ترجمة «النغمة» في النص الأدبي
و«النغمة» من الصفات التي يتصف بها النص الأدبي أيًّا كانت اللغة التي يكتب بها، ومعنى ذلك أنها صفة لا تخلو منها العربية، بل ربما كانت أقوى في العربية منها في كثير من اللغات القديمة، ولكننا نكاد نفقد الإحساس بها لبعد الشُّقَّة، ولغياب صوت العربية الحي عن آذاننا، بينما نعرفها كل يوم في العامية، وهي مستوى معروف من مستويات العربية (السعيد بدوي – مستويات اللغة العربية فى مصر) بل ونعتمد عليها في إيصال معانينا للسامعين. ومن ذا الذي لا يقول لمن أساء إليه «شكرًا!» بدلًا من أن يشتمه، أو يقول لمن قدم إليه «معلومات» معروفة ولا قيمة لها: «أفدتنا … أفادك الله!» وقد يصف بعضنا شيئًا ممتازًا (بالعامية المصرية بل والسودانية) بأنه «ابن كلب!» وقد نلجأ إلى المبالغة عندما نقول: إن فلانًا عاد إلى منزله وهو «أسعد أهل زمانه» (عبارة أبي الفرج الأصبهاني المفضلة) أو عندما نقول: إن فلانًا ضم أطراف المجد أو السؤدد وما إلى ذلك، وقد نلجأ على العكس من ذلك إلى المخافَضة، عندما نقول: إن فلانة سعيدة بزواجها من المليونير فلان «فهو لا يشكو الفاقة» أو إن طه حسين لا يخطئ كثيرًا في اللغة العربية، وما إلى ذلك؛ فالمعنى في كل حالة من الحالات السابقة (عامية كانت أم فصحى) يتوقف على تفسيرنا للنغمة، وهو التفسير الذي يحدده الموقف؛ أي تحدده معرفتنا بالمشتركين في الحديث، وعلاقاتهم بعضهم بالبعض والمناسبة التي يقولون فيها ما يقولون.
وحسبما أعلم كان صلاح عبد الصبور أول من تطرَّق إلى دراسة «النغمة» في الشعر العربي عندما حاول استشفاف روح السخرية في قصيدة المنخَّل اليشكري الذائعة، بل وأورد بعض الدلائل على أنه كان يقوم بحركات تمثيلية أثناء إلقائها تساعد على إدراك النغمة التي يرمي إليها، وربما كان على حق في أن علينا أن نعيد قراءة الكثير من الشعر الذي وصلنا، بحيث نضعه في سياقه الأصلي، وربما اكتشفنا به نغماتٍ محتلفةً عن النغمات التي درجنا عليها (انظر «قراءة جديدة لشعرنا القديم») وأظن ظنًّا أن هذا جانب مما حاوله أستاذنا الدكتور شكري عياد حين قدم لنا «في اللغة والإبداع» تحليلًا لقصيدة المتنبي «ملومكما يجلُّ عن الملام» فوضع البيت التالي في سياقٍ جديدٍ:
إذا يفسره على أن المتنبي يسخر من نفسه حين يقول: إنه حين يضلُّ طريقه فيصبح مثل البعير فلا يرى إلا ما يرى، بل ويصبحُ صوتُهُ مثل صوت ناقته! وقد كنتُ قد درجت على تفسير البيت طبقًا لما جاء في شرح الديوان (للبرقوقي أو اليازجي) من أن الرواحل تهديه إذا حار، وغنيٌّ عن البيان أنني كنت أحار — أنا نفسي — في إدراك هذا المرمى! فما وجه الفخر في أن الناقة تبصرُ حين لا يبصرُ، أو أن أصوات النوق تحاكي صوته؟ وقد نهج هذا النهج — مع اختلافٍ في زاوية المدخل — أحمد عبد المعطي حجازي في كتابه «قصيدة لا».
وربما كان السبب في قلة الأمثلة على تفاوت النغمات في أدبنا العربي هو احتفالنا التقليدي بالجد ونفورنا من الهزل، والواقع أننا نفترض أن للتراجيديا قيمةً إنسانية أعلى بكثيرٍ من الكوميديا، وأحيانًا ما نفصح عن ذلك حين نشطب عمل كاتبٍ شطبًا يكاد يكون كاملًا حين نصفه بأنه هازل، ونحن ننصح أبناءنا بألا يعمدوا إلى الهزل «إلا بمقدار ما تعطي الطعام من الملح» كما يقول الشاعر، وبأن يتجهموا كأنما لا بد أن يصاحب الجد في العمل تقطيب وجوههم!
