المعنى الإحالي في الترجمة العلمية
وقد لا تكون مشكلة الإحالة من المشاكل التي يُعتدُّ بها في
العلوم الطبيعية كالفيزياء والكيمياء مثلًا، بسبب ثبات
المصطلحات، والاتفاق شبه الكامل على معانيها، خصوصًا بين
اللغات التي تنتمي إلى أسرةٍ لغويةٍ واحدةٍ، أو التي شاعت
بصورةٍ موحَّدةٍ بين شتى اللُّغات، كأن تغزو كلمةٌ مشتقَّةٌ من
اليونانية عدةَ لغاتٍ أوربِّيَّةٍ، وإن اختلف هجاؤها وفقًا
لكلِّ لغةٍ؛ فهي تُكتب بصورةٍ متشابهةٍ تعفي القارئ من
ترجمتها، ولكننا نعرِّب بعضها في العربية، ونترجم البعض الآخر
مما يسبب لنا شتَّى ألوان العَنَت.
فعندما اتُّفق على ترجمة
atmosphere بالغلاف
الجوَّي؛ تحاشيًا لكلمة الجوِّ التي يمكن أن تعني حالةَ الجوِّ
weather (أو الطقس، الكلمة
المحدَثة) أو الهواء المحيط بالأرض
circumambient air،
وخصوصًا air التي قد تشير إلى
الهواء باعتباره مجموعةً من الغازات
gases، والهباء
aerosols (والكلمة تعني
أيضًا بخَّاخات السوائل القاتلة للحشرات، أو الناشرة للعطر) أو
إلى حالة الجو؛ فالطيارون يشيرون إلى all-air
combat aircraft أي الطائرات المقاتلة في
جميع الأجواء، ويقصدون بها
all-weather أي جميع حالات
الجو، ويستخدمون الاصطلاحين بالتناوب
alternatively.
أقول: عندما اتُّفِق على تلك الترجمة، استنادًا إلى التفرقة
بين الغلاف الجويِّ، والغلاف الحيويِّ مثلًا
biosphere؛ أي الكائنات
الحية من نباتٍ وحيواناتٍ على ظهر الأرض، نشأت مشكلةُ مفهوم
الغلاف، فإذا كان معناه الغطاء، أصبح يشتبك مع تعبيراتٍ
علميَّةٍ أخرى، مثل الغطاء الحرجي forest
cover (أي الغطاء الذي يتكون من الغابات)،
والغطاء الأخضر green cover
(أي الغطاء النباتي)، والغطاء الأرضي ground
cover (أي الأعشاب التي تزرعُ حتى تمنع
التربة من الانجراف)، والغطاء الأرضي land
cover (أي الغطاء النباتي للأراضي)،
والغطاء النباتي vegetation
cover، وكلها تشترك في معظم الدلالة،
وتختلف اختلافاتٍ دقيقةً لن تُفصِح عنها الترجمة.
فالمقطع sphere الذي يوازي
الغلاف هنا، ليس غلافًا بالمعنى المفهوم، ولكنه يدلُّ أصلًا
على الشكل الكرويِّ اشتقاقًا واصطلاحًا؛ ومن ثمَّ تعذرت ترجمةُ
الكلمات الأخرى التي تشير إلى طبقات الغلاف الجوي، مثل
الأيونوسفير ionosphere؛ أي
الطبقة المتأيِّنة، والكلمة الأخيرة معرَّبة عن الأجنبية
ion، التي وضعها العالم
الإنجليزي مايكل فاراداي Michael
Faraday بصورةٍ توقيفيَّة
arbitrary للإشارة إلى
اكتساب الذَّرَّة شِحنةً موجبةً أو سالبةً أثناء التفاعل
الكيميائي، وقد فضَّل العلماءُ الإبقاء على صورتها الأجنبيةِ
لصعوبة استخدام كلمة الكهرباء ومشتقاتها، التي أصبحت تقتصر على
الإلكترون electron (الكهرب)
ومشتقاته، وقِس على ذلك الكلمات التي تشيرُ إلى سائر طبقات
الغلاف الجوي، نوردها بسبب أهميَّةِ ترجمة مقاطعها المشتقة من
اليونانية، والتي قد تضلِّل المترجِم إذا لم يكن محيطًا
بالمادَّة العلمية، وهي ليست عسيرةَ المنال لمن يريدُ
الاستزادة من العلم باللغة.
وهذه هي بالترتيب من أسفل إلى أعلى:
troposphere (حتى ١٠كم)،
ثم tropopause (١٠–٢٠كم)، ثم
stroposphere (٢٠–٥٠كم) ثم
stropopause (٥٠–٥٥كم) ثم
mesosphere (٥٥–٨٠كم) ثم
mesospause (٨٠–٨٥كم) ثم
thermopause (٨٥كم) ثم
thermosphere (٨٥–٥٠٠كم)
حتى نصل إلى exosphere وهو
المتاخم للفضاء الخارجي!
أما الكلمتان الأُوليان، فتتكونان من مقطعين، الأول هو
tropo المأخوذ من
اليونانية tropos بمعنى
«الميل» وهو هنا ميلُ مدار الأرض حول الشمس، ومنها اشتُقَّ
tropic أي مدار «السرطان
أو الجدي» ومَدارِيّ tropical،
ومنها اشتقت الكلمة الإنجليزية
trope أيضًا، بمعنى
التعبير المجازي (أي الذي ينحرف عن الحقيقة)، والثاني هو
sphere أي النطاق المحيط
بالكرة، وهكذا نرى أن المترجِمَ الذي يستند إلى الأصل
الاشتقاقيّ لن يصل إلى المعنى الإحاليِّ للكلمة، وهو الطبقة
الدُّنيا من الغلاف الجويِّ التي تتميز بوجود بخار الماء،
وحركة الريح الرأسيَّة، وظواهر الطقس المعروفة، ونقص درجات
الحرارة كلما ازداد الارتفاع عن سطحِ الأرض!
والكلمة التالية تجمع إلى جانب المقطع الأول مقطعًا يدلُّ
على التوقُّف pause، ولكن هذا
خادع، فكلُّ ما تعنيه الكلمةُ هو وجود طبقةٍ فاصلةٍ يستمرُّ
فيها انخفاض درجات الحرارة قبل الوصول إلى ثبات درجاتِ الحرارة
في الستراتوسفير، وينطبق ذلك على الستراتوبوز، ثم نأتي إلى
كلمة mesosphere التي تتكون من
المقطع الثاني الذي سبقت الإشارة إليه، ومقطع آخر هو
meso، المشتق من اليونانية
mesos، بمعنى وسط أو أوسط
أو متوسِّط. فترجمتها بالغلاف الأوسط ستؤدي إلى الخلط؛ لأن هذه
الطبقات متداخلةٌ، وهي ليست ثلاثًا حتى نحدد الأول والأوسط
والأخير بسهولة!
وأخيرًا نأتي إلى كلمة
thermopause، وهي تتكون من
مقطع يفيد الحرارة thermo،
والمقطع الذي يفيدُ التوقُّف، وقد ترجمتها الأمم المتحدة بطبقة
الرُّكود الحراريِّ، إلى جانب تعريبها، وقد تكون هذه ترجمةً
صائبةً؛ لأن درجةَ الحرارة تثبت فيها عند الصفر بعد الارتفاع
التدريجي، ابتداءً من الطبقة السابقة، ولكن الصفة المضفاة على
الترجمة لا تفي بالغرض؛ لأنها لا تنقل المعنى، خصوصًا عندما
تترجِمُ الأمم المتحدة المصطلح الآخر
thermosphere بالغلاف
الحراريِّ، دون إتاحة التعريب؛ أي كتابة الكلمة بصورتها
الأجنبية بدلًا من ترجمتها، وسرُّ الاعتراض أننا عندما نتصدى
لتحديد المدلولات في إطار مجموعةِ مصطلحاتٍ متخصِّصَةٍ، ويأخذ
بعضها برقاب بعض، فلا ينبغي لنا أن نمزجَ بين التعريب
والترجمة، خصوصًا إذا كانت الترجمة ترجمةً للجذور الاشتقاقية،
لا للمعنى الاصطلاحي المفهوم؛ أي الذي يحيلُ إلى مدلولٍ
بعينه.
وأين الأيونوسفير إذن؟ إنه طبقةٌ يحدِّدُها العلماء على أسسٍ
مختلفةٍ، فأساسها الأوحد هو قابليَّة الذرات للتأين؛ أي لتغيير
شحنتها الكهربائية، وقد يمتدُّ من الستراتوسفير، حتى
الثرموسفير! وإنما ضربتُ هذا المثل؛ للتدليل على أن الترجمة
العلميَّة قد لا تُحقِّقُ المثل الأعلى للإحالة، وأن التعريب
قد يكون أفضل في الوفاء بالغرض، وأن المتخصِّص قد يَفهم
المادَّة ويَعرف معنى المصطلح، ثم يتعثَّر دون إلمامٍ واسعٍ
باللُّغة؛ في وضعِ المقابل الدقيق، أو في صياغة الترجمة
الدقيقة الواضحة إذا لم يكن لديه إلمامٌ كافٍ بفنون اللُّغة
والكتابة.
إن الإحالة باعتبارها مثلًا أعلى للترجمة التوصيلية ليست
ممكنةً دائمًا؛ فالترجمة دائمًا ما تؤدِّي إلى خلط المعاني،
والتعريبُ في الترجمة العلمية؛ أي كتابة الكلمة بصورتها
الأجنبية بحروفٍ عربيَّةٍ؛ أنجحُ في الترجمةِ العلميَّة،
والكاتب الذي يطمئنُّ إلى ترجمة
dust بالتراب، سيواجه
معاني أخرى للكلمة، ففي بريطانيا يطلقونها على القمامة (أو
الزبالة) بالعاميَّة المصرية (والمعجم الوسيط يورد الزبَّال
فقط بمعنى جامع القمامة)، ويطلقون
dustmen على جامعيها،
وأذكر أنني أحسست بالحرج عندما سألني أحدهم
where is your dust? أي
أين وضعت القمامة؟ ولم أفهم إلا حين أشار إلى
dust bin أي صندوق القمامة
الذي يسمِّيه الأمريكيون garbage
can ويطلقون على القمامة أيضًا
trash
وrubbish، والصفة منها
dusty، تعني أيضًا «بِلَون
التراب» (أي ترابي)، وتُطلقُ على من وَخَطَ الشيبُ شعرَهم، أو
في الحقيقة تيمُّنًا بأن يُعَمَّرو حتى يَخطَّ الشيبُ شعرَهم،
وهي تُطلَق على الرجل والمرأة، وأشهر من نعرفها هي المغنية
Dusty Springfield،
والتراب لا شكَّ أقربُ معاني الكلمة، ولكن ما بالُ أشباه
المترادفات معها مثل العِثْير (وغدا العِثْير في الجوِّ سحابات
سواد) والنَّقع (بيت بشار بن برد المشهور «كأنَّ مُثارَ
النَّقْع فوق رءوسنا … وأسيافنا ليلٌ تَهاوَى كواكبُه»)
والرَّغام (بيت حافظ إبراهيم المشهور «يا حديدًا ينساب فوق
حديدٍ … كانسياب الرَّقطاء فوق الرَّغام») والثَّرى (في قوله
تعالى: لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا
فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ
الثَّرَى (طه: ٦)) والأديم (بيت أبي العلاء
المعرِّي المشهور «خفِّف الوطْء ما أظنُّ أديمَ الأرضِ إلا من
هذه الأجسادِ»).
أقول: إن المعنى الأوَّلَ هو أقربُها؛ فهو المعنى الدِّيني
Earth to earth, ashes to ashes, dust to
dust (قوله تعالى: خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ (آل عمران: ٥٩)، أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ
(النَّحل: ٥٩)، أئِذَا مِتْنَا وكُنَّا
تُرَابًا (الصَّافَّات: ١٦)) ولكن الإنجليزية
تستَخْدِمُ كلمة earth أيضًا
للإشارة إلى التربة أو التراب، إلى جانب
soil، واختيار المترجمِ
التوصيليِّ غيرُ محدودٍ بالمعنى الشائع، فرغم أن الإحالة
واحدةٌ في كلِّ حالةٍ؛ أي إن الكلمات تشيرُ إلى الشيء نفسه
تقريبًا؛ فإن الاختلافات التداوليَّةَ؛ أي الراجِعَةَ إلى
تداولِ اللُّغةِ واستخدامها
pragmatics، هي التي تُملي
على المترجم اللَّفظ الذي يختارُه ويرتاحُ إليه.
الدلالة والمعنى
ولكن مشكلةَ الإحالة اللفظيَّة في الأدب تزدادُ تعقيدًا حين
نجدُ الألفاظ داخِلَةً في تركيباتٍ ربَّما لا يعيها المؤلِّف
نفسُه الوعيَ كُلَّه، كما أثبت علماء النَّفسِ من المهتمِّين
بالأسس النفسيَّة للإبداع الفنِّيِّ من أبرامز
Abrams في كتابه المرآة
والمصباح The Mirror and the
Lamp، إلى مصطفى سويف، ومصري حنوره
(وأخيرًا شاكر عبد الحميد) بل كثيرًا ما يدهَشُ الشاعرُ، كيف
كتب هذا الكلام؟! وعندما يُحاول أن يكتب شيئًا على غراره
ويفشل؛ يصاب بخيبة أملٍ واكتئابٍ! ولن نذهب بعيدًا للتدليل على
ذلك، خذ مثلًا قصيدة «أنا والمدينة»:
هذا أنا وهذه مدينتي
عند انتصاف الليل
رحابةُ الميدان والجدرانِ تل
تَبِينُ ثم تختفي وراء تل
وُرَيقَةٌ في الريح دارت، ثم حطَّت
ثم ضاعت في الدُّروب
ظلٌّ يذوب
يمتدُّ ظلٌّ
وعينُ مصباحٍ فُضوليٍّ مملٍّ
دُستُ على شُعاعه لَمَّا مرَرْت
وجاش وجداني بمقطعٍ حزينٍ
بدأتُهُ ثم سكتُّ
مَن أنت يا … مَن أنت؟
الحارِسُ الغبيُّ لا يعي حِكايتي
لقد طُرِدْتُ اليومَ من غُرفتي
وصِرتُ ضائعًا بدون اسمٍ
هذا أنا، وهذه مدينتي!
لقد سبق لي أن تعرَّضت لهذه القصيدة بالتحليل
في كتابي «النقد التحليلي» عام ١٩٦٣م، ولكني لم أترجمها إلا
عام ١٩٨٥م، وعندها وقفتُ لأوَّل مرَّةٍ عند المشكلات التي كنتُ
أظنُّ أنني حلَّلْتُها، الموقف في القصيدة يسيرُ الفهم: شخصٌ
طُرِدَ من غرفته، وأصبح بلا مأوى، يعيش في المدينة دون أن
يقطُنَ فيها؛ أي إنه يسكنُ المدينةَ كُلَّها، ولا يسكن أيَّ
جُزءٍ منها؛ فهو مثل المال العامِّ في تعريف رجال القانون
res nullus باللاتينية؛ أي
الشيء الذي لا يمتلِكُه أحدٌ؛ ومن ثمَّ فهو مِلكٌ مشاع للجميع،
ومع فُقْدان الشخص الذي يتقمَّصُه الشاعر؛ أي الذي يقول
القصيدة على لسانه (وهو ما يُسمَّى بالقناع
mask أو
persona) لسُكْنَاه،
يفقِدُ أيضًا ذاتيَّته أو هُويَّته، فيُصبحُ دون اسمٍ!
ولكن ما الذي يحدث في القصيدة؟ إن هذا الشخص — ولْنُطلِق
عليه تعبير «بطل القصيدة
protagonist» — يمرُّ في
ميدانٍ ما في المدينة، وعينُه تلحَظُ بعض الأشياء، ثمَّ
يُقابِلُ شُرطِيًّا يُسمِّيه الحارسَ؛ يسأله سؤالًا لا إجابة
له، ثم تنتهي القصيدة بلحظةِ التكشُّف؛ أي إننا أمام بناءٍ
قصصيٍّ، يستمِدُّ هيكله من الدِّراما؛ حيث يوجد حدثٌ له
بدايةٌ، ووسطٌ، ونهايةٌ! والنهاية هي التكشُّفُ أو ما يُسمَّى
اصطلاحًا بالتنوير، أو الحلِّ
denouément، والإطار
الزَّمني العامُّ هو الحاضرُ؛ أي إننا نشهدُ شيئًا يحدث أمام
أعيننا، وحادثةُ الطَّرد نفسها قد حدثت اليوم، والعبارات
تتراوح بين المضارع، وبين المبتدَأ والخبر، وبين المضارع
التامِّ present perfect الذي
هو أيضًا مضارع!
