي كيفية بناء تحالفات على الصعيدين المحلي والدولي تكون قوية بما فيه الكفاية وملتزمة بما يكفي للتوصُّل إلى اتفاقات حقيقية «برغم» الصعوبات المحيطة بها. ربما توجد مخاطر في اتخاذ إجراء ما، ولكن توجد مخاطر أكبر في عدم اتخاذ أيِّ إجراء، ويمكن دائمًا انتقاء خيارات أفضل أو أسوأ، حتى في أسوأ الظروف. ونعتذر للمتشائمين؛ فلا يمكن القطع بحدوث الكارثة حتى الآن.
(٤) دروس مفيدة من الماضي
من الناحية المثالية، ما نسعى إليه من خلال مزيج من السياسات المحلية الأحادية الجانب والاتفاقات الدولية التعاونية أمرٌ واضح؛ وهو سياسات سليمة علميًّا، ومنطقية اقتصاديًّا، وبراجماتية سياسيًّا.
إجمالًا، كان لدينا شيء أقرب إلى ما يحلم به المفاوض؛ اتفاقيةٌ تبدو عادلة للجميع، وكانت وسيلة فاعلة لتحقيق هدف مشترك، ولم تترك مشاركًا في حالٍ أسوأ من حاله الراهنة. وعلى النقيض، فشلت اتفاقية كيوتو؛ لأنها كانت تتعامل مع مشكلة أكثر تعقيدًا من ذلك بكثير؛ فكانت لا تزال توجد بعض الخلافات العلمية حول الأسباب والآثار، وربما تكون تكاليف التنفيذ ضخمة، ووُضعت الأهداف والجداول الزمنية على نحوٍ بدا غير كافٍ لكثيرٍ من مناصري حماية البيئة، وربما قبل كل شيء، كان السبب يتمثل في رفض الدول المهمة مثل الولايات المتحدة والصين والهند التوقيعَ على الاتفاق؛ ومن ثَم تعثرتْ الاتفاقية وفشِل الكثيرُ من الدول في الوصول إلى الحد الأدنى من الأهداف الموضوعة.
إن أوجُه الاختلاف بين مونتريال وكيوتو مثيرة للاهتمام ويمكن أن تكون مفيدة، لكنها قد تكون أيضًا مضللة إلى حدٍّ ما؛ فالظروف التي جعلت من اتفاقية مونتريال ممكنة — حدوث أزمة، ووجود هدف بسيط، بالإضافة إلى التوصل إلى حل توفيقي وليس مكلفًا للغاية — قد لا تُعاود الظهور في أيِّ وقت قريب؛ في الواقع ربما لن تتكرر مونتريال مرة أخرى للأسف، ولكن الظروف التي تسببت في فشل كيوتو من المرجح جدًّا أن تتكرر كلها. في الواقع، لا يزال الكثير من الاستراتيجيات والتخطيطات التي استخدمت خلال مفاوضات كيوتو الأصلية مصدرًا للخلاف والنقاش خلال الجهود المبذولة لإعادة التفاوض حول بنودها، وسنركز في هذا الجزء في المقام الأول على بعض المشكلات العامة التي لم تنشأ في مونتريال وكيوتو فقط، ولكن أيضًا في مختلف المفاوضات الدولية الأخرى. وسوف نسعى في الفصل القادم إلى الانتقال من العام إلى الأكثر عملية، وسوف تركز الفصول اللاحقة على خيارات سياساتية محددة.
تتمثَّل إحدى المشكلات التي طَفَتْ على السطح مرارًا وتكرارًا في الشواغل بشأن مَن يُسمَح له بالجلوس إلى طاولة المفاوضات. وتوجد إيجابيات وسلبيات في كل مكان، سواء كانت المفاوضات في مؤتمرات عالمية كبيرة، أو مؤتمرات إقليمية، أو مجموعات مختارة ذاتيًّا مثل «مجموعة العشرين» أو «مجموعة الدول الثماني» أو «مجموعة الثماني زائدًا عليها خمس» أو «ائتلافات للقوى الراغبة». فتتغير الظروف وتظهر الفرص وتتطور، وما يبدو مثاليًّا في أحد الترتيبات قد يكون دون المستوى الأمثل في ترتيب آخر.