أقول: إننا درجنا على ذلك دون مبرِّرٍ في الحقيقة سوى تقاليد «الراوية» أي اعتماد الأدب العربي منذ عصوره الأولى على الرواة، واعتماد الجهود الدينية التي صاحبت انتشار دين الله الحنيف أيضًا على الرواية، ومن ثم على السند، وهذا يقتضي أن يكون الرواة ممن يعرفُ عنهم الجد والابتعاد عن الهزل أيًّا كانت المناسبة، ولقد ذكر مثلًا في أحد الكتب القديمة «المستطرف للأبشيهي» أن أحد الرواة «لم يبسم طول حياته ومات دون أن يرى أحدٌ سنَّه» (يقصد أسنانه) [ص٧٢] كما تكثر الإشارات إلى أن فلانًا كان «كثير الضحك» بمعنى أنه «يحب الهزل» ومن ثم فرواياته يمكن أن تكون غير صادقة!
ومن الطبيعي في هذا الجو الذي يتطلب الجد «بمعنى التجهم» حتى يتمكن الإنسان من اكتساب مكانته الوقور في المجتمع، فتُقبل شهادته أمام القاضي، ويُروى عنه ما يُروى من أحداث العصر، وشعر الماضي وأدبه، أقول: إن الطبيعي في هذا الجو الغائم الملبَّدِ أن تفرَض على الأدب «نغمة» واحدة، وأن يعمدَ الأديب إلى بث الطمأنينة في قلوب سامعيه «أو قرائه في مرحلةٍ لاحقة» بأن يؤكد لهم أنه صادقٌ في كل ما يقوله، وأنه لا يهزل مطلقًا، ولا يحب اللهو أو الطرب أو السرور!
ويشهد الله، أنني لم أكن أتصور أن ذلك يمكن أن يكون صحيحًا حتى كُتِبَ لي أن أعاشر أقوامًا من بقاعٍ شتى في الوطن العربي الشاسع، وأرى بنفسي كيف يعجز إنسان عن الابتسام طول عمره (أو لعدة أعوامٍ هي الزمن الذي عشناه معًا في الغربة) ثم أفهم ما قصده ابن بطوطة حين زار مصر في القرن الرابع عشر الميلادي، وقال:
«وأهل مصرَ ذوو طربٍ وسرورٍ ولهوٍ، شاهدت بها مرةً فُرجَةً بسبب برء الملك الناصر من كسرٍ أصاب يده، فزيَّن أهل كلِّ سوقٍ سوقهم، وعلَّقوا بحوانيتهم الحلل والحليَّ، وثياب الحرير، وبقوا على ذلك أيَّامًا» (ص٣٢، بيروت، دار التراث، ١٩٦٨م).
وهو يعجبُ للعمل الدائب «الذي ما يتوقف أبدًا» ومع ذلك يلاحظ طيب المعشر «مؤانسة الغريب» ورقة الطبع «اللطف» والميل إلى الضحك والسخرية من كل شيء! لقد دهِشَ الرجل دهشة كبيرة، وكل من يقارن ما قاله ابن بطوطة عن مصر بما قاله عن البلدان الأخرى التي زارها سيدهش لاختلاف الطبع اختلافًا بيِّنًا، وسيزداد دهَشُه حين يدرك أن التراث العربي المشترك (تراث اللغة والأدب) لم يؤثر في تفاوت الطباع، وأعتقد أن العكس هو الصحيح، فإن الطبع المصري الميال إلى «الطرب والسرور واللهو» حتى في أحلك فترات تاريخنا، قد أثر على نغمة الأدب الذي نكتبه، وجعلنا نحتفل بالكوميديا احتفالنا بالحياة نفسها؛ فالكوميديا في أحد تعريفاتها «احتفال بالحياة» ويلي سايفر «الكوميدي» انظر كتابنا «فن الكوميديا» ولم يولد لدينا التقسيم الكلاسيكي الذي صاحب الآداب اليونانية والرومانية من استخدام الشعر مثلًا في التراجيديا، والنثر في الكوميديا، أو اقتصار الفصحى على الأولى والعامية على الثانية، فامتزج هذا وذاك في آدابنا الحديثة؛ إذ كُتِبَت التراجيديا بالعامية والنثر، وكتبت الكوميديا بالفصحى والشعر.
ولسوف يسهل على قارئ الترجمات الحديثة أن يكتشف النغمات المتفاوتة حين يلتزم المترجِم الأمانة في ترجمته فلا يجْفُل من استخدام كلمة عامية، أو تعبير عامي يساعده على نقل النغمة، وحين يدرك أن للغة مستويات متعددة هي التي تساعد الكاتب على «الصعود» أو «الهبوط» في نغماته، دون أن يكون لذلك علاقة مباشرة بالسُّلَّم الاجتماعي للغة! فإذا أدركنا ذلك، وضعنا أيدينا على العيب الأساسي الذي شاب ترجمات شيكسبير حتى منتصف هذا القرن، وخصوصًا مشروع الجامعة العربية. فالمترجمون بلا استثناء يستخدمون الفصحى المعربة المنثورة، ويلتزمون بقوالب العربية القديمة «الجزلة» مهما تكن طبيعة النص الذي يتعرضون له، ومهما يكن مستوى لغة المتحدث أو «نغمته». ولا يقولن أحد: إن ذلك لون من ألوان الترجمة الهدف منه تقديم معنى الألفاظ فحسب، فترجمة الأدب (ولا أقول الشعر) لا تتطلب معاني ألفاظ مفردة فقط، بل إن معاني الألفاظ المفردة نفسها تتأثر بالنغمة، وتتفاوت من موقف إلى موقف في المسرحية، كما سبق أن بينت في الفصل الأول.
(١) دور الوزن في تحديد النغمة
ومن الطبيعي أن أقول ذلك كي أبسط منهجي في الترجمة وأدافع عنه، فترجمة مقطوعة شعرية صُلبها الوزن وعمادها الإيقاع تتطلب الاقتراب من هذا الوزن وذلك الإيقاع، وما أكثر ما نردد أقوالًا عربية كان يمكن أن تُخْتَزل إلى النصف أو الربع لولا الوزن! ومن هذا الباب جاء ظلم مترجمي العربية من المستشرقين الذين تنحصر معرفتهم بالعربية في الألفاظ المفردة، فنحن حين نستشهد بقول شاعر «كناطح صخرة» إشارة إلى جهد من يحاول المحال، فنحن نشير في الحقيقة إلى بيت كامل يقف على قدميه وهو:
والفارق كبيرٌ بين من يقول: «كناطحٍ صخرة» فقط، ومن يردد البيت كلَّه! وهذا من أثر النغمة التي تكون في الحالة الأولى حادَّة قاطعةً، وفي الثانية مرتخيةً فاترة بسبب الإطناب؛ فالكلمات ابتداءً من «يومًا» وحتى آخر البيت لا عمل لها إلا الإبقاء على التماسك العروضي له، وقِس على ذلك الكثير من الشعر، فنحن نقول: «من جدَّ وجَد» ونفخر بإيجازه، ولكن شعرنا حافل بما يجري مجرى الأمثال، دون أن يكون بهذا الاقتضاب:
فكلُّ ما بين الأقواس زائدٌ، وهو من لوزام الإيقاع العروضي، أي العضادات التي تسندُ البيت كي يستقيم وزنه، وإذا قال قائلٌ: إن هذا شعر حِكَم وأمثال وحسب، وقائله «الإمام الشافعي» ليس من الشعراء «المحترفين» سُقْتُ إليه نماذج من أعظم شعرائنا دون جهدٍ كبيرٍ، بل ومما يعرفه طلبةُ المدارس، من المعلقات مثلًا:
إلى المتنبي نفسه:
وحتى شوقي — شاعر العصر الحديث — في رثاء مصطفى كامل:
أو مما يحفظه عشاق أم كلثوم (عن أم كلثوم!):
وما ينطبق على الشِّعر، ينطبق على النثر، وخصوصًا ما كان يسمى بالنثر الفني تجاوزًا؛ لاتصافه بخصائص النظم، مثل السجع «الذي يحاكي القافية» وتساوي المقاطع «مما أوصى به أبو هلال العسكري في كتابه الصناعتين» وما إلى ذلك من المحاسن الشكلية المستقاة من شعرِ العرب، وأرجو ألا يتصور أحدٌ أنني انتقد مدرسةً فنِّيَّةً بعينها أو أعيب شكلًا من أشكال التعبير تختص به العربية دون غيرها، فهذه سماتٌ لا تتميز بها لغةٌ عن لغة، ولكنني أسوق هذه الأمثلة للتدليل على الوظيفة التي يقوم بها الإيقاع في تحديد «النغمة» فإذا كان صحيحًا أن الذهن يستوعب معاني الألفاظ بسرعة تفوق سرعة إلقائها أربع مرات (دافيد كولب وآخرون: «نحو نظرية تطبيقية للتعليم عن طريق الخبرة» لندن، ١٩٧٦م)، فإن إبطاء الإيقاع عن طريق تكرارِ بعض الألفاظ أو العبارات في قوالب نغميَّةٍ محدَّدَةٍ يُضاعف من الزمن الذي يستغرقه الذهن في استيعاب المعاني، ويجعل للأذن المهمة الكبرى في عملية التلقي حتى لو كان القارئ يقرأ شعرًا مهموسًا (وهو الاصطلاح الذي أتى به الدكتور محمد مندور؛ ليفرق بين شعر الخطابة القديم، والشعر «الوجداني» الحديث) ولذلك فإن «نغمة» الشاعر لا بدَّ أن تختلف مما يلقي على المترجِم عبئًا جديدًا، وإن كان قاصرًا على التصدي «للنغمة» ماذا عساه فاعلٌ بمن يبدو أنه يهزِلُ وهو جادٌّ، أو من يبدو أنه جادٌّ وهو يهزل؟ إن روميو مثلًا في هذه المسرحية يهزلُ هزلًا صريحًا في بداية المسرحية وفي باطنه الجد، ونغمته اختلف في تحديدها النُّقَّادُ، وذلك حتى يُقابلَ جولييت فيتحوَّلَ إلى نغمةٍ جادَّةٍ كلَّ الجِدِّ، لا أثر فيها لهزلٍ على الإطلاق، وإن كان شيكسبير لا يتوقف عن التلاعب بالألفاظ، «كالتوريات مثلًا» إلى آخر سطرٍ في المسرحية!
ولْأقرِّبْ ما أعني الآن بقصيدةٍ كتبها بالعربية المصرية صلاح جاهين، وصعد بفنونها الشعرية إلى مصافِّ التوحُّدِ والتفرُّدِ، بل وتخطَّى — دون مبالغةٍ — كلَّ من سبقوه:
من البداية نجد النغمة الهازلة في «الصدمة» التي تقدمها لنا الكلمات الأولى، وتؤكدها المفارَقة الواضحة في «أموت في التُّرب» فهي من النِّكات الذائعة لدى المصريين في باب القافية، [(أ) الحانوتي حياخد له بالميت عشرين جنيه! (ب) طب ومن غير ميت؟] وهكذا نجد أن هذه اللمسة تجدد لنا «السلم الموسيقي» الذي يساعدنا في إدراك النغمة! فكيف سنقرأ «زَيْ حيِّ الغناي»؟ بمفارقتها المؤلمة! «حد واخد منها حاجة؟» وكيف ستقرأ «زَيْ شط البحور»؟ «على شط البحور والنِّسْمة/حوالينا الحياة مِبْتِسْمة!» «على شط بحر الهوى!»
ومفارقة الدَّبيب «العالي» المتناقض فيما يشبه «الطباق الكلاسيكي مع «راقد» والذي ينتهي «بواقف»؛ أي إن تتابع الحركة والسكون هنا مشهد کامل لا مجرد تسجيل لحدث في الماضي، إننا مع زائر القبور، بل نحن الذين نزور القبور الآن فتضيع نظراتنا في الدهشة!
ولو لم تكن هذه النغمات المتفاوتة ما استطاع الشاعر أن يصل بنا إلى ذروة المرارة في محاولته التمسك بالحياة، عند إعلانه الحب للأحياء في بيوتهم أكثر من حبه للمقابر! ولم ينسَ صلاح جاهين أن يذكرنا هنا أنه يحاول ذلك بعقله لا بقلبه؛ فهو نوع من الحب الذي يمليه منطق الأحياء، إذ نشتمُّ هذا المعنى من تركيبة «بعقلي الرزين» التي قد تعني «متوسِّلًا بعقلي لا بقلبي» وقد تعني «لأن لي عقلًا منطقيًّا غير عاطفي» وهو يؤكد هذه المفارقة حين يقدم «البيوت» «التي هي أحجار ميتة بل ومآلها الهدم» على الأحياء الذين لا نسمع عنهم، بل ولا نجد لهم ذكرًا في أي مكان في تلك القصيدة العجيبة!
إن التنويع الشديد في «النغمة» يمكِّن الشاعر من أن ينتقل بنا من حالة نفسية إلى نقيضها، ولا يخفى على دارس الشعر والترجمة مغزى الانتقال من ضمير المتكلم «باحب» إلى ضمير المخاطب «تِمْشي تِسْمع، ما فيش غيرك انت» ثم العودة إلى ضمير المتكلم في الأبيات الأربعة الأخيرة، فإلى جانب توالي التقابل بین المتكلم والمخاطَب نجد أن التقابل يتوهج أيضًا بين الحياة والموت، حين تختلف «نغمات» أفكار الحياة لتكتسي مذاق «الفناء» وتختلف نغمات أفكار «الفناء» لتصبحَ الحياةَ الحقيقيةَ؛ أي الحياة فيما بعد الموت!
(٢) النغمة في العامية المصرية
ولا يخفى على اللبيب أن «النغمة» تمثِّلُ التحدي الأكبر للمترجِم؛ لأنها قد تعتمد على مصطلح اللغة الأصلية الذي تتعذر ترجمته إلى أي لغة أخرى، وما دمنا ضربنا المثل من صلاح جاهين؛ فلا بد من التنويه بالترجمة العبقرية التي أخرجتها نهاد سالم للرباعيات (دار إلياس العصرية للنشر–۱۹۸۸م) والتي حققت فيها أكبر قدر ممكن من النجاح في نقل «النغمة» التي تمثل سر نجاح هذا اللون من الشعر الذي يستخدم لغة الناس، مثلما كان شيكسبير يفعل، ومثلما فعل كل شاعر أراد الوصول إلى الناس، وسوف أدلل على هذا النجاح أولًا قبل التدليل على الصعوبات، اقرأ معي هذه الرباعية الجميلة:
وأول سؤال هو: هل الشاعر جادٌّ في إعرابه عن حبه للحياة؟ فإذا كانت الإجابة بنعم فسوف تكون «النغمة» موجهة لتأكيد هذا المفهوم الذي يتردد في جنبات المصطلح الدارج، ويتعدل داخليًّا من خلال الهبوط بمستوى الإنسان إلى مستوى الكائنات الدنيا؛ أي الكائنات غير العاقلة حتى يصل إلى ما يلغي إنسانية الإنسان! وإذا اتكأنا على هذه اللمحة الأخيرة وجدنا معنًى آخر کامنًا في باطن هذا المفهوم، وهو ليس — ببساطة — حب الحياة بل تأكيد إنسانية الإنسان؛ أي إن الشاعر لا يقول فقط إنه يحب الحياة ولكنه لا يحب أن يعيش إلا إذا كان إنسانًا!
أما الترجمة فهي:
ومعنى ذلك هو أن المترجم يواجه نصًّا حيًّا لا مناص من إيجاد إطاره الحي الذي يحفظ له أنغامه الظاهرة (والباطنة إن أمكن)، وما يصدق على الشعر الغنائي (أي الذي يتوسل بالصوت المفرد) يصدق بدرجة أكبر على الشِّعر المسرحي الذي تتعدد فيه الأصوات. وقبل أن أنتقل إليه سأورد رباعية أخرى لصلاح جاهين، وترجمتها بالإنجليزية لنهاد سالم:
(٣) تحديد النغمة في النص الدرامي
وليكن هذا مدخلنا إلى شكسبير! فمن ذا الذي يستطيع أن يقطع بأن هذه «النغمة» جادة أو هازلة؟ حقيقية أو زائفة؟ عرَضية أي عارضة أو مقصودة؟ وهل رنة السخرية في كلام الشخصية — إذا تأكدنا منها — موجهة إلى الشخصيات الأخرى، أم إلى القارئ مباشرة؟
ومعنى السؤال الأخير هو: هل يمكن لنا (أي هل من المقبول فنيًّا) اقتطاع أبيات أو فقرات من المسرحية باعتبارها شعرًا غنائيًّا، يتحدث فيه الشاعر مباشرة إلى القارئ؟ ولا يظنن أحد أن هذه «زندقة نقدية» أي خروج عن قواعد النقد الفني «المقدسة» فكل شاعر مسرحي له لحظاته التي يتحدث فيها من خلال شخصياته إلى الجمهور، أو إلى القارئ، وقد يسمع المشاهد صوته واضحًا ویدرکه القارئ دون عناء، خصوصًا عندما ينتقل من سياق الحدث إلى التعليق على حال الإنسان بصفة عامة، أو على أشياء بعينها في مجتمعه يعرفها هو وجمهوره خير المعرفة، وهذه جميعًا من العوامل التي تؤثر في تحديد «النغمة» ومن ثم في الترجمة والأسلوب المختار لها.
وقد صادفتُ هذه الصعوبة لأول مرة عندما عدت إلى نص «روميو وجولييت» عام ۱۹۹۲م (أي بعد ما يزيد على سبعة وعشرين عامًا من الترجمة النثرية) لأترجمه ترجمة شعرية كاملة (باستثناء الإعداد الغنائي للمسرح عام ۱۹۸٥م) فإذا بي أفاجأ بأن النص الذي كان يكتسي صور الجد من أوله إلى آخره حافل بالهزل، وبالسخرية، والنغمات المتفاوتة! ولقد رأيت أن التزام النظم وحده لن يحل المشكلة، بل ولا محاكاة القوافي والحيل البلاغية! وتمثَّل الحلُّ في اللجوء إلى تنويع الأسلوب مثلما يفعل شيكسبير من استخدام النثر حينًا والنظم حينًا آخر، والعامية في بعض الأحيان، وصولًا إلى النغمات التي يرمي إليها؛ فالبطل هنا «روميو» ليس في الحقيقة مثلًا أعلى للحب «أو للحبيب» الرومانسي، ولكنه غلام متهور يحب الحب؛ أي فكرة أو نزعة الاتصال بشخص آخر والتولُّه به (كما يقول كولريدج) أكثر من حبه الشخص الذي يمكن — بسبب صفاته وشمائله الموضوعية — أن يثير في نفسه هذا الحب!
وجولييت فتاة في الرابعة عشرة — سن الزواج في الأيام الخوالي — تركَبُ رأسها وتندفع بطيش المراهقة إلى مغامرة غير محسوبة العواقب فتنتهي نهاية مفجعة! والجو الذي تقع فيه الأحداث هو جو البحر المتوسط بحرارته، ونزقه، والتهاب عواطفه!
وشيكسبير يُصر منذ البداية على أن يعزف لنا «أنغامًا» مرحة في حوار فکِهٍ بالنثر يعتمد على التوريات، والنكات اللفظية، وخصوصًا ما يمس منها العلاقة بين الرجل والمرأة، بحيث نتهيأ باسمين بل وضاحكين لظهور ذلك المحب الواله، وعندها نعرف أن حبيبته اسمها روزالين، وأنها قد أقسمت ألا تتزوج وأن تظل عذراء إلى الأبد!
وهذا «الموقف المستحيل» يجعل كلَّ ما يقال بشأن الحب ورب الغرام کیوبید — خصوصًا بالقياس إلى غلام أمَرد مثل روميو وأصدقائه المراهقين — كلامًا ذا نغمات نصف جادة على أحسن تقدير، والفصل الأول يمثل لنا هذه النغمات التي تتراوح بين المعقول واللامعقول، إذا استعرنا عبارة زكي نجيب محمود؛ فالفكاهات البذيئة تتطور بلا أي معنى إلى صراعٍ لا معنى له، هو الآخر بين الأسرتين اللتين توارثتا کراهية عبثية لا معقولة، مما يجعلنا نقبل في هذا الإطار التناقض الأول بين النغمات، كما يصوره غرام فتًى يبدو عليه الضياع ولكنه مهذار؛ فهو يهزل من البداية، وحين يلمح سمات الجد على وجه بنفوليو يسأله:
وليسمح لي القارئ بنقل جوهر هذا التراشق إلى العامية المصرية لتجسيد النغمة الصحيحة «الله! انت مابتضحكش ليه؟» فيرد بنفولیو قائلًا:
فيجيئنا رد روميو الحاسم:
وهكذا! فالواضح أن هذه «نغمات» محب يلعب دور المحب الوامق؛ أي إنه يعي ما يفعله كل الوعي، وأرجو من القارئ أن يعود إلى النص في الترجمة الحالية أو في الأصل الإنجليزي؛ ليرى كيف يطور رومیو هذا الهزل ابتداءً من السطر ۱۹۰ (ف۱م۱) فالتلاعب بالألفاظ المحسوب والمحكم حتى السطر ۲۰۰ لا يمكن أن يقدم لنا صورة عاشقٍ جاد، أو يؤكد الصورة التي رسمها له والداه وأكدها بنفولیو قبل ظهوره، وأعتقد اعتقادًا راسخًا أن التلاعب بالألفاظ هنا لا يرجع فحسب إلى ولوع شيكسبير في تلك المرحلة من كتابته للمسرح باللغة في ذاتها (فلقد ظل مولعًا بها طول عمره) ولكن الدافع عليه أولًا هو محاولته تقديم صورة للعاشق التقليدي الذي صوره كتَّاب السوناتات في عصره، الذين استقَوا مادتهم من الإيطاليين (ومن الإسبان ومن العرب من قبلهم) كيف يقول الوالِه المعذب الأبيات التالية:
وترجمة هذه الفكرة المعقدة هي:
ويلاحظ القارئ هنا أنني اقتربت من الشرح أكثرَ من اقترابي من الأصل المنظوم لسبب واضح، وهو استحالة محاكاة التلاعب اللفظي الذي يبدعه ذلك الغلام الحاذق! وإصرار شيكسبير على تصوير روميو قبل لقاء جولييت بهذه القدرات الذهنية واللغوية؛ يؤكد لنا أنه يتعمد أن يظهره في صورة من يدرك تمامًا ما يفعله، وأنه (على العكس مما يدعيه) واعٍ كل الوعي بما يحدث حوله؛ فهو لم يفقد كيانه بل هو موجود «هنا». ولم يمضِ إلى أي «مكان آخر» (وإن كان من المفارقات أن يصدق ذلك القول أيضًا، بمعنى أن الجمهور سوف يدرك بعد قليل أنه يشاهد القناع لا روميو الحقيقي!):
أما الدافع إلى روح الهزل والدعابة التي تشيع في المشاهد الأولى من المسرحية فهو إبراز التناقض بين لهو الشباب الذي ينغمس فيه روميو وأصدقاؤه من الأغنياء المدلَّلين — وأهمهم مركوشيو — وبين رنة الجد التي تغلب على كلامه بعد لقائه جوليت ذلك اللقاء «القدري» العجيب!
فالمشهد الثاني يبدأ بدايةً منثورةً؛ إذ يقدم لنا شيكسبير تنويعًا على ثيمة الحب والزواج من وجهة النظر المقابلة، وفي الأسر المعادية لأسرة روميو «كابيوليت والد جولييت»! إذ «يتقدم» باريس ليطلب يد جولييت رسميًّا!
وبتركيز كاتب المسرح البارع يدفع شيكسبير بالخادم الذي ذهب يدعو الضيوف إلى حفل كابيوليت في طريق روميو، بحيث نرى استمرارًا لرنة الفكاهة، التى يولدها شيكسبير عن طريق التناقض بين الشعر والنثر، والجد والهزل! فالخادم الذي يشير إليه المخرج في قائمة الممثلين على أنه مهرج يحاور روميو هكذا:
وعندما ينصحه بنفوليو بأن يذهب إلى حفل أسرة أعدائه ليرى فتاة تنسيه حبه لروزالين؛ إذ «لا يشفي لسعَ النار سوى نار أخرى» ينطلق روميو ليقدِّم لنا في أبيات ستَّةٍ مشاعر ودفقات عاطفية بولغ فيها عمدًا حتى تؤدي إلى المفارقة الدرامية فيما بعد (أي في المشهد الخامس وهو ذروة الفصل الأول حين يرى جولييت):
كيف نتقبل هذه المبالغة الصارخة؟ إنها — كما قلت — مقصودة لكي تحدث التناقضَ مع مشهد اللقاء الأول مع جوليت، وشيكسبير يعمِّقُ من تمهيده لهذا اللقاء بالإصرار على الفكاهة النابعة من التلاعب بالألفاظ، وبالبذاءة من فم المربية التي لا تستطيع أن تتكلم إلا نثرًا، وبالفكاهات الصريحة من مركوشيو الذي يتحول فيما بعد إلى النثر:
أي إن تفاوت النغمات الذي يعتمد على تفاوت الإيقاع «خبب – رجز – خبب – متقارب – رجز – خبب + رجز – رجز + كامل – رجز» يوحي للقارئ بعدم الانتظام؛ أي بعدم وجود نظامٍ أو نظم في مجرى الفكرة التي ينقلها الحوار، حتى إذا وصلنا إلى نهاية المونولج وجدنا قصدًا ثابتًا لهذا الهزل، وهو ما أسميته بالإطار الاستعاري العام «وهم الحبِّ وطبيعته المتقلبة مثل الهواء»:
فإذا تأملنا تغير اتجاه «النغمة» هنا من الهزل إلى الجد مجسَّدًا في العلاقة بين النثر والشِّعر وجدنا أن التذبذب الذي كانت تتسم به أجزاء الفصل الأول بمشاهده الخمسة؛ يبدأ في الاختفاء في نحو منتصف المشهد الخامس، وذلك حين يرى روميو لأول مرة تلك الفتاة التي قُدِّرَ لها أن تصبح زوجته جولييت! واختفاء التذبذب معناه ابتعادُ رنة الهزل عن كلام روميو تمامًا، وانفصاله عن أصحابه ورفاق لهوه؛ إذ يُعتبرُ الفصل الثاني — زمنيًّا — امتدادًا للفصل الأول؛ فالمشهد الخامس من الفصل الأول يجمع بين روميو وجولييت، ويفصل بين روميو وأصدقائه؛ ولذلك نجده عازفًا عن مصاحبتهم في المشهد الأول من الفصل الثاني، مختبئًا يستمع إلى سخريتهم منه، ويصبر حتى ينصرفوا، ثم يتقدم وحده من الجمهور؛ لكي يعلن بنبراتٍ حاسمةٍ: «من لم يذق طعم الجراح … يسخر من الندوب!» وهي بداية مشهد الشُّرفة الشهير (ف٢، م٢) الذي يعتبر النموذج الذي وضعه شيكسبير لحب المراهقين الدفَّاق! وربما كان مفتاح تغير النغمة ما يقوله القس لورنس لروميو في نهاية المشهد الثالث، عندما يقدم له تفسيره الخاص (وربما كان التفسير الصحيح) لحبه لروزالين: إنه لم يستطع أن يكسب ودها؛ لأنها كانت تحس بزيف عاطفته:
أي إن القس يدركُ أن روميو لم يكن يقول ما يعنيه إلى حبيبته الأولى! ولذلك فإن فكاهات روميو الأولى كانت غير صادقة هي الأخرى؛ لأنه — كما سبق أن قلت — كان يلعب دور المحب الذي «يزعج» أصدقاءه بآهاته وزفراته! ولذلك أيضًا، فإن حب جولييت يحدث تأثيره المباشر فيه بعد لقائه مع القسيس؛ إذ يجعله يعود «لطبيعته» أي يجعله يطرحُ قناع المحبِّ:
ولقد تسبب سوء فهم كثيرٍ من القراء لهذا الموقف القائم على المفارَقة في عدم فهم طبيعة «النغمات» الشعرية فيها، ومن ثم عدم إصدار الأحكام النقدية الصائبة على أدائها التمثيلي! فعودة روميو بسبب الحب إلى طبيعته الحقة؛ ليست سوى البداية للصراع الحقيقي في المسرحية بين رقة الحب التي تجعل روميو يصل إلى النضج عد شيكسبير بسرعة خارقة، وبين غشم الكراهية التي تُبقي على العداء الذي يسلب أفراد الأسرتين صفاتهم الإنسانية! ونحن لا نصل إلى الصدام الحقيقي بين هذين القطبين من أقطاب المأساة إلا بعد أن يربط الحب بين روميو وجولييت بعقد الزواج المقدس، فروميو صادق في «نغمته» هنا:
ولا يستطيع روميو لفرط سعادته أن يعرب عن سعادته فيطلب من جولييت أن تفعل ذلك، ولكنها هي أيضًا لا تستطيع، فكأنما تحلِّق في الهواء، كما يقول القس:
ومع بداية الشجار في الفصل الثالث بين الأسرتين؛ أي حين يريد تيبالت أن ينتقم من روميو بسبب تطفُّله على أسرة كابيوليت، يعود النثر وتعود فوضى النظم كأنما أصبحنا غير واثقين من لون «النغمة» السائدة؛ فالمتصارعان يعمدان إلى السخرية، ولا تؤدي السخرية إلا إلى الموت:
ولكننا ندرك تمامًا ما يعنيه نضج روميو العاطفي حين يسيء هو نفسه فَهْم ما حدث له؛ فهو يقدم لنا صورة لما حدث من وجهة نظر روميو القديم:
(يدخل بنفوليو.)
(يدخل تيبالت.)
ولا بد أن أكتفي بهذا النموذج الأخير، وأرجو أن يغفر لي القارئ طوله «١٥ بيتًا» لأنه على تنوع إيقاعاته (متقارب، رمل، رجز، خبب) يجسد نغمة الجد التي تسود المسرحية ابتداءً من هذه اللحظة، وتطغى على كل ما عداها حتى النهاية، حتى حين يتعمد شيكسبير اللجوء إلى الفكاهة التي يتطلبها جمهوره. وكذلك يسود النظم حتى نَصِل إلى الفصل الخامس فيختفي النثر تمامًا وتختفي معه المربية بفكاهاتها الفظة، وينطق الجميع بالشعر!
وقد علق أحد النقاد على المشهد الذي يبكي فيه أهل المنزل وفاة جولييت (حين يظنونها قد تُوفِّيت وهي في إغماءة عميقة) [ف٤، م٥] فقال: إنه يُعتَبر أقرب إلى السخرية منه إلى التعبير الجادِّ عن الحزن، وقال ناقد آخر: إن ذلك متعمد؛ لأن شيكسبير يعتمد على معرفة الجمهور بأن جوليت نائمة وحسب؛ ولذلك فالجمهور يأمل في أن تصحو، وأن تلتقي بزوجها حسبما دبر القسيس.
ولا أريد أن أشق على القارئ غير المتخصص بذكر حيل الصياغة التي تجعل هذا التفسير ممكنًا، ولكنني سأذكر فحسب حيلة الانتقال من النثر إلى الشعر عند دخول القس لورنس والموسيقيين، ثم العودة إلى النثر عندما يخرج الجميع، ولا يبقى إلا الموسيقيون على المسرح! ترى كيف تكون نغمة هذه الأبيات التي يقولها كابيوليت لنا، ونحن على علم بأن ابنته ما زالت على قيد الحياة؟
وهذا هو الأصل الإنجليزي: