الترجمة الأدبية والأدب المقارن
١
التفسير في ضوء اللغة الأم
تتكون الترجمة الأدبية في نظري من مرحلتين: الأولى هي التفسير الخاص الذي يخرج به المترجم من النص الذي يتصدى له، وهو يفعل ذلك شاء أم أبى في إطار اللغة التي وُلِدَ في كنفها، ودرج على التفكير والإحساس بها، وهي لغة لا تنفصل عن الأدب الذي قرأه والثقافة التي هي أسلوب حياته؛ أي إن عملية التفسير في جوهرها عملية أدب مقارن؛ لأنها تتضمن مضاهاة لا شعورية أي عن غير وعي، وعن غير قصد بين ما يقرؤه المترجِم، وما تراكم في وجدانه وعقله من تراث أدبي وثقافي.
ولن أنسى دهشة أحد أصدقائي عام ١٩٦٦م حين أعرب عن «حبه» بهذه الطريقة لفتاة كان يصادقها فهاله أن ردت قائلة: «ولكن والدي قد يعترض على زواجنا!».
وقد يرى المترجِم أن المعنى في السياق هو الإعراب عن عاطفة جائحة، أو عن مجرد تقدير لمركز المخاطب، أو الإعراب عن إعجاب المتحدث (وهذا من خصائص اللغة الشائعة في البلاد الناطقة بالإنجليزية) بعملٍ أنْجزَهُ المخاطَبُ!
«ضرب بالغ الخصوصية من الحب، نستطيع أن نعدد سماته المميزة فيما يلي: التواضع، والسلوك المهذب، والزنا، ودين الحب.»
وقد أوردت هذه العبارة عامدًا لأبين الفرق بين تقاليد الحب العربية التي سبقت أوروبا بقرون عديدة، وهذا اللون «المتخصص» من الحب كما يسميه لويس، فلدينا في العربية الحب الذي يقوم على الشهامة والفتوة والمروءة، ولدينا النوعان اللذان شاعا في العصر الإسلامي وهما: الحب العفيف الطاهر، والحب الحسي الذي ينزع نحو المتعة الجمالية والجنسية أيضًا، والمضاهاة بين صور هذه التيارات وبين الحب الرفيع عسيرة معقدة.
ولا تقتصر صعوبة الترجمة الأدبية هنا إذن على المستويات الدلالية للألفاظ، بل تتعداها إلى إدراك السياق الثقافي لكل منها؛ إذ إن اختيار المترجِم للفظ الذي يراه أقرب ما يكون إلى معنى الشاعر يتوقف على إلمامه بالتراث الأدبي للغتين، وهو الذي لا شك في انتمائه إلى مبحث الأدب المقارن، فتقاليد العلاقة بين الرجل والمراة ليست مطلقة أو مجردة، بل هي تنتمي إلى أنساق اجتماعية محددة قد تكون أساس التقاليد الأدبية، وقد تكون التقاليد الأدبية هي التي أثرت فيها، أو حتى شكلتها.
والمترجِم الذي يراعي هذه الأنساق إنما يقوم بجهد على أعمق المستويات في مجال الأدب المقارن؛ فالقصيدة المترجَمة هي سجل لتفسيره للأدب الذي ينقل عنه؛ أي هي سجل تفسيره فى إطار لغته الأم للأدب الأجنبي.
٢
التفسير والتراث الأدبي
والأصل هو:
ولذلك فهو عندما يخوض من جديد تجربة الشاعر الأصلية يجد أن الخمر الملتهبة تتطلب الإفصاح عنها بدلًا من إضمارها، وتفسيره يجعل للخمر «نارًا حممًا» تضع خاتمةً للحظة الغياب عن الوعي بأشد وسيلة «عرفية» وهي النار الحارقة!
٣
تحويل الشفرة والتناص
ولكن إضافة الخمر الصريحة هي لبُّ الموضوع، ولن نحتاج إلى أبي نواس لكي ندرك أهمية هذه الصورة التي أصبحت «بلاغية» بمعنی اتفاق القارئ والكاتب على أنها تُستخدم مجازًا في جميع الأحوال تقريبًا، ومن ثم أصبحت عرفًا أدبيًّا؛ أي جزءًا من شفرة العربية! وانظر قول شوقي في قصيدته عن أم كلثوم:
الطِّلا هو الطِّلاء وهو الخمر، وكذلك الراح، والصافية هي كأس الخمر، وكذلك السُّلاف والسلافة، والحُميَّا تعني الخمر كذلك! أما الفم فهو يرد أولًا مباشرة «فاها» ثم من خلال المجاز المرسل (الثنايا، أي أسنان مقدمة الفم) ثم من خلال الكناية «المراشف» وتتكرر كلمه الصافي مرتين، والكأس مرتين كذلك!
نحن إذن بصدد قصيدة أو أبيات لا تهدف إلى الاقتصاد في التعبير لتوصيل معنًى محدد، بل بصدد أبيات تمثل العرف الأدبي العربي فيما يتصل باستعمال هذه الصورة ودلالاتها، والشاعر لا يرمي إلى الإحالة إلى معان ثابتة خارج النص، بل إلى إيجاد حالة بلاغية تتضافر فيها عوامل الشعر المألوفة؛ فالأبيات تستقي جُلَّ جمالها من الصياغة اللغوية والموسيقية الغلابة، ويكفي أن تنظر إلى تتابع الواوين والألفين مع اللام في الشطر الأول لتعرف ما أعني «سلوا كئو، الطلا، هل لا» ثم إلى توازي المعنى والتركيب بين الشطرين الأول والثاني:
فالتنويع هنا يمزج بين ما يفترض الشاعر أن المغنية قد شربته، وبين ما يظن هو أنه شربه ونهل منه فارتوى أثناء غنائها؛ أي إن للتنويع ضرورة فنية لأنه يدمج الصورتين، ويوحي بصورة أخرى هي تمنِّيه تقبيلها!
وترجمتها المنثورة الحرفية هي: اشربي نخبي بكأس عينيك، وسوف أبادلك النخب بكأس عيني، أو اتركي قبلةً وحسب في الكأس، وعندها لن أطلب الخمر! فالعطش الذي يزداد في الروح يطلب شرابًا مقدسًا، لكنني حتى لو شربت رحيق رب الأرباب، فلن أستبدله بخمر عيونك!
لقد كانت هذه أغنية مألوفة في عصر النهضة، ولا يكاد يخلو منها کتاب من کتب المختارات الشعرية، وشفرتها الأدبية أجنبية صرفة، فتبادلُ الأنخاب بصك كأسَي الشاربَين تقليدٌ غربي محض، واستعمال الصور الرومانية الوثنية، كصورة رب الأرباب، كان مألوفًا باعتباره من حيل البلاغة الشعرية، حتى بعد استتباب أديان التوحيد! ولكن الموقف هنا يتضمن عناصر تقبل المقارنة مع موقف شوقي، خصوصًا إذا أجرينا الموازنة المعقولة بين الشفاه والعيون، وقُبلة الكأس تبرز لدى الشاعرين بصورة لا لبس فيها ولا غموض!
ولذلك فسوف نلمح في الترجمة الإنجليزية التالية تشابك معاني القصيدتين وتجاوب أصداء صورهما:
٤
التفسير والأدب المقارن
الصياغة تفسير
ولكن التفسير في الواقع مرحلة لا تنفصل عن مرحلة الصياغة في الترجمة الأدبية؛ فالمترجِم شأنه في ذلك شأن الشاعر الأصلي، يستكشف معاني القصيدة وصورها في المرحلتين، وهو في مرحلة الصياغة مفسر أيضًا، وإن كانت الصياغة باعتبارها مرحلةً لاحقةً تقتضي أخذ عوامل أخرى في الحسبان، تتعلق في المقام الأول بالجمهور الذي يخاطبه، فمترجِم أبيات شوقي يضع نفسه في الموقع الذي أراده شوقي من سامعيه وهو الانتماء إلى تراث قديم، وتقديم صورة معاصرة له يقربه بها من أفهام سامعيه؛ أي يُحْييه بها، وهذا هو معنى حركة الإحياء أو البعث!
٥
التفسير والصياغة مقارنة
المعنى الحرفي واضح وهو، نثرًا «انظر» كيف تطير جميع المشاعر الأخرى وتضيع في الهواء؟! مثل الظنون واليأس الذي يعانقه الطيش، والخوف الذي يبعث الرعدة، والغيرة ذات العينين الخضراوين! أيها الحب! کن معتدلًا، وخفف من حدة نشوتك، اقتصد في الفرح الذي تمطره «في نفسي» وقلل من غلوائك، فإن هناءَك يغمرني بإحساس أكبر مما ينبغي، فاقتصد فيه لأنني أخشى التخمة!
وهذا المعنى هو ما أسميته في أول الفصل بالمعنى الإحالي؛ أي ما تدل عليه الألفاظ بتركيباتها القائمة بعد تجريدها من السياق الشعري، أما السياق الشعري فيتضمن إلى جانب ذلك عنصرين لا يمكن تجاهلهما في الشعر، وهما الوزن والقافية. فشيكسبير هنا يقدِّم لنا مقطوعة موزونة مقفاة لا يمكن إدراك معناها الشعري دون أخذ الوزن والقافية في الاعتبار؛ ولذلك فقد لجأ المترجِم عندما وضع نفسه في موضع الشاعر إلى تمثُّل هذين العنصرين، وأتي لنا بالمقابل العربي الذي يتكئ عليهما، ولو ضحی في سبيل ذلك ببعض الصور:
البحر هنا هو الخفيف (فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن) والقافية موحدة، مع نقل التصريع من البيت الأول إلى الأخير، وقد اقتضت الضرورة الشعرية إبراز همزة «الامتلاء» في البيت الأخير، وفيما عدا ذلك لا تتضمن الأبيات من الزحافات والعلل ما يزيد عن المألوف في الخفيف، وأما ما حذفه المترجم فهو صورة عناق الطيش لليأس، وصورة تأثير الخوف أي الرعدة، وإن كان قد استعاض عن الطيش بصفة «الشرود» وعن لون عيني الغيرة بصفة الحمق، مما يعد من قبيل التفسير!
نحن إذن أمام عملين أدبيين بلغتين مختلفتين مهما يبلغ من تماثلهما؛ لأن كلًّا منهما يتوسل بالشفرة الأدبية لكل من اللغتين، ويطوع الموسيقى الشعرية لمقتضيات الجمهور، ويراعي التماثل في الموقف الذي ينعكس في التراكيب. فالبيت الأول يكرر معنى الذهاب في «مضى وولى» ولا بد أنه ينظر إلى قول محمود حسن إسماعيل:
ولكن هذه الترجمة — كما سبق أن ذكرت — تحدِّد ضمنًا زمن القصيدة ومكانها، فكأنما يقول المترجِم لنفسه: لو كنت عربيًّا وكنت أعيش في عصر سابق، ووضعت نفسي في موضع بورشيا فماذا كنت أقول؟ ومعنى ذلك إذن أن تنفتح أمامنا إمكانات إخراج صور أدبية متعددة للنص الواحد، ونحن لا نستطيع قياس مدى نجاحها مستندين فحسب إلى مدى اقترابها من الأصل؛ فذلك هو معيار الترجمة العلمية فقط، ومثَلُها الأعلى هو الإحالة التي تحدَّثْنا عنها في أول الفصل، ولكننا لا بد أن نستخدم معايير أخرى مستقاة من النقد الأدبي وتطبيقاته على اللغة والصياغة.
٦
الترجمة أدب مقارن
ولذلك فالمقارنة بين الترجمات هي أيضًا من مباحث الأدب المقارن، ولننظر الآن في ختام هذا المبحث إلى ترجمات منوعة لحديث عطيل في المشهد الثالث من الفصل الأول من مسرحية «عطيل» ونرى كيف ترجمه نعمان عاشور بالعربية المصرية (الدارجة) وترجمة غيره نثرًا ونظمًا:
قد يدهش القارئ من إيرادي هذا النص الطويل (٤٤ سطرًا) بدلًا من قطعة قصيرة، والواقع أنني تعمدت ذلك؛ لأنه يمثل لونًا خاصًّا من الكتابة الأدبية وهو أسلوب «السرد الدرامي» وهو نوع جد خاص، يتطلب براعة لا يكاد يتفوق فيها أحد على شكسبير، بمعنى أنه أساسًا أسلوب قصصي، ولكنه مدرج في صلب الحدث الدرامي بحيث يتخد موقفًا وسطًا بين السرد والحوار!
فعطيل هنا يشرح للحاكم كيف أحب ديزدمونة وأحبته، مخصصًا نصف الحديث تقريبًا لما قصه على ديزدمونة من مغامرات الشباب، كأنما ليعيد ما جرى أمام أعيننا، ثم بنى على أساس ذلك إيضاحَه لتأثر ديزدمونة بالقصة حتى إن الحاكم ليبدي إعجابه بها، ويقول: إنها قصة خليقة بأن تستهوي فؤاد ابنته هو نفسه! والنصف الثاني يتضمن روايةً لحديث ديزدمونة من وجهة نظر عطيل، وردَّه على ما قالته؛ أي إنه حوار مروي يصعد إلى ذروةٍ، ويشبه بناؤه بناء الحكاية المستقلة، وإن كان لها مكانها في صلب الحدث الدرامي في المسرحية.
ما هي الاختيارات المتاحة أمام المترجِم إذن؟ إنه سؤال ينتمي أدبيًّا إلى مباحث الأدب المقارن، بل إنه من الأسئلة الثابتة في الأدب المقارن! إن عطيل — كما هو واضح — ذو أسلوب ناضج وصياغة لغوية محكمة، يستخدم الجملة الطويلة حين يضمن متابعة السامع واستغراقه، ثم ينزع إلى تقصير العبارة واستخدام التقديم والتأخير لجذب الانتباه أو للتشويق. وحيله اللغوية كما يقول سلجادو (طبعة سوان للمسرحية) تدل على خبير بفن القول، وعلى أن إيقاع حديثه المنظوم ينهض بمهمة كبرى في توصيل المعنى الدرامي، الذي يصبح في غضون المسرحية معنًى شعريًّا أيضًا فهو عربي فصيح يحيط بفنون البلاغة، ويبرز بين أبطال شيكسبير باعتباره ذلق اللسان ناصع البيان، وما أشبهه بأمير المغرب (الذي سبق لشكسبير تصويره في تاجر البندقية) الذي يفاجئ بورشيا بقوله:
هل يختار المترجم العربية المصرية (الدارجة) لترجمة هذا الشعر؟ هل يقع اختياره على النثر بالفصحى المعْرَبة؟ وكيف يحدد مستوى أسلوبه حتى يحقق مرامي شكسبير؟
إنني لا شك معجب بجرأة نعمان عاشور على الإقدام على ترجمة هذا النص بالعربية المصرية، ولكنني عير معجب باختصاره لهذا الحديث المسهب، وعدم استخدامه لتراث العامية الحافل، ولننظر إذن في البداية إلى الصورة العامية التي قدمها نعمان عاشور، الكاتب المسرحي الفذ، رحمه الله:
وأمامي الآن ترجمتان سأوردهما دون تعليق مسهب، مكتفيًا بهذا التقديم: الأولى من إبداع شاعر فحل هو خليل مطران، وترجمته تنشد الأمانة والصدق في النقل، وهو لا يكاد يخطئ في معنى لفظ واحد رغم أنه كان يترجم عن الفرنسية، وهو إلى ذلك ينجح في تفسير نبرات حديث عطيل، وينقله إلى الشفرة العربية المضاهاة به، وأنا أقول ذلك رغم إدراكي لصعوبة الحكم على التقاليد الأدبية، والأعراف اللغوية التي بعُد العهد بها؛ فقد كان مطران ينتمي إلى جيل شوقي وحافظ والمنفلوطي والرافعي، أرباب الأسلوب الرفيع والصياغة البارعة. وكان يشارك جيل الرواد في صناعة العربية المعاصرة، اشتقاقًا ونحتًا وتعريبًا وترجمة، وكان مثله الأعلى هو المثل الأعلى المطْلَق للبلاغة العربية القديمة، مهما يكن قد بالغ في ذلك بعض الشيء؛ إذ لا بد أن يلاحظ القارئ إحاطة مطران بمصطلح اللغة العربية الأصيل «رقتها لي» و«ثلمة من ثلمات الحصار» و«قالت في بعض ما قالت» وكثرة توسله بالصيغ الدينية التي تمثل جزءًا لا يتجزأ من تراث العربية، «لولا لطف من الله تداركني» و«لأقوام أُخَر جعل الله رءوسهم تحت أكتافهم» بحيث تخرج ترجمته نسيجًا متجانسًا لا حيرة فيه ولا تخبط بين أسلوب وأسلوب، رحم الله مطران.
ويكفي هذا التقديم، وسوف أورد النصَّين متقابلين كيما يرى القارئ مدى إبداع مطران نثرًا، ومدى حَرْفية وأخطاء جبرا، ثم أختتم المقال بترجمتي المنظومة للحديث نفسه، وأعتقد أن الصورة الأدبية التي تخرج في كل نص ﻟ «عطيل» العربي تكفي لإثبات ما سعيت لإثباته من انتماء الترجمة الأدبية إلى الأدب المقارن.
خليل مطران | جبرا إبراهيم جبرا |
---|---|
كان أبوها يحبني، وكان كثيرًا ما يدعوني فيسألني ترجمتي مفصلةً سنة بسنة، وبيان المكافحات والمحاصرات التي شهدتها، وتعديد ما أحرزته من النصرات، فكنت أجيبه إلى أمنيته حتى لم تبقَ في حياتي كبيرة ولا صغيرة إلا حدثته بها، وذلك منذ نعومة أظفاري إلى اليوم الذي كنت أجالسه فيه. |
كان والدها يحبني، وكثيرًا ما يستضيفني. ويسألني دومًا عن قصة حياتي، من سنة إلى سنة، وما رأيته ١٣٠ من معارك، وحصارات، وتقلبات، فرويت له كل شيء، منذ أيام الصبى، حتى اللحظة التي طلب فيها إليَّ الكلام. |
فمما وصفته له، الطوارئ الرائعة، والفواجع المبكية التي لقيتها برًّا وبحرًا، من مثل ما جرى لي يومًا وقد أوشكت أن أُقتل في ثُلمة من ثُلمات الحصار، لولا لطفٌ من الله تداركني عن قيد شعرة، ومن مثل استئساري يومًا لعدوٍّ وقح باعني بيع الرقيق، ومن مثل شرائي رقبتي، وضروب الغرائب التي صادفتها في أيامي. |
فتحدثت عن نوازل جِد رهيبة، وأحداثٍ مثيرةٍ من فيضانات وحروب، ١٣٥ عن النجاة مرارًا بقيد شعرة من الثغرة المهددة بالتهلكة، عن وقوعي أسيرًا في يد العدو الوقح الذي باعني عبدًا، وكيف افتديت بعد ذلك، وما فعلته في أيام تجوالي وترحالي، |
وكان في خلال إخباري بتلك الوقائع، يدخل في كلامي تصويرُ مفاوز فسيحة، وصحاريَ قاحلة، ومحاجر كالحة، وصخور وجبال تشمخُ بقممها إلى العنان. |
فأتيح لي الحديث عن كهوف هائلة، وصحاري خاوية، عن مقالع وعرة، وصخور، ١٤٠ وشواهق تلامس رءوسها السماء، هكذا كانت حكايتي. |
كل هذه الأغراض كانت تمرُّ تباعًا في أقوالي، ناهيكم بمشاهداتي لأكلة اللحوم البشرية، ولأقوام أخر؛ جعل الله رءوسهم تحت أكتافهم. |
وعن أكلة البشر الذين يلتهم بعضهم البعض، والأنثروبوفاجيين، وأناس تطلع رءوسهم من تحت أكتافهم. بسماع هذا كله ١٤٥ |
وكانت ديدمونة تسمع هذه الأقاصيص بشغف، سوى أن بعض مشاغل البيت كانت بين آنٍ وآنٍ تضطرها للقيام، فإذا انصرفَتْ لها؛ قضتها بأسرع ما تستطيع، وعادت تشربُ حديثي بأذنٍ ظمأى، فلما لمحتُ ذلك منها استدرجتها ذات يوم في ساعة مناسبة؛ لتسألني أن أقص عليها بالتمام سيرة رحلاتي التي كانت قد سمعت منها نتفًا ولم تتمكن من استتباعها، فأعدت عليها تلك السيرة كما أرادت، وكنت أراها غير مرة تبكي رحمةً لشبابي مما أصابني فيه من الأرزاء الأليمة. |
شغفت دزديمونة، غير أن شئون المنزل، كانت بين الحين والحين تشغلها عني، فتفرغ منها بأعجل ما تستطيع؛ لتعود من جديد، وبأذن نهمة تلتهم حديثي، وأنا عندما لحظت ذلك ١٥٠ اغتنمت ساعة مواتية، تمكنت فيها من أن أستخرج منها رجاءً من القلب بأن أسرد عليها حكاية ترحالي كلها بتفصيل، بعد أن كانت قد سمعت منها نتفًا دونما تركيز، ووافقت أنا ١٥٥ وكثيرًا ما استدررت دمعها وأنا أروي لها عن هذه النكبة أو تلك مما حل بي في شبابي، وكلما انتهت حكايتي |
وعندما ختمت قصتي كافأتني عليها بتنهدات لا تحصى، وأقسمت أنها غريبة في الغاية، وأنها محزنة إلى النهاية، بحيث تمنت لو لم تسمعها، على أنها قالت في بعض ما قالت: إنها كانت تود لو خلقها الله رجلًا على هذا المثال، ثم شكرت لي معروفي، وكاشفتني بأنه إذا كان لي صديق يحبني، فحسبي أن أُعلمه كيف يقص ترجمة حياتي لترضى به قرينًا، هذه العبارة جرأتني، فبُحْت لها بما في ضميري، وعلمت منها أنها أحبتني بسبب الأخطار التي عانيتها، وشعرت من نفسي أنني أحببتها لما تبينت من شفقتها عليَّ، ورقَّتها لي، ذلك هو الفن الوحيد الذي توسلت به إليها من أفانين السحر، على أنها قادمة وستسمعون شهادتها. |
كافأتني على أتعابي بوابلٍ من التنهدات، وراحت تقسم قائلةً إنها غريبة في منتهى الغرابة، ١٦٠ إنها مؤسية، في غاية الأسى وتمنت لو أنها لم تسمعها، ولكنها تمنت لو أن السماء جعلتها رجلًا مثلي، لقد شكرتني، وطلبت إليَّ إن كان لي صديق يحبها أن أعلمه كيف يروي قصتي ١٦٥ فيكسب بذلك وُدَّها، فاغتنمت تلك الفرصة، وتكلمت. لقد أحبتني لما عرفتُ من مخاطر، وأحببتها؛ لأنها أشفقت عليَّ منها، هذا هو السحر الوحيد الذي استخدمته. وها هي السيدة قادمة، فتشهد على ذلك. ١٧٠ |
(تدخل ديدمونة.) |
وأخيرًا أقدم صورة منظومة لنفس الحديث، لم تنشر بعد، حاولت أن أجمع فيها بين الالتزام بالمعنى وبين سهولة الصياغة التي قصدت بها مخاطبة جمهور اليوم بلغة اليوم، ومحاكاة إيقاعات شيكسبير من خلال الرجز الذي أحيانًا ما يتداخل مع صاحبيه في الدائرة الخليلية، وهما الرمل والهزج، وأحيانًا ما يتحول إلى الكامل: