من الطُّفولة إلى منتصف العمر
(١) الأمُّ والطِّفل
ونحن نلاحظ في تلك النظرة الشعرية إيمان الشاعر المبنيَّ على الحدس وحسب بأن الطفل يتمتع بطاقةٍ فطرية على التواصل (وهو ما يسميه بولبي الارتباط) وأن تلك الطاقة غير مكتسبةٍ بل إن الحياة النمطية التي تُفرض على المرء فرضًا في المجتمع — تعود بالضرر عند معظم الناس على هذه الطاقة، إلا الذين يشعرون بها ويحرصون على تنميتها، وهي نظرةٌ حاول تفسيرها في قصيدة أخرى بفكرة أفلاطونية يشير إليها في هامش ديوانه، وهي التي تقول بأن الروح الخالدة تأتي إلى العالم بالمثال الذي ما تفتأ الحياة على الأرض تصرفه عنه بل وتقوِّضه؛ ففي سيرته الذاتية نفسها (المقدمة) يقول في الكتاب الثالث:
وفي القصيدة «الأخرى» التي اشتهرت باسم «خاطرات الخلود» يقول الشاعر:
ومن الطريف أن الشاعر الذي نشأ يتيما محرومًا من حنان الوالدين، يبالغ في تصوير دور الأمِّ في التنشئة إلى الحدِّ الذي لا يذكر فيه الأبَ إلا عندما يروي في سيرته الذاتية يوم أن فقد أباه، وأمَّا الطبيعة فهي الأمُّ والمرضعة والمربية، وحتى حين يقول: إن الأرض تنهض بدور الأمِّ التي تقدم للطفل ما يلهيه عن «المجد» الذي جاء منه إلى الدنيا، فإنه ينسب إليها بعض فكر الأم وحنان المرضعة. ولا شك أن ذلك يؤكد تركيز فرويد ويونج على العلاقة الخاصة بين الطفل وأمِّه، ولكن يونج لا يتجاهل النمط الفطريَّ للأب؛ فهو يضعه في الكفَّة الأخرى حتى يتوازن مع النمط الفطريِّ للأم، وهو ما تناوله علماء النفس المحدثون تفصيلًا.
(٢) بين الأمِّ والأب
يقول يونج:
وأتصور أن القارئ سوف تساوره بعض الشكوك في التقسيم التقليدي الذي يستشهد فيه يونج بالفكر الصيني ويستشهد فيه غيره بأفكار قبائل الهنود الحمر وأفريقيا، استشفافًا لما يسمَّى الطبيعة، وللقارئ — ولنا — كلُّ الحقِّ في هذه الشكوك بسبب التحولات الاجتماعية التي عدَّلت إلى حدٍّ كبيرٍ من تصوُّر الأدوار التي يخصصها يونج للأمِّ وللأب؛ فالتفرقة القديمة المطلقة لم تعد قائمةً في كلِّ مكانٍ في هذه الأيام، بغضِّ النظر عن أية أحكامٍ قيِّمةٍ على ما استجدَّ من تطوراتٍ.
(٣) فكرة البطولة والرُّموز
كان الإنسان البدائي يؤمن بفطرته أن السماء والأرض كانتا ملتصقتين أصلًا، فإمَّا كانت السماء منبسطةً على الأرض انبساطًا كاملًا، وإمَّا أنها كانت ترتفع عنها بمسافةٍ ضئيلة لا تسمح للبشر بالسير مرفوعي القامة فوقها، وحيثما يسود هذا الإيمان، كان رفع السماء إلى مكانها العالي فوق الأرض يُنسب في حالات كثيرة إلى جبروت إله أو بطل خارق؛ أي إنه هو الذي رفع السماء إلى مكانها الحاليِّ الذي ظلت فيه إلى اليوم (فريزر، ١٩٢٦م، ص٥٥).
والذي يقوله فريزر باعتباره إيمانًا فطريًّا يشير إليه المولى عز وجل في كتابه الكريم قائلًا: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا (الأنبياء: ٣٠) ولكن يونج يؤوِّل ذلك «الفتق» تأويلًا رمزيًّا للدلالة على الفصل في الأساطير (التي يراها مجمع تأملاتٍ فطريةٍ بالغة الثراء) بين أبوَي العالم، وهما السماء التي تُعتبر الأب والأرض التي تُعتبر الأمَّ؛ ومن ثم للدلالة على انفصال الأنا والشخصية عن الأب والأم، وانفصال الأب نفسه عن الأمِّ في مرحلة تطور الصبي من مرحلة الطفولة إلى سن الرشد، ولما كان هذا الانفصال بطبيعته عملًا بطوليًّا أو مستلهمًا من البارئ جلَّ وعلا؛ فإن يونج يراه انفصالًا روحيًّا له ظواهره النفسية والمادية. ولمن يريد الاستزادة في هذا الباب أن يرجع إلى كتاب أستاذنا الدكتور شكري عيَّاد: «البطل في الأدب والأساطير»؛ حيث يؤصِّل نشأة فكرة البطولة نفسيًّا واجتماعيًّا.
ويقول يونج إنه أثناء أزمته النفسية، كان عليه أن يرخي العنان للاوعي عنده، قائلًا: إن استسلامه للاوعي أتى إليه بذكرى لعبه في سن العاشرة أو الحادية عشرة ببناء منازل أو قلاعٍ صغيرةٍ من قطع الآجُرِّ وما إليها، وإنه كان يلهو بها بشغف وحماس، قائلًا إنه كان يستخدم القوارير لتشكيل المداخل والسقوف. وإنه كان يستخدم الأحجار العادية بعد ذلك مستعينًا بالطين أو الملاط. ويضيف قائلًا:
ظلت هذه المباني تبهرني وقتًا طويلًا. وأدهشني أن هذه الذكرى أتتني مصحوبةً بقدرٍ كبيرٍ من العاطفة. وقلت في نفسي «إذن ما زالت في هذه الأشياء حياةٌ نابضةٌ. والصبيُّ الصغير ما يزال موجودًا وما زالت لديه حياةٌ خلاقةٌ أفتقر إليها الآن. ولكن كيف أستطيع الذهاب إليها؟» إذ إنني — باعتباري راشدًا — بدا من المستحيل لي أن أقطع المسافة التي تفصل حاضري عن عامي الحادي عشر. ومع ذلك فإذا أردت الرجوع إليها فلا مناص من إعادة الاتصال بهذه الفترة وأن أعيد نفسي لحياة الطفل وألعابه الطفولية. كانت تلك اللحظة نقطة تحوُّلٍ في مسار أقداري، ولم أستسلم إلا بعد جهودٍ لا حصر لها في المقاومة، شاعرًا بأنني أسلمت نفسي وحسب …
(٤) الأنماط السيكلوجيَّة
ذكرت أن علاقة الطفل بأمِّه تهبه قاعدةً آمنةً ينطلق منها لاستكشاف العالم الذي حلَّ فيه، ويقول يونج: إن كثيرًا من الآباء والمربيات يذكرون أن بعض الأطفال يتجلى لديهم الميل إلى الانطواء أو الانبساط منذ الميلاد؛ فالأطفال الميَّالون للشخصية المنبسطة أكثر نشاطًا وأكثر انتباهًا وتجاوبًا مع المؤثرات الخارجية، وأكثر ميلًا للابتسام والنطق بالأصوات السابقة للكلام مع أبويهم من إخوتهم وأخواتهم المتَّسِمين بالانطواء. يقول يونج:
يبدأ الاختلاف بين النمطين في وقتٍ مبكرٍ، بل بالغ التبكير إلى الحدِّ الذي يرغمنا في بعض الحالات على اعتباره فطريًّا. ومن أولى العلامات على الطابع الانبساطي للطفل سرعة تكيُّفه مع البيئة، والانتباه الشديد الذي يوليه للأشياء من حوله وخصوصًا قدرته على التأثير في هذه الأشياء. ولا يكاد يكون لديه أدنى خوفٍ من هذه الأشياء؛ فهو يتحرك بينها بثقةٍ واطمئنانٍ. وردود أفعاله سريعةٌ ولكنَّها غير دقيقةٍ. وهو ينمو ويتطور، فيما يبدو، بسرعةٍ أكبر من سرعة الطفل الانطوائي، ما دام أقل ميلًا للتأمل؛ وعادةً ما يكون أقل خوفًا. وهو لا يحس بوجود حواجز بينه وبين الأشياء؛ ومن ثمَّ فهو يلعب بها بحرية ويتعلم منها. وهو يحب أن يتطرف في تنفيذ مشروعاته، ويعرض نفسه للأخطار. فكلُّ مجهولٍ جذابٌ. (يونج، المجلد ٦، الفقرة ٨٩٦)
ويضيف يونج أن الخوف القائم على نمط فطريٍّ معيَّنٍ من كل غريب — لا يظهر، فيما يبدو، عند الأطفال من ذوي الشخصية الانبساطية؛ إذ يضيف يونج في الفقرة التالية:
فإذا عكسنا الصورة، وجدنا أن إحدى العلامات المبكرة على الانطوائية في الطفل تتمثل في الميل إلى التأمل والتفكير، والخجل الواضح، بل والخوف من الأشياء المجهولة … فكل ما هو مجهول ينظر إليه بريبةٍ، وعادةً ما تواجه المؤثرات الخارجية بمقاومةٍ عنيفةٍ. فالطفل يريد أن يفعل ما يريده ولن يقبل، مهما تكن الظروف، الخضوع لقاعدةٍ خارجية لا يستطيع أن يفهمها. وعندما يطرح أسئلةً ما، لا يكون دافعه الفضول أو الرغبة في خلق إثارةٍ، ولكن لأنه يريد بعض الأسماء والمعاني والشروح التي تمكِّنه من إسقاط ذاته تجاه الشيء الذي يسأل عنه. (يونج، المجلد ٦، الفقرة ٨٩٧)
وأختتم هذا الفصل بالإشارة إلى نمطٍ فطريٍّ آخر هو نمط الأسرة، وهو نمطٌ فطريٌّ ثبتت أقدامه على مرِّ القرون، وبغضِّ النظر عن التحوُّلات التي دخلت عليه أخيرًا في الغرب؛ فإن النمط راسخٌ في كل مكان في العالم تقريبًا، ولن يتغير لمجرد أن الظروف الحياتية قد دفعت البعض إلى إدخال تحويراتٍ فيه، ولا أظنُّ أن هذا مكان مناقشتها تفصيلًا.