ترجمة الشعر نظمًا ونثرًا
(١) ترجمة الإيقاع في الشعر
والمعنى الدقيقُ الحديثُ للإيقاع هو التدفق المتواصل الذي يتَّسم بملامح منتظمةٍ متكررةٍ، تتميز بالتراوح بين لونين أو أكثر، أو بالتقابل بين ضربين من الضَّربات، مثل دقَّات القلب في الكائن الحي مثلًا.
الإيقاع في اللغة
هذه أسئلةٌ لا تزال قيدَ البحثِ، وتقريبًا للفكرة الأخيرة من أذهان قرَّاءِ العربية أقول: إن بعض الإيقاعات قد ارتبطت تاريخيًّا بمعانٍ معيَّنةٍ، أو بنغمةِ جِدٍّ رفيعةٍ، كبحر الطويل في العربية الذي اعتدناه في المعلقات، وكذلك ارتبطت إيقاعاتٌ أخرى بأنغام أقلَّ جدًّا، أو حتى بالهزل؛ ولذلك فالقارئ لا يتوقَّع من الشاعر أن يخلطَ بين هذه الإيقاعات وما ارتبطت به، فعندما يقول شوقي:
ولقد تعمدت أن آتي بشِعْرِ حُبٍّ في البداية قبل هذا الرثاء حتى أمهِّدَ لموضوعات أخرى تؤكِّدُ ما ذهبتُ إليه، فهذا شوقي يوجِّه الأبيات التاليةَ لعليٍّ ابنه، وهو في الثانية من عمره:
ومجزوء الرَّمَل هنا يذكِّرنا بمجزوء الكامل الذي أغضب كثيرًا من الكلاسيكيين، وكان الأحرى بهم أن يذكروا مجزوء الهزج الشهير لبشار «ربابة ربَّة البيت» وعلى أي حالٍ، هذا ما يقوله شوقي:
قد ظهر في الصورة التالية:
والواقع أن مجالَ تأكيد الإيقاع للمعنى الشعري أكبرُ من مجال التعديل فيه أو إلغائه، ومن هذا المنطلق أتصوَّرُ أن الإيقاع عنصرٌ جوهريٌّ من عناصر الشعر الإيجابية، وأقول ما أقوله دائمًا: إن الوزن أيًّا كانت صورته أساسٌ من أسس الشعر، ولن يهتز إيماني بذلك طالما كان في العالم من يكتبون الشعرَ المنظوم، أما إذا مال معظمُ الشعراء المجيدين إلى كتابة النثر، لا قدَّرَ الله، وقد يسمونه نثرًا شاعريًّا أو شعريًّا أو شعرًا منثورًا أو نثريًّا، فسوف أعيدُ النظرَ في موقفي على ضوءِ إبداعاتهم العجيبة.
مشكلات المعادلة
إذا كان مترجِمُ معنى الكلام يسعى إلى إيجاد الكلمة العربية التي تنقلُ معنى الكلمة الإنجليزية، فإن مترجِمَ الشعر يحاولُ — أو نحن نتوقَّعُ منه أن يحاولَ — إيجاد الإيقاع الذي ينقلُ معنى الإيقاع في اللغة المنقول منها؛ أي إنه لن يأتي بالقوالب الصوتية نفسها والتي ترتبطُ — كما سبق أن ذكرت — بالكلمات الأصلية، ولكنه مثلما يحلُّ كلماتٍ عربيةً محلَّ الكلمات الأجنبية سوف يحلُّ إيقاعًا عربيًّا محلَّ الإيقاع الأجنبي، ومثلما يجدُ من الصعب عليه أن يأتي بكلمةٍ تترادف ترادفًا كاملًا مع الكلمة الأصلية، سيتعذَّر عليه إيجاد الإيقاع الذي يعادل تمامًا الإيقاع الأصلي؛ فلكلِّ لُغةٍ إيقاعاتُها، ولكُلِّ إيقاع أصوله وتنويعاته.
وفي كل مرَّةٍ يخرجُ لنا إيقاعٌ مختلفٌ، ولإيضاح معنى النبر، انظر معي هذا البيت الشهير، لكريستوفر مارلو:
وقد قطعته هنا التقطيع الآلي الذي يختلف عن القراءة الشعرية الحقيقية من باب الإيضاح فحسب، فهنا نجد أن كل كلمة هي مقطع مستقل، ولو كتبناها بالعربية لخرج لنا بحر الخبب الحديث (صورة المتدارك أو المُحْدَث الجديدة) ولكن العبرة هنا ليست بِالكمِّ، بل بأن الضغط يقع على مقاطع بعينها من البيت؛ أي على الكلمات المهمة في البيت، مثل الأفعال الرئيسية أو الأسماء ذات الدلالة، وإذا قرأت هذه الكلمات وحدها لَخَرَج لك ما يشبه المعنى للبيت، أما إذا قرأت المقاطع غير المنبورة لما خرجت بشيء!
مثلًا:
في مقابل:
ولو أن القراءة الصحيحة للبيت هي:
أي إنها تتضمن زحافًا في التفعيلة الأولى، على نحو ما سنشرح فيما يلي، المعادَلة النوعية مستحيلة إذن، ومن العبث أن نقيس لغةً بمقياس لغة أخرى، فاختلاف اللغة يفرض اختلاف الإيقاع، واختلاف استجابة المستمع؛ ولذلك — كما أرجو أن أوضح — من المحال، بل من العبث القولُ بأن بحرًا من البحور الإنجليزية يعادلُ بحرًا من البحور العربية.
البحور الإنجليزية
- (١)
أول نوع هو حذف مقطع خفيف في التفعيلة الأولى بالبيت أو إضافة مقطع خفيف إليها، ونموذج الأولى من بحر الأيامب هو:
Coleridge, The Ancient Mariner, 101البدر كان يعتلي السماء في بطءٍ ورِقَّةٍونجمة أو نجمتان في جواره[رجز]Milton, Comus, 926من ألف جدول صغير[رجز] - (٢)
والثاني هو استبدال تفعيلة تروكي في مطلع البيت بتفعيلة الأيامب:
Stevenson, Requiemتحت النجوم في السماء الشاسعة[رجز]أو في أي مكان آخر في البيت:
Coleridge, The Ancient Mariner, 104صوت كأنه خرير جدول خفي[رجز]Tennyson, Morte d’Arthurفما الذي يميز الإنسان عندنا عن المعيز والغنم؟[رجز] - (٣) والنوع الثالث يخرج لنا صورةً مزاحفةً من تفعيلة الأيامب، أو من التروكي لا تقع إلا زحافًا؛ أي لا يبنى منها النظم وحدها، وهي توالي مقطعين غير منبورین: وتسمى التفعيلة في هذه الحالة pyrrhic:W. Wordsworth, To the Cuckooأهلًا ومرحبًا ثلاثًا یا حبيبة الربيع![رجز]Byron, Chillonفهُم إلى القدير يجأرون بالشكوى من الطغيانِ[رجز]
- (٤) والنوع الرابع يخرج لنا صورة مزاحفة من الأيامب أو التروكي، لا تقع إلا زحافًا أيضًا؛ أي لا يبنى منها بيت كامل مثلًا، وهي توالي مقطعين منبورين، وتسمى في هذه الحالة spondee:Keats, La Belle Dame Sans Merci
وحيث لا تشدو الطيور
[رجز]Tennyson, Ulyssesيَطوي نهارُنا الطويلُ صفْحتَهويعتلي البدرُ الوئيدُ قُبَّة السماء![رجز] - (٥) فإذا تلت البيريك تفعيلة سبوندي نشأ ما يسميه العروضيون ionic a minore ومثالها:Goldsmith, The Deserted Villageوالضِّحْكة الرنانة التيتشي بقلبِ مَن خَلا مِنَ الفِكَر![رجز]Marvell, The Gardenلفكرة خضراء حيث تمتدُّ الظِّلال الخضر![رجز وهزج]
- (٦) فإذا وقعت تفعيلة التروكي بعد الأيامب، سواء كان ذلك في أول البيت وهو الشائع، بل ما يكاد يمثل قاعدة زِحَافية، أو في الحشو؛ أي في منتصف البيت، ذهب العَرُوضيون إلى الجمع بين التفعيلتين في مركَّب واحد يطلقون عليه اسم choriambus، ومثاله:Keats, ‘To one who has been long in city pent’, Poems, p. 35وحيث أشرقت عليه بسمة السماء في زرقتها[رجز]Milton, Lycidas, 8Crabbe, The Borough, 12قد مات ليسيداس! قد مات في شرخ الشباب![رجز]ملتونإنهم يمضون يومًا بعد يوم، رحلة من بعد رحلة![رمل]کراب
- (٧) ويعتبر الأنابيست anapaest من تفعيلة الأيامب المزاحفة كذلك؛ وعادة ما نصادفه في خِضَمِّ ذلك البحر:Coleridge, The Ancient Marinerوحيد على وجه بحرٍ عريضٍ مديدٍ[متقارب]Bridges, Shorter Poems, BK III, No. 15(Works, Vol. II, P. 113)قد أتاك الحبُّ يا قلبُ أفِقْ واطرح سُباتك![رمل]
- (٨) ويعتبر الداكتيل dactyl (/xx) من التفعيلات النادرة، وهي على أي حال من تفاعيل التروكي المزاحفة، وعادة ما يقع في صورة تسمح باعتباره تروکي، حين يكون المقطعُ الثاني غيرَ ثابت، ويسمى المقطع المنزلق gliding، وفيما يلي نماذج له:Tennyson, Morte d’Arthurمرَّ ومض البرق في أطراف مزن غائمة[رمل]Keats, Endymion, BK. II, 1, 335من جديدٍ حلَّ صمتٌ رازح لا ينتوي أن يرحلا[رمل]
- (٩) ومن النادر أيضًا ما يسمی ترايبراك xxx) tribrach) وهو توالي ثلاثة
من المقاطع غير المنبورة، والمثال عليه:
Browning, The Ring and the Book, BK. 1 ,80حياةٌ أو مَمات … معجزات ومن نفحات قديس غريب[وافر]Wordsworth, The Daffodilsوذات خيط متَّصلٍ … مثل النجوم البارقات في المجرة[رجز] - (١٠) ويعتبر زِحاف الأمفيبراك amphibrach (x/x) شائعًا في النَّظْم الخالي من القافية blank verse الذي تُكتبُ به معظم الأعمال المسرحية؛ لأنه يتضمن إضافة مقطعٍ خفيفٍ؛ أي غير منبورٍ إلى تفعيلةٍ الأيامب، وهذا هو الشائع في شكسبير مثلًا، ولكنه يُستَخْدَم أيضًا في الشعر الغنائي، وفيما يلي نماذج من الشعر الرومانسي:Keats, Endymion, I, 1كل جمال مصدر للفرح لا ينضب[رجز]Wordsworth, ‘Immortality Ode’, Stanza 6فكأنما كانت رسالته وحسبهي أن يحاكي الناس عن بعد وقرب![كامل]ولكن الأبيات الطويلة من البحر السُّداسيِّ التفعيلة كثيرًا ما تتميَّزُ بوقفة في منتصفها تختلف عما يسمى بالقطع أو الشُّقَّة/القيصرية Caesura؛ لأنها لا تتَّسِم بقافية داخلية ولا بعلامة فصل بارزة، بل إن هذه التفعيلة هي ما يميِّزُها، وهي أكثر شيوعًا في شعر المحْدَثين، مثلًا:Masefield, Beauty, (P. W. , p. 62)إني رأيت الفجر والغروب في المروج والتلال في أيدي الرياح العاصفةوقد كساها الحُسْنُ من سكينتهما يشبه النَّغم التَّليدَ المتَّئِد … أيام إسبانيا القديمة![رجز وکامل]
- (١١) وزحاف باکیوس bacchius (//x) تنويع نادر، وهو غالبًا ما يُستَخْدَم في النَّظْم الدرامي، مثل النوع التالي، وهذا هو المثل الشهير:The Tempest, (III, i. 2–4)لِلْحِطَّة ألوان نتحمَّلُها وبعزَّة نفْسٍ نَرْضَاهابل أغلَبُ ما نَستَصْغِرُه يُثمرُ ثمرًا جمًّا[خبب]
- (١٢) وزحاف أنتيباكيوس antibacchius (x//) هو عكس الزحاف السابق، ونادرًا ما يستخدم خارج الدراما.King Henry VIII, III. II, 446الصمتَ إذنْ، يا ألسنةَ الحُسَّاد! من يجنح للعدل فلا خوف عليه![خبب]
- (١٣) ويضع العَرُوضيون زحافات مركبة تسمى البيون، paeon وهي من أربعة أنواع، ويتكون كل منها من أربعة مقاطع، ولكنها افتراضية، فالبيون الأول هو (/xxx) والثاني (x/xx) والثالث (xx/x) والرابع (xxx/) أي إن عمادها هو المقاطع الخفيفة التي تشترك مع مقطع ثقيل واحد، فإذا كان أولها سُمِّيت التفعيلة بالبيون الأول وإذا كان ثانيها سُمِّيت التفعيلة بالبيون الثاني وهكذا.