المترجِمُ إذن يواجِهُ موقِفًا يمكن تسميته بموقفٍ دراميٍّ،
وهو يتضمن عباراتِ حديثٍ مباشرٍ وغير مباشرٍ (أو ما يُسمَّى
بلغةِ النَّقدِ الحديث direct free
discourse وindirect free
discourse) ومن وصفِ ما يرى البطلُ،
يُدرِكُ القارئ أنه يسيرُ ثم يقِفُ، يبدأ الغناء ثم يتوقَّف،
يسأل فلا يُجيبُ، وهكذا … فإن لدينا أفعالًا مُجهَضَةً تتوالى،
وتناقُضاتٍ داخليَّةً بين الانفساح والانقباض، وبين الضَّوء
والظِّلِّ، وبين الكلامِ والسُّكون، وبين الظَّاهر والباطن،
وهذه جميعًا مما تحتَفِلُ به مدرسةُ البنيوية، وتُصِرُّ على
تأكيده!
وليسأل سائلٌ: وما لهذا كلِّه بالترجمة؟ والردُّ (دون لأْيٍ)
هو أن المترجِمَ لا بدَّ أن يستوعب ذلك كلَّه حتى يُخْرِج
المقابِلَ، إذا لم يستطع أن يخرجَ المثيلَ بالإنجليزية!
فالقصيدة مكتوبَةٌ ببحر الرجز، وهو أيسرُ بحور العربية،
وأقربها إلى النثر، وهو لسهولته كان يُسمَّى حِمار الشعر،
بمعنى أن كلَّ إنسان يستطيع أن يركَبه، وكان الذي ينظم شعره
كلَّه رجزًا يُسمَّى رجَّازًا لا شاعرًا، مثل رؤبة والعجَّاج،
وكان الرُّواة حين يَرْوونه يقولون: «فارتجز قائلًا» لا «فقال
قصيدةً هي».
وتيسيرًا على من لا يعرفونه؛ يتكوَّن هذا البحر من حركةٍ،
وسكونٍ مرَّتين، ثم حركتين وسكونٍ، كأن تقول: «إنْ لم تَكْن»
ثم تكرِّرُها، ويجوزُ في البحر تعديلُ هذه الحركاتِ والسكنات
بعدَّةِ طُرُقٍ، تُسمَّى «الزِّحَافات والعِلَل» كأنْ تحذِفَ
الحرف المتحرِّكَ الثَّاني، أو الرَّابع، وهلُمَّ جرًّا،
وأهمِّيَّةُ ذلك للمترجم واضحةٌ، قد يُحاول مجاراةَ الأصل في
الزمن، فيُترجِمُ البيت الأوَّل هكذا:
This is I and this my
city
والبحر الإنجليزي هنا هو بحر الأيامب
iambus (من اليونانية
iambos)، الذي يتكون من
مقطعٍ خفيفٍ، ومقطعٍ منبورٍ؛ أي يقعُ الضَّغطُ عليه؛ ومن ثمَّ
فسوف يرى أنه قد افترض أن القارئ سوف يجعلُ الضغط واقعًا على
فعل الكينونة is ثم على
I ثم على
my وأخيرًا على
ty (أي المقطع الأخير في
كلمة city)، مع قلب نظام
النَّبر في التفعيلة الثانية؛ أي عكسها لتصبح تفعيلةً من بحر
trochee، بحيث تكون
I منبورةً،
وand غير منبورةٍ، ولكنَّ
استخدامَ ضمير المتكلِّم في حالةِ الخبر مرفوعًا؛ أي
I بدلًا من
me، يرجع إلى اللاتينية،
ويتَّبع قواعد النحو اللاتيني، وهو كما يقول علماء اللغة (موضة
قديمة) لأن الشائع في الإنجليزية المعاصرة أن تقول:
This is me رغم أن
me وفقًا لقواعد النحو في
حالة المفعول به لا الخبر! ولكنَّ استعمال ضمير المتكلم
I يأتي بقافيةٍ داخليَّةٍ
مع my، ويتطلَّب الوقوف عليها
أثناء الإلقاء This is I فإذا
قرأت المقاطع الثلاثة التاليةَ and this
my أحسست بالجَرْسِ النَّابعِ من الموسيقى
الدَّاخليَّة الذي يُعمِّقُ من الإحساس بالمفارقة؛ إذ إنه هو
ليس هو! أي إن المتكلِّمَ الذي يزعمُ ملكيَّةَ المدينة له في
my — ليس من يقول إنه هو —
أي ليس له هوية، والمدينة كذلك لا تنتمي إليه، بعد أن لَفِظته
لَفْظَ النواةِ، وطرَحتْه طرْحَ القذاة، كما يقولون! وسوف يلعب
الجَرْسُ دورًا حاسمًا أيضًا في الهبوط بحركةِ المدِّ
الصَّاعِدَةِ في «آي» و«ماي» إلى «إي» و«تي» في كلمة
city! أي إن حركةَ الأصوات
هنا أصبحت جزءًا من المعنى الشِّعريِّ، ولا مكان للاحتجاج
بقدرةِ المصطلح الشَّائع للغة الإنجليزية، على التعبير الأصدق
عن النَّحو الجاري، أو حتى عن الفكرة!
ولكن قد يقول قائلٌ: إنَّ معنى هذا تقسيمُ البيت إلى ثلاث
تفعيلاتٍ بدلًا من أربعٍ، الأُولَيان منها مُزاحَفتان تحوَّلتا
إلى بحر الأنابيست anapaest؛
أي الذي يتكوَّن من مقطعين غير منبورين متبوعين بمقطعٍ منبورٍ!
ولكن هذا مردودٌ عليه؛ فقارئ القصيدة بالإنجليزية له أن يضغط
على أيِّ المقاطعِ شاء، وفقًا لمفهومه للإيقاع اللفظيِّ التابع
والنَّابع من المعنى الذي يراه؛ فالتنغيم
intonation يمكن أن
يكون:
أو
أي إن الموجاتِ الإيقاعيَّةَ هنا لا تُحتِّمُ الزَّحافاتِ
المحتجَّ بها، والمترجِمُ لا شكَّ واعٍ كلَّ الوعي بوقفةِ
التفعيلة الأولى عند ألف مدِّ (أنا) في العربية، فتفعيلة
الرَّجَز تُجبره على الوقوف، وإذا كان ذلك يتطلَّبُ مُزاحفَةَ
تفعيلة الأيامب لإخراج المعنى الشعري، فَلِم لا؟!
فإذا انتقلنا إلى البيت الثاني وجدنا عجبًا! إن «رحابة
الميدان» هي المبتدأ، والأصول هو الرَّحابة، وشتَّان بين أن
تقول: الميدان الرَّحب، وأن تقول: رحابة الميدان! إن الرَّحابة
تؤكِّدُها حروفُ العِلَّة الممطوطة في الألِفَين المتواليين،
حتَّى نأتي إلى الجدرانِ المعطوفة، والتي تتضمَّنُ ألِفًا أخرى
تجبرنا على ضمِّها إلى الميدان، خصوصًا بسبب النهاية
المتشابهة، وهو ما نسمِّيه بالتَّجانس الصَّوتي
assonance، ثم يتلوها ما
يُشبه الخبر، وهو كلمةُ «تلّ»! لكنه ليس خبر المبتدأ؛ فهو خبرٌ
كاذبٌ! فعبارة «والجدران تلٌّ» جملةٌ اسميَّةٌ معترضةٌ،
ولكنَّها في موقعها من البيت تُلقي بظلالها على المبتدأ، ولا
مَناصَ من قراءةِ البيت بهذه الصُّورة؛ أي «رحابة الميدان
والجدران» = تل!
فكلمةُ تل لها ثِقَلٌ في العربية بسبب وقوعها في آخر البيت
(end focus)، وضغط اللام
الأخيرة في اللام السابقة لها، بحيثُ تُصبِحُ قيمتُها
العَروضيَّةُ صفرًا، ومن المحال أن يمهِّدَ ذلك القارئَ للخبر
الحقيقيِّ الواردِ في الشطر الثاني؛ أي في الشَّطر الآخر من
البيت، وهي «تبين ثم تختفي وراء تل»! الشَّاعر يقول إذن على
مستوى الإحالة، إن رحابة الميدان تختفي وراء تلال الجدران!
لكنه لا يقول هذا في الحقيقة الشِّعريَّة؛ فالمعنى الإحالي هنا
يصطدمُ مع المعنى الشِّعريِّ، ولا بُدَّ أن يعمل المترجِمُ
حسابَ ذلك، وإلا خَرجَ بمعنًى لا هو إحاليٌّ، ولا هو شِعريٌّ،
فماذا عساه يفعل؟! قد يقول:
The vast square and walls are a
hill
Appearing to disappear behind a
hill!
إن هذه الصيغة تحتفظ بالصورة الأصلية التي
تتضمَّن الغموض الذي أشرت إليه، ولكنها تنحرف عن المعنى
الإحالي الذي هو:
The vastness of the square, the walls a
hill,
Appearing to disappear behind a hill!
المعنى الإحاليُّ وضع الجدران في موضعها
الدَّلالي المحدَّد، مع حذف فعل الكينونة الذي هو مجرد
auxiliary، وحذفه يُسمَّى
suppression، وهو جائزٌ في
الشِّعر، وأبقى على الفعل في موضع الخبر، باعتبار أن الخبر
جملةٌ فعليةٌ، وماذا عن اختيار ترجمة الرحابة ﺑ
vastness بدلًا من
spaciousness مثلًا؟ هذه
كلها اعتبارات تمثل ما أعنيه بمشكلات الدَّلالة في مقابل
المعنى الشعري!
فإذا انتقلنا إلى البيت التالي وجدنا مشكلةً حقيقيَّةً:
وُرَيْقة! ورقة صغيرة؟ ورقة كتابٍ أو كرَّاسٍ؟ ورقة شجر؟ أم
قطعة من الورق؟ والورقة هنا مفعولٌ به في صورة الفاعل؛ أي ما
يسمى في النحو الحديث patient؛
فهي تدور في الريح، بينما تديرها الريح في الحقيقة، أفعالها
تسمى في العربية بأفعال المطاوعة، كقولك: فتحتُ البابَ، فانفتح
البابُ؛ فالعبارة هنا تتضمن فاعلًا هو مفعولٌ به؛ أي إنها رمزٌ
واضحٌ لإحساس المتكلم بالضياع والضآلة؛ لأنه في مهبِّ الرِّيح،
لماذا رآها البطل؟ أو لماذا قرَّرَ الشاعر أن يجعله يلحظها
ويثبتها فيما التقطه وعْيُه من مَشاهد ذلك الميدان في تلك
الليلة؟ وانظر إلى تتابُع الأفعال المنسوبة إلى ذلك المفعول
به، وتواليها في عبارةٍ متماسكةٍ «دارت ثم حطَّت ثم ضاعت!»
فإذا قلنا: إنها ورقةٌ مما يُكتبُ عليه، استحال تصغيرها
بالإنجليزية، والأيسر أن نفترض أنها ورقةُ شجرٍ، فربما لم تكُن
في حاجةٍ إلى تصغير! هل هي إذن a scrap of
paper طبقًا للمعنى الإحالي الظاهر؟ أو
a leaf التي قد تعني لحسنِ
الحظِّ ورقةً من كتابٍ أيضًا؟ أم هل نختار كلمةً مثل
bit، أو a
small piece! الاختياراتُ هنا لا يحكمها
بالقطع المعنى الإحاليُّ الدقيق، بقدرِ ما يحكمها تفسير
المترجِم الذي يضع نفسه في موضع الشاعر!
وليست الأفعال المتتابعة سهلةَ الترجمة هي الأخرى؛ فالشاعر
يقدِّم شِبهَ الجملة «في الريح» وهي
prepositional phrase
عامدًا حتى ينتهي ﺑ «دارت» ويؤخر شبه الجملة الأخيرة إلى
مكانها الطبيعي:
Circled, then landed, was lost in
the alleys.
إن circled in the
wind غير circled in the
air، وتحديد معنى الريح أيضًا يتوقف على
الإحساس الذي يحدِّدُ تفسيرَ حركةِ الهواء، والذي يترجمها
بالإنجليزية eddied من
eddy بمعنى دوامة الريح،
يجعل حركة الهواء شبه ثابتةٍ في مكانٍ واحدٍ، على عكس من يختار
circled، وهي الكلمةُ التي
توسع من دائرة الحركة، أما الذي يبتعد عن الإحساس بتأثير فعل
المطاوعة الموحي به، كأن يجعلَ الريحَ فاعلًا فيقول:
swept by the wind أو
blown round and round by the
wind أو حتى bandied up
and down by the wind فهو سوف يبتعدُ
تمامًا عن المعنى الشعري، مهما اقترب من المعنى
الإحالي!
ولْنَتأمَّل هذه الحيلة التركيبية التي تسمى
chiasmus في البلاغة
الإنجليزية، ونترجمها بمصطلح (العكس) أي إيراد بناءٍ للعبارة
ينعكس في العبارة التالية:
في الريح دارت، ثم حطَّت، ثم ضاعت في الدروب.
لدنيا هنا ثلاث وحداتٍ: شبه جملةٍ وفعلٌ، ثم
فعلٌ، ثم فعلٌ وشبه جملة؛ أي إن الوحدتين على جانبي الفعل
ذواتا بنائين معكوسين chiastic
structure، فهل يصرُّ المترجم على إبراز
ذلك هكذا:
A leaf in the wind
circled,
Then landed, was lost in the
alleys.
مما يتيح للنص الإنجليزي أن يمثِّلَ أيضًا ما
يسمى بالتركيب السَّائل fluid
syntax بلغة النقد الأدبي، أو إمكان
اختلاف التقطيع different
segmentation بمصطلح اللُّغويِّين؟ ومعنى
هذا أن يستطيع القارئ أن يقرأ البيت «وريقةٌ في الرِّيح» ثم
يقف؛ قبل أن يأتي بالفعل في الترجمة تمامًا مثل الأصل! والواضح
أنني لا أقف عند ترجمة الكلمات المفردةِ؛ فهذه أقل ما يقلق
بالي في ترجمة الشعر؛ فالدُّروب هي الشوارع على اختلافها:
طرقاتٌ واسعةٌ، وحَوارٍ، وأزِقَّةٌ، وعُطُوفٌ، وأقرب ترجمةٍ
لها هي ways، قياسًا على قصيدة
وردزورث wordsworth
المعروفة:
She dwelt among the untrodden
ways.
وإن كان عيب هذا الاختيار هو أن
ways توحي بطرائق الحياة،
كقولك:
He must mend his ways
أي لا بد أن يُحسِّن سلوكَه، أو عليه أن يُصلح من أخلاقه!
والمعنى الإحالي هنا محالٌ؛ فالمعروف أن كلمةَ الشارع نفسها
تتضمن هذا المعنى؛ فهي «الطريق الأعظم الذي يشرعُ فيه الناس
عامَّةً» كما يقول «لسان العرب» ولا أدري لماذا يتجنبها أهلُ
المغرب فيطلقون على الشارع «الجادَّة» و«النَّهج»؟! وهكذا كان
يفعل خليل مطران في ترجمته لشكسبير، أما الدَّرب؛ فالأصل فيه
هو المضيق في الجبل، ثم تطوَّر المعنى فأصبح الطريق النافذ،
ومنه اشتُقَّ التدريب؛ أي تعلُّم الطرائق والسُّبُل، ومن ثَمَّ
أصبحت الدُّربة صِنوًا للمِران والمِراس، والاختياراتُ
الإحاليَّةُ لا نهاية لها؛ فالإنجليز يطلقون شتَّى الأسماء على
شوارعهم، من
avenue إذا كانت
تظلِّلُه الأشجار، إلى
crescent إذا كان على شكل
هلالٍ، إلى
cul-de-sac إذا كان
زقاقًا، إلى
mews إذا كان
حارةً مسدودَةً، إلى
lane إذا
كان سِكَّةً من السِّكَك، أو خطًّا في طريقٍ، أو طريقًا ذا
اتجاهٍ واحدٍ مثل
one-way
street، لا كما شاع من أنها حارةٌ (وبينما
نحن نجوزُ حارةً، إذ فَاجَأَتْنا عندها سيَّارةٌ!) إلى آخر
القائمة التي تطولُ فيضيق المقامُ بها، ولكن حتى
road التي يُظنُّ أنها
مقصورةٌ على الشوارع الرئيسيَّةِ أو التي تربطُ بين المدن، قد
تُطلقُ على شوارع جانبيَّةٍ نافِذَةٍ؛ أي
thoroughfare، أو
مسدودَةٍ، وكلمةِ
path ذات
دلالاتٍ دينيَّةٍ ترتبطُ بالطريق القويم
the
straight path،
و
pathway قديمة،
و
footpath هو المدقُّ،
وهلُمَّ جرًّا.
١
هل نعود إلى street؟ أو
نَقْنَع بالكلمة الموجودة وحسب؛ أي
alleys؟ الأهم من هذا أن
نلحظَ البناء العكسيَّ في «ظِلٌّ يذوب/يمتد ظِلٌّ» أما
الاستعارة الأولى، فيسيرةٌ؛ لأن لها مقابلًا في الإنجليزية هي
to melt away، والبناءُ
هنا له مقابلٌ في قصيدة «الأرض اليباب» The
Waste Land، للشاعر «ت. س. إليوت» التي
شاعت ترجمتها بالأرض الخراب، فإليوت يقول:
… your shadow at morning striding
behind you,
or your shadow at evening rising
to meet you.
فالظِّلُّ حين «يمتدُّ» وحين «يظهرُ» له
مقابلٌ بالإنجليزية، ومع ذلك فالواضح أن «امتداد الظِّلِّ»
يتضمَّن إشارةً إلى الآية الكريمة: أَلَمْ
تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ
لَجَعَلَهُ سَاكِنًا (الفرقان: ٤٥)، ومترجمو
القرآن يذهبون أغرب المذاهبِ في ترجمتها، فمارماديوك بيكتول
يترجمها هكذا:
Hast thou not seen how thy Lord
hath spread
the shade—and if He willed He
could have made it still.
ويوسف علي يترجمها هكذا:
Hast thou not turned thy vision to
thy Lord?
How He doth prolong the shadow! If
He willed,
He could make it
stationary!
وداود يترجمها هكذا:
Do you not see how your Lord
lengthens the shadows
Had it been his will He could have
made them constant.
ورودويل
Rodwell يتفق في نفس الفعل
مع داود، وأربري وغيره يترجمها
extends، وهكذا تتكاثرُ
المعاني التي تُعتبرُ مضمرةً في كلِّ محاولةٍ للإحالة هنا، مع
أن المعنى لا بد أن يكون واحدًا، وكلام الله — على أي حالٍ —
لا يعلم تأويله إلا الله.
وإذا كنتُ أقول: إن الكلمات المفردةَ هي أقلُّ ما يُقلق بالي
في ترجمة الشِّعر؛ فذلك لأن الكلمات المفردةَ قد تتعدد
دلالاتها خارج السياق، ولكن السياق لا بُدَّ أن يحدِّدَ هذه
الدلالة؛ ومن ثمَّ فالاهتمام يجبُ أن ينصبَّ على السِّياق،
والسياق هنا يوحي بأن الظلال التي تنحسر (أو تذوب كما يقول
الشاعر) وتمتدُّ؛ لا ترجعُ إلى حركةِ مصدر الضَّوء، (كما هو
الحال في الآية الكريمة: ثُمَّ جَعَلْنَا
الشَّمْسَ عَلَيهِ دَلِيلًا ولا في إليوت؛ فهو
يشير أيضًا إلى الشروق والغروب) بل إلى حركة الجسم السائر، فهل
تُرى ينتمي هذان الظِّلان إلى شخصٍ واحدٍ يقترب من المصباح
فيذوب ظِلُّه، ثم يبتعدُ عنه فيمتدُّ ظِلُّه، أم إلى عدَّةِ
أشخاصٍ؟ وإذا كان ينتمي إلى شخصٍ واحدٍ، فهل ينتمي إلى بطلِ
القصيدة الذي يقترب من المصباح، ثم يبتعد عنه؟ فالبيت «ظلٌّ
يذوب/يمتدُّ ظلٌّ» يتبعه بيتٌ آخر يُفسِّرُه، هو «وعين مصباحٍ
فضوليٍّ مملٍّ/دُستُ على شعاعه لما مررت» الغموضُ هنا أساسيٌّ
في الصورة، ولا ينبغي للمترجم أن يسعى لإزالته، بل حبَّذا لو
أبقى عليه وعلى التركيب العكسي
chiastic في البيت
مثلًا:
A shadow melts
away,
While extends
another.
وهذا ليس منافيًا للنحو الإنجليزي، ولكنه
يتضمن قدرًا من التفسير ولا شكَّ، في
while، أو أي رابطٍ، سواءٌ
كان رابطَ تبعيَّةٍ، أو تنسيقٍ subordinating
or coordinating، مثل
but
وand، والخروج من المأزق
بنُشدان الحياد إيثارًا للسلامة ليس حلًّا مثاليًّا،
مثلًا:
A shadow melts
away.
Another stretches
out.
ولكنه حلٌّ على أي حالٍ! وأحيانًا ما يضيق
بمترجمِ الشِّعر الحالُ فيصيحُ: من يبغي جمالَ الصِّياغة
العربية فعليه أن يعودَ إلى الأصل! ولكننا لا نصيحُ هذه
الصيحات الغاصبة، وأمامنا مشكلة «عين المصباح الفضولي
الممل»!
«فضولي»؟! أجل! فهو يمزِّق سترَ الظلام ليفضحَ! وهو لا يعنيه
حالُ البطل! إنه يتدخل فيما لا يعنيه! فهو إذن
intrusive، أو على وجه
الدِّقَّةِ intruding أكثر من
كونه inquisitive أو
curious! ولكن المعنى
الأخير قائمٌ في الكلمة ولا شك، فعين المصباح التي تكشف
الخبيء، وتهتك الستر؛ تريد أن تعرف أيضًا ما حدث! ولكن ما بالُ
صفةِ «الملل» التي يضفيها الشاعرُ على المصباح؟ لماذا يصفه
بأنه «مملٌّ»؟! هل يعني أنه لا إثارة به ولا جِدَّةَ ولا رونق؟
ومن ثم فهو dull؟ أم أنه
رَتِيبُ الضوء يبعث على الملل (monotonus and
thence boring?) المشكلةُ هنا أن
dull (وشبيهاتها مثل
lacklustre) قد تنسحب على
الضوء نفسه الذي ربما كان باهرًا قويًّا نفَّاذًا! والدليلُ
على قوة الضوء إحساسُ البطل به، باعتباره شيئًا مادِّيًّا
«دُست على شعاعه لما مررت!» إنه ليس قطعًا
faint أو
dim، وصفةُ الملل تنطبق
دون شكٍّ على الإحساس لا على الضوء، فكأنما يشيرُ البطلُ إلى
لونٍ من السأم والضَّجر القريب من صفة اﻟ
weariness؛ ومن ثمَّ فهي
تمثِّل انعكاسًا لحالته هو التي ينقلها إلى المصباح!
فهل نقول إذن:
The eye of a boring intrusive
lamp
On whose beam I
trod
As I passed
on?
أم نقول:
The inquisitive eye of a bored lamp
… etc.
وفي هذه الحالة نكونُ قد استخدمنا حيلةً
بلاغيَّةً إنجليزية، هي تبادلُ موقعَي الصِّفَة والموصوف
transferred epithet، بحيث
يكون السَّئِمُ الضَّجِر هو البطل لا المصباح!؟ أم هل تستبدل
كلمة peeping بصفة الفضولي؛ أي
المتلصص الذي يسترق النظر؟
وما نكاد نفرغ من مشكلة الكلمات المفْرَدة حتى تواجهنا مشكلة
التركيب: ما شأن هذا المصباح؟ وبالمناسبة، فإن
lamp بالإنجليزية لا تعني
اللمبة الكهربائية، بل المصباح كلَّه، أو حتى الأباجورة، أما
اللمبة فاسمها bulb، وعمود
النور هو lamp post، وكلمة
bulb كما هو معروفٌ
اختصارٌ لتعبير electric bulb،
فهل تُرى يقول البطل: إنه كان هناك مصباحٌ وحسب؟ أم هل نفترض
عطفًا على البيت السابق «يغيب … ويمتد»؟ قد يلجأ المترجِم
الإنجليزي الحديث إلى اشتقاق فعلٍ من إحدى الصفات، وهذا شائعٌ،
بل متفشٍّ إلى حدٍّ مذهلٍ، وفيه ما فيه من تجنٍّ على الأصل،
كأن يقول:
The eye of a dull
lamp
On whose beam I trod, passing
by,
Peeped out
curiously.
وجمالُ الصياغة هنا مع القافية الطبيعية، لا
تمثِّلُ الحلَّ الأمثل؛ فالمترجم يحاولُ أن يتقمَّص المعنى
الشعري، ويتمثَّله مع الحد الأدنى من التفسير، وهو هنا يتجاوز
هذا الحدَّ!
وحلُّ هذه المشكلة يُفضي إلى مشكلةٍ أخرى، هي «جاش وجداني
بمقطعٍ حزينٍ» وهو سطرٌ ذو صعوبةٍ خاصَّةٍ بسبب الصورة
الدَّفينة sunken image أي
التي تحملها كلمةُ جاش؛ فهي كلمةٌ عسيرةٌ بالغةُ العسر! هل
المقصود أن وجداني (بمعنى مشاعري أو أحاسيسي) فاضَ، وهو المعنى
القريب؟ أم المقصود هو المعنى الأصلي بمعنى «ارتفع»؟ والوسيط
يأخذ من لسان العرب ما يراه شائعًا، ولكنَّ اللسان يضعُ
المعاني في تسلسلٍ منطقيٍّ مُقنعٍ، فارتفاع البحر يعني هياجه،
وجيشان العين ارتفاعُ الدمعِ فيها، وجيشان الماء تدفُّقُه؛ ومن
ثمَّ يأتي معنى الغليان، وكذلك المعنى الأصيلُ في الكلمةِ، وهو
الغثيان أو التقيُّؤ نتيجة ارتفاع الطعام إلى الفم!
وكذلك يأتي معنى الفزع والجزع! المعنى القريبُ هنا هو تحرُّك
مقطعٍ من أغنيةٍ أو قصيدةٍ في داخل نفسه؛ أي ارتفاع مدِّ الحزن
في أعماقه دون أن يفيضَ!
هذا الإيجاز الذي يُسمَّى في البلاغة الإنجليزية
ellipsis (ويترجم المصطلحَ
مجدي وهبة بإيجاز الحذف)، يفرض على المترجِم أن يختار ما
حُذِفَ لإكمال المعنى، فإذا كان المقطع موسيقيًّا حدَّد ذلك
a sad tune وإذا كان
شعريًّا أفصح عنه a couplet, a
stanza أما الجيَشان فاختياراته يحدِّدُها
تفسيرُ ما حدث في الوجدان، وهل الوجدان هو القلبُ
heart أم النفس
soul؟ وكلاهما يستعملان في
الشِّعر كنايةً عن الوجدان؟ مثلا:
A sad tune reverberated in my
heart,
No sooner started than
suppressed.
وفي هذا أيضا ما فيه من تفسير — أو:
My soul overflowed with a sad tune,
But it hardly rose before I was stopped.
وفيه تفسيرٌ أكبر — أو:
A sad couplet echoed in my
mind,
But it was soon
interrupted.
ولنا أن نضيفَ تفسيراتٍ أخرى إلى ما لا
نهاية!
وأخيرًا لن نقف إلا عند كلمة «يعي» في عبارة «الحارس الغبي
لا يعي حكايتي» هل قصَّ البطل قصته عليه فلم يستطع الحارس
لغبائه أن يفهمها؟ أم هل يقصد الشاعر فحسب أن الحارس لا يعرف
الحكاية أي الموضوع، وهو غبي لأن البطلَ يرى أن حراس المدينة
لا بدَّ أن يكونوا أغبياء ما داموا لا يدركون مثل هذه الأمور؟
والإحالة هنا لن تشفي الغليل، فليس الوعي هنا هو المقصود، ولكن
المقصود هو المعرفةُ وحسب، ولحسن الحظِّ يوجدُ في الإنجليزية
ما يقابلُ ذلك تمامًا:
The stupid guard is not aware of my
plight.
فتعبير is not
aware معناه ببساطة: لا يعرف. رغم أن اﻟ
awareness هو الوعي! أما
الحكايةُ فقصَّةٌ أخرى، ويكفي ذلك.