مراحل الحياة
(١) النُّظم العاطفيَّة
ما أغرب أن يتصور المرء أن أمثال هذه الاختلافات البيولوجية العميقة بين الذكور والإناث — ليست لها عواقب أو آثارٌ نفسيةٌ أو سلوكيةٌ في حياة الرجال والنساء في جميع المجتمعات! فإذا اطَّلع المرء على الأدلة اتَّضح له وجود هذه الآثار … والأرجح أن الذات التي نولد بها تتسم بأبنيةٍ فطريةٍ تختلف اختلافاتٍ مهمةً ما بين «ذات» الذَّكر و«ذات» الأنثى، وهي التي ترسي البناء الأساسيَّ الذي تبدأ العمل فوقه الصور النمطية للذَّكر والأنثى في الثقافة التي ولدنا في كنفها. وتقوم هذه بإخراج الطاقات الكامنة وتطويرها عند الذَّكر وعند الأنثى داخل الذات التي تتمتع بها فطريًّا.
ولقد سبق لي إيراد فقرةٍ ليونج في آخر القسم الخاص بالفطريِّ والمكتسب في الفصل السابق (من المجلد السابع، الفقرة ٣٠٠) (ص١٣٢–١٣٣ أعلاه)، وهي التي تدل على الهوَّة التي كانت تفصل نظرته للنفس البشرية عن نظريات دعاة تأثير البيئة، والسلوكيين، إلى جانب النظريات الثقافية التي سادت الدوائر الأكاديمية طيلة حياته. ويشير شرَّاح يونج إلى أن فقدان المذهب السلوكي لسلطانه القديم جعل أفكار يونج تبدو أقل غرابةً ممَّا كانت تتسم به عند نشرها؛ فالعلماء يقبلون اليوم فكرة مرور الكائن الحيِّ بمراحل نفسيةٍ وسلوكيةٍ في كلِّ مرحلةٍ من مراحل العمر؛ أي يقبلون وجود علاقة بين المرحلة العمريَّة والظواهر النفسية والسلوكية، فإذا قيل إن المراحل الظاهرة التي تشهد عليها الأجسام — تخضع لعوامل بيولوجية فمن المنطق افتراض أن المراحل النفسية تخضع لتأثير هذه العوامل أيضًا. ويقول شرَّاح يونج إن قضية المراحل لم تكن تقتصر على تعريفها بل تتطلب إبراز الثوابت المميِّزة لكلِّ مرحلةٍ. وقد شُغل العلماء آنذاك بما يقوله يونج، واهتمَّ علماء البيولوجيا — خصوصًا في مجال السلوك الحيواني — برصد المراحل المذكورة وأثمرت بحوث بعضهم عن عددٍ من الحقائق العلمية التي لم يتوانَ أنصار يونج عن تطبيقها على الإنسان.
-
(١)
نظام الرضيع والأم infant-mother system الذي يربط الرضيع بأمه.
-
(٢)
نظام الأقران peer system وهو الذي يرعى تنمية المهارات الاجتماعية والحركية والقدرة الإنجابية من طريق الجنس، واستكشاف الصغار للبيئة.
-
(٣)
نظام العلاقة بالجنس الآخر heterosexual system الذي يحكم التجاذب بين الجنسين والزواج والترابط الجنسي عند النضج.
-
(٤)
النظام الأمِّيُّ/الأمويُّ maternal system الذي يحفز الأمَّ على رعاية طفلها وإمداده بالغذاء والأمن العاطفي.
-
(٥)
النظام الأبوي paternal system الذي يضمن حماية الصغار من الافتراس ومن أفراد الجماعة العدوانيين.
من وراء أفعال الإنسان لن تجد الرأي العام ولا القانون الأخلاقي، بل الشخصية التي لا مكان لها في وعيه. فكما أن الإنسان يظلُّ دائمًا مثلما كان، فإنه سلفًا ما سوف يصير إليه. فالذهن الواعي لا يتضمن الإنسان بكيانه الشامل؛ فهذا الكيان لا يضمُّ إلا جانبًا واحدًا من وعيه؛ فالوعي موجودٌ في هذا الكيان الشامل باعتباره دائرةً صغيرةً داخل دائرةٍ أكبر. (الفقرة ٣٩٠)
ومن اليسير أن نربط بين ما يقوله يونج هنا وما يقوله في المجلد الثامن عن مراحل الحياة وهي التي يشبِّهها بمسار الشمس الظاهريِّ أثناء النهار من المهد إلى اللحد، وإن كانت الشمس ذات إحساسٍ ووعي مجازيين، يقول يونج:
إنها تشرق في الصباح خارجةً من بحر اللاوعي الليليِّ وتلقي نظرةً على العالم العريض الوضَّاء الذي يمتدُّ أمامها في انفساحٍ يتسع باطرادٍ كلما ازداد ارتفاعها في السماء. ومن المحتوم أن تكتشف الشمس (في اتساع مجال عملها نتيجة صعودها) دلالتها الخاصة، وأن ترى أن تحقيق أعلى ارتفاعٍ ممكنٍ وأوسع نشرٍ ممكنٍ لبركاتها، يمثل غايتها الخاصة. وفي إطار هذه العقيدة تواصل الشمس حركتها حتى تبلغ السَّمت غير المنظور، وهو غير منظورٍ؛ لأن مسارها فريدٌ فرديٌّ؛ ومن ثمَّ فإن الذُّروة من المحال حسابها مقدَّمًا. وعند الزوال يبدأ الهبوط. والهبوط يعني عكس جميع القيم والمثل العليا التي كانت محل إعزازٍ في الصباح. وهكذا تقع الشمس في تناقض مع نفسها، فكأنما بات عليها أن تجمع أشعتها بدلًا من بثِّها، ويتناقص الضوء والدفء حتى ينطفئا آخر الأمر … ومن حسن الحظِّ أننا لسنا شموسًا تشرق وتغرب؛ لكنَّ في أعماقنا شيئًا يشبه الشمس، والحديث عن الإشراق والربيع، وعن مساء الحياة وخريفها ليس من قبيل المصطلح العاطفي.
ويمكننا تلخيص تصوير يونج لدورة الحياة في الشكل التالي:
ويشرح يونج ما يعنيه قائلًا:
تنقسم الزاوية التي تبلغ ١٨٠° وتمثِّل قوس الحياة إلى أربعة أقسامٍ، فالربع الأوَّل الكائن في الشرق يمثل الطفولة؛ أي الحالة التي نمثل فيها مشكلةً للآخرين، من دون أن نكون قد اكتسبنا الوعي بعد بأيَّة مشاكل خاصَّةٍ بنا. وتملأ المشكلات الواعية الربعين الثاني والثالث، وأما في الربع الأخير، زمن الشيخوخة الأخيرة، فنحن نهبط من جديدٍ إلى حالةٍ معينةٍ نعود فيها، بغضِّ النَّظر عن حالة وعينا، إلى أن نتسبَّب في مشكلاتٍ من نوعٍ ما للآخرين. وتختلف الطفولة اختلافًا كاملًا، بطبيعة الحال، عن الشيخوخة الأخيرة، ومع ذلك فإنهما يشتركان في شيءٍ واحدٍ، ألا وهو الانغماس في أحداثٍ نفسيةٍ غير واعيةٍ. (يونج، المجلد الثامن، الفقرة ٤٠٣)
وكان يونج يرى أن مشكلات الرُّبع الأوَّل والرُّبع الثاني في جوهرها بيولوجية واجتماعيةٌ، وأن مشكلات الربعين الثالث والرابع ثقافيةٌ وروحيةٌ؛ إذ كتب يقول: «الإنسان له هدفان: الأوَّل الهدف الطبيعيُّ، وهو إنجاب الأطفال وحماية الذرية، وينتمي إلى هذه الغاية اكتساب المال والمكانة الاجتماعية.» ومن المحال تحقيق الهدف الأخير (أي الهدف الثقافي) إلا بعد تحقيق الهدف الأوَّل. (يونج، المجلد ٧، الفقرة ١١٤)
(٢) الانفصال والانتقال والاندماج
وخير ما يمثل فان جينيب في شعرنا العربي قصيدتان لصلاح عبد الصبور: الأولى هي «الخروج». يقول الشاعر:
وكان يونج قد شرح ما يعنيه بازدواج شخصيته قبل ذلك قائلًا:
كنت أعرف دائمًا أنني شخصان في مكانٍ ما عميقٍ في الخلفية، الأوَّل كان ابن والديَّ الذي يذهب إلى المدرسة … والثاني كان ناضجًا — بل شيخًا في الواقع — تتجاذبه الشكوك والرِّيب، بعيدٌ عن عالم الناس وقريبٌ من الطبيعة؛ من الأرض والشمس والقمر والجو وجميع الكائنات الحية، وقبل كلِّ شيءٍ قريبٌ من الليل، من الأحلام، ومن كلِّ ما يبدعه الله مباشرة داخله … كان يوجد إلى جانب عالم الشخص الأول الذي يعيش فيه عالمٌ آخر يشبه المعبد، وكان كلُّ من يدخله يتحول وتغشاه بغتةً رؤيةٌ للكون كله، بحيث ينحصر نشاطه في الدهشة والإعجاب، ناسيًا ذاته. هنا كان يحيا «الآخر» الذي يعرف الله … بل لم يكن يفصله عن الله أيُّ شيءٍ … وفي أمثال تلك اللحظات كنت أعرف أنني جديرٌ بذاتي، وأنني كنت ذاتي الحقَّة، وما إن أُصبح وحدي حتى أتمكن من الانتقال إلى هذه الحال. ومن ثمَّ كنت أطلب الاطمئنان والعزلة عند هذا «الآخر»؛ أي الشخصية الثانية.
(٣) بين الأنا والذَّات
ولنا إذن أن نحاكي مود بودكين في كتابها: «أنساق الأنماط الفطرية» في الشعر المشار إليه في المقدمة بأن نعتبر أن الشعر أمثلةٌ توضح لنا ما يعنيه يونج أولًا بنمط الرحلة الذي يتضمن الفراق والرحيل والعودة للاندماج، إلى جانب الدلالة على الموت والميلاد الجديد الذي يتخذ صورًا وموتيفات منوعةً في القصيدتين، ولنا أن نجمع هنا بين القصيدتين حتى نرى أيضًا ما يعنيه نويمان بالانفصال (بالخروج) والانتقال (بالرحلة) والاندماج (بالعودة) وهو نسقٌ واحدٌ يتضمن عدة موتيفات تساعد في تشكيل النمط الفطريِّ الأساسيِّ المذكور؛ فالشاعر يريد «قتل» ذاته الثقيلة، وهي ثقيلةٌ؛ لأنها وفق تفسير إدينجر ليونج تتضمن وجود الأنا داخلها؛ فالقتل أو موتيفة الموت عامل تحريرٍ للأنا من الذات، وقد يؤدي هذا التحرير وفق ما يتمناه الشاعر إلى تحقيق حلمه بالمدينة المنيرة؛ أي جنة التوافق بين الأنا التي تحررت (فهو يريد أن يحلَّ «أنا» الجديدٌ محلَّ «أنا» القديم؛ أي الغائص في الذات) وبين الذات التي تكتمل بالتفرُّد أو النضج، بل بالقوة القادرة على التعبير عن المشاعر المتفاوتة الممتزجة التي لا يستطيع العقل الواعي (أو الشخصية الأولى عند يونج) أن يتصورها مثل الحبِّ الذي يتكوَّن من مشاعر تشبه «الشهوة والرهبة والجوع»، وهكذا فإن صورة الموت («تموت في وقدتها خضرة أيامي») تؤدي إلى ميلاد جديد بعد أن تجمع إيزيس أشلاء الجسد المبعثرة لأوزوريس وتضعها في تابوتٍ يبعث ذلك الربَّ المصريَّ القديم حيًّا، ويربط قصيدة «العودة» بصورة «البعث المقيم» في قصيدة الخروج.
(٤) الدَّائرة
عندما يبزغ فجر الإنسان، يبدأ الصباح المبكر لربيع الإنسان، وعندما يكمل أشواطًا أطول في مسار حياته يصل إلى وقت الهاجرة في صيف شبابه، وعندما تمتدُّ حياته حتى يكتمل له ما يمكن أن نسميه الساعة التاسعة من عمره، يبدأ الإنسان فترة رجولته في الخريف، وعندما يهبط نهاره في الغرب، وتنذر الشيخوخة بمقدم مساء الحياة، يأتي برد الشتاء فيرغم رأس الرجل على أن يصبح أبيض؛ إذ يكسوه صقيع الشيخوخة الناصع، وفي هذه الحالات [الأربع] جميعًا تتجلى آثار سلطاني إلى درجة تعجز الألفاظ عن التعبير عنها.
لو كان الإنسان مجرد مخلوقٍ أتى إلى الوجود نتيجة شيءٍ لا واعٍ سلفًا، فلن تكون له حريةٌ ولن يكون للوعي معنى … فإذا تصورنا وجود وعيٍ سابقٍ بصورةٍ مطلقةٍ و«أنا» تابعةٌ له تبعيةً كاملةً؛ فإن ذلك يصبح هزلية، ما دام كلُّ شيءٍ يمكن أن يسير ويتحقق بل وربما بصورةٍ أفضل عن طريق اللاوعي. إنه لا يكون لوجود وعي الأنا معنًى إلا إذا كانت حرَّةً ومستقلَّةً.