- (١٤) وعلى عكس تفعيلة سابقة (رقم ٥) توجد تفعيلة ionic a majore، وهي التي تتكون من تفعيلة سبوندي يتبعها بيريك.
- (١٥) وأخيرًا يهتم العروضيون بما يسمونه تفعيلة كريتيك cretic وهي ثلاثية (/x/) وتشيع في الشعر الغنائي مثلما تشيع في الشعر الدرامي.
ويتضح من هذا العرض السريع لزحافات البحور الإنجليزية أن الأساس هو بحر الأيامب الصاعد النغمة، ولكن النظم الإنجليزي يختلف عن النظم العربي في شيء أهم من البحور أو الإيقاعات في ذاتها، ألا وهو شكل القصيدة، من حيث طول الأبيات، وتشكيلها في وحدات، وتفاوت أطوالها وفقًا لنوع النظم المستخدم.
أشكال النظم
الملاحظ هنا أن الأبيات الإنجليزية أطوالها العروضية هي ٤ – ٣ – ٤ – ٣ وقوافيها هي (أ – ب – أ – ب)، ولكن الأبيات العربية أطوالها العروضية هي ٤ – ٤ – ٣ – ٣، وقوافيها هي (أ – أ – ب – ب) أي إن المترجم عدَّل من النظام الإيقاعي بين أطوال الأبيات وقوافيها، ربما ليتفق مع النظام العربي، مع التزامه بتفعيلة المتقارب غير المزاحفة إلا في ثلاثة مواضع مع الاحتفاظ بالزيادة في كل بيت.
ونلاحظ أيضًا أنه قد استغل التنوين في كلمات البيت الأول لإرجاع صدی حرف النون الغالب عليه، ولكن مثل هذه الحيلة قد لا تصلح في ألوان أخرى من الشعر. وقد لا يتمكن من إرجاع صدى الصوت في كل حالةٍ. خذ المثال التالي من قصيدة سيدة شالوت للشاعر تنیسون:
ولكن تلك الموازاة أو الموازنة، كما ذكرت في المقدمة خادعة. فأفضل الأنغام الإنجليزية هي التي تكثر من الزحافات تجسيدًا للحالات الشعورية. وقد بلغت فنون العروض أوْجَها بالطبع لدى كبار الشعراء، وما دُمنا لا نزال ننظر إلى المقطوعة القصيرة، فهناك بعض أبيات شهيرة للشاعر الميتافيزيقي أندرو مارفل:
والممارسة تؤكد صحة أبحاث أحمد مستجير، فليس من قبيل المصادفة أن تؤكد الدراسات الرياضية التي استعان فيها بالحاسب الآلي صحة أوزان الخليل بن أحمد، وأن تثبت أن ما يقال من أن الأخفش قد أتی به تدارکًا للخليل ليس تحويرًا لفاعلن، بل بحر مستقلٌّ لا يقبل توالي الساكنين مطلقا! أليس من الغريب أن نرى في هذا البحر من الحركات المتوالية ثلاثًا وخمسًا وسبعًا بل وتسعًا أحيانًا، ولا نرى حركتين متواليتين مطلقًا؟
وعلى أي حال، فقد أثبت هذا البحر قدرةً فائقةً على التلون الإيقاعي في ترجمة الشعر، وقدرة على الخضوع للحالات الإيقاعية التي توحي بها القصيدة إلى حد جعله مؤهلًا للاستعمال في ترجمة المسرح، وخصوصًا في الحوار الذي يصعب قبول الأوزان المركبة فيه من قبيل الطويل أو الخفيف أو البسيط.
ولكنني يجب أن أحذر من الإسراف في استخدامه دون تروٍّ؛ لأنه قد يغري بالسرعة حين لا يجب الإسراع، وحين يغري بالغلبة الموسيقية حيث لا وجه لها، وهاك نموذجًا لما أعني، للشاعر شلي من قصيدة عنوانها: أبيات كتبت في تلال یوجانيا:
وها هي الترجمة بالخبب أولًا:
وهذه — بعد ذلك — ترجمة أخرى من المتقارب للقطعة نفسها:
ولسنا بطبيعة الحال في مجال المقارنة بين الترجمتين؛ فالذي يعنينا هو الفرق بين الإيقاع هنا وهناك، ومدى تأثير التفعيلة الأطول في الإبطاء بالحركة.
فإذا تركنا هذه البحور الرباعية، على اختلافها وأحوال زحافاتها، وضرورات القافية في فقراتها، فسوف نصل إلى ما أسميته في البداية بعمود الشعر الإنجليزي، وهو النظم المرسل أي غير المقفى، من بحر الأيامب الخماسي التفعيلة. فهو شعر الملاحم والمسرح الشكسبيري، وهو الذي استخدمه الشعراء في ترجمة الكلاسيكيات اليونانية واللاتينية. وإذا كنت قد عرضت لاحتمالات المتقارب والخبب، وملت إلى تفضيل هذا على ذلك أحيانًا، فأنا أتصور أن أفضل ما أفادني في خبرتي على مدى سنوات العمر كله هو بحر الرجز وتنويعاته — وأنا لا أقصد فقط ما يدخل عليه من الزحافات في العروض والحشو، إلخ — ولكن أيضًا ما يتحول إليه في خضم الممارسة الفعلية في ترجمة المسرح؛ إذ يشتبك مع زميليه في الدائرة الخليلية، وهما الرمل ثم الهزج. وكثيرًا ما كنت أتصور أن التحويل المقتسر لأحدهما إلى الآخر بالعضادات المعروفة لن يكون له لزوم إذا أبحنا لأنفسنا في الشعر العربي ما أباحه أصحاب اللغات الأخرى من مزجٍ للبحور، خصوصًا إذا كان البحران من دائرة واحدة؛ أي يشتركان في النغم الأساسي، أو إذا كان الفارق ظاهريًّا مثل تحول الكامل إلى رجز بإسكان الثاني المتحرك في تفعيلته المتكررة (متفاعلن).
والواضح أن ساري الذي ترجم عن اللاتينية كان متأثرًا بالنظم الكمي اللاتيني، فأخرج لنا أعدادًا منتظمةً من المقاطع ولا تكاد تتضمن زحافات ذات بال، مما دفع المترجِم العربي إلى محاكاته بإخراج ترجمة كمية، يتضمن كل بيت فيها خمس تفعیلات تامة، فكأنما هو يحاكي الأصل اللاتيني، ولا يقتصر على محاكاة الترجمة! على أن للمترجم الحقَّ في الخروج عن ذلك ولو في حدود الكامل نفسه ابتغاء التنويع الذي تتطلبه الأذن العصرية:
على أن النموذج الذي سيحسم القضية حقًّا هنا هو من الشعر المسرحي، وها هي ذي مقطوعة من أشهر ما أبدعه کریستوفر مارلو في رائعته «مأساة الدكتور فاوستوس» وسوف أنوه فقط بالزحافات الواردة في النص، ثم أقدم ترجمة من الكامل تسمح بالرجز وزحافاته وتسمح أيضًا بالهزج:
ولقد أتيحت لكاتب هذه السطور تجربة هذا المزج في ترجمات شيكسبير من قبل، وكان الرضا الذي صادفه المزج مصحوبًا بتجهم العروضيين الذين لا صبر لهم على مزج البحور. ولا شك أن بعضهم كان محقًّا؛ فالإيقاع العربي الذي تستريح الأذن إلى رتابته يسبب قلقًا إذا «اختلف» (ولا أقول انكسر، وأنا أستعمل فعل المطاوعة عامدًا) فالأذن التي تتوقع الانتظام الكامل لن تسيغ تغيير النغمة، ولكننا خصوصًا في الشعر الدرامي لا نجد مفرًّا من ذلك؛ ولذلك فالحل الذي هدتني خبرتي إليه بعد طول معاناة هو المزج بين البحور الصافية، وحبذا لو كان الرجز هو الأصل، ولا ضير علينا إن قالوا إننا مترجمون رجَّازون، وهذا إذن نموذج من مسرحية «الملك لير» لم يكن هناك بد من المزج فيه بين البحور.
وتتفاوت الأعمال المسرحية الشعرية أيضًا في مدى اتكائها على هذا النوع من النظم الذي يمكن أن نطلق عليه النظم الدرامي، وتتفاوت في درجة تحررها من الإيقاع الشعري، كما تتفاوت أجزاؤها المختلفة في درجة اتكائها عليه أو تحررها منه، فشيكسبير دائمًا ما يُخضع لغته لمقتضيات فنِّه الدرامي وهو، كما ذكرت في مقدمة ترجمتي لمسرحية «تاجر البندقية» لا يتقيد بقوالب النظم الخارجية، ويكاد يبتكر أنواع الموسيقى التي تتطلبها مواقفه الدرامية. وقد حاولت عندما شرعت في ترجمة «يوليوس قيصر» أن أحاكي النظم الذي اختاره، أو أن أمزج بين النظم والنثر، مثلما فعلت في ترجمة «روميو وجولييت» (القاهرة، دار غریب، ۱۹۸٦م)، ولكنني كنت دائمًا أصطدم بعقبة كأْداءَ، وهي أنني لا أستطيع أن أضحي بأي جانب من جوانب اللغة المستخدمة تركيبًا أو تنسيقًا أو ألفاظًا في سبيل الإيقاع الشعري! فلغة المسرحية تسيطر عليها دقة نادرة قد تفسدها إعادة ترتيب العبارة أو تركيب الجملة نُشدانًا للإيقاع الشعري. ويسيطر على المسرحية — خصوصًا في المواقف الدرامية الحرجة — منطق المتآمرين ومنطق الثأر المدروس المتأني، حتى حين يبدو أن الشاعر قد أطلق العنان لمشاعر الشخصيات، وجعلها تُخرج ما في باطنها دون حساب أو تدبير؛ ولذلك فقد فضلت آخر الأمر أن أقلع عن محاولة الترجمة المنظومة، وأن أستعيض عنها بإيقاع اللغة العربية الذي يتفاوت من موقف إلى موقف، ولكنه يتجاوب في كل حالة مع إيقاع الإنجليزية المنظومة – فهو في رأيي يمثل «البديل» لنظم شكسبير.
وقد مكنني هذا «البديل» من أن أضبط الصياغة العربية لأخرج المقابل (الذي كثيرًا ما يصل إلى درجة المثيل) للجوهر الدرامي لمسرحية «يوليوس قيصر» الذي ينسجه شيكسبير نسجًا بارعًا حاذقًا لا في الحوار فحسب، ولكن أيضًا في البناء المحكم، فكل ما تقوله الشخصيات قائم على تفكير دقیق ومرسوم بتأنٍّ وتمهُّلٍ، حتى في المشاهد التي تلتهب فيها المشاعر ويلوح لغير الخبير أنها كُتبت عفو الخاطر.
أما السمة الأولى لِلُغة المسرحية وهي تفاوت مستوياتها بين النظم والنثر وبين اللغة الرفيعة (أي الأسلوب الرفيع) واللغة العامية، فيكفي للتدليل عليها أن نورد فقرات محدودة من المشهد الافتتاحي الذي يتضمن حوارًا يمزج بين هذه المستويات جميعًا:
فالواضح هنا أن الضابطين فلافيوس ومارسيلوس يجنحان إلى النظم الكمي في معظم سطور حوارهما، بينما يلتزم الصانعان (النجار والإسكافي) بالنثر، ولكن الجميع يتحدث لغة عامية تتدني في حديث الإسكافي إلى مستوى البذاءة والسوقية، مما يغضب الضابط غضبًا شدیدًا، وترتفع في حديث الضابط إلى مستوى الأسلوب «الرسمي» ومعنى الأسلوب «الرسمي» هو الأسلوب الذي يفترض «مسافة ما» بين المتحدث والسامع، بحيث لا تشيع فيه رنة الألفة، وما يصاحبها من ظواهر أسلوبية معروفة مثل استخدام ألفاظ بعينها أو بعض التراكيب العامية الشائعة أو الخروج عن النظم الصحيحة لبناء العبارات، وفقًا لقواعد النحو في الفصحى أو اللغة المكتوبة، لغة التفكير العلمي والأدب «الرسمي» وما إلى ذلك. كما أن الضابطين يتحدثان بالنظم الحر الذي وصفته آنفًا، ويلاحظ أنه يقترب كثيرًا من أنماط النظم الحديثة التي تعتمد على عدد المقاطع المنبورة في البيت الواحد، رغم إبقاء شيكسبير على القاعدة الكمية أي على المقاطع العشرة في معظم الأبيات. وخذ نموذجًا على ذلك أول حديث للضابط مارسیلوس:
مع الإبقاء على عدد المقاطع المنبورة الأربعة، وذلك قبل أن يعود إلى صورة بحر الأيامب المنتظمة في البيت التالي له:
وقبل أن يزيد تفعيلة كاملة في البيت التالي له بحيث يصبح البحر سکندريًّا؛ أي يتكون من ست تفعيلات (ومقطع زائد أيضًا!):
وأخيرا يعود إلى البحر الثلاثي المزاحف:
وإن كان بعض النقاد يميلون إلى اعتباره رباعيًّا، حُذف منه آخر مقطع غير منبور أي إنه يجب أن يُعْتَبر هكذا:
والغاية التي أسعى إليها هي باختصار إيضاح مدى الحرية التي يتمتع بها الشاعر المسرحي الإنجليزي، والتي من المحال أن تتحقق في العربية؛ إذ إن شيكسبير هنا كاتب مسرحي في المقام الأول، وهو يتوسل بضروب منوعة من النظم للاتكاء على معانٍ خاصة بالموقف الدرامي، ولا يمكن إبرازها إلا عن طريق التغيير المتواصل للبحور والإيقاعات الداخلية من خلال الزحاف والعلل. ويكفي أن ينظر القارئ إلى السطور الافتتاحية للمسرحية (التي يقولها الضابط فلافيوس) ليدرك مرماي؛ فالسطر الأول يتكون من خمس تفعيلات تتضمن ستة مقاطع منبورة، والعبارة الثالثة التي تبدأ في منتصف السطر الثاني لا تنتهي إلا في السطر الخامس، وتتفاوت في السطور عدد المقاطع المنبورة تفاوتًا كبيرًا!
فإذا انتقلنا إلى أحاديث العامة، ويمثلهم هنا المواطنان الأول والثاني أي النجار والإسكافي؛ وجدنا أن شيكسبير يستخدم النثر من البداية إلى النهاية مع ما وصفته بالتدني إلى درجة السوقية والبذاءة، وإذا كان الهدف الذي وضعته نُصْب عيني في البداية (وأرجو أن يكون نَصْب عينَي كل مترجِم أدبي أيضًا) هو إيجاد المقابل الذي قد يرقى إلى مستوى المثيل، فربما كانت العامية المصرية أفضل مستويات العربية المتاحة لترجمة هذه العبارات، ولكنني اتبعت في ترجمة المسرحية كلها لغة عربية معاصِرة تستطيع أن ترقی إلى مَصافِّ اللغة الرفيعة، وأن تهبط إلى بعض مستويات العامية الدنيا؛ ولذلك فأنا نشدت البديل في الحالين؛ أي في ترجمة النظم المسرحي بنشر فصيح أعتبره بديلًا مقبولًا، وترجمة النثر المسرحي العامي بنثر مبسط يستخدم بعض المفردات ذات الدلالة الحية في العامية المصرية باعتباره بديلًا مقبولًا. وهذه هي ترجمة الأبيات العشرين الأولى:
وليأذن لي القارئ أن أقتبس؛ إيضاحًا لهذه النظرة، ما سبق أن أوردته في كتابي «فن الترجمة» (الشركة المصرية العالمية للنشر لونجمان ط١ ۱۹۹۲م، ط۲ ۱۹۹٤م، ط ۱۹۹٦م) عن دقة الصياغة اللغوية في نص شيكسبير التي قد تفسد إذا اختار المترجِم إيقاع النظم بدلًا من النثر الذي يتيح دقة الصياغة دون عائق الإيقاع المنتظم. وليأذن لي أن أعيد ما ذكرته عن «التفكير الدقيق المرسوم بتأنٍّ وتمهل» وهو الذي يعتبر الأساس لكل ما تقوله الشخصيات حتى حين تلتهب المشاعر، ويلوح لغير الخبير أن كلامها يصدر عفو الخاطر. ولذلك فأنا أعيد الحديث عما ذكرته عن مشهد من أهم مشاهد مسرحية «يوليوس قيصر» وهو المشهد الثاني من الفصل الثالث الذي كثيرًا ما يقدم وحده باعتباره قلب المسرحية، ليس فقط لأنه يقع في منتصفها، بل لأنه أيضًا محور الارتكاز الذي يتغير عنده الحدث، عند بداية الانتقام من قتلة قيصر.
يبدأ المشهد بدايةً نثريةً؛ إذ يتخلی شيكسبير عن النظم کي يحكم بناء المنطق الذي يتحكم في بناء المشهد؛ ولذلك تجد أن الخطبة الأولى التي يلقيها بروتس، وطولها سبعة وعشرون سطرًا منثورة، وبعدها يقاطعه أحد الأهالي بسطرٍ قصيرٍ ثم يستأنف خطبته، ويتحدث على مدى أربعة عشر سطرًا أخرى نثرًا! وبعد ذلك يتحدث الأهالي في سطورٍ منفصلةٍ ومقطعةٍ يعربون فيها عن اتباعهم لبروتس حتى السطر ۷۸، وعندها يتكلم أنطونيو مع الأهالي حتى آخر المشهد تقريبًا (حتى السطر ۲٥٤) وهو يستأثر في الحقيقة بما يربو على مائة وثلاثين سطرًا تتخللها نداءات الأهالي وصياحاتهم.
ولكن ماذا يقول أنطونيو في هذه السطور الكثيرة؟ إن خطبته الطويلة التي تستغرق صفحات متوالية مقسمة تقسيمًا دقیقًا بين القسم الأول (من ٧٤–١٠٩) الذي يضع فيه أنطونيو بعناية أسس إدانته لبروتس وعصبته، وبين القسم الثاني (۱۲۰–۱۳۹) الذي يلقي فيه بخبر وصية قيصر حتى يثير فضول الجمهور، والقسم الثالث (۱٥۱–۱۷۰) الذي يعتبر نقطة تحول من الوصية إلى التركيز على بشاعة الجريمة التي ارتكبها الخونة وذلك في القسم الأخير (من ۱۷۰–۱۹۹) حيث تتحول مشاعر الجمهور تمامًا إلى مساندة أنطونيو، والعداء السافر لبروتس وكاشيوس وسائر المتأمرين، وبعد عدد من الصيحات التي يعرب فيها الجمهور عن عدائه لزمرة الخونة (۲۰۰–۲۱۰) يعود أنطونيو إلى التلاعب بمشاعر الجمهور؛ لكي يحوِّل استياءهم إلى موقف صلب؛ أي إلى عمل إيجابي، وهو يحسب لكل كلمة حسابها في هذا الخطاب، حتى يصل (۲۱۱–۲۳۲) إلى كلمة «الثورة» التي يرددها الشعب؛ أي الانتقام لمقتل قیصر … وعندها فقط يعود إلى ذكر الوصية التي يكون الجمهور قد نسيها، حتى يضمن ولاءه التام (۲۳۷–۲٥٤) فيسود الهرج والمرج، ويدخل رسول أوكتافيوس فيجد أن أنطونيو واثق كل الثقة من قدرة «كلماته» على أن تفعل فعلها في نفوسهم! (۲٥٤–حتى آخر المشهد).
ففي هذه السطور السبعة يلخص لنا أنطونيو صفات الخطيب المصقع في زمانه، وهي الخصال الست المعروفة:
(البديهة الحاضرة) | (1) wit |
(الألفاظ المنتقاة) | (2) words |
(المكانة المرموقة) | (3) worth |
(براعة الأداء) | (4) action |
(حسن الإلقاء) | (5) utterance |
(ذلاقة اللسان) | (6) power of speech |
وقد أجمع النقاد على أن شيكسبير كان يتعمد وضعها في هذا الترتيب؛ ليبين أن الصفة الأولى هي البديهة الحاضرة، وهي الصفة التي تميز أنطونيو أكثر من غيره من الشخصيات، ويليها حسن اختيار الألفاظ ومكانة الخطيب في المجتمع، ثم براعة أدائه التمثيلي أثناء الخطبة وحسن إلقائه، وأخيرًا ذلاقة اللسان أو قدرة المتحدث على إثارة مشاعر الناس! والواضح أن هذه الصفات التي ينكرها أنطونيو في نفسه هي أهم صفاته هو، مع أنه ينسبها إلى بروتس؛ أي إنه يثبتها حين ينكرها وبهذا الترتيب!
ومعنى ذلك ببساطة هو أن أي تغيير في ترتيب الألفاظ والعبارات سوف يقلل من تأثير هذه الفقرة التي تبدأ بإنكار صفة الخطيب المصقع، وتنتهي بادعاء الحديث العفوي! وها هي إذن ترجمتي لها، وأعتقد أنها أقرب ما تكون إلى هذا البناء:
أما زيادة بعض الألفاظ (وكلها صفات) في النص العربي، فهذا يرجع إلى ما أسميه بضرورة التفسير الخاص للنص قبل أن يشرع المترجم في نقل العمل الأدبي، وهو ما تعرضت له في مقدمتي لترجمة «تاجر البندقية» المشار إليها آنفًا. وإنما ضربت هذا المثل لأبين أن حديث أنطونيو مرسوم بدقةٍ بالغةٍ، فإذا حاول المترجم أن يصوغه نظمًا عربيًّا لم يجد بدًّا من التضحية ببعض جوانب هندسة البناء الفكري التي يستند إليها البناء اللغوي، كأن يعيد ترتيب هذه الصفات، أو يستعيض عن كلمة بأخرى تتفق والوزن الشعري (وما أكثر ما يفعل الشاعر نفسه ذلك!) أو يضيف كلمةً طلبًا للقافية، وهذا كله مقبول بل ومحمود في ترجمة الشعر الغنائي الذي يلعب فيه الوزن والقافية كما قلت دورًا كبيرًا، ولكنه غير مقبول ولا محمود عندما يكون التركيب الفكري هو الأساس، لا الصورة أو الموسيقى والقافية!
وحتى لا يظن القارئ أنني لم ألجأ إلى الترجمة المنظومة كسلًا أو تراخيًا، سأورد صورة أعتبرها مقبولة في ترجمة الشعر الغنائي، صورة منظومة لهذه الفقرة، وأترك للقارئ الحكم على مدى جورها على الأصل، أما من يأنس في نفسه القدرة على إخراج ترجمة منظومة أكثر دقة فهو مدعو للمشاركة في هذا الجهد الجميل الممتع:
أقول إنني أترك للقارئ الحكم على مدى ابتعادها (أو اقترابها) من الأصل، وإن كان لا بد لي أن أشير إلى أن الموسيقية الغلابة هنا، والقافية غير المقصودة؛ تجوران على الأصل ذي الإيقاع الخافت الذي يقترب كثيرًا من النثر! ويكفي أن أقول إن أنطونيو لو تحدث هكذا — بالنظم العربي الجَهْوَرِي — لأحس الجمهور بفن الصنعة الذي لا ينبئ عن نفس صافية صادقة؛ فالموقف الدرامي يرفض غلبة الموسيقى هنا التي قد تخلب الأذن دون أن تصل إلى العقل أو القلب، وأنطونيو يحاول أن يصل إلى قلوب السامعين وعقولهم، لا أن يخلب آذانهم! ومن ثم كان قراري بأن البديل النثري أقرب إلى تحقيق المقابل الدرامي من المقابل المنظوم، مثلما كان قراري بالالتزام بالعربية المعاصرة بمستوياتها المتعددة.
وسوف أورد هنا فقرتين، تُنسب الأولى لشيكسبير والثانية لفلتشر، وإن كانت الدراسات الحديثة تقطع بنسبتها جميعًا للأول، وقد ترجمتُ كلًّا منها نظمًا ونثرًا لإيضاح مدى الاختلاف الذي قد يُحدِثه النظم في الأبنية الفكرية.
أما الأولى فهي إجابة الكاردينال وولزي على الملك هنري الثامن في المشهد الثاني من الفصل الثالث:
أما النموذج الثاني فهو حديث منفرد يقوله وولزي أيضًا على المسرح بعد إدراك انهيار آماله وضياع حظوته لدى الملك واقتراب النهاية المحتومة:
وهذه، بعد ذلك، ترجمة القطعتين نثرًا. وهذه هي الأولى:
وهذه هي الثانية:
وأعتقد أن المقارنة سوف توضح الفروق بما لا يدع مجالًا للشك.
دلالة استخدام النظم
وليس معنى هذا أن شيكسبير يفصل فصلًا خارجيًّا بين استخدام النظم والنثر في مسرحياته، بل هو أحيانا يكتب ما يتصور القارئ أنه نثر وهو نظم، وقد أخطأ ناشرو طبعة الكوارتو الثانية (۱٥۹۹) لنص «روميو وجولييت» كما سبق أن ذكرت، عندما طبعوا حديث «الملكة ماب» المنظوم الذي يلقيه مركوشيو كأنه قطعة منثورة، وكثيرًا ما عجب النقاد من المزاوجة بين النثر والنظم في عدد من مسرحياته، وتعدد وظائف النظم أحيانًا، كما سوف نبین.
ففي مسرحية «تاجر البندقية» أيضًا يستخدم الشاعر النظم بمستوياته المختلفة، وقد يرتفع إلى مستوى الشعر كما نفهمه (في أحاديث بورشیا مثلًا) وقد يظل عند مستوى الحوار المنظوم للغة الحياة اليومية، وقد يهبط إلى مستوى النثر الحافل بالنكات اللفظية، والعبارات السوقية، بل والبذاءات كما يفعل في مسرحياته الأخرى، وقد دأب ناشرو شيكسبير على مر العصور على مناقشة هذه المستويات، والمقابلة بينها، وكثيرًا ما استوقفَتهم بعض التناقضات التي ترجع في بعض الأحيان إلى أخطاء النساخ؛ إذ إن الطبعات المختلفة للمسرحيات كانت تعتمد على النسخ التي كان الممثلون يستخدمونها على خشبة المسرح، وهي نسخ تتسم بالتفاوت في القراءات المختلفة، (وكثيرًا ما تدخَّل الناشرون، فحذفوا من النص ما تصوروا أنه يخدش الحياء، خاصة وأن المسرحية تُدرس للطلبة في المدارس والجامعات، وتقاليد العصر الفكتوري تقضي بعدم الإشارة إلى العلاقة بين الجنسين على المسرح) ولهذا كثيرًا ما تجد حديثًا كتب بالنثر دون مبرر في سياق الشعر أو النظم.
على أن أهم ما تتسم به هذه المستويات الفنية كما سبق أن أوضحت هو براعة شيكسبير في تنويع إيقاعاته بحيث يبدو الإيقاع الأساسي للشعر المرسل، وهو بحر الإيامب أشهر بحور الشعر الإنجليزي قاطبة؛ وكأنه بحر آخر. ونظام الزحاف في الشعر الإنجليزي يختلف عنه في العربية، كما سبق أن أوضحت؛ إذ إن للشاعر حرية تغيير الإيقاع تغييرًا جذريًّا دون أن يعتبر خارجًا على البحر. وهذا هو الذي يُمكِّن شيكسبير من كسر الرتابة التي يمليها البحر الواحد، بل وأن يجعله في مواطن كثيرة قادرًا على الإيحاء بأنغام متناقضة لا تصدر إلا عن شاعرٍ ملك ناصية الأنغام اللغوية. وقد رصد الدارسون خمسة وعشرين بابًا من أبواب الزحاف والعلل وتغيير البحر، إما باستخدام المزيد من التفعيلات أو تغيير التفعيلة نفسها، أو المزج بين التفعيلات من بحور مختلفة في «تاجر البندقية» فمثلًا يستخدم شيكسبير أطوالًا مختلفة من بحر الإيامب، فلديه البحر الخماسي المعتاد (ذو التفعيلات الخمس)، انظر أول بيت في المسرحية:
ولديه البحر السداسي (السكندري):
ولديه البحر الرباعي الذي يستخدم تفعيلة مختلفة هي عكس تفعيلة الإيامب:
ولديه البحر الثلاثي:
ولا داعي للاستطراد هنا، فشيكسبير يُخضع إيقاعاته للحالات الشعورية التي تقتضيها المواقف الدرامية، ولا يعمد — إلا في الأغاني — إلى تغليب النبرة الإيقاعية التي تتميز بها البحور العربية المنتظمة (أي التي لم يدخل عليها الزحاف). وأما القافية فهي مقصورة على نهاية المشاهد والأغاني، وهي عمومًا نادرة.
ولذلك أرى أن أفضل وسيلة لترجمة هذا النص ترجمةً أمينةً تقترب من إطاره النفسي والثقافي واللغوي هي استخدام ما يسمى بالشعر الحر تجاوزًا، أو الشعر الحديث خطأً، أو الشعر المرسَل أو شعر التفعيلة، وهي جميعًا صفات لا تبلغ حد التعريف، ولكنها تفيد في التمييز بين النظم الجديد وبين الشعر العمودي. وكان البحران اللذان استخدمتهما بالتناوب أقرب البحور إلى إيقاع النثر حتى لا تغلب الموسيقى على سائر مقومات الشعر، إلا في الأغاني التي التزمت فيها بانتظام الإيقاع والقافية.
والبحران هما الرجز والخبب، والأخير هو الصورة الحديثة من صور المحدَث أو المتدارَك وقد وجدت أنهما طيِّعان ومتناسقان، بل إنني كثيرًا (دون أن أعي ذلك) كنت أخرج من أحدهما إلى الآخر أثناء الترجمة، خصوصًا في صورهما المزاحفة، كما استخدمت بعض البحور الصافية الأخرى وأهمها الرمَل والمتقارب والهزج، وأحيانًا كانت تأتي الترجمة رغمًا عني في بحور مركبة، ولكن هذا نادر الحدوث، وقد أطلقت لأذني عنانها في الترجمة بحيث لا أفرض صورة معينة من بحر ما على النظم؛ إذ لم يكن النظم همي الأول؛ ولذلك جاءت ترجمة الأجزاء المنثورة وبها إيقاع يقترب كثيرًا من إيقاع النظم، وإن لم يكن مقطَّعًا تقطيع النظم. وأخيرًا فإن تغيير البحر عندي يبدأ عند انتقال الحديث من شخصية إلى أخرى لا أثناء حديث الشخصية، ولكنني اعتمدت في تلوين التباين في الحالة الشعورية على الزحاف، بل إنني اعتمدت على قدرة الكلمات نفسها على تحديد البحر وتلوين الاختلاف في إيقاعاته نفسها، ويكفي المثل التالي لإيضاح ما أعنيه، وهذا مقطعٌ من الفصل الرابع:
المشهد الأول
(يُخرج شيلوك سكِّينًا يشحذها على نعل حذائه.)
(تدخل نیریسا متنكرة في زي كاتب محامٍ.)
الواضح أن كل متحدث يستخدم بحرًا يختلف عن بحور الآخرين؛ فالقطعة تبدأ بالرجز والكامل «ساليريو والدوق» ثم الخبب «باسانیو» ثم الرمل «أنطونيو» ثم الرجز «الدوق» ثم الهزج «نیریسا». ويهمني أن يعرف القارئ أنني نتيجة لاتباع أذني التي تدربت على الشعر العربي قديمه وحديثه، لم أعد أفرق بين الكامل والرجز، وأتصور تداخل إيقاعاتهما تداخلًا حميمًا، فدارس العروض التقليدي سيجد تفعيلتين من الكامل في السطور الأولى، التفعيلة الأولى في السطر الثاني من القطعة، والثانية في السطر الثالث، ولكنني أعتبر أنه رجز، وأذني تسمح لي بزحافات الرجز في هذا البحر، وقد تكون هذه الاختلافات العروضية ومنها تحريك السابع الساكن في تفعيلة الرمل (التي أغضبت بعض الأصدقاء) من باب «التمرد العروضي» الذي أشار إليه صديقي الشاعر الدكتور أحمد مستجير (مؤلف كتاب «مدخل رياضي إلى عروض الشعر العربي» القاهرة، ۱۹۸٦م)، وقد تكون من باب العودة إلى فطرة الأذن بدلًا من اتباع القواعد التي استمدها السلف مما حکمت به الأذن! فبحر المتوفر «مهمل» ولكنه أحد بحور دائرة خليلية معترف بها.
وأما تغيير الإيقاع فهو لا يقع فحسب نتيجةً لتغيير البحر، ولكنه يقع أثناء البحر نفسه نتيجةً للحالة الشعورية التي تتغير ولو تغيرًا طفيفًا أثناء الحديث، ولا شك أن للموقف وللمعنى تأثيرًا كبيرًا في تحديد الإيقاع، فإيقاع الخبب في بداية حديث باسانیو مرح فرح؛ لأن رنة سعادته بوصول الرسول تغلب على حديثه. ثم يبطئ الإيقاع في نفس البحر عندما يرى السكين التي شحذها شيلوك على نعل حذائه؛ فالحالة الشعورية الآن يشوبها قلق فيه تحدٍّ؛ إذ يقول: إنه سيفدي أنطونيو بنفسه … وهنا يتحول الإيقاع إلى بحر الرَّمَل في حديث أنطونيو الحزين، وتكون آخر عباراته أسرع قليلًا، وأكثر انتظامًا؛ لأنها في الحقيقة رد على فكرة افتداء باسانیو له، ثم تدخل نیریسا فتعود الحركة إلى المشهد، ويعود الحوار «الساخن» والعبارات القصيرة في جو المحكمة الذي يخيم عليه الحزن، ويشيع فيه الأمل الآن (الرجز ثم الهزج).
أما البحور المركبة فأهمها الخفيف وصوره المختلفة، إلى جانب بعض صور البسيط التي فرضت نفسها في إطار الرجز، وربما كان هذا أيضًا من الجديد الذي لا أملك له دفعًا، بل ربما وجد بعض المتخصصين أنغامًا عروضيةً جديدةً أرجو ألا تكون بالضرورة غير مقبولة، وهناك لا شك فارق كبير بين القطع المكتوبة بالشعر العمودي (مثل الرسائل الموجودة في الصناديق والأغاني فهي كذلك في الأصل) وبين البحور المركبة (أو المختلطة) الموجودة داخل النص. قارن الأبيات التالية من الرجز (أو الكامل):
بالأبيات التالية (من الخفيف):
أو بالأبيات التالية من نفس البحر (مع التحويرات المستحدثة):
وأعتقد أن هذه الأمثلة تكفي لإيضاح ما أعنيه؛ إذ إن من يُخضع كلَّ شيءٍ للحالة الدرامية لن يجد مناصًا من تغيير البحور أو حتى التجديد فيها ما دام ذلك مما تستسيغه الأذن، ولا يخرج عن «السلم الموسيقي» اللغة العربية.