الهبوط داخل الظلام
شعر القائد نورتون برغبةٍ عارمة في المغامرة، ولكن لأنه القائد، كانت السفينة مسئوليته الأولى. إذا حدث أي خطأ في الرحلة الاستكشافية الأولى، فعليه أن يسارع بالهرب.
لهذا كان الضابط الثاني — الرائد البحري ميرسر — هو الاختيارَ الواضح. وأقرَّ نورتون عن طيبِ خاطر بأن كارل مؤهل على نحوٍ أفضل لهذه المهمة.
كان ميرسر خبيرًا في أنظمةِ الإعاشة، وكتبَ بعضًا من أشهر المراجع في هذا المجال. واختبر بنفسه أنواعًا لا حصرَ لها من المعدَّات، غالبًا في ظل ظروف خطيرة، واشتهر بما حقَّقه من تحكُّم في التغذية الاسترجاعية الحيوية. ذلك أنه يمكنه في لحظاتٍ خفضُ معدَّل نبضات قلبه إلى خمسين في المائة، والتوقف عن التنفس تقريبًا مدةً تصل إلى عشر دقائق. وقد أنقذت تلك الخدعة الصغيرة حياته أكثرَ من مرة.
لكنه مع ما يتمتَّع به من موهبة عظيمة وذكاء، كان يفتقر تمامًا إلى الخيال. وكان يرى أن أخطر التجارب أو المهام مجردُ واجباتٍ عليه أن ينفِّذها. ولم يُقحِم نفسه قط في مخاطرَ لا داعيَ لها، ولم يُقِم قط وزنًا لمَا يَعُده الآخرون شجاعة.
وكان الشعاران الموضوعان على مكتبه يلخِّصان فلسفته في الحياة. أحدهما سؤال يقول: «ماذا نسيت؟» والآخر يقول: «ساعدوا في القضاء على الشجاعة.» والشيء الوحيد الذي كان يثير غضبه هو أن الكثيرين كانوا يرونه أشجعَ رجل في الأسطول.
وباختيار ميرسر، جاء اختيارُ الرجل الثاني تلقائيًّا، وهو رفيقه المقرَّب الضابط جو كالفيرت. من الصعب أن تدرك ما يشترك فيه الاثنان؛ فقد كان ضابط الملاحة نحيفَ البنية عصبي المزاج شيئًا ما، وكان يصغُر صديقه المتبلِّد الحس الرابط الجأش بعشر سنوات، وبالتأكيد لم يشاركه صديقه شغفَه الشديد بفن السينما القديمة.
لكن لا يستطيع أحد أن يتوقَّع أين سيضرب البرق، ومنذ سنوات أقام ميرسر وكالفيرت علاقةً تبدو مستقرة. وهذا أمر ليس بالغريب، لكن الغريب هو أنهما متزوجان من امرأة واحدة على الأرض، وأنجبت لكلٍّ منهما طفلًا. كان نورتون يأمُل أن يقابلها يومًا ما، فلا بد أنها امرأة رائعة. استمر هذا المثلَّث خمس سنوات على الأقل وما زال يبدو متساوي الأضلاع.
لم يكن رجلان يكفيان كفريق استكشاف؛ فقد ثبتَ منذ عهد بعيد أن العدد الأمثل هو ثلاثة، فإذا فُقِد أحدُهم، كانت فرصة اثنين في النجاة أفضلَ من واحد. وبعد أن أطال نورتون التفكيرَ في الأمر، اختار الرقيب الفني ويلارد ميرون. وهو عبقري في الميكانيكا، ويستطيع إصلاحَ أي شيء، أو تصميم شيء أفضل منه إذا أخفق في إصلاحه، وهو أفضل مَن يتعرف على المعدَّات الفضائية. كان ميرون في إجازةٍ من عمله الأساسي أستاذًا مساعدًا في أستروتيك، وكان قد رفضَ الترقية إلى ضابطٍ معللًا ذلك بأنه لم يرغب في أن يكون عقبةً في طريق ترقية الضباط العاملين الذين يراهم أولى بها. لكن هذا التفسير لم يقنع أحدًا، ورأى الجميع أنه يفتقر إلى الطموح. فهو يستطيع أن يصبح رقيبَ فضاء، لكنه لن يصبح بروفيسورًا أبدًا. لكن ميرون، على غرار الكثيرين من ضباط الصف الذين سبقوه، كان قد اكتشفَ حلًّا وسطًا مثاليًّا بين السلطة والمسئولية.
وعندما عبَروا غرفةَ معادلة الضغط الأخيرة، وحلَّقوا على امتداد محور راما الذي ينعدم فيه الوزن، وجد كالفيرت نفسه — كما حدَث كثيرًا — يسترجع مشاهدَ من أفلامٍ شاهدها. وفكَّر أحيانًا في أن عليه أن يحاولَ علاج نفسه من هذه العادة، لكنه لم يرَ أن لها أي مساوئ، بل إنها تضفي إثارةً على أكثرِ المواقف إملالًا — ومَن يدري؟ — ربما تنقذ حياته يومًا ما. فسوف يتذكَّر ما فعله فيربانكس أو كونري أو هيروشي في ظروفٍ مماثلة …
وقد أطلقَ العِنان لخياله هذه المرة، فتخيَّل أنه في إحدى الحروب الأولى في القرن العشرين، وكان ميرسر رقيبًا على رأس دوريةٍ من ثلاثة رجال في هجوم ليلي على منطقة مهجورة. لم يكن صعبًا عليه أن يتخيَّل أنه في قاع حفرة انفجار هائلة، لكنها حفرة تحوَّرت جدرانها إلى سلسلةٍ من المنبسَطات الصاعدة. كان الضوء يغمر الحفرةَ من ثلاثة مصابيح بلازما تقع على مسافاتٍ متباعدة، مما غمر المنطقةَ الداخلية بضوءٍ لا ظلَّ له تقريبًا. ولكن فيما وراء حافة الحفرة خيَّم الظلام والغموض.
وفي مخيِّلته عرف كالفيرت تمامًا ما يقع هناك. فهناك أولًا السهلُ الدائري الذي يزيد قطره عن كيلومتر. وهناك ثلاثة سلالم عريضة تقسِّمه إلى ثلاثة أقسام متساوية وتبدو كأنها قضبان سكك حديدية عريضة، ودرجاتها محفورة بداخل السطح لكيلا تعوق أيَّ شيءٍ ينزلق عليها. ولأن النظام كان متماثلًا تمامًا، لم يكن هناك مبرِّر لاختيار أحد السلالم بدلًا من الآخر؛ ولهذا وقعَ الاختيار على أقربِ السلالم العمودية لغرفةِ معادلة الضغط ألفا، لقربه منها ليس إلا.
ومع أن درجات السُّلم بعيدةٌ إحداها عن الأخرى على نحوٍ غير مريح، فلم يمثِّل ذلك مشكلة. فحتى على الحافة، وعلى بُعد نصف كيلومتر من المركز، كانت الجاذبية لا تزال أقلَّ من واحد على ثلاثين من جاذبية الأرض. ومع أنهم يحملون نحو مائة كيلوجرام من الأجهزة ومن معدَّات الإعاشة في الفضاء، فسيمكنهم أن يتحركوا بسهولةٍ بالاعتماد على أيديهم واحدةً تلو الأخرى.
تحرَّك القائد نورتون وفريق الدعم بمحاذاته على امتداد الأحبال الإرشادية التي مُدَّت من غرفة معادلة الضغط ألفا حتى حافة الحفرة، وخارج مجال الأضواء الكاشفة كان ظلام راما يمتد أمامهم بعيدًا. ولم يستطيعوا أن يروا في ضوء الأشعة المتراقصة لكشافات خوذاتهم إلا بضعة مئات من الأمتار من السُّلم، وهي تمتد أمامهم في سهلٍ مسطَّح خالٍ من المعالم.
قال ميرسر محدِّثًا نفسه: الآن لا بد أن أتخذ أول قراراتي؛ هل «أصعد» أم «أهبط» السُّلم؟
لم يكن السؤال تافهًا. فما زالوا في نطاق انعدام الجاذبية، ويستطيع العقل أن يختار أيَّ نظام مرجعي يحلو له. ويستطيع ميرسر بشيء من الإرادة أن يقنع نفسه بأنه ينظر أفقيًّا إلى سهلٍ منبسط أو يتطلع لأعلى إلى سطح جدار رأسي أو عبْر حافة جرف شديد الانحدار. وقد عانى كثيرٌ من رواد الفضاء مشكلاتٍ نفسية خطيرة بسبب اختيار إحداثيات خاطئة عند البدء في مهمة معقَّدة.
صمَّم ميرسر على أن يتحرَّك ورأسه في المقدمة؛ لأن أي طريقة أخرى للتحرُّك ستكون مربكة، فضلًا عن أنه يستطيع بهذه الطريقة أن يرى أمامه بسهولة أكثر. ولذا، سيتخيَّل في البداية بعد بضع مئاتٍ من الأمتار أنه يصعد لأعلى، ولكن عندما تزداد شدةُ الجاذبية ويصبح من المستحيل أن يستمر في هذا التخيُّل، وفقط عندما يتبدَّد هذا الإحساس بفعِل قوة الشد الخاصة بالجاذبية، سيغيِّر توجُّهاته الذهنية مائة وثمانين درجة.
أمسكَ ميرسر بالدرجةِ الأولى ودفعَ جسدَه على امتداد السُّلم. وكانت الحركة سهلةً وكأنها سِباحة في قاع البحر، بل أسهل من ذلك؛ إذ لم يوجد ماء للمقاومة. وكان ذلك يغري بالانطلاق بسرعة هائلة، لكن ميرسر كان لديه من الخبرة ما يمنعه من التسرُّع في موقفٍ جديدٍ كهذا.
وفي سمَّاعة أذنِه كان يستطيع سماعَ التنفُّس المنتظم لرفيقَيه. ولم يحتَج برهانًا آخرَ على أنهما في أحسنِ حال، ولم يُضِع وقتًا في الحوار. ومع أنه شعر برغبة في النظر إلى الخلف، فقد قرَّر ألا يخاطرَ بذلك حتى يصلوا إلى المنبسَط في نهاية السُّلم.
كانت الدرجات تقع على مسافاتٍ منتظمة بحيث يفصل بين كل درجة والتي تليها نصفُ متر، وفي الجزء الأول من عملية الصعود لم ينتبه ميرسر لتتابع الدرجات. لكنه أحصاها بدقة، وعندما وصلَ إلى رقم مائتَين تقريبًا كانت تلك المرةَ الأولى التي يحسُّ فيها بالوزن. وبدأ دوران راما يعلن عن نفسه.
وعند الدرجة الأربعمائة قدَّر وزنه الظاهري بنحو خمسة كيلوجرامات تقريبًا. لم تكن تلك هي المشكلة، لكن التظاهر بالصعود كان يزداد صعوبةً لأن قوة الجاذبية كانت تشدُّه بثباتٍ «إلى أعلى».
كانت الدرجة الخمسمائة تبدو مكانًا جيدًا للتوقُّف. فقد بدأَ يشعر بتأثُّر عضلات ذراعَيه بالمجهود غير المعتاد، مع أن راما في هذا الوقت كانت هي التي تبذل كلَّ الجهد، وكان عليه فقط أن يوجِّه نفسه.
وجَّه ميرسر حديثَه للقائد قائلًا: «كلُّ شيءٍ على ما يرام أيها القائد.» وأضافَ: «إننا فقط نمرُّ بنقطة منتصف الطريق. جو، ويل، ألديكما أيُّ مشكلات؟»
أجابه جو كالفيرت: «أنا بخير، لماذا توقَّفت؟»
وأضافَ ميرون: «وأنا أيضًا.» ثم أردف: «ولكن عليك أن تحذر من قوةِ كوريوليس. فقد بدأت تشتد.»
كان ميرسر قد لاحظَ ذلك بالفعل. فعندما تركَ الدرجات، أحسَّ بميلٍ واضح للانحراف يمينًا. وكان يعلم تمامًا أن ذلك بسبب تأثير دوران راما حول نفسها، لكن كان يبدو وكأن قوةً غامضة تدفعه برفق بعيدًا عن السُّلم.
ربما حان الوقت ليبدأ التحرُّك وقدماه في المقدمة؛ فقد أصبح لكلمة «أسفل» معنًى ملموس. وسيخاطر بفقدان التوجُّه للحظات.
«انتبها، سأدور حول نفسي.»
ثم أمسكَ جيدًا بدرجة السُّلم واستخدم ذراعَيه ليدور حول نفسِه مائة وثمانين درجة، وأغشت بصرَه للحظاتٍ أضواءُ كشَّافات رفيقَيه. وعلى مسافة بعيدة فوقهم — وكان هذا عندئذٍ فوقهم بالفعل — رأى وهجًا خافتًا بطول حافة الجرف الشديد الانحدار. وقد ارتمت عليه ظلال القائد نورتون وفريق الدعم وهم يراقبونه بتركيز. وقد بدوا صغيري الحجم وبعيدين جدًّا، ولوَّح لهم نورتون مطمئنًا.
ثم أرخى ميرسر قبضته، وتركَ جاذبيةَ راما التي ما زالت ضعيفة تتولى زمامَ الأمر. فاستغرق السقوط من درجة إلى التي تليها أكثرَ من ثانيتَين؛ أما على الأرض، فالإنسان يسقط في هذا الزمن نفسه ثلاثين مترًا.
كان معدَّل السقوط بطيئًا للغاية، مما جعله يزيد السرعةَ بعضَ الشيء عن طريق الدفع بيدَيه، مجتازًا عشر درجاتٍ في كل مرة، وكان يكبح حركته بقدمَيه كلما شعر بأنه ينطلق بسرعة كبيرة.
وعند الدرجة السبعمائة توقَّف مرةً أخرى، ووجَّه أشعة مصباح خوذته لأسفل، وكانت بداية الدَّرج تقع على بُعد خمسين مترًا فقط لأسفل كما قدَّر نورتون.
وبعد بضع دقائق وصلوا إلى الدرجة الأولى. وكان شعورًا غريبًا بعد شهورٍ في الفضاء أن يقفوا منتصِبي القامة على سطح صلب، ويشعروا بضغطه على أقدامهم. ومع أن وزنهم لا يزال أقلَّ من عشرة كيلوجرامات، فقد كان هذا كافيًا ليمنحهم شعورًا بالثبات. وعندما أغمضَ ميرسر عينَيه، استطاعَ من جديد أن يشعر بعالَم حقيقي تحت قدمَيه.
كان عرضُ الحافة أو المنبسَط التي يبدأ منها الدَّرج عشرة أمتار تقريبًا، وتنحني لأعلى على الجانبَين حتى تختفيَ في الظلام. وكان ميرسر يعلم أنها تشكِّل دائرةً كاملة، وأنه إذا سار بمحاذاتها مسافة خمسة كيلومتراتٍ، فسيعود مرةً أخرى إلى نقطة البداية وقد أتمَّ دورة كاملة حول راما.
وفي ظل تلك الجاذبية الضئيلة الموجودة هنا، كان المشي الطبيعي مستحيلًا؛ فلا يستطيع المرء إلا أن يثِب وثباتٍ واسعة. وينطوي ذلك على خطر.
إنَّ هبوط الدَّرج المتدلي في الظلام أبعد من مدى ضوء مصابيحهم يبدو سهلًا بصورةٍ خادعة. ولكن من الضروري التشبُّث بالحاجز المرتفع الذي يحيط بالدَّرج من الجانبَين؛ فخطوة جريئة جدًّا قد تقذف متجولًا غافلًا بعيدًا في الفضاء. وسوف يرتطم بالسطح مرةً أخرى، ربما على بُعد مائة متر إلى أسفل، ولن تكون الصدمة مؤثِّرة، لكن عواقبها قد لا تكون هينة؛ لأن دوران راما سيكون قد حرَّك الدَّرج إلى اليسار. وقد يرتطم أيُّ جسم ساقط بالنتوء الأملس الذي يبعُد نحو سبعة كيلومتراتٍ لأسفل.
قال ميرسر لنفسه إنَّ هذه السقطة قد تتحوَّل إلى انزلاقة مفزعة؛ فالسرعة النهائية — حتى في هذه الجاذبية — قد تكون عدة مئاتٍ من الكيلومترات في الساعة. قد يكون من الممكن استخدامُ قوة احتكاك تكفي لإيقاف ذلك الهبوط المتهور، وإن كان الأمر هكذا، فهذه أنسبُ طريقة للوصول إلى السطح الداخلي لراما. ولكن من الضروري في البداية أن يجرِّبوا بحذر شديد.
قال ميرسر: «أيها القائد، لم نواجه مشكلةً في هبوط السُّلم. وأودُّ أن أواصل التحرُّك في اتجاه المنبسَط التالي إذا أذِنت بذلك. وأريدُ قياس معدَّل هبوطنا على الدَّرج.»
أجابَ نورتون دون تردُّد.
فقال: «انطلِق»، ولم يكن بحاجة لأن يضيف: «تقدَّم بحذر.»
لم يستغرق ميرسر الكثيرَ من الوقت للوصول إلى اكتشاف مهم. وكان هذا الاكتشاف هو استحالةَ الهبوط على الدَّرج بالطريقة العادية، على الأقل في هذه الجاذبية التي تبلغ واحدًا على عشرين من جاذبية الأرض. فكل المحاولات للقيام بذلك أدَّت إلى حركة بطيئة ومملة بدرجةٍ لا تُحتمَل، والطريقة العملية الوحيدة هي تجاهُل الدرجات، واستخدام الحاجز الجانبي ليدفع المرءُ نفسَه إلى أسفل.
توصَّل كالفيرت إلى الاستنتاج نفسه.
وهتفَ متعجبًا: «لقد بُنيَ هذا الدَّرج للصعود «إلى أعلى» وليس للهبوط!» ثم أضافَ: «تستطيع أن تستخدم الدرجات عندما تتحرك عكس الجاذبية، لكنها مزعجة في هذا الاتجاه. قد لا يكون ذلك من الوقار، لكنني أظن أن أفضل طريقة للهبوط هي الانزلاق على الحاجز الجانبي.»
احتجَّ ميرون وقال: «هذا غير معقول.» ثم أضاف: «لا أعتقدُ أن سكان راما كانوا يهبطون بهذه الطريقة.»
«لا أظن أنهم استخدموا هذه الأدراج قطُّ؛ فمن الواضح أنها تُستخدم للطوارئ فقط. لا بد أنهم استعملوا نظامَ انتقال ميكانيكيًّا للوصول إلى أعلى. ربما كان نظامَ سكك حديدية معلَّقة. ويفسِّر هذا الشقوقَ الطويلة التي تنحدر من المركز.»
«لقد ظننت دائمًا أنها مجارٍ للصرف، لكنني أظن أنها قد تُستخدم لكلا الغرضين. وأتساءل هل سقطت أمطار هنا من قبل؟»
فقال ميرسر: «هذا محتمَل.» ولكنه استدركَ: «لكنني أرى أنَّ جو محقٌّ، وسُحقًا للوقار. هيا بنا.»
كان الحاجز الجانبي قضيبًا معدنيًّا أملسَ مسطحًا تحمله أعمدةٌ يبلغ ارتفاعها مترًا وتفصل بينها مسافاتٌ واسعة، وكان مصمَّمًا على الأرجح لشيءٍ مثل الأيدي. امتطى القائد ميرسر السور، وبحذرٍ قاسَ قوةَ الكبح التي يحدِثها بيدَيه، ثم تركَ جسده ينزلق.
أخذَ يهبط في الظلام بهدوءٍ، ويزيد من سرعته شيئًا فشيئًا وهو يتحرَّك في دائرة الضوء التي يصنعها مصباحُ خوذته. وبعد أن قطعَ قُرابة خمسين مترًا دعا الآخرين للحاق به.
شعرَ الجميع وكأنهم عادوا صبيةً مرة أخرى وهم ينزلقون على الحاجز الجانبي، لكن لن يعترف أيٌّ منهم بذلك. وفي أقل من دقيقتَين، كانوا قد هبطوا كيلومترًا كاملًا في أمان وراحة. وكلما شعروا بأنهم يتحركون بسرعة مفرطة، وفَّر إحكام قبضاتهم على الحاجز الكبح اللازم.
صاحَ نورتون عندما وصلوا إلى المنبسَط الثاني قائلًا: «أتمنَّى أن تكونوا قد استمتعتم.» ثم أضافَ: «فالصعود لن يكون بهذه السهولة.»
ردَّ ميرسر وهو يجرِّب السيرَ للأمام وللخلف ويستشعر ازديادَ الجاذبية: «هذا ما أريد أن أتأكَّد منه.» ثم أوضحَ: «فالجاذبية هنا عُشر الجاذبية الأرضية، ويمكنكم ملاحظة الفَرق بالفعل.»
ثم سار — أو بتعبيرٍ أدقَّ، انزلق — تجاه حافة المنبسَط، ووجَّه ضوءَ مصباح خوذته لأسفل نحو الجزء التالي من الدَّرج. وبقدْرِ ما كشفَ ضوءُ المصباح كان يبدو أنه يطابق الجزء العلوي، ومع ذلك أوضحَ الفحصُ الدقيق للصور أن ارتفاع الدرجات كان يقلُّ بانتظام مع زيادة الجاذبية. وكانت الدرجات — كما هو واضح — مصمَّمة بحيث يكون الجهد المبذول في الصعود ثابتًا تقريبًا عند كل نقطة في المسار المنحني الطويل.
ألقى ميرسر نظرةً سريعة لأعلى ناحيةَ مركز راما الذي أصبحَ في هذا الوقت فوقهم بمسافة كيلومترَين. كان توهُّج الضوء، والأشكال الصغيرة التي ترتسم حدودها الخارجية فيه، يبدوان بعيدَين للغاية. ولأول مرة يشعر بالسعادة لأنه لا يستطيع رؤيةَ طول هذا الدَّرج العملاق بالكامل. فعلى الرغم من رباطة جأشه وافتقاره إلى الخيال، لم يكن يعرف ماذا سيكون ردُّ فِعله عندما يرى نفسَه وكأنه حشرةٌ تتسلَّق جانبَ صحنٍ ارتفاعه أكثرُ من ستة عشر كيلومترًا، ولا يزال عليها صعود النصف العلوي. وحتى هذه اللحظة، كان يرى الظلام مزعجًا، أما الآن فقد رحَّبَ به.
وقال محدِّثًا نورتون: «لا تغيُّر في درجة الحرارة.» ثم أضافَ موضِّحًا: «إنها ما زالت أقلَّ من نقطة التجمُّد بقليل. ولكن الضغط الجوي مرتفع كما توقَّعنا؛ حوالي ثلاثمائة مليبار. ومع قلةِ ما يحويه من الأكسجين، فهو صالح للتنفُّس تقريبًا، وعندما نواصل الهبوط، لن تكون هناك أي مشكلات على الإطلاق. وسيسهِّل ذلك كثيرًا من عملية الاستكشاف. ويا له من اكتشاف؛ أول عالَم نستطيع أن نسيرَ فيه دون استخدام معدَّات التنفُّس! بل إنني سأستنشق بعضًا منه.»
وفوق المركز توتَّر نورتون قليلًا. لكن ميرسر كان يعلم تمامًا ما يفعله؛ فقد أجرى بالفعل اختباراتٍ كافية مقنِعة.
أجرى ميرسر عمليةَ معادلة الضغط، ثم فتحَ مشبك الأمان في خوذته وفتحها فتحةً صغيرة. وتنفَّس بحذر، ثم بعمقٍ أكبر.
كان الهواءُ في راما ميتًا يعبَق برائحة البِلى، وكأنه ينبعث من مقبرةٍ قديمة تلاشت فيها آخرُ آثارِ التعفُّن الجسدي منذ عصورٍ مضت. وحتى أنفُ ميرسر الفائقة الحساسية، التي درَّبتها سنواتٌ من اختبارِ أنظمةِ الإعاشة في الفضاء، لم تكتشف أيَّ روائح معروفة. كان هناك أثر لرائحة معدنية، وتذكَّر فجأة أن أول رجال هبطوا على سطح القمر حكَوا أنهم شموا رائحةَ البارود المحترق عندما أعادوا معادلةَ ضغط المرْكبة الفضائية القمرية. تخيَّل ميرسر أن قمرة المرْكبة إيجل التي لوَّثها غبار القمر كانت رائحتُها تشبه رائحة راما نوعًا ما.
أحكمَ ميرسر إغلاق خوذته مرةً أخرى، وأفرغ رئتَيه من الهواء الغريب. فلم يجد فيه مقوِّمات الحياة، بل إن أي متسلِّق متأقلم على التنفُّس فوق قمة إيفرست سيموت هنا بسرعة. لكن الأمر سيختلف بعد أن يهبطوا بضعة كيلومتراتٍ أخرى.
ماذا يمكنه أن يفعل هنا بخلاف ذلك؟ لم يستطِع أن يفكِّر في أي شيءٍ فيما عدا الاستمتاعَ بالجاذبية الرقيقة غير المألوفة. ولكن لم يكن هناك مغزًى من التعوُّد عليها، فسيعودون في الحال إلى منطقةِ انعدام الوزن في المركز.
قال ميرسر: «سنعود الآن أيها القائد.» ثم أضافَ: «لا أرى سببًا للتقدُّم حتى نستعدَّ لإنجاز المهمة بالكامل.»
«أوافقك على ذلك. سنسجل الوقت، لكن تمهَّلوا في العودة.»
أقرَّ ميرسر وهو يثِب الدرجات ثلاثًا أو أربعًا في كل خطوة بأن كالفيرت كان مصيبًا تمامًا؛ فهذه الدرجات قد بُنيَت ليصعدوا عليها، لا ليهبِطوا. وإذا تجنَّب المرءُ النظر خلفه، وتجاهَل شدةَ انحدار المنحنى الصاعد التي تصيب بالدُّوار؛ فسيكون الصعود تجربةً ممتعة. غير أنه بدأ يشعر بعد مائتَي درجة تقريبًا بآلام في العضلات الخلفية لساقَيه، فقرَّر أن يبطئ من حركته. وكان الآخرون قد أبطئوا بالفعل، وعندما ألقى نظرةً سريعة إلى الخلف، رآهم على مبعدةٍ منه في أسفل المنحدر.
مرَّ الصعود هادئًا تمامًا بلا أحداث؛ تتابعًا لا نهائيًّا من الدرجات ليس إلا. وعندما توقفوا مرةً أخرى على المنبسَط العلوي، أسفل السُّلم مباشرة، كانوا يلهثون، مع أنهم لم يستغرقوا إلا عشر دقائق فقط. فاستراحوا عشر دقائق أخرى، ثم بدءوا في صعودِ آخرِ كيلومترٍ رأسي.
اقفز، تمسَّك بدرجة، اقفز، تمسَّك، اقفز، تمسَّك … كان الأمر سهلًا، لكنه مكرَّر بطريقةٍ تثير المللَ وتُنذِر بوقوع إهمال. وفي منتصف السُّلم العمودي استراحوا خمس دقائق، وفي هذا الوقت بدءوا يشعرون بالألم في أذرعهم وسيقانهم. ومرة أخرى، شعر ميرسر بالسعادة لأنه لا يرى إلا قليلًا من السطح الرأسي الذي يتشبَّثون به، لم يكن من الصعب أن يتخيَّل أن السُّلم العمودي يمتد بضعة أمتار فقط خارج دائرة الضوء، وأنه سينتهي سريعًا.
اقفز، تمسَّك بدرجة، اقفز، ثم فجأةً انتهى السُّلم بالفعل. وعادوا مرةً أخرى إلى منطقةِ انعدام الوزن عند المركز؛ إلى أصدقائهم المترقِّبين عودتهم. استغرقت الرحلة كلُّها أقلَّ من ساعة، وشعروا بأنهم حققوا إنجازًا متواضعًا.
لكن الوقت كان مبكرًا جدًّا ليشعروا بالرضا عن أنفسهم. ومع ما بذلوه من جهد، لم يجتازوا إلا أقل من ثُمن الدَّرج العملاق.