الانتقال إلى النُّضج
(١) التَّحوُّل إلى الضدِّ
ويقول كامبل إن هذه الأساطير تعبر بأشكال رمزية عن خبرة كل إنسانٍ؛ أي إن الانطلاق في مغامرة الحياة يتطلب تحرير المرء من أبويه، وترك منزله وعبور عتبة الطريق إلى الرجولة. وإذا كان يريد أن يظفر بعروسٍ فعليه أن يمرَّ بميلادٍ ثانٍ من أمِّه؛ يتمثل في قطع الحبل السُّرِّي. فكثيرًا ما تصوِّر الأساطير دخول الفرد بطن الوحش الذي يمثل الأمَّ، وأن يكافح بعد قضاء فترة للخروج من هذا الرحم النفسي الرمزيِّ بصورةٍ ما؛ لأن عدم الانتصار على الوحش — يعني البقاء إلى الأبد في بطنها، واستحالة ظفره بالأميرة (التي تمثلها الأنيما في اللاوعي عنده) بمعنى أنها تظل كامنةً «في رعاية مركَّب الأمِّ اليقظ» (كامبل ص٤٤).
ويفسر يونج ما نسميه حالة الشذوذ الجنسيِّ أو الميول الجنسية المثلية، وأيضًا حالة ممارسة الدونجوانية (أي إقامة علاقات عاطفية وجنسية مع عدد كبير من النساء) بأنهما نتيجة لوجود رابطٍ نفسيٍّ متين بين المرء وأمِّه، واستمرار هذا الرابط بعمقه نفسه إلى ما بعد بلوغه سنَّ الرشد. وهنا يتحدث يونج عن «مؤامرة سرية» بينهما، تؤدي إلى أن «يساعد كلٌّ منهما الآخر على خيانة الحياة» (المجلد ٩، الجزء الثاني، الفقرة ٢١) أمَّا هجره لأمِّه وكسر هذا الرابط فأمرٌ تعجز عنه قدرات الغلام، خصوصًا في وجود والدٍ قويٍّ ذي نفوذ فعال. فالتنكُّر لأمِّه «يعني حاجته إلى عاطفة خائنةٍ؛ أي رب حبٍّ قادرٍ على نسيان أمِّه والتخلي عن حبِّه الأول في الحياة» (المرجع نفسه، فقرة ٢٢).
ويستدرك يونج قائلًا: إن هذا التفسير ليس صحيحًا في جميع الحالات، مؤكِّدًا وجود عنصرٍ وراثيٍّ (جينيٍّ) في حالاتٍ كثيرةٍ من المثلية الجنسية، وأن القول بوجود «مؤامرةٍ سرية» لا ينطبق على جميع الحالات، ويضيف قائلًا: إن الميل الوراثيَّ قد لا تصاحبه العوامل الاجتماعية المذكورة، وقد تصاحبه؛ أي إن الأمر معقَّدٌ، بخلاف حالة الدونجوانية؛ ففيها ينشد اليافع بديلًا مثاليًّا عن الأمِّ، فإذا عثر على ما يتصور أنه بغيته فربما أحس أنه أخطأ فحاول نشدان بديلٍ آخر وهلم جرًّا. ولكن يونج يقتصر على الحالات «المرَضيَّة» التي كان يدرسها ويعالجها في عيادته، وأمَّا خارج العيادة فالمجتمع زاخرٌ بأسوياء أصحاء قد لا يتسبب ارتباطهم الواعي بالأمِّ أو علاقتهم غير الواعية بالأب في أية مشكلات نفسية. والحقُّ أن علماء النفس المحدثين قد استفادوا من أبحاث علماء الاجتماع فوسَّعوا إطار النظرة (من جانب علم النفس العميق) إلى هذه الحالات التي ما نزال نعتبرها شذوذًا في مصر، وإن كانت نظرة الغربيين قد اختلفت وأصبحت قطاعاتٌ كبيرةٌ من المثقفين لا ترى فيها أدنى انحراف عن «الطبيعة». وأظن أن علماءنا العرب قد درسوا هاتين الظاهرتين درسًا عميقًا وشاملًا، كما جسدها الروائيون والشعراء في أدبهم ودواوينهم، بل ويشهد كلٌّ منا أمثلةً واضحةً لها في حياتنا اليومية؛ ومن ثمَّ فنحن نحسن الصنع إن أخذنا استدراك يونج مأخذ الجدِّ وسلَّمنا بأن الحالات المرَضية التي بنى عليها فرضياته قد تقتصر على أصحابها وترفض التعميم أو إطلاقها على أبناء البشر كافَّةً.
(٢) العلاقة الزَّوجيَّة
يقول يونج في الفصل المشار إليه آنفًا بعنوان: «الزواج باعتباره علاقةً سيكلوجية» إن نجاح الزواج يتوقف على درجة وعي الزوجين بالحقيقة النفسية لكلٍّ منهما، ويضيف قائلًا إن التقاليد التي درجنا عليها كانت (وما تزال) تميل إلى اعتبار الزواج رباطًا غريزيًّا يعتمد على اللاوعي إلى حدٍّ كبيرٍ، ويخضع لنظم العادات والأعراف الاجتماعية. وهو يصف هذا بأنه «زواج قروسطي»؛ أي [ينتمي للقرون الوسطى] قائلًا إنه كان آليةً فعالةً للحفاظ على الجنس البشري ودوام الاستقرار الاجتماعي، ولكنه لم يكن «علاقة سيكلوجية». ومع ذلك فهو يعترف بأن الزيجات القائمة على «الإسقاطات العمياء للأنيما والأنيموس يمكن أن تنجح»، ومعنى التعبير المذكور هو أن يرى الزوج في زوجته صورة الأنثى داخل نفسه، وترى الزوجة في الزوج صورة الرجل داخل نفسها من دون وعيٍ من جانب أيهما بذلك؛ إذ لا يدركان أن ما يراه كلاهما وهمٌ وحسب، ويضيف قائلًا: «وتوصف هذه الحالة بأنها حالة توافقٍ كاملٍ، وتتمتع برفع شأنها باعتبارها سعادةً غامرةً «قلبٌ واحدٌ ونفسٌ واحدةٌ»؛ ولذلك سبب وجيه؛ إذ إن العودة إلى الحالة الأصلية للوحدة اللاواعية تشبه العودة إلى الطفولة، «وهو ما يفسر لنا الحركات الطفولية لجميع العشاق» (المجلد ١٧ الفقرة ٣٣٠) ولكن أمثال هذه الحالات من نعيم التوحُّد — قد يصعب عليها البقاء في ظروف المجتمعات الحديثة.»
ونحن نفهم من الوصف بالحداثة عقد العشرينيات الذي كتب فيه يونج هذا الكلام؛ ففي أعقاب الحرب العالمية الأولى كان الزواج قد ازداد بناؤه على الوعي، وابتعاده في الغرب عن الصورة النمطية القديمة، ولم يكن المجتمع في الوطن العربي — وخصوصًا في مصر — بعيدًا كل البعد عن التحولات الاجتماعية التي أثَّرت في العلاقات الزوجية، وأكاد أقول: إن الوعي الذي يتحدث عنه يونج قد ازداد لدينا باطراد حتى اليوم. وأما عيب ما يسميه يونج بالإسقاطات العمياء للأنيما والأنيموس فهو أنه يؤدي إلى الإحساس في بعض الحالات بما يشار إليه بخيبة الأمل، ويتضمن قدرًا من التضحية بالمثالية إلى حدٍّ ما، وإلى إطلاق التخيلات من الطرفين، والتعلُّق بآمال التغيير. ويشبِّه يونج هذه الحالة بفقدان اليافع لصورة الأبوين التي رسمتها الأنماط الفطرية. ولكن الزواج باعتباره «علاقة سيكلوجية» حقيقية — لا يتوافر إلا بعد التخلُّص من إسقاط النمطين الثابتين للأنثى والذكر، وكسر الإحساس الأصليِّ بالوحدة والتماهي. ويعلق يونج على ذلك قائلًا: إن ذلك لا يحدث (للأسف) كثيرًا (إذا حدث على الإطلاق) بسهولة ومن دون أزمات «فمولد الوعي في هذه الحالات لا بدَّ أن تصاحبه آلام المخاض» (المجلد ١٧، الفقرة ٣٣١)
وقصيدة «مانيفستو» طويلة (نحو ٢٠٠ سطرٍ) وسأقتطف منها الفقرة السابعة وبعض الثامنة للسبب نفسه الذي جعلني أقتبس أشعار الآخرين في هذا الكتاب، وهو إيضاح المفهوم المعقد للتفرُّد في صورته الحية عند الشعراء؛ أي إن السبب أقرب إلى تفهُّم المصطلح منه إلى تذوق الشعر أو نقده، فلذلك مكانٌ آخر. يختتم لورنس القسم السادس بالمشكلة النفسية التي عرضت له في زواجه بحبيبته وهي إدراكه اختلافه عن زوجته؛ أي إنه يواجه في الزواج ذاتًا أخرى، على الرغم من إيمانها بأنها تمثِّل وإياه كيانًا واحدًا. ثم يبدأ القسم السابع قائلًا:
•••
•••
وبهذا يختتم القسم السابع، الذي لا يعيبه إلا الإطناب، وهو على أية حالٍ يشرح الأمر شرحًا وافيًا، ثم يعود للموضوع في القسم الثامن والأخير، مختتمًا القصيدة بهذه السطور من بحرٍ شعريٍّ آخر يلخص الأمل الذي عبَّر عنه شارح يونج المذكور:
(٣) لمحاتٌ من حياة فرويد ويونج
عندما وصلت إلى فيينا مع زوجتي الشابة السعيدة، جاء فرويد لزيارتي في الفندق حاملًا بعض الأزهار لزوجتي، وكان يحاول التلطف الشديد معي، فقال أثناء الحديث: «يؤسفني عجزي عن إبداء كرم الضيافة الحقيقي؛ فلا شيء لديَّ في المنزل إلا زوجةٌ عجوزٌ». وعندما سمعته زوجتي يقول ذلك بدا عليها الحرج والحيرة. وحاولت ونحن جلوس إلى مائدة العشاء في مساء ذلك اليوم أن أتحدث مع فرويد وزوجته عن التحليل النفسي، وعن أنشطة فرويد، ولكنني سرعان ما اكتشفت أن زوجة فرويد لم تكن تدري أي شيءٍ إطلاقًا عما يفعله فرويد. وكان من الواضح وضوحًا تامًّا أن العلاقة بين الزوجين كانت سطحيةً إلى حدٍّ بعيد.
وما لبثت أن قابلت الأخت الصغرى لزوجة فرويد. كانت باهرة الجمال، وكانت تحيط بكل شيءٍ لا عن التحليل النفسي فقط بل عن كل ما يفعله فرويد. وعندما قمت بعد بضعة أيام بزيارة مختبر فرويد طلبت منِّي أخت زوجته أن أحادثها على انفراد. وعندها قالت لي إنها مهمومةٌ همًّا كبيرًا بسبب علاقتها بفرويد وتشعر بالذنب إزاءها. وعلمت منها أن فرويد كان يحبُّها، وأن صداقتهما كانت بالفعل حميمةً إلى أقصى حدٍّ. وقد صدمني هذا الاكتشاف صدمةً أليمةً ما زلت إلى الآن أشعر بعمق آلامها.
ويواصل بيلينسكي تقديم القصة التي قصَّها عليه يونج، مضيفًا إن يونج كان يعجب من استمساك فرويد بفكرة «الأبوة» الرمزية أو العلمية له، وإصراره على تفسير بعض أحلام يونج بأنها تمثل رغبته الدفينة (في اللاوعي) في قتل فرويد وفقًا لإيمانه الذي لا يتزعزع بما كان يطلق عليه «المركَّب الأوديبيَّ» (أو ما يسميه الناس «عقدة أوديب») ما دام فرويد يمثل له «والدًا بديلًا»، وإن يونج لاحظ أن حالات الإغماء التي كانت تصيب فرويد كانت ترتبط بعوامل في اللاوعي تنبع من العلاقة الثلاثية بينه وبين زوجته وأختها، وكان الرجلان قد اعتادا منذ بداية رحلتهما إلى أمريكا تبادل تفسير أحلامهما. وقال يونج لبيلينسكي:
كان فرويد يرى أحلامًا تقضُّ مضجعه، وتسبب له همًّا وغمًّا، وكانت تتعلق بالرابطة المثلثة بينه وبين زوجته وأختها، ولم يكن فرويد يدري أنني على علم بها، أو على علم بالصلة الحميمة التي تربطه بأخت زوجته. وهكذا فعندما قصَّ عليَّ حلمًا تلعب فيه زوجته وأختها دورًا مهمًّا، طلبت منه أن يروي لي بعض المسائل الشخصية المرتبطة بالحلم، فنظر إليَّ نظرةً مريرةً وقال: «أستطيع أن أقول المزيد لك، ولكنني لا أستطيع المخاطرة بسلطتي». وأدَّى ذلك، بطبيعة الحال، إلى إنهاء أية محاولة من جانبي لدراسة أحلامه … لو كان فرويد قد حاول فهم العلاقة الثلاثية على مستوى الوعي لأفاده ذلك فائدةً كبرى. (كامبل، المرجع نفسه، ص١٨)
ويحكي يونج في سيرته الذاتية حادثةً أخرى تعرَّض فيها فرويد للإغماء قائلًا:
ووقعت حادثةٌ أخرى تعرَّض فيها فرويد للإغماء في حضوري، وذلك أثناء انعقاد مؤتمر التحليل النفسي في ميونيخ عام ١٩١٢م. كان أحد الحاضرين قد أدار دفة الحديث حتى وصل إلى الملك المصري القديم أمينوفيس الرابع (إخناتون). وقيل آنذاك إن إخناتون كان ذا موقفٍ سلبيٍّ تجاه والده، وإنه قام لهذا السبب بمحو اسم والده من الخراطيش التي نقش فيها، وإن وراء دين التوحيد العظيم الذي كان يدعو إليه يكمن «مركَّبٌ أبويٌّ» [أي الرغبة الأوديبية في اللاوعي في قتل أبيه]. وكان مثل هذا الكلام يسبِّب لي إزعاجًا وضيقًا، فحاولت أن أسوق الحجة على أن الملك أمينوفيس كان شخصًا مبدعًا، ولديه إيمانٌ دينيٌّ عميقٌ، وعلى أن أفعاله لا يمكن تفسيرها بزعم أنها كانت تمثل معارضةً لأبيه. وقلت إن الأمر كان على عكس ذلك تمامًا؛ إذ كان الملك المذكور يكرِّم ذكرى والده، وأمَّا الحماس الذي أدَّى إلى طمس بعض النقوش فكان موجَّهًا ضدَّ الربِّ آمون؛ إذ محا اسمه من كل مكان، وأزال ذلك الاسم أيضًا من اسم أبيه آمون حوتب (أمنحتب). ويضاف إلى ذلك أن بعض الملوك الآخرين قد استبدلوا أسماءهم ببعض أسماء أسلافهم الحقيقيين أو الربانيين على المعابد والتماثيل؛ إذ شعروا أن من حقِّهم أن يفعلوا ذلك ما داموا يجسدون الرب نفسه، على الرغم من أنهم لم يبتدعوا أسلوبًا جديدًا أو يأتوا بدينٍ جديدٍ.
وفي تلك اللحظة سقط فرويد من كرسيه منزلقًا في نوبة إغماء. وتجمع الحاضرون حوله دون أن يدروا ما يصنعون، فتقدمت أنا وحملته إلى الغرفة المجاورة ووضعته على أريكةٍ. وعاد إلى رشده هنيهةً أثناء حملي إيَّاه، ولن أنسى ما حييت النظرة التي حدجني بها؛ إذ نظر إليَّ في ضعفه كأنني كنت أباه. ومهما تكن الأسباب الأخرى التي أدَّت إلى إغمائه — فالجوُّ كان بالغ التوتر — فإن تخيُّل قتل الأب كان عاملًا مشتركًا في الحالتين.
وفي نوفمبر ١٩١١م أرسلت إيما، زوجة يونج، خطابًا إلى فرويد تقول فيه:
يعذبني الآن الصراع لتحقيق ذاتي واستقلالها في مواجهة كارل [يونج]؛ إذ اكتشفت أنني بلا أصدقاء، وجميع المرتبطين بنا لا يريدون في الحقيقة إلا رؤية كارل، باستثناء عددٍ قليلٍ من الثُّقلاء الذين لا يثيرون عندي أدنى اهتمامٍ.
وجميع النساء بطبيعة الحال يحببنه … ومع ذلك فعندي حاجةٌ ماسَّةٌ إلى الاختلاط بالناس، ويقول كارل أيضًا إنني يجب أن أكفَّ عن التركيز عليه وعلى الأطفال، ولكن ماذا أستطيع أن أفعل؟ … الأمر صعب لأنني لا أستطيع منافسة كارل يومًا ما. وتأكيدًا لذلك عادة ما أتحدث حديثًا ينمُّ على بلاهة زائدة عندما أكون في أية صحبة. (في ستيفنز ١٩٩٠م، ص١٦٠)
وكانت حال «إيما» قد تدهورت بسبب وصول مريضةٍ تدعى أنطونيا وولف، وكانت شابَّةً متوترةً وتتسم بغموض يخلب اللُّبَّ، والتحقت للعلاج في عيادة يونج، في أواخر عام ١٩١٠م، من صدمة شديدة بسبب وفاة والدها، وسرعان ما ساعدها يونج على الشفاء وإن كانت قد وجدت فيه بديلًا (لاواعيًا) لوالدها، كما أنه انجذب إلى ذكائها وغموضها، وكتب عنها رسالةً فيَّاضةً بالثناء أرسلها إلى فرويد. وأحس يونج بأن وجودها يساعده على التغلب على الأزمة النفسية التي بدأت في عام ١٩١٣م بعد انفصاله عن فرويد وتركيزه على العمل في عيادته على نحو ما سبق أن ذكرت، ويقول بعض النقاد إن يونج قد وجد «المرأة الملهمة»، ولكنه كان ما يزال مرتبطًا عاطفيًّا ونفسيًّا بزوجته وأولاده، وكان على زوجته أن تقبل وجود هذه «الغريبة» في حياة الأسرة، ولكن ستيفنز يقول: إن الضغط الذي تعرض له يونج وزوجته بسبب هذه الفتاة كان شديدًا «ومن المحتمل أنه كان من العوامل الرئيسية في الانهيار النفسي الذي تعرَّض له يونج في آخر عام ١٩١٣م» (ص١٦١). كان الكفاح الذي خاضه للتغلب على الأزمة المذكورة كفاحًا في سبيل التفرُّد وهو ما نناقشه الآن.
(٤) التَّفرُّد والمذهب الفردي
وكان قد قال في الفقرة السابقة لهذه الفقرة:
ويقول في فقرة لاحقة على التي أوردتها أولًا:
لا يقل هدف التفرُّد عن تخليص الذات من الأغلفة الزائفة التي يحيطها بها القناع من ناحية، وتخليصها أيضًا من سلطة الإيحاء التي تبثُّها فيها الصور الأزلية من ناحية أخرى. (المرجع نفسه، الفقرة ٢٦٩)
ما أفتأ أكرر الإشارة إلى أن عملية التفرُّد تختلط في بعض الأذهان بدخول الأنا إلى الوعي، وإلى أن الأنا تتماهى، من ثمَّ، مع كيان الذات، ومن شأن ذلك أن يؤدي بطبيعة الحال إلى تخليطٍ لا رجاء فيه؛ لأن القول بهذا يعني أن التفرُّد معناه التركيز على الأنا والنرجسية. ولكن الذات تتضمن ما يزيد عن مجرد الأنا زيادةً لا نهاية لها؛ فهي ذات المرء وجميع الذوات الأخرى، مثل الأنا … فالحقيقة أن التفرُّد لا يعزل المرء عن العالم، بل يجمع العالم داخل المرء.
وقبل أن ينتهي يونج إلى النتيجة التي تقول: إن التفرد يعني نمو الشخصية وتكاملها من خلال الصراع والتصالح في الوقت نفسه بين الوعي واللاوعي — يقدِّم تمهيدًا منطقيًّا في أربع فقرات أقدِّم مقتطفاتٍ منها هنا استكمالًا لهذا الحديث عن التفرُّد بمعناه الخاصِّ عند يونج؛ يقول يونج:
والوعي واللاوعي لا يشكِّلان كيانًا كليًّا عندما يكبت أحدهما الآخر ويضرُّه، فإذا لم يكن من صراعهما بدٌّ، فلنُتِح لهما الفرصة للاشتباك في صراعٍ عادلٍ، تتساوى فيه حقوق الطرفين؛ فهما يمثلان جانبَي الحياة، فعلى الوعي أن يدافع عن منطقه ويحمي نفسه، ومن حق حياة الفوضى في اللاوعي أن تمنح فرصة فعل ما تريد، أو بقدر ما نستطيع أن نتحمَّله منها. وهذا يعني صراعًا صريحًا وتعاونًا صريحًا. وهذا بوضوح ما ينبغي للحياة الإنسانية أن تكون عليه. إنها اللعبة القديمة للمطرقة والسِّندان، فبينهما يتشكَّل الحديد المطروق فيصبح كيانًا صلبًا لا يمكن تدميره، ألا وهو «الفرد».
هذا — بصفةٍ عامَّةٍ — ما أعنيه بعملية التفرُّد؛ فهي — كما يعني اسمها — عملية تنموية أو مسار تنموي ينشأ من الصراع بين الحقيقتين النفسيتين الأساسيتين …
وأما الفصل الذي يسميه يونج «دراسة في عملية التفرُّد» فيقدم فيه رصدًا لخطوات شفاء سيدةٍ أمريكيةٍ مثقفةٍ — تتمتع بموهبة الرسم بالألوان — من أزمةٍ نفسيةٍ أصابتها نتيجة تعلُّقها الشديد بوالدها (ووالدتها) وجاءت إلى أوروبا في عام ١٩٢٨م تنشد العلاج، بعد أن درست علم النفس تسع سنوات كاملة. والفصل يحلل التصاوير التي أبدعتها، ويقدم التصاوير نفسها وشروحًا وافية لها، ولكنني لن أتعرض هنا لهذه أو تلك بل لبعض المصطلحات التي يكرر يونج الإشارة إليها، وقد تكون مفهومةً في سياقها، ولكنَّ القارئ قد يصادفها في غير سياقها وربما لم يهتد إلى معناها.
ويقتبس يونج ترنيمةً طاوية يفتتح بها هذا الفصل الخاص بدراسة عملية التفرُّد والمفترض أنها مترجمةٌ عن الصينية وتقول:
وكأنما يطبق يونج فكرة «الطاوية» حتى من قبل تقديم تفاصيل الحالة؛ فيقول لنا إن المرأة المذكورة «لم تتزوج بل اتخذت شريك حياة بشريًّا يتمثل في اللاوعي عندها في الأنيموس (أي التجسيد لكلِّ شيءٍ ذكريٍّ في المرأة) وهي الصفة التي كثيرًا ما نصادفها في المرأة التي تلقَّت تعليمًا أكاديميًّا».