نظريًّا، تبدو المؤتمرات العالمية هي الأفضل؛ نظرًا لمستويات المشاركة العالية والشرعية الضمنية لهذه المجموعات العالمية أو شبه العالمية، كما أنها يمكن أن تكون مفيدة في رفع مستوى الوعي ووضع القضية على جدول الأعمال الدولي، مع أن هذا يمكن أن يكون بعيدًا عن التأثير الكبير على التنفيذ. ويمكن أن تبدو كل المستويات التفاوضية الأخرى في المركز الثاني في الأفضلية — إذ تتمتع بمشاركين أقل وشرعية نظامية أقل — لكنها يمكن أيضًا أن تكون أكثر فاعليةً في توليد مستوياتٍ أعلى من الأداء واستعداد وقدرة أكبر على تنفيذ السياسات. وعلى النقيض، ربما لا تؤدي المؤتمرات الكبرى إلا إلى حل وسط مخفف، يغلف الخلافات حول القضايا الأساسية، وسرعان ما يُنسى عندما تعود الوفود للوطن. إضافة إلى ذلك، نظرًا للصعوبات الواضحة للمفاوضات المعقدة بين عدد كبير من الوفود، فإنه ربما يعتمد الكثير على معرفة إن كان قد تم التفاوض على الوثيقة النهائية مسبقًا من قِبَل مجموعة صغيرة من البيروقراطيين الحكوميين من البلدان الرئيسية أم لا.
بصفة عامة، تُناصِر البلدانُ النامية بشدةٍ المؤتمراتِ الكبيرةَ التي توفر لهم مقعدًا حول الطاولة وفرصة أكبر للحصول على المزيد من المساعدات الخارجية في مقابل الدعم. ولم تُحلَّ مشكلة المكان تلك؛ وذلك لأن الدول ذات المصالح المختلفة قد يكون لها تفضيلات مختلفة حول أفضل مكان للمفاوضات. ربما تكون إحدى نتائج ذلك أن تُجرَى المفاوضات على جميع المستويات في وقت واحد، وهو أمر على أقل تقديرٍ مكلفٌ ومُرْبك ويحتمل أن يؤدي إلى التضارب؛ حيث تظهر معايير مختلفة وتُقبل التزامات مختلفة. مع ذلك، ربما يكون من الصحيح أيضًا أنه بما أن السياسات الناجحة يجب أن تحدث على جميع المستويات — المحلي والوطني والإقليمي والدولي — ربما تكون العملية التفاوضية المتعددة الأبعاد ضرورة حتمية، مهما كانت الخسائر في الكفاءة. ولا يتمثل الهدف بطبيعة الحال في عملية تفاوض فاعلة ومنصفة فحسب، ولكن أيضًا داعمة على نحو متزايد.
توجد مسألة أخرى تتعلق بحقيقة أن النظام الدولي يفتقر إلى المؤسسات ذات السلطة السيادية للإجبار على تنفيذ القرارات؛ ومن ثَم معظم الاتفاقيات — لا سيما التي تتضمن أعدادًا كبيرة من المشاركين — يجب أن تكون ذاتية التنفيذ. وللمرء أن يتوقع وجود انحياز أقوى نحو التنفيذ والامتثال في الاتفاقيات بين الدول التي تتشارك في التقاليد الثقافية والخبرات التاريخية ومستويات التنمية المماثلة، ويمكن أيضًا في هذا السياق أن يوجد مزيد من القلق حول الحفاظ على سمعة قوية بالالتزام بالاتفاقيات. في الواقع، يجب أن ترى الدول مصلحة ذاتية قوية في الوفاء بالالتزامات، ويجب أن تثق أيضًا في أن الآخرين سوف يشاركونها هذا التوجُّه. ولكن مثل هذه الاتفاقيات صعبة؛ بسبب الشك في وفاء الآخرين بالتزاماتهم (لا سيما إذا كان تاريخهم المسجل سيئًا)، وشيوع الرغبة في الانتفاع بالمجان، على الأقل حتى يوجد دليل على الامتثال الممتد أو استعداد جدير بالثقة لفرض عقوبات صارمة على عدم الامتثال، وسوف نعود إلى هذه المسألة في الفصل التالي.
وينبغي أيضًا الإقرار بأن التفاوض على اتفاقية — على أيِّ مستوًى، ومهما كان عدد المشاركين، ومهما كانت نوايا الامتثال — يمكن أن يحثَّ المشاركين على تنفيذها، لا لسبب إلا اكتساب سمعةٍ موثوق بها بالامتثال للشروط، أو تعزيز فكرة أن انتهاك شروط الاتفاقية يمكن أن يشكل سابقة سيئة على نحو خطير. وأظهرت المفاوضات في وقت الحرب الباردة أنه حتى ألدُّ الأعداء يمكن أن يروا فوائد الامتثال للالتزامات عندما يتوقعون المكاسب، ويكونوا حريصين على اكتساب سمعة باستحقاق الثقة. ويعد أيضًا الالتزام السوري والمصري بمختلف الاتفاقيات مع إسرائيل مثالًا توضيحيًّا على ذلك، ويمكن رؤية النقيض التام لذلك في الإخفاقات المتبادلة بين الفلسطينيين والإسرائيليين في تنفيذ بنود اتفاقية أوسلو.
(٥) ما الذي يجب أن تحققه المعاهدة؟
ما نوع المعاهدة التي سيبدو من مصلحة الجميع التصديقُ عليها وتنفيذها؟ باستثناء وقوع أزمة ساحقة تتقدم على حسابات المصلحة الذاتية الضيقة، يجب أن تلبي هذه المعاهدة معايير العدل الواسعة الاختلاف. ونظرًا للتفاوتات الكبيرة في السلطة، فإن هذا يعني أن معيارًا واحدًا للعدل أو الإنصاف قد يسود، ولكن ستزداد احتمالات فاعلية الاتفاقيات إذا كان الطرف الأقوى مدركًا لضرورة تجنب مظهر (أو حقيقة) فرض وجهات نظره. من الواضح أن هذا مهم في السياق الحالي؛ لأن التفاوتات في السلطة والثروة والإمكانات العلمية كبيرة للغاية، ولدى الدول النامية شكاوى معقولة بشأن مَن ينبغي أن يتحمل تكاليف الحد من المستويات الحالية من غازات الدفيئة، وتكاليف وضع وتمويل منهج أقل في كثافة الكربون من أجل التنمية والحد من الفقر. وسوف تصبح المساهمة القوية والمقسمة على مراحل من جانب معظم البلدان النامية ذاتَ أهمية متزايدة؛ فالمساعدة ضرورة وليست رفاهية.
ثمة فارق واحد هو أن منتقدي الأهداف والجداول الزمنية ركزوا على السلوك القديم، في حين أن ستيرن يركز على الاحتياجات الحالية. يبدو غالبًا أن هذا يعكس حكمًا حول مدى حتمية التصرف بسرعة بحيث تكون التخفيضات الكبيرة في طريقها للحدوث قبل عام ٢٠٢٠ (وبديهيًّا بعد ذلك)؛ إذا آمن المرء بأنه «يجب» تحقيق تخفيضات كبيرة بحلول عام ٢٠٢٠، وإلا فسوف يصبح الاحترار العالمي كارثة لا يمكن علاجها، فإن الأهداف والجداول الزمنية الجادة يجب أن تكون إلزامية، ويجب معاقبة الانتهاكات بشدة. يبدو بالفعل أن مخاطر عدم التحرك بسرعة كافية أكبر بكثير من مخاطر المطالبة بجهود فورية للحد من الانبعاثات؛ فعلى هذا النحو، أيًّا كانت المشاكل المحتملة للأهداف والجداول الزمنية، فإن عدم وضعها يعكس حكمًا بأنه يمكن تحمل مخاطر الاستجابة المحدودة. وفي أيِّ حال، ينبغي للتسوية الواضحة للأهداف والجداول الزمنية المقسمة على مراحل لمعظم البلدان النامية (لكن ليس الصين والهند منها) أن تكون كافية للعقد القادم أو نحو ذلك.
(٦) إلى أين نتجه؟
ما مدى الفائدة المستقاة من هذه التعميمات؟ إنها أفضل ما تمكَّنَّا من العثور عليه، وهي بشكل عام أحكام واقعية حول حدودِ ما هو ممكن في السياق السياسي والاقتصادي والاجتماعي الحالي. وهكذا فإن النصائح بأن نكون مَرِنين، وأن نركِّز على النظم اللامركزية غير الملزمة، وألَّا نضع أهدافًا وجداول زمنية ثابتة إلا عندما نكون متأكدين على نحو معقول أنها ضرورية، وأن نركز على إقامة مؤسسات وأطر سياساتية بدلًا من وضع سياسات محددة يمكن أن تصبح مختلة سريعًا؛ هي كلها اقتراحات معقولة حول مسار العمل الصحيح.
ومع ذلك، من العدل أن نسأل إن كانت الأهداف المعتدلة والوسائل المرنة كافية أم لا. ففي الغالب، الفارق الرئيسي بين البراجماتيين والمتشائمين هو الوقت؛ أيْ إن الخلافات تنتهي عندما تصبح مشاكل الطاقة والبيئة أسوأ كثيرًا، وليس عندما يكون ذلك محتملًا. ونظرًا لعدم اليقين حول مدى ما نمتلكه من وقت، تتطلب المشكلة الرئيسية تقييمًا شخصيًّا في الأساس للمخاطر، بعبارة أخرى: بما أن المنهج المعتدل قد لا يسفر عن نتائج معتبرة بالسرعة الكافية، والمنهج الراديكالي يمكن أن يكون مكلفًا للغاية، ويمكن أن يكون مضللًا (أيْ نختار المنهج الراديكالي الخطأ)، ويمكن أن يتضح أنه لم يكن ضروريًّا؛ فأيَّ مخاطر نريد خوضها؟ ومَن الذي سيتخذ القرار في أيِّ نوع من ساحات التفاوض؟ إذا لم يكن من الممكن التوصل إلى أفضل اتفاقية أو الاتفاقية الضرورية على الحد الأدنى، فكيف يمكننا تقليل مخاطر فشل السياسات الدولية وزيادة احتمال الاقتراب التدريجي من مستوى «الجيد بما فيه الكفاية»؛ أيْ الاتفاقية التي تحقِّق تقدُّمًا مطردًا نحو الأهداف المشتركة بإنشاء اقتصاد طاقة جديد وبتقليل الاحترار العالمي والعمل بإنصاف تجاه الأغنياء والفقراء والأجيال الحالية وأجيال المستقبل؟ سوف نستكشف هذه القضايا في الفصل التالي، ناظرين عن كَثَبَ في مسألة الامتثال، مع استكشاف بعض الأفكار المستحدثة في المفاوضات التجارية وفي تنمية الاتحاد الأوروبي، وسندرس التدرُّج من حالة لأخرى — «هندسة المتغيرات» — والتعميق مقابل التوسيع. ونادرًا ما تصلح أفكار من سياقات أخرى لمشكلة جديدة بشكل كامل، لكن يمكن أن تكون مفيدة في توليد رؤًى أو وجهات نظر جديدة. وسوف نتناول مرة أخرى أيضًا مسألة أشكال المفاوضات، وإن كان تضمين جميع أو بعض «الأطراف المعنية» — على مدى تحديد هذا المصطلح — سيحسِّن آفاق نجاح المفاوضات ويجعل العملية التفاوضية أكثر شرعية؛ وسيكون الهدف على طول الطريق هو العثورَ على بعض الوسائل العملية لتقليص العقبات التي تعترض طريق الوصول لاتفاقيات دولية قابلة للنجاح.