(١) من تحوت إلى هرمس
الخيمياء كلمة معربة عن الألمانية
Alchymie ونظيرتها الإنجليزية
Alchemy وهي الصورة الأولى أو
القديمة لما نسميه الكيمياء اليوم (المعرَّبة عن
chemistry) ولكن اشتقاق الخيمياء
يدل على أصالتها العربية والمصرية؛ إذ تتكون من أداة التعريف
العربية (اﻟ) واليونانية chemeia
(خيميا) أو chymeia التي تعني
الفنَّ [أي العلم] المصري، فكلمة خيميا
khemia المصرية القديمة تعني الأرض
السوداء أو مصر، وذلك اشتقاقًا من الاسم المصري، وإن كان أحد
المحدثين يزعم أن الاسم مشتقٌّ من فنِّ [أي علم] شخصٍ مفترضٍ يدعى
خيميس Chymes بسبب اختراعه هذا
الفن الذي يتضمن صبَّ سائلٍ في سائلٍ؛ (لأن
chyma اليونانية تعنى السائل).
وأمَّا المعنى القديم فهو دراسة المعادن ابتغاء تحويل الوضيع منها
إلى أشرف المعادن وهو الذهب، وكذلك الجهود المبذولة في سبيل اكتشاف
إكسير الحياة؛ أي الشراب القادر على إطالة العمر، وكلمة إكسير، مثل
الألمانية elixier والإنجليزية
elixir، عربية الأصل؛ فهي تتكون
أيضًا من أداة التعريف العربية و«إكسير» وهي صورة محرَّفةٌ من اسمٍ
مشتقٍّ من الفعل كسر يكسر كسرًا (والصيغة كسر وكسير) وكان يقصد به
حجر الفلاسفة lapis philosophicus
القادر على تحويل المعادن أيضًا عند القدماء، ويقول أحد المحدثين
إن الأصل قد يكون من اليونانية المتأخرة من الاسم زيريون
xerion الذي يعني أي مسحوقٍ
مجفِّفٍ للجروح، من الصفة xeros؛
أي جاف.
ونحن لا نعجب من اهتمام إسحاق نيوتن، عالم الفيزياء، بدراسة
الخيمياء في القرن السابع عشر؛ فهو القرن الذي وصل فيه العلم
الطبيعيُّ إلى ذروة الطريق التجريبي والعملي الذي وضع أسسه
الفيلسوف الفرنسيُّ رينيه ديكارت (١٥٩٦–١٦٥٠م) خصوصًا في كتابه:
«دراسة عن المنهج» (١٦٣٧م) والمقصود به المنهج العلميُّ الحديث
القائم على الخطوات الخمس المعروفة (الملاحظة، فوضعُ فرضيةٍ
لتفسيرها، فإجراء التجارب لإثبات صحتها أو خطئها، فوضع نظريةٍ تقبل
التعميم، وأخيرًا القدرة على التنبؤ العلمي). أقول: إننا لا نعجب
من انشغال نيوتن بالخيمياء؛ لأنه، باعتباره دارسًا للرياضيات مثل
ديكارت، كان يدرك أن عمل الخيميائيين الذي وصل إلى ذروته أيضًا في
القرن السابع عشر، كان يقوم على وحدة المادة وخلودها، وهو المبدأ
الذي يشار إليه عادة بعبارة «المادة لا تفنى ولا تستحدث»؛ أي إن
الذي يتغير هو شكل المادة وحسب وفقًا لإعادة تركيب عناصرها، كما
كان يستشعر بالحدس [لا بالتدليل الرياضي أو التجريبي] أن المادة
صورة من صور الطاقة، وهو ما أثبته أينشتاين في معادلته الشهيرة:
(المادة x مربع سرعة الضوء =
طاقة). كان نيوتن مبهورًا بفكرة إعادة تشكيل المادة من خلال إعادة
تشكيل عناصرها، ولكنَّ علم الكيمياء الحديث لم يكن قد ولد آنذاك،
فحوَّل نيوتن اهتمامه إلى دراسة الضوء، وأثبت أن تحليله إلى عناصره
باعتباره طاقةً ذات أمواجٍ تختلف أطوالها، يأتي إلينا بألوان الطيف
السبعة، وهي التي يستطيع المرء الحصول عليها إذا سمح لضوء الشمس
(الأبيض) بالمرور من خلال ما يسمَّى المنشور الزجاجي
prism وهو قطعةٌ زجاجيةٌ مثلثة
الأضلاع، ولكن نيوتن حدد الألوان الرئيسية بالأزرق والأصفر
والأحمر، ووضع نظامًا دقيقًا لتجميع الأشعة الملونة وتفريقها؛
الأمر الذي أدَّى إلى اختراع التليفزيون أو كان عاملًا أساسيًّا من
عوامل اختراعه، ومن الغريب أن نيوتن صاحب المبادئ العلمية التي
بنيت عليها الميكانيكا الحديثة، والذي اشتهر بنظريته عن الجاذبية
(وقصة سقوط التفاحة الرمزية) عُيِّن أستاذًا لعلوم الضوء
optics في كيمبريدج بسبب بحوثه
المذكورة.
وإذا كنا لا نعجب من هذا التوجه عند نيوتن، فلا بدَّ أن نعجب
لانشغال يونج به! وقد يقلُّ عجبنا إذا ذكرنا اهتمام يونج بما يسميه
«التحوُّل» و«التعويض»، باعتبارهما من مبادئ النمو والوصول إلى
النضج. أمَّا التحوُّل فيعني به حدوث تفاعلاتٍ سريةٍ [أي مجهولةٍ]
في المادة أو النفس، تؤدي إلى نشوء أشياء جديدةٍ، وأما «التعويض»
فكان يعني به وقوع أحداث في «الأنا» تمثل تعويضًا عما يفتقر إليه
الوعي ويزخر به اللاوعي. فأما التحوُّل فينسبه ستيفنز (١٩٩٠،
ص٢٢٨–٢٢٩) إلى الربِّ المصريِّ القديم تحوت
Thoth، وهو الذي أطلق عليه اليونان
اسم هيرميس Hermes وأطلق عليه
الرومان اسم ميركوري Mercury [أي
عطارد عند العرب، أو الزئبق]. وكانت فكرة المادة الأولى
prima materia فكرة استمدَّها
اليونان من فكر تحوت، وكانت تسمَّى «الهيولى» أو العماء
massa confusa أو
chaos من قبل عصر سقراط؛ إذ قالوا
آنذاك إنها انقسمت إلى أربعة عناصر هي التراب والهواء والنار
والماء، وكان الفلاسفة يقولون بأن كلَّ شيءٍ يتكون من هذه العناصر
بنسبٍ متفاوتةٍ، حتى جاء أرسطو فوضع الأسس المنطقية التي تقوم على
افتراض وحدة المادة وتفاوت نسب عناصرها.
والواضح من دراسة ما كتبه يونج في سيرته الذاتية أنه كان مشغولًا
بالعثور على أسلوبٍ تصويريٍّ محكمٍ يمثل العلاقة بين الوعي
واللاوعي، نتيجة لما وجده عند الغنوصيين من أقوالٍ في الدين
مستمدَّةٍ من اللاوعي؛ إذ كانت تجمع بين أوليات الوجود [الصور
الأزلية] وبين القوى الروحية، ولكنها كانت صورًا مصبوغة بالميول
الغريزية، وهكذا لم يجد يونج في الغنوصية بغيته، في الوقت الذي
اكتشف فيه أن الخيمياء كانت تحاول إلقاء الضوء على اللاوعي من خلال
توكيد الصلة بين «المواد» الحاضرة ومكوناتها الأساسية، مؤكِّدةً
بذلك المبدأين اللذين كانا يشغلان موقعًا رئيسيًّا في تفكيره، أما
الأول فهو «التحوُّل» الذي ذكرت آنفًا أنه يعني «الانفراط
والتجميع» solve et coagula من
خلال «التفاعلات السرية» بين العناصر في بوتقة الصهر
unum vas بحيث تنتج كيانًا واحدًا؛
أي إنه يصور ما تفعله «الأنا» في مكونات اللاوعي، وأما المبدأ
الثاني فهو «التعويض» الذي يُستشفُّ من محاولة الخيميائي أن يستعيض
ببعض العناصر «الباطنة» في المادة عن أي نقصٍ في صفاتها الظاهرة،
وصولًا إلى التشكيل الجديد؛ فهو الذي يصور ما يفعله اللاوعي من
تعويضٍ لأي وجهٍ من وجوه النقص في الوعي (يونج: علم النفس
والخيمياء [١٩٤٤م] الفقرة ٥٦).
(٢) التحول والرمزية
ويقول أندرو صمويلز إننا إذا نظرنا إلى الخيمياء من زاوية رمزية
لا علمية — حسبما يقول يونج — وجدنا أنها تعتبر نشاطًا فكريًّا
يرهص بالدراسة الحديثة للاوعي وخصوصًا باهتمام علم النفس التحليلي
بعمليات التحوُّل. إذ إن يونج يؤكد أن ممارس الخيمياء يسقط عملياته
الباطنة فيما يفعله، وفي غضون ذلك تستولي عليه مشاعر مشبوبةٌ
عميقةٌ يتمتع بها إلى جانب مشاعره الروحية. وكان من أهم ما لاحظه
يونج في قراءته لعشرات المجلدات الضخمة والاستغراق فيها على امتداد
عقد كامل، أن الخيميائي لم يكن يفصل بين عمله الماديِّ ونشاطه
النفسي (على مستوى الوعي واللاوعي معًا) وبذلك كان عمل الخيميائيين
ثوريًّا إذ كان يمثل نشاطًا روحيًّا مرتبطًا بالكون الماديِّ وما
به من قوى كامنة، على عكس التعاليم الدينية القروسطية النمطية.
ويقول صمويلز:
كان للخيميائيين في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، في حدود
ما نستطيع إعادة بنائه من المعلومات المتاحة، هدفان مترابطان.
الأول (أ) تغيير المواد المنحطة أو تحويلها إلى شيءٍ ذي قيمة
أكبر، يشار إليه أحيانًا بأنه الذهب، وأحيانًا بأنه إكسير
الحياة العالمي، وأحيانًا أخرى بأنه حجر الفلاسفة. والهدف
الثاني (ب) تحويل المادة المنحطة إلى روح، أو باختصار تحرير
الروح. كما كان عملهم يتضمن عكس ذلك أيضًا؛ أي محاولة ترجمة ما
يدور في نفس الخيميائي إلى شكل مادي، فكانت إسقاطات اللاوعي
عنده تفي بهذه الحاجة. وكان يونج يرى أن هذه الأهداف المنوعة
تعتبر صورًا مجازيةً أو استعاراتٍ تعبر عن النمو النفسي
والتنمية النفسية.
(صمويلز وآخرون: معجم نقدي
للتحليل اليونجي، ١٩٨٦م،
ص١٢)
كما كان الخيميائيون يقولون بوجود قوًى روحيةٍ في كلِّ شيءٍ؛ أي
إنهم كانوا ينسبون للطبيعة حياة نابضة، بمعنى أنهم كانوا يؤمنون
بروح الطبيعة animism (ستيفنز
١٩٩٠م، ص٢٣١) وهذه هي الروح الثنائية التي تبرز في عمل الخيميائي،
وهي ثنائية؛ لأنها تجمع بين نفس الخيميائي — والذي كان في العادة
من الذكور — وبين روح أنثوية مصاحبة له، وكان الخيميائيون يسمونها
الأخت الروحية soror mystica. ومن
ثمَّ فإن الخيميائي كان يواجه روح الأشياء باعتبارها الآخر، وهي
الفكرة التي أشاعها عالم النفس الفرنسي جاك لاكان
Lacan في نظريته عن مرحلة المرآة
stade du miroir (١٩٣٦م) وكان
يقصرها في البداية على علاقة الطفل بالأم ثم عدَّل رأيه في
الخمسينيات مؤكدًا أن مرحلة المرآة ليست مقصورة على الأطفال
الرُّضَّع (من ٦ أشهر إلى ١٨ شهرًا) بل تنطبق على الكبار أيضًا
وتمثل جانبًا مما يسميه «النظام الخيالي»، وهو ما شرحه وينيكوت
Winnicott في كتابه اللعب والواقع
(١٩٧١م) (في فصل كان قد سبق نشره عام ١٩٦٧م ثم ضمَّه للكتاب
المذكور).
