استراحة
قال القائد نورتون وهو شاردُ الذهن عندما سمِعَ الطَرْق الهادئ على بابه: «تفضَّل بالدخول.»
«هناك أخبارٌ تهمك يا بيل. أردتُ أن أبلغك بها قبل أن يتصرَّف الطاقم. وعلى أي حال، إنها مسئوليتي.»
كان نورتون لا يزال شاردًا. كان راقدًا وأصابعُ يدَيه متشابكتان وراء رأسه وعيناه نصف مفتوحتَين، وضوء القمرة خافت، لم يكن ناعسًا تمامًا، لكنه كان مستغرقًا في تفكيرٍ حالم أو حُلم خاص.
طرفَت عيناه مرةً أو مرتَين، وعادَ مرةً أخرى من شروده.
«متأسف يا لورا، لم أفهم. ما الأمر؟»
«أنسيت؟»
«كفاكِ مزاحًا أيتها المرأة. فهناك بضعةُ أمور تشغَل بالي في الآونة الأخيرة.»
تناولت الضابطة الجرَّاحة إيرنست أحدَ المقاعد وهي ممسكة به من خلال فتحاته وجلست بجواره.
«بالرغم من أن الأزمات الناشئة بين الكواكب تأتي وتذهب، فإن عجلات البيروقراطية المريخية تدور بجِدٍّ وثبات. لكنني أعتقد أن راما ساعدت أيضًا. من الجيد أنك لم تُضطر إلى الحصول على إذنٍ من أهل عطارد كذلك.»
كان الضوءُ ينبلِج.
بدأ نورتون يعي الأمر عندما سألَ: «هل أصدرَ بورت لويل التصريح؟»
فقالت لورا وهي تنظر إلى قصاصة ورق في يدها: «بل أفضل من هذا، بدأ العملُ بمقتضاه.» ثم قرأت: «على الفور.» وأضافت: «على الأرجح زوجتك حامل في ابنك الآن، تهانينا.»
«شكرًا لكِ. أتمنَّى ألا يكون الانتظار أزعجه.»
جُعِل نورتون عقيمًا عندما دخلَ الخدمة كأي رائد فضاء؛ فبالنسبة إلى رجلٍ سيقضي سنواتٍ في الفضاء لم تكن الطفرة المحرِّضة بالإشعاع مخاطرة، بل كانت أمرًا لا بد منه. فالحيوانات المنوية التي أفرغت حمولتَها من الجينات على المريخ — على بُعد مائتَي مليون كيلومتر — جُمِّدَت ثلاثين عامًا في انتظار قَدَرِها.
تساءلَ نورتون إنْ كان سيستطيع أن يعودَ إلى الوطن في الوقت المناسب لحضور الولادة. كان قد استحقَّ الراحة والاسترخاء والتنعُّم بالحياة العائلية الطبيعية التي يمكن أن يعيشها أيُّ رائد فضاء. وبما أن المهمة انتهت فقد بدأ يسترخي ويفكِّر مرةً أخرى في مستقبله وفي أسرتَيه. وبالطبع سيكون من الرائع أن يعودَ إلى الوطن ويقضيَ مدةً من الزمن هناك، ليعوِّض هذا الوقت الضائع، بعدة طرق …
احتجَّت لورا احتجاجًا ضعيفًا نوعًا ما، وقالت: «إن هذه الزيارة ذات طابع مهني بحت.»
ردَّ نورتون: «بعد كل تلك السنوات، نعرف أحدُنا الآخر أفضلَ من ذلك. على أي حال، أنتِ الآن في غيرِ أوقات العمل.» كان يعرف أن الأمر تتناقله الألسن بلا شكٍّ في كل أرجاء السفينة. ومع أن أمامهم أسابيعَ ليبلغوا الوطن فإن نهايةَ مهمة «اللهو في المدارات» ستكون على قدَمٍ وساق.
•••
ثم سألت لورا بعد مرور بعض الوقت: ««والآن» فيمَ تفكِّر؟ أتمنَّى ألا تبدأ في إبداءِ عواطفك.»
«لا أفكِّر فينا، بل في راما. بدأتُ أشتاقُ إليها.»
«أشكرك جدًّا على هذه المجاملة الرقيقة.»
لفَّ نورتون ذراعَيه حولها. فكان يرى دائمًا أن أحدَ أفضل الأمور في انعدام الوزن هو أنك تستطيع أن تحتضنَ شخصًا طوال الليل دون أن تتسبَّب في قطع الدورة الدموية. هناك مَن يزعمون أن الحبَّ في عجلةِ الجاذبية الأرضية العادية مملٌّ جدًّا لدرجةِ أنهم لم يعودوا يستمتعون به.
«إنها حقيقة معروفة يا لورا، عقلُ الرجال — على عكس النساء — يعمل في اتجاهَين. لكن جديًّا — حسنًا، بل «أكثر» جِدية — أشعرُ بالضياع.»
«يمكنني تفهُّم ذلك.»
ثم قال: «لا تحاولي أن تحلِّلي الموقف؛ فهذا ليس السببَ الوحيد. لا تشغَلي بالكِ.» ثم توقَّفَ عن الحديث. لم يكن من السهل أن يشرح الأمرَ، ولو لنفسه.
نجحَ في مهمَّته بما يفوق كلَّ التوقعات المقبولة؛ فما اكتشفَه رجاله في راما سيشغَل العلماءَ عقودًا. وفوق كل شيءٍ، نجحَ دون وقوع ضحايا.
لكنه فشِلَ أيضًا. فمن الممكن أن يفكِّر المرءُ إلى ما لا نهاية في طبيعةِ سكان راما وهدفهم، لكنه سيظل مجهولًا تمامًا. استخدموا النظامَ الشمسي محطةً للتزوُّد بالوقود — أو محطةَ تعزيزٍ — أو لتُسمِّها أيَّ اسم تشاء، ثم ازدرتها تمامًا واتَّجهت إلى تنفيذِ أمورٍ على جانب أكبرَ من الأهمية. لعلهم لم يعرفوا بوجود الجنس البشري، كانت تلك اللامبالاة الواضحةُ أسوأ من أي إساءة متعمَّدة.
عندما لمحَ نورتون راما لآخِر مرة، كنجم صغير يندفع إلى الخارج وراء الزهرة، عَرفَ أنَّ جزءًا من حياته انتهى. كان عمره لا يتجاوز خمسة وخمسين عامًا، لكنه شعرَ أنه تركَ شبابه هناك على السهل المركزي المنحني، بين أسرارٍ وعجائبَ تبتعد بلا توقُّف عمَّا يستطيع أن يصل إليه الإنسان. مهما كانت الأمجاد والإنجازات التي سيحققها في المستقبل، فسيظل يراوده شعورٌ طوالَ حياته بخيبةِ الأمل وضياع الفرص.
هذا ما قاله لنفسه، لكن حتى بعد أن قالها كان يجدُر به أن يعرف أفضلَ من ذلك.
وفي الأرض البعيدة لم يكن الدكتور كارلايل بيريرا قد أخبر أحدًا كيف استيقظَ من نوم مؤرِّق على رسالة من اللاوعي تتردَّد أصداؤها في عقله:
«يصنع سكانُ راما ثلاثةً من كلِّ شيءٍ.»