الفصل الأول
نظرة عامَّة إلى حياة يونج
(١) النَّشأة والحياة الرُّوحيَّة
ولد كارل جوستاف يونج عام ١٨٧٥م في قرية كيسفيل Kesswil على الشاطئ السويسري من بحيرة
كونستانس Constance التي تقع على
الحدود ما بين سويسرا وألمانيا (حيث تسمَّى بحيرة بودينسى)
والنمسا، وكان الابن (الذَّكر) الوحيد لوالده الذي كان يدعى يول
أخيليس يونج (١٨٤٢–١٨٩٦م) وكان يعمل كاهنًا في الكنيسة المحلية،
وكانت والدته — واسمها إميلي — الابنة الصغرى لأستاذ اللغة العبرية
صمويل يرايزفيرك Preiswerk
(١٧٩٩–١٨٧١م) الذي علَّم يول يونج (والد كارل) اللغة العبرية أثناء
دراسته اللاهوت، وكان هذا الجدُّ يؤمن إيمانًا عميقًا بالمذهب
الروحاني الذي أشرت إليه في المقدمة، فكان يخاطب روح زوجته الأولى
بعد أن توفِّيت كما كانت زوجته الثانية تتمتع فيما قيل بالشفافية
اللازمة لمخاطبة أرواح الموتى، إلى جانب غيرها من أفراد الأسرة،
وهو ما كان له تأثيرٌ كبيرٌ في يونج أثناء طفولته؛ إذ شغلته
القضايا الدينية طول عمره، وأما جدُّه لأبيه فكان اسمه كارل جوستاف
أيضًا، وكان من الشخصيات البارزة في مدينة بازل؛ إذ كان طبيبًا
يمارس المهنة حتى وفاته، كما كان رئيسًا لجامعة بازل، ومؤلفًا
للعديد من المسرحيات والكتب العلمية. ويقول الباحثون إن تأثير هذا
الجدِّ هو الذي دفع يونج إلى دراسة الطب، ولا شك أن اهتمام هذا
الجدِّ بالطب النفسي كان من العوامل التي أثرت في الميول اللاحقة
لدارس الطبِّ، وأودُّ أن أقدم بعض التعريفات المتفق عليها في هذا
المجال قبل مواصلة سرد أحداث حياة يونج.
أمَّا الطبيب
النفسي psychiatrist فهو طبيبٌ متخصصٌ في علاج الأمراض النفسية
بجميع أنواعها، والمثال عليه ديفيد ستافورد — كلارك (١٩١٦–١٩٩٩م)
البريطاني الذي اكتسب شهرة واسعة في الستينيات بسبب جهوده لتقريب
مفاهيم الطب النفسي من أذهان العامة، والذي وضع كتابًا عنوانه:
«الطب النفسي» (١٩٦٨م) يقول فيه بالصلة الوثيقة بين العلل النفسية
والعلل الجسدية.
وأما المحلل النفسي analyst فهو
المعالج الذي قد يتمتع بمؤهل طبي وقد لا يتمتع به، ولكنه يركز عمله
على دراسة مجموعة واحدة من الاضطرابات النفسية؛ أي ضروب
العصاب neuroses من خلال الدراسة
الطويلة والدقيقة (والمضنية) للعمليات النفسية التي يجري معظمها في
اللاوعي، وهو العمل الذي مارسه فرويد ويونج وغيرهما ردحًا طويلًا
من الزمن.
وأما العالم
النفسي psychologist فهو صاحب علمٍ بحتٍ يدرس جميع الأحوال أو
الحالات النفسية، وكلَّ أشكال السلوك عند الأسوياء وغير الأسوياء،
وعند البشر أو عند الحيوان. وقد يتخصص في فرع من فروع علم النفس
الكثيرة، وقد يحقق ذيوع الصيت في أحدها، من دون أن يطغى ذلك على
تخصصه العلمي الشامل.
وانتقلت الأسرة من القرية المذكورة إلى بلدة لاوفن Laufen القريبة من شلالات نهر الراين،
وكان عمر يونج لا يتجاوز ستة أشهرٍ، ثم انتقلت عندما بلغ الرابعة
إلى بلدةٍ بالقرب من بازل، أصبحت الآن من ضواحيها، وتدعى
كلاين-هيونجين، حيث أقام أفراد الأسرة في منزل كبير قديم تابع
للكنيسة؛ إذ كان والد يونج (يول) مكلفًا بعمل إضافي إلى جانب إلقاء
المواعظ ومساعدة أفراد البلدة الذين يؤمون الكنيسة، ألا وهو
الإشراف «الديني» على المرضى النفسانيين في مستشفى فريدمات Friedmatt للأمراض النفسية، والتحق
كارل الصغير بمدرسة القرية، ثم التحق بمدرسة بازل التي تؤهل
الناجحين للالتحاق بالجامعة، وكانت تسمى «جمنازيوم» (التي تطلق
أيضًا على مكان الألعاب الرياضية) وكان ذلك في عام ١٨٨٤م الذي ولدت
فيه أخته جيرترود. ونجح كارل في الالتحاق بالجامعة حيث بدأ دراسته
للعلوم الطبيعية والطب.
وأودُّ أن أتوقف عند حدث يرويه يونج في الفصل الثالث من سيرته
الذاتية: «ذكريات وأحلام وتأملات» (ص٨٤–١١٣) وذلك عند تفسير
اختياره للطب النفسي موضوعًا للتخصص، وتفسير العنوان الغريب الذي
اختاره لرسالة الدكتوراه وهو «عن علم النفس وعلم الأمراض فيما
يتعلق بالظواهر الخارقة المزعومة: دراسة في الطب النفسي» (١٩٠٢م).
ويتلخص ذلك الحدث في وقوع أحداث غامضة في المنزل، وكيف دعاه أفراد
الأسرة إلى حضور جلسات تحضير الأرواح من خلال فتاةٍ تقوم بدور
الوسيط، وبعد عامين من التجارب التي أدرج يونج تفاصيلها وملاحظاته
عليها في رسالته، واكتشف أن الفتاة «الوسيط» تحاول «ابتكار»
الظواهر الخارقة بالمكر والخداع، فقرر عندها التوقف عن التجارب
قائلًا إنه اكتشف كيف تولد ما يسميها «الشخصية الثانية» ويعني بها
الذات self التي يقول إنها قائمة
في كلٍّ منَّا من البداية للنهاية ولكنها لا تستطيع تحقيق «ذاتها»
إلا بفضل تدخل «الأنا» ego
المصاحبة لها في رحلة الحياة، وهي التي يسميها «الشخصية الأولى»
ويعلق على ذلك قائلًا إنه اكتشف كيف تتكون هذه الذات وكيف تدخل وعي
الطفل، ثم تتكامل معه أخيرًا. وهكذا أحس أن هذه الخبرة قد أقنعته
بإمكان وضع نظرة سيكلوجية خاصة به، وأنها قد أكسبته بعض الحقائق
الموضوعية، ولكن الأساتذة الذين كانوا يدرِّسون له الطب النفسي لم
يساعدوه على حسم اختيار مستقبله العملي والعلمي، حتى آن له أن يدرس
الكتاب المقرر في الطب النفسي الذي وضعه كرافت–إبنج Kraft-Ebing [الطبعة الرابعة
١٨٩٠م]. ويقول يونج:
بدأت بالتصدير معتزمًا أن أرى كيف يقدم الطبيب النفسي موضوعه
… ولا بدَّ لي أن أوضح أن الطب النفسي كان محتقرًا بصفة عامة
في عالم الطب. فلم يكن أحدٌ يعرف عنه شيئًا في الواقع، ولم يكن
يوجد شكلٌ من أشكال علم النفس يعتبر الإنسان كائنًا كلِّيًّا
ويدرج الأحوال المرَضية في الصورة العامة، فمدير المستشفى كان
حبيسًا بها مع المرضى، وكانت المؤسسة نفسها معزولة عن المدينة
وتقع على مشارفها. ولم يكن أحدٌ يحب أن ينظر إليها … وكان
المرض النفسي يعتبر مرضًا لا يرجى منه شفاءٌ بل يعتبر مهلكًا،
وكان يلقي بظلاله على مهنة الطب النفسي أيضًا. وكان الطبيب
النفسي يعتبر «كائنًا» عجيبًا في تلك الأيام، كما تعلمت من
خبرتي الشخصية.
بدأت بالتصدير فقرأت ما يلي: «من المحتمل أن غرابة الموضوع
وعدم اكتمال تطوره هما سبب اصطباغ الكتب الدراسية في الطب
النفسي بصبغة ذاتية إلى حدٍّ ما»، وبعد بضعة أسطر قال المؤلف
إن ضروب الذُّهان psychoses
تعتبر «من أمراض الشخصية». وفجأة تسارعت خفقات قلبي، واضطررت
إلى الوقوف ونشق أنفاسٍ عميقةٍ: كانت شدة انفعالي قد بلغت
أوجها؛ إذ أضاء خاطري بارقٌ أوضح لي أن الهدف الممكن الوحيد
أمامي كان الطب النفسي؛ ففي هذا المجال وحده يمكن للتيارين
اللذين يمثلان ما أهتمُّ به أن يتدفقا معًا، وأن تشقَّ مياههما
مجرًى موحَّدًا، فهنا كان المجال التجريبي المشترك الجامع بين
البيولوجية والروحية، وهو الذي بحثت عنه في كل مكان ولم أعثر
عليه في أي مكان. وهنا وجدت، أخيرًا، موقع الصدام بين الطبيعة
والروح في الواقع الفعلي.
كان انفعالي قد اشتدَّ عندما تحدث كرافت-إبينج عن «الصبغة
الذاتية» لكتب تدريس الطب النفسي، فقلت في نفسي إن الكتاب
يعتبر إلى حدٍّ ما اعترافًا ذاتيًّا للمؤلف. فهو يقف بانحيازه
المحدد، وبكيانه كله، خلف الطابع الموضوعي لخبراته ويستجيب إلى
«مرض الشخصية» بكل شخصيته الخاصة، ولم أكن قد سمعت شيئًا
شبيهًا بهذا قط من المعلم في العيادة.
(يونج: ذكرياتٌ وأحلامٌ وتأمُّلاتٌ
ص١٠٨–١٠٩)
وكان يونج بعد أن تخرج في عام ١٩٠٠م، في جامعة بازل، قد أصبح
أثناء إعداده رسالة الدكتوراه مساعدًا للأستاذ المرموق يوجين
بلاولر Bleuler، وكان من أشهر
علماء الطب النفسي آنذاك، في مستشفى برغولزلي Burghölzli للأمراض النفسية، وهي التي كانت قد اكتسبت
ذيوع الصيت على المستوى الدولي باعتبارها عيادة الطبِّ النفسي
التابعة لجامعة زيوريخ. وبعد حصوله على الدكتوراه قضى عدة سنوات
يعمل فيها محللًا نفسيًّا، وتمكن فيها من وضع اختبار تداعي الألفاظ
word-association test الذي أثبت
وجود ما أسماه المركَّبات
اللاواعية unconscious
complexes وطرائق عملها، وفي غضون ذلك، وقبل تعرُّفه
إلى فرويد عام ١٩٠٩م، كان قد تزوج في عام ١٩٠٣م من فتاةٍ تدعى
إيما راوشنباخ Emma Rauschenbach
(١٨٨٢–١٩٥٥م) وكانت ابنة لأحد رجال الصناعة الأغنياء، وما إن حلَّ
عام ١٩٠٥م حتى كان قد حصل على وظيفة محاضر في الطب النفسي في جامعة
زيوريخ، وأصبح عضوًا في هيئة كبار الأطباء في مستشفى برغولزلي.
وكان «اختبار تداعي الألفاظ» الذي وضعه يونج يعتبر تطويرًا
للاختبار المماثل الذي كان فرانسيس جولتون Galton قد وضعه في ثمانينيات القرن التاسع عشر، كما
ذكرت في المقدمة، محاولًا الاستناد إلى نتائجه في تحديد مستوى ذكاء
الأفراد، وكان هذا العلَّامة (وهو ابن عم تشارلز داروين صاحب نظرية
النشوء والارتقاء) عالمًا من علماء الرياضيات تخصص في الإحصاء، بل
إنه غامر بإقامة مختبر مجهَّز بالآلات التي كان يزعم أنها تقيس
قدرات الإنسان، وكان اسمه مختبر قياس الذكاء البشري
anthropometric في لندن عام ١٨٨٤م،
ولكن المغامرة لم تنجح، فأحيا يونج الفكرة بعد أن وضع لها قواعد
صارمةً وضوابط وروابط فاستطاع تحقيق النجاح ونشر أبحاثه الأولى في
عام ١٩٠٦م، ثم اتصل بالعلَّامة سيجموند فرويد، في فيينا، وزاره في
مارس ١٩٠٧م. وتستشهد جميع الكتب التي كُتبت عنهما (فيما أعلم)
بقوله إنهما قضيا ثلاث عشرة ساعةً متواصلةً في المناقشة دون
انقطاع؛ إذ كان كلٌّ منهما مبهورًا بصاحبه. وبعدها استمر تعاونهما
في العمل بالمراسلة أساسًا، (وسوف أعود إلى ذلك كله فيما
بعد).
(٢) الانفصال عن فرويد
والمعروف أن فرويد كان قد وضع أسُس التحليل النفسي، وكان يونج
معجبًا بعلم فرويد الغزير ومنهجيته الصارمة، وكان فرويد يرى في
يونج الذي يصغره بما يقرب من عشرين عامًا الوريث الذي سيحافظ على
لواء التحليل النفسي خفَّاقًا وسينشره في الآفاق، ولم يكن يونج
آنذاك قد استكمل نظريات علم النفس التحليلي التي اشتهر بها، فكان
معجبًا وحسب بعمل فرويد، ولكنه ظل مستمسكًا باختبار تداعي الألفاظ،
وعندما رحلا معًا إلى الولايات المتحدة في عام ١٩٠٩م، بدعوة من
جامعة كلارك في مدينة ووستر في ولاية ماساتشوستس، تحدث كل منهما في
محاضراته عن موضوعه الأثير. وكانا أثناء الرحلة البحرية الطويلة لا
يتوقفان عن النقاش وتحليل أحلامهما. وفي العام التالي أُنشئت
الجمعية الدولية للتحليل النفسي، وأصبح يونج رئيسًا لها، حتى عام
١٩١٤م، وكان قد أنجب خمسة أطفال من زوجته، وبدأ يتبين أن التحليل
النفسي لم يكن مجاله المفضَّل، فاستقال من رئاسة الجمعية، ومن
العمل بالتدريس في جامعة زيوريخ، ومن ممارسة التحليل النفسي في
مستشفى برغولزلي، وقرر أن يتوفر على بحوثه الخاصة في عيادته،
والإقامة في منزله بجوار البحيرة.
ويختلف الباحثون في أسباب الاضطراب النفسي الذي أصابه في الفترة
من ١٩١٤–١٩١٨م، فيصفه بعضهم بأنه كان ناشئًا من «أزمة منتصف
العمر»، ويقول آخرون إنه كان انهيارًا نفسيًّا، أو حالة ذهان، أو
حالة «مرض خلَّاق»، أو كان إدراكًا منه للرسالة العلمية التي
كلَّفه القدر بحملها إلى الناس. ويقدم ستور في كتابه يونج (١٩٧٣م)
تفسيرًا يشاركه فيه بعض النقاد؛ إذ يستند فيه إلى سيرته الذاتية،
حيث يشير يونج إلى تلك الفترة (اعتبارًا من ١٩١٣م) بأنها كانت تمثل
بداية «قلق داخلي»؛ إذ يقول: «ولا أبالغ إن قلت إنني أحسست بفقدان
اتجاهي». و«بأنني معلق في الهواء» وبدا له أن إحساسه بالقهر في
خريف عام ١٩١٣م لم يكن نابعًا من حالةٍ نفسيةٍ وحسب بل من أوضاعٍ
عمليةٍ (ذكريات وأحلام وتأملات ١٧٠) ويقول ستور إن يونج لم يكن
يُرجع اضطرابه إلى شيء داخلي بل إلى خلل في العالم الخارجي (ص١٤)؛
ومن ثمَّ يقول إنه كان نابعًا من أزمة انفصاله عن فرويد، بسبب
تأكيد فرويد لعامل الكبت repression في حالات الهيستيريا؛ (الهرع hysteria)؛ أي إن الشخص يستبعد من الوعي
كل أفكار أو مشاعر لا تستسيغها الأنا الواعية، ويلقي بها في
اللاوعي. ويقول فرويد إن هدف التحليل النفسي هو نقل «المكبوت» في
الأنا السفلى id إلى الأنا ego وكان يونج يدرك صحة القول بالكبت
باعتباره آليةً نفسيةً، ولكنه كان يولي أهميةً أكبر للتفتيت
والانقسام داخل النفس، وكان يميل إلى اعتبار الأقسام المنفصلة
شخصياتٍ بديلةً، تكاد تصل أهميتها إلى مستوى أهمية الأنا، بل
وتتمتع بالقدرة على السيطرة على الذات بدلًا من الأنا ويقول
ستور:
كان الأطباء النفسانيون في القرن التاسع عشر مولعين بحالات
«تعدد الشخصية» وكانوا يشجعون مرضاهم المصابين بالهيستيريا على
مواصلة تكوين شخصيات بديلة من خلال الاستخدام غير الحصيف
للتنويم المغناطيسي. وسرعان ما تخلى يونج، مثلما تخلى فرويد،
عن أسلوب التنويم، ولكنه استمر في اعتبار أن «الأنا» أقرب إلى
كونها «شخصيةً» واحدةً من بين عدة شخصياتٍ، من كونها الكيان أو
الجانب الرئيسي الذي ينبغي اعتبار كلِّ الجوانب الأخرى للشخص
ثانويةً بالقياس إليه. وقد يلجأ المرء إلى التبسيط المخلِّ
فيقول: إن الاهتمام الأول لفرويد كان اكتشاف الأسرار، وإن
اهتمام يونج الأول كان تحقيق التصالح بين «الشخصيات» المتصارعة
داخل النفس.
وقد أدت الخبرة الإكلينيكية التي اكتسبها يونج إلى تدعيم
توكيده للتفتيت والانقسام … ففي مستشفى برغولزلي برز اهتمامه
بالشيزوفرينيا schizophrenia
[الفصام الذي يعني تهرؤ الشخصية] (أو الخرف المبكر dementia praecox كما كان
يطلق على هذا المرض آنذاك). فقد لاحظ أن الإصابة بالشيزوفرينيا
لا تعني أن المريض قد انقسمت شخصيته إلى قسمين أو أكثر من
الأقسام المتميزة بوضوحٍ بل تعني أن شخصيته تفتتت fragmented؛ أي إنها تهرَّأتْ
disintegrated لا تفككت وحسب
dissociated. ومع ذلك فإننا
نستطيع أن نجد بين الشَّذرات
fragments بعض «الأصوات» التي
تدل على استمرارٍ من نوعٍ معينٍ يستطيع المعالج أن يقيم حوارًا
معه. كما لاحظ يونج — مثلما لاحظ كثيرٌ من الأطباء النفسيين
العاملين في المصحات النفسية منذ تلك الفترة — أن «الأنا» عند
المريض قد تظل سليمةً إلى حدٍّ ما، وإن كانت خفيةً، على امتداد
سنوات كثيرة من المرض النفسي المزمن. فإذا حلَّ مرض جسدي بمريض
يعاني من الشيزوفرينيا المزمنة، فقد يحدث أحيانًا أن تؤكد
شخصيته «السوية» normal؛ أي
«الأنا» عنده، سيادتها من جديد؛ ومن ثم فقد يتكلم ويتصرف
بالطريقة المعتادة فترةً ما، ثم إذا به ينتكس بعد زوال المرض
الجسدي. ويتعذر تفسير هذه الظاهرة على ضوء الخريطة التي وضعها
فرويد للأنا، والأنا العليا والأنا السفلى، إلا إذا اعتدنا أن
نرى أن «الأنا» يمكن أن تنقسم بسهولة إلى عدد من «الأنوات» وهو
ما لم يكن فرويد على استعداد لقبوله، على الأقل في عمله
المبكر. (ستور، يونج، ص٨–٩)
وقد يكون ستور على حق في
تفسير الاضطراب النفسي الذي أصاب يونج على ضوء قلقه أو حزنه إزاء
اضطراره للانفصال عن منهج فرويد، بل والابتعاد عن التحليل النفسي
برمَّته، فقراءة سيرته الذاتية تدلُّنا على مدى الحب الذي كان
يكنُّه لفرويد، ومدى إحساسه بالألم بسبب انفصاله عنه، ولكننا إذا
أنعمنا النظر في العلاقة بين العالمين وجدنا أن بعض النقاد يبالغون
في تصوُّر طبيعة العلاقة بينهما، فلا شك أن فرويد كان يرى في يونج
أملًا في مواصلة نهج التحليل النفسي الذي وضعه، وكان يعتزُّ (كما
يقول وولين وصمويلز وستور) بأن يونج غير يهودي، على عكس الباحثين
والدارسين في حلقة فرويد، وكان فرويد لا يحب وصف التحليل النفسي
بالمبحث اليهودي، والواقع أن يونج لم يكن تابعًا لفرويد حتى يقال
إنه تمرد عليه، بل كانت له خبرته الخاصة القائمة على البحث
الإكلينيكي ست سنوات (من ١٩٠٣م إلى ١٩٠٩م) في مستشفى برغولزلي قبل
استقالته وتفرغه للبحث في عيادته، على نحو ما أشرت إليه آنفًا،
ولكن فرويد لم يعمل في مستشفى للأمراض النفسية إلا فتراتٍ قصيرةً
بصفته طبيبًا مناوبًا أو بديلًا لغيره، ولم يكن يهتمُّ بالمرضى
المصابين بالذُّهان psychosis
ويرى أنهم لا يصلحون للعلاج بالتحليل النفسي؛ إذ كان اهتمامه
الأساسيُّ منصبًّا على ظواهر الهيستيريا، ومن بعدها على ظواهر
العصاب
القهري obsessional neurosis [وهو الاضطراب العصبي الذي يسيطر على المرء
ويزعزعه بالوساوس]، على عكس يونج الذي لم يكن يهتمُّ بالعصاب بل
بالفصام (الشيزوفرينيا) ولا تكاد تصادف في كتاباته الكثيرة إشاراتٍ
إلى حالات عصابٍ من النوع الذي تجده عند فرويد.
وسوف يظل أتباع فرويد على
خلاف مع أتباع يونج حول طبيعة العلاقة بينهما، ولكن النظرة
الموضوعية تقول، كما يذكر ماجواير McGuire في مقدمته للكتاب الذي نشر فيه الخطابات
المتبادلة بين فرويد ويونج (١٩٧٤م)، إن الخطابات تشهد على التأثير
المتبادل بين الباحثين، وهو يشير إلى تأثير يونج في نظرة فرويد إلى
التحليل النفسي (في المجلد الرابع من أعماله الكاملة، وعنوانه:
«فرويد والتحليل النفسي») قائلًا إن مناقشاتهما حول تفسير الأحلام
كانت تنبئ منذ البداية عن وجود اختلافٍ، بمعنى أن يونج لم يكن
«فرويديًّا مرتدًّا» بل كان منذ البداية يحتفظ لنفسه بنظراته
الخاصة عن الإنسان واللاوعي، ولم يعبر عنها التعبير العلميَّ
الصريح إلا عام ١٩١٣م؛ أي بعد انفصاله عن فرويد. ويضيف ماجواير
قائلًا: إن الخطابات ترهص ببعض ملاحظات فرويد القريبة من تفكير
يونج فيما يتعلق بالأنماط الفطرية واللاوعي الجمعي؛ خصوصًا في
أواخر حياته؛ إذ كتب يقول:
إن الأحلام تكشف عن بعض المادة التي نبعت من الحياة الناضجة
للحالم أو من طفولته المنسية، ونحن مضطرون إلى اعتبارها جزءًا
من الميراث
القديم archaic heritage الذي يأتي به المولود إلى الدنيا، قبل
اكتساب أية خبرة خاصة به، وذلك بفضل تأثير أسلافه. ونحن نجد
نظيرًا لهذه المادة الخاصة بتطور السلالة البشرية
phylogenetic في أولى الأساطير
البشرية وفي بعض العادات التي لا تزال موجودةً.
(فرويد: الخطوط العريضة للتَّحليل
النفسي، ١٩٦٤م،
ص١٦٦–١٦٧)
والمعروف أن فرويد ويونج (بل وآدلر) كانوا يستخدمون الصفة
archaic [التي تعني الآن القديم أو
المهجور] بمعنى الأزلي primordial
وهو المعنى الأصلي في الكلمة اليونانية التي اشتقَّ منها اللفظ وهي
الفعل archein بمعنى يبدأ؛ ومن
ثمَّ فهو قائم منذ بداية الوجود؛ أي منذ الأزل، وذلك على نحو ما
تعني كلمة «القديم» المناهضة «للمخلوق» إبَّان الجدل في العصر
العباسي حول القرآن، أقديمٌ هو (أي أزلي) أم مخلوقٌ (فيما يسمَّى
محنة خلق القرآن)؟ وكما قلت في المقدمة كان يونج يستخدم تعبير
الصور الأزلية حتى ١٩١٢م، ثم اهتدى إلى تعبير الأنماط الفطرية
واستخدمها في كتابه الذي كان عنوانه: «سيكلوجية اللاوعي»، ثم غيَّر
العنوان إلى رموز التحول، وهو الذي اضطر فيه إلى التعبير عن
اختلافاته مع فرويد، بعد أن ظل يكتمها (مضطرًّا؟) زمنًا طويلًا.
ويقول ستور:
لو طلب مني أن ألخِّص الفرق بين الرجلين في جملةٍ واحدةٍ
لأشرت إلى التضادِّ بين قيمهما الأساسية. كان فرويد بلا شك
يولي أعظم قيمةٍ لإطلاق الشهوة الجنسية بلذتها الغامرة، ولكن
يونج كان يجد أعظم قيمة في الخبرة الدينية الموحِّدة [للذات].
ومن ثمَّ كان فرويد يميل إلى تفسير جميع الخبرات الروحية
numinous والخبرات المشحونة
عاطفيًّا باعتبارها مستقاةً من الجنس أو بدائل عن الجنس، ولكن
يونج كان يميل إلى تفسير كلِّ شيءٍ حتى الحياة الجنسية
باعتبارها رمزيةً، قائلًا إنها تتسم بدلالة «روحية» بمعنى أنها
تمثل الوحدة غير العقلانية للأضداد، ومن ثمَّ فهي تعتبر رمزًا
للاكتمال.
(ستور، يونج، ص١٣)
(٣) الذَّات والعالم
ويجمل بنا أن نلقي نظرةً أخرى على الأزمة النفسية التي مرَّ بها
من عام ١٩١٤م إلى ١٩١٨م، والتي اقتبستُ إيضاحًا لها من بعض أقوال
يونج في الفصل السادس من سيرته الذاتية، وهو الفصل الذي جعل
عنوانه: «المواجهة مع اللاوعي»، كما اقتطفت قول ستور حول نسبة يونج
اضطرابه النفسي إلى عوامل خارجيةٍ، معرِّجًا على انفصاله عن فرويد،
ولكن قضية «الداخل» و«الخارج» جديرة بالتمحيص في فكر يونج؛ فهو
يقول لنا في «ذكريات وأحلام وتأملات» (ص١٧٤)، إنه تعرض لطوفان من
الرؤى والأحلام، خصوصًا أحد الأحلام ذات الدلالة الفصامية، وهو
«دمار العالم»، ويقول عرضًا إنه كان يعرف ما قاله فرويد عن وجود
آثار خبراتٍ قديمةٍ في اللاوعي [تعبير فرويد هو
archaic vestiges] وإنه بدأ لعبة
تلهيه ببناء «مدينة» صغيرة من الأحجار والرمال على شاطئ البحيرة،
ثم يقول إنه كان يحسُّ أن الضغط الذي كان يشعر به في داخله بدأ
يتجه إلى الخارج، كأنما كان في الجوِّ شيءٌ ما، وكان ذلك في خريف
١٩١٣م. وفي مطلع عام ١٩١٤م، تعرَّض لرؤى وأحلامٍ جديدةٍ، كان أحدها
تجمُّد منطقة اللورين بصقيعٍ وجليدٍ قطبي، قائلًا: إن الحلم تكرر
في أبريل ومايو، ثم جاءه لآخر مرَّةٍ في يونيو ١٩١٤م، مضيفًا أنه
كان مدعوًّا إلى إلقاء محاضرة عن «أهمية اللاوعي في العلاج النفسي»
في مدينة أبردين في اسكتلندا في يوليو ١٩١٤م، وإن الحرب العالمية
الأولى اندلعت أول أغسطس.
كان نشوب الحرب تأكيدًا لما ذكره من أن اضطرابه النفسي، برؤاه
وأحلامه، كان إرهاصًا بحدث خارجيٍّ جليلٍ أو اضطرابٍ في الدنيا من
حوله، وكان المنطق يقضي بدراسة هذه الدنيا وما يجري فيها ما دامت
تبعث إليه الرؤى والأحلام وتؤثر بأسلوب غامض في نفسه، ولكنه
يقول:
في أول أغسطس نشبت الحرب العالمية. فاتضحت لي مهمتي: كان
عليَّ أن أحاول أن أفهم ما حدث، وإلى أي مدى اتفقت خبرتي
الخاصة مع خبرة البشر جميعًا؛ ومن ثمَّ أصبح التزامي الأول أن
أسبر أغوار نفسي. كنت قد بدأت بكتابة التخيلات fantasies التي خطرت لي أثناء
لهوي بلعبة البناء، ثم أصبحت أولي لهذا العمل أولويةً على كل
شيءٍ آخر.
(يونج: ذكرياتٌ وأحلامٌ وتأمُّلاتٌ،
ص١٧٦)
ويرى أحد مترجمي يونج أن التناقض الظاهر هنا دليل على أن يونج لم
يكن قد حسم علاقته بالعالم الخارجي، وضعف العلاقة مع العالم
الخارجي، كما هو معروف، بادرةٌ من بوادر الذُّهان، وكلام يونج يوحي
فيما يوحي به بالضعف المشار إليه، ولكن ستور يقول: إن يونج كان
ينظر إلى نفسه وإلى غيره من المفكرين (والفنانين) المبدعين؛ نظرته
إلى الأدوات التي توضح للناس نظراتٍ عميقةً، فائقةً أو جديدةً،
قائلًا: «كان يونج يعتبر أن الأشخاص الخلَّاقين «يسبقون زمانهم»
وأنهم أيضًا على صلة بمصدرٍ للحكمة الفائقة، وهي التي يمكننا أن
نشير إليها باسم «اللاوعي الجمعي»، أو، في مرحلة لاحقة، باعتبارها
البارئ جلَّ وعلا، صراحةً» (ستور، ص١٤–١٥).
ويؤكد ذلك فحصنا لمسار حياة يونج بعد شفائه من الاضطراب المذكور
عام ١٩١٨م، بل وعلى امتداد حياته؛ فالدارس لسيرته الذاتية لن يجد
أحداثًا بالمعنى المفهوم، بل يجد تياراتٍ فكريةً وتجارب ترمي إلى
اكتساب خبراتٍ خاصَّةً بأعماق حياة الإنسان، في الأديان المقارنة
مثلًا، وهي التي درسها فترة طويلة، كما درس الأساطير باعتبارها
منجمًا حافلًا بالمعادن الثمينة من الرموز والأنماط الفطرية، ويكفي
أن نشير هنا إلى دراسته للغنوصية gnosticism وهي مذهب ديني مسيحي نشأ في القرن الثاني
للميلاد، من جذورٍ تضرب في أعماق التراث الإنساني السابق للمسيحية،
وكان الغنوصيون يقولون إن العالم يحكمه رب يسمَّى
Demiurge ينفذ إرادة الرب الأعلى
وإن المسيح رسولٌ من الربِّ الأعلى ولديه معارف
gnosis سريةٌ قادرةٌ على تقديم
الخلاص لروح الإنسان، وعلى الرغم من رفض الكنيسة لهذا المذهب
المارق؛ فإن يونج كان يرى فيه تعبيرًا يتشبه بالدين وحسب، لكنه يدل
على الطبيعة المركَّبة لفطرة الإنسان، وكيف يتدخل فيها اللاوعي؛ أي
إن يونج يفسر اضطرابه النفسي بأنه كان «تجربة مع اللاوعي» وهي
التجربة التي يقول صمويلز: إنها تؤدي إلى نشدان الصور «المختلفة»
لوجود اللاوعي الجمعي مثل الأساطير التي ذكرتها آنفًا، ومثل
الخيمياء alchemy وهي الصورة
القديمة للكيمياء، وكانت في البداية مشروعًا لتحويل المعادن
الوضيعة إلى معادن نفيسةٍ، وعلى رأسها الذهب. ولكن الذي اجتذب يونج
إليها طابع ممارستها لا نتائجها، فعندما تبحَّر يونج في تاريخ
الخيمياء اكتشف أن تجارب أولئك «الكيميائيين» البدائيين لم تكن
تجارب «موضوعيةً» بحتةً، بل كانت تجمع بين الذاتية والموضوعية؛
فالخيميائي يتحول هو نفسه في أثناء محاولته تحويل شيءٍ منحطٍّ إلى
شيءٍ ثمينٍ، والتحوُّل هنا نفسي، ويراه يونج في صورة تضافر اللاوعي
مع الوعي، وقد أدرجت في الفصل السابع بعض المصطلحات الخيميائية
التي يستعملها يونج. والواقع أن يونج لم يتخلَّ عن منهجه العملي
الذي يسمَّى التجريبي اصطلاحًا
empirical في دراسته للاوعي
الجمعي، فقام برحلاتٍ «أنثرويولوجية» إلى الهنود الحمر من قبائل
ييوبلو (Pueblo في ولاية نيو
مكسيكو بالولايات المتحدة الأمريكية، وأقام فيها فترةً من
١٩٢٤–١٩٢٥م، ودرس فنونها وآدابها، ثم سافر إلى كينيا في شرق
أفريقيا، وقضى فترة مع قبائل الغوني Elgony من ١٩٢٥–١٩٢٦م، وكان يسجل ما يشاهد ويسمع،
خصوصًا ما بدا له من رموز بشرية عامَّةٍ، كان بعضها ذا شكل هندسي
مثل الدائرة والمربع والمستطيل، وهي التي تتداخل في المندلة mandala؛ أي الدائرة السحرية باللغة
السنسكريتية (الهندية الأوروبية القديمة) وأهم ما فيها قدرة الرائي
على تصوُّر انطلاق المربعات من الدائرة، أو انطلاق الدائرة من
المربعات؛ فهي ترمز للذات self في
التحليل الذي وضعه يونج؛ ففي جوهرها توجد النفس
psyche وقد رأى يونج أن القبائل
البدائية تستعملها للإيحاء (دون وعي منهم) بالتكامل أو الاكتمال،
وهو اكتمال من نوع خاص؛ لأنه يقوم على الحركة التي يحسُّها الرائي،
وكانت الحركة عنصرًا مهمًّا في تصوُّر يونج للنوازع البشرية التي
قد تنحرف فتؤدي إما إلى الهيستيريا إمَّا إلى الشيزوفرينيا، أمَّا
الهيستيريا فيتفق يونج مع تعريف فرويد لها بأنها عودة الذكريات
المكبوتة في صورة أخرى، ويمكن اكتشافها من الرموز وردُّها إلى ماضي
المريض، وأما الشيزوفرينيا — كما سبق أن بيَّنت — فهي تهرؤ عناصر
الشخصية، ويمكن تصوُّر هذه وتلك في شكل حركي تدل عليه المندلة؛
فالهيستيريا حركةٌ دائريةٌ تدفع بالوسط إلى الأطراف
centrifugal؛ أي تدفع ما يكمن بسبب
الكبت في اللاوعي إلى أطراف الدائرة حيث يتعلق المريض بالأشياء
الخارجية ويمنحها قيمةً شعوريةً، وأمَّا الشيزوفرينيا فتدفع
الأشياء الخارجية إلى الباطن
centripetal، حيث يجد المريض
المعنى والقيمة الشعورية فيما لا يدركه، وما يمكن أن ينتمي إلى
اللاوعي. ويرصد يونج استعمال أشكال المندلة في الأديان المختلفة،
وفي الحياة اليومية، بل وفي تمييزه بين الشخصية الانطوائية
والشخصية الانبساطية على نحو ما شرحت في المقدمة. واستعمال رمز
المندلة أتاح له أن يشرح لقرائه كيف تتحكم «النفس» في «الذات»
وتنظمها.
(٤) عودٌ إلى المصطلح
ومن المناسب أن أختتم هذه النظرة العامة إلى حياة يونج بالتذكير
ببعض المصطلحات التي تتكرر في الدراسة حتى لا يحتاج القارئ إلى
الرجوع إلى المعجم كلما صادف إحداها، فقد أشرت آنفًا إلى كلمة
«مركَّب» complex وقلت إنها من
الكلمات التي جعلها يونج من مصطلحاته الأساسية، ومن فرط اهتمامه
بهذا المصطلح كاد يطلق على مذهبه complex
psychology «علم نفس المركَّبات». أما سبب التسمية
فيرجع إلى تعريف المركَّب بأنه عنقود
cluster بالتعبير الحديث، كما ذكرت
في المقدمة — من الصور والأفكار التي اجتمعت حول نواةٍ أو
لبٍّ core من نمطٍ فطريٍّ واحدٍ
أو أكثر، وتتميز بطاقةٍ شعوريةٍ مشتركةٍ، وأما سبب تفضيله لهذا
المفهوم فهو قدرته على الفصل بين التحليل النفسي psychoanalysis الفرويدي،
ومذهبه الخاصِّ الذي أصبح يسمَّى علم النفس التحليلي
analytical psychology والمحللون
الممارسون للمذهبين يسمَّون أصحاب علم النفس العميق depth psychology — كما سبق
أن ذكرت — وتشير صفة العمق إلى الغوص في أعماق النفس حتى
اللاوعي.
وكنت قد أشرت إلى أن يونج وأتباعه يفضلون
psyche على
mind مستندًا إلى تفسير ستيفنز،
وأحب أن أضيف هنا أن السبب يرجع في جانبٍ منه إلى التراث اللُّغوي
الذي كان يتضمن موازاة كلمة mind
بالنفس وبالعقل أيضًا، بل وبالرأي في اللغة الإنجليزية الحديثة،
ونحن نجد هذا الازدواج، كما سبق أن ذكرت في الكلمة الألمانية
Geist التي تعني العقل أو النفس أو
الروح، بل إن مترجمي كتاب Phänomenologie des
Geistes للفيلسوف هيجل Hegel (١٨٠٧م) يترجمون العنوان إمَّا إلى ظاهريات
الروح spirit وإمَّا إلى ظاهريات
العقل mind كما نجد أن علماء
الفلسفة
التحليلية analytical philosophy التي كثيرًا ما نترجمها إلى فلسفة التحليل
اللُّغوي، يفهمون mind على أنها
تعني العقل مثلما تعني نوازع النفس الموجهة للسلوك الإنساني، كما
يقول جلبرت رايل ryle في كتابه:
«مفهوم العقل» The Concept of Mind
(١٩٤٩م) وأحب أن أبين أن يونج وأدلر وفرويد كانوا يحاولون تجنب هذا
الازدواج في المعنى، فجاءتنا كلمات لاتينية لا تتغير صورها في
اللغات الأوروبية الحديثة وهي ego
بمعنى «الأنا»؛ أي النفس الواعية، وsuper
ego؛ أي الأنا العليا، وهي النفس الواعية بقيمها
السامية وأخلاقها الفاضلة، و id؛
أي الأنا السفلى؛ أي النفس الأمَّارة بالسوء ونزعات الانحراف؛ مثل
الشهوات libido على تفاوت معنى
الأخيرة ما بين الشهوة الجنسية والشهوات الأخرى ما بين فرويد ومن
جاء بعده، فأدلر ينسب لها طلب السيطرة أو شهوة الغلبة، مستوحيًا
كلام نيتشه عن إرادة
السلطة the will to power ويونج يوسِّع من المدلول فيكسبه بعدًا نفسيًّا
متعدد الجوانب. وسوف أخصِّص الفصل الثاني للحديث عن اللاوعي، وهو
ذو وجود مفترض؛ أي إنه ليس كيانًا ثابتًا مجسدًا تدركه الحواس بل
يشبه الإلكترون electron في علم
الفيزياء الحديثة الذي نستدل على وجوده من تجلياته؛ فهذا الكائن
الذي ترجمناه إلى كلمة «كهرب» لا يُرى بل نفترض وجوده من أفعاله
عندما ندرس صور التفاعل الكيميائية والفيزيائية، فكذلك نستدل على
وجود اللاوعي من دراسة الرموز والأحلام وأعراض المرضى النفسانيين
وسلوكهم، وإذا كان ذلك وجودًا مفترضًا وحسب كما يقول بعض دارسي
فرويد ويونج (مثل ستيفنز في كتابيه المشار إليهما في المقدمة) فإنه
فرضيَّةٌ أثبتت فائدتها ويستخدمها المحللون جميعًا.