ولننظر الآن في بعض ما يقوله يونج نفسه عن موقفه من الخيمياء
وكيف اهتدى إلى كونها صورةً مجازيةً أو رمزيةً للعلاقة بين الوعي
واللاوعي، مستعينين بسيرته الذاتية. لا بكتابه علم النفس والخيمياء
المشار إليه آنفًا؛ إذ يقول يونج إنه كان قد رأى في منامه عدة
أحلام تدور حول انشغاله بقضية «كأس الامتزاج»
krater وهي إناء كان يخلط فيه
الخمر بالماء عند اليونان القدماء، ثم ذكر العلماء أنهم يرجحون
آراء بويماندريس Poimandres
[ويختلف هجاؤه من كاتب لكاتب] في هذا الصدد، وتقول أنييلا جافا
Jaffé محررة سيرة يونج المنشورة
المشار إليها، إنه كان غنوصيًّا وثنيًّا، على الرغم مما نعرفه من
أن ذلك الاسم (بويماندريس) كان يطلق على أحد فصول سفر هيرميس
The Hermetic Corpus الذي ينسب
وضعه إلى «هيرميس المعظَّم ثلاثًا» Hermes
Trismegistus الناطق بلسان تحوت الرب المصري
القديم، والكتاب يضمُّ حكمًا مصريةً يونانيةً مأثورةً، ووُضع في
القرن الثاني للميلاد، ويتخذ شكل حوار بين معلِّمٍ (وهو هيرميس
نفسه) وأحد تلاميذه، وكان اشتقاق اسم (بويماندريس) يوحي يومًا ما
بأنه «راعي البشر»، ولكن البحوث الحديثة أثبتت أنه تحريف للاسم
المصري القديم بايمي-نته-رع Peime-nte-
ré أي معرفة رع أو فهم رع. أما ما كان بويماندريس
يقوله فهو أن تلك الكأس كانت مترعةً بالروح، وأن الربَّ الخالق
أنزلها إلى الأرض حتى يمكن للمكافحين في سبيل الوعي الأسمى أن
«يتعمدوا» بقطراتٍ منها، وتقول جافا إنها كانت نوعًا من الرحم
الخاص بالتجديد الروحيِّ وإعادة الميلاد، وإنها كانت مرادفة
للبوتقة الخيميائية Vas التي يحدث
فيها التحويل أو التحوُّل المشار إليه، وإن الشيء الذي يوازي هذه
الكأس أو البوتقة هو عملية التحول الباطن عند يونج، وهي التي
يسميها التفرُّد (أنييلا جافَّا، حاشية في ص٢٠١ من كتاب يونج
ذكريات وأحلام وتأملات، [١٩٦١م] ١٩٨٩م)
ويقول يونج إنه كان يستخف بالخيمياء عندما اطلع على نصوصها أول
مرَّةٍ، لكنه عندما بدأ يفهمها أدرك أنها تمثل الصلة التاريخية
بالغنوصية، وتمثل، من ثمَّ، استمرارًا ما بين الماضي والحاضر،
ويضيف قائلًا:
كانت الخيمياء تستند إلى الفلسفة الطبيعية القروسطية؛ ومن
ثمَّ كانت تمثِّل جسرًا يصلنا بالماضي؛ أي بالغنوصية، من
ناحية، ويصلنا من ناحية أخرى بالمستقبل؛ أي بعلم النفس الحديث
الخاص باللاوعي.
كان فرويد قد قدَّم هذه الفكرة للمرة الأولى وقدم معها
الموتيفتين الغنوصيتين الكلاسيكيتين عن الحياة الجنسية والسلطة
الغاشمة للأب. وعادت موتيفة يهوه = Yahwa =
Jehova الغنوصية والإله الخالق إلى الظهور في
الأسطورة الفرويدية الخاصة بالأب الأول primal
father والأنا العليا الجهمة المستمدة من ذلك
الأب؛ إذ أصبح في الأسطورة الفرويدية روحًا خلقت عالمًا من
خيبة الأمل والوهم والمعاناة. ولكن الاتجاه الماديَّ الذي كان
قد اتضح في انشغال الخيميائيين بأسرار المادة أدَّى إلى أن
أغشي بصر فرويد عن الجانب المهم الآخر من جوانب الغنوصية، ألا
وهو الصورة الأزلية للروح باعتبارها ربًّا أعلى وهب للإنسان
كأس الامتزاج؛ the krater (أي
(وعاء الخلط) وهو وعاء التحول الروحي.
ووعاء التحوُّل مبدأ أنثوي لم يستطع أن يجد له مكانًا في
العالم الأبوي عند فرويد. وأقول بالمناسبة إنه لا ينفرد على
الإطلاق بهذا التحيُّز، فلم يحدث أن سمح لأمِّ الربِّ وعروس
المسيح بأن تشغل مكانًا في غرفة العرس الربَّانية
the divine thalamus إلا منذ
عهد قريب، وبعد قرون من التردد. ومن ثمَّ فقد حظيت بالاعتراف
الجزئي بها على الأقل.
١ وأما في المجالين اليهوديِّ والبروتستانتي؛ فإن
الأب ما زال يتمتع بهيمنته دون أدنى تغييرٍ. وأمَّا في
الخيمياء الفلسفية، فعلى العكس من ذلك؛ إذ ينهض المبدأ الأنثوي
بدورٍ معادلٍ لدور المبدأ الذكوري.
(يونج ذكريات وأحلام وتأملات،
[١٩٦١م] ١٩٨٩م،
ص٢٠١–٢٠٢)
ويقص علينا يونج كيف رأى في المنام عددًا من الرؤى التي ترمز إلى
وجوده في مكتبة منزلية عامرة بمجلدات ضخمة وكتب تتضمن رموزًا لم
يكن يدري عنها شيئًا وتتعلق، كما اكتشف فيما بعد، بقضية المبدئين
الأنثوي والذكري، وتتناول البحوث الخيميائية. ويقول إنه كان يشعر
بالحيرة إزاء الكتب المطبوعة بطريقة بدائية؛ أي قبل عام ١٥٠٠م
incunabula ومطبوعات القرن السادس
عشر. ويضيف يونج قائلًا: إن الحلم الذي بشر بانغماسه في الخيمياء
جاءه عام ١٩٢٦م، واستطاع تأويله بعد لأيٍ، فقال في نفسه إن المقصود
بأنني حُبست في القرن السابع عشر أنني أجهل رموز الخيمياء التي
رأيتها في المنام، وكان عليَّ أن أخرج من الحبس يومًا ما وأفسر ذلك
الحلم.
ويقول يونج إنه عكف على قراءة المجلدات الضخمة التي تتناول تاريخ
العالم، وتاريخ الدين، وتاريخ الفلسفة دون أن يهتدي إلى تفسيرٍ
مقنعٍ للحلم المذكور، ولم يتبين إلا بعد فترةٍ طويلةٍ أنه يشير إلى
الخيمياء التي بلغت ذروتها في القرن السابع عشر، وكان قد نسي
الكتاب الذي وضعه هيربرت سيلبرر
Silberer عن الخيمياء، وكانت
الطبعة الألمانية قد صدرت عام ١٩١٤م، إبَّان أزمته النفسية المشار
إليها آنفًا، كما صدرت ترجمته الإنجليزية عام ١٩١٧م في نيويورك
بعنوان مشكلات التصوف ورموزه. ويضيف يونج إن الخيمياء كانت تعتبر
فرعًا شاذًّا من فروع البحث العلمي، وعلى الرغم من مراسلاته مع
المؤلف وإعجابه بوجهة نظره في التفسير أو التأويل الصوفي، فإن
النهاية الفاجعة للمؤلف (أي انتحاره) منع يونج من متابعة الاهتمام
بالموضوع.
ويروي يونج بعد ذلك كيف بدأ يفهم طبيعة الخيمياء حين قرأ نص
كتاب: «الزهرة الذهبية» الذي يتضمن نصوصًا عن الخيمياء الصينية،
والذي أرسله له ريتشارد فيلهلم عام ١٩٢٨م غير أنه تجاهل ذلك
النَّصَّ نحو عامين، ثم عاد إليه حتى يحاول فهم الرموز الخيميائية،
وشغل بذلك فترةً تزيد على عشر سنواتٍ، وعندها قال لنفسه أظنُّ أنني
فهمت المقصود الآن.
(يونج ذكريات وأحلام وتأملات،
[١٩٦١م] ١٩٨٩م، ص٢٠٢–٢٠٥)
ويقول يونج:
لم ألبث أن رأيت أن علم النفس التحليلي يتلاقى من طريق بالغ
الغرابة مع الخيمياء، وكانت خبرات الخيميائيين، من زاوية
معينة، تتماهى مع خبراتي، وكانت دنياهم دنياي، وكان ذلك بطبيعة
الحال اكتشافًا هائلًا ما دمت قد صادفت النظير التاريخي
لسيكلوجية اللاوعي عندي؛ أي إمكان مقارنة اللاوعي السيكلوجي
بالخيمياء ووجود سلسلة متصلة الحلقات ترجع به إلى أصول غنوصية
تغذوه. وعندما أنعمت النظر في هذه النصوص القديمة، اتخذ كلُّ
شيءٍ في المشهد موقعه الصحيح، من الصور الخيالية إلى المادة
التجريبية التي كنت قد جمعتها في عيادتي، إلى النتائج التي
استقيتها منها. وهكذا بدأت أفهم ما كانت المادة النفسية تعنيه
إذا نظرنا إليها من منظور تاريخي. أي إن فهمي لطابعها النمطي
الذي كان قد بدأ بفحصي للأساطير، ازداد عمقًا، كما أن الصور
الأزلية وطبيعة الأنماط الفطرية بدأت تشغل موقعًا رئيسيًّا في
بحوثي، واتضح لي أن التاريخ لا غنى عنه في علم النفس، ولا غنى
عنه قطعًا لسيكلوجية اللاوعي. أما سيكلوجية الوعي فتستطيع أن
ترضى بالمادة المستقاة من الحياة الشخصية، ولكننا ما إن نرغب
في تفسير مرض عصابي حتى نحتاج إلى طاقة تذكُّرٍ
anamnesis تصل إلى أعماقٍ تعجز
عن الوصول إليها معرفة الوعي. وإذا احتجنا أثناء العلاج إلى
اتخاذ قرارات غير معتادة، شهدنا أحلامًا يحتاج تفسيرها إلى ما
يزيد على الذكريات الشخصية.
(يونج: ذكريات وأحلام وتأملات،
[١٩٦١م] ١٩٦٨م،
ص٢٠٥)
ويضيف الطبيب النفسي والمحلِّل البريطانيُّ (المولود عام ١٩٣٣م)
أنطوني ستيفنز (مؤلف عددٍ من الكتب عن يونج وعن علم النفس
التحليلي، وهو الذي أكثرت من اقتباس آرائه) أنه يرى أن الخيمياء
تعتبر صورةً مجازيةً أو استعاريةً لما يسميه عملية تشكُّل الجنين
وتطوُّره embryogenesis بمعنى أن
ممارس الخيمياء كان يقوم بجهد يأتي له بالتعويض عن عجزه عن منافسة
الطاقة الأنثوية على خلق الحياة. فالهدف من العمل الخيميائي الفصل
بين عاملين كاشفين reagents أو
أكثر داخل المادة الأولية prima
materia أو Massa
confusa في مستودعٍ يشبه الرحم، ثم الجمع بينها
لإنتاج مادة جديدة بما يشبه المعجزة، وهي التي كانت تسمَّى (على
نحو ما ذكرت آنفًا) حجر الفلاسفة أو إكسير الحياة، وهلم جرًّا،
بحيث يمكن أن يرمز له الجماع بين ملك وملكة في حمام مائي، وتكون
نتيجته إنتاج طفلٍ خنثى
hermaphrodite؛ أي كائن يجمع بين
الذكر والأنثى androgyne. ويستدرك
قائلًا إننا إذا تصوَّرنا وجود عاملٍ ذكوريٍّ في تشكيل الجنين فإن
ذلك لا يمسُّ صحة نظرة يونج فهو مجرد توسيعٍ
amplification للنظرة، ما دامت
الصورة المجازية للعمل الخيميائي تتضمن ثلاثة مستوياتٍ: المستوى
الأول ماديٌّ (إنتاج الذهب) والثاني تشكيل الجنين وتطوُّره (أي
إنشاء الحياة) والثالث نفسيٌّ (أي إنشاء النفس). ويواصل ستيفنز
حديثه بتقديم نظرة أخرى، قائلًا:
زد على ذلك أن التصوُّر الخيالي لتشكيل الجنين وتطوره يتداخل
مع صورة مجازية أخرى هي التحليل. فالخيمياء تمثل لنا حدوث
عملها بين شخصين: الأول هو الخيميائيُّ والثاني رفيقته؛ أي
أخته الروحية، أو الأنيما في أعماقه. وهي تجمع بين اثنتين هما
الأنثى الملهمة والرفيقة في الطريق، وبذلك تساعده على أن يكتسب
البصيرة والشجاعة اللازمتين للعمل، وهو التحوُّل أو التحويل [
…] وكان يونج يرى أهميةً لا تقلُّ عن أهمية التحوُّل للرابطة
التي كان الخيميائيون يقيمونها بين الأبعاد الشاملة الكبرى
macrocosmic والأبعاد الخاصة
الصغرى microcosmic وللموقف
الديني الذي كانوا يتخذونه إزاء عملهم؛ إذ يقول في أحد نصوصه:
«إن هذا اللغز [أو السرَّ الغامض] ينبغي أن ينظر إليه لا
باعتباره ذا عظمةٍ حقيقيةٍ وحسب بل أيضًا باعتباره فنًّا [أي
علمًا] ذا قداسةٍ عليا» مستشهدًا بنصٍّ خيميائي يقول: إن كل ما
في السماء له نظيره في الأرض:
السَّمَاءُ فَوْقَنَا
والسَّمَاءُ تَحْتَنَا
والنُّجُومُ فَوْقَنَا
والنُّجُومُ تَحْتَنَا
أَبْصِرْ إذَنْ تَفْهَمْ
وافْرَحْ بهِ تَنْعَمْ
(يونج: المجلد ١٦، الفقرة ٣٨٤)
أي إن الفن المقدس يتلخص في القدرة على إدراك الرابطة بين
البعد الشامل الأكبر وبين البعد الخاص الأصغر؛ أي بين العامل
الشخصي والعامل المتجاوز للشخص؛ أي بين الأنا والذات. (ستيفنز،
١٩٩٠م، ص٢٢٩–٢٣٠)
وأورد في هذه الخاتمة لهذا الفصل مسردًا لبعض المصطلحات التي
يستخدمها يونج في كتاباته عن الخيمياء والتي تختلف دلالاتها عنده
عن معانيها المعجمية. ولن
أوردها في صورة معجمٍ مصغرٍ بسبب وجود المعجم الرئيسي الذي يضمُّ
مصطلحات يونج الخاصة، ولا يضمُّ هذه المصطلحات التي ورد بعضها من
قبل. فالصفة adept تعني البارع أو
الماهر. ولكنه يستخدمها في الإشارة إلى مشاركة المحلل واعيًا في
التحليل؛ أي باعتباره الأنا، مثلما يشارك الخيميائي تحليل المادة
بوعيه، وعندما ينهمك في عمله واعيًا ينشأ ارتباط معينٌ
coniunctio بين وعيه ووعي الخاضع
للتحليل بحيث يشبه ارتباط العناصر المختلفة والمتضادة في البوتقة
vas كما يشير المصطلح إلى ارتباط
الوعي باللاوعي في نفس الخاضع للتحليل ونفس من يقوم به أيضًا؛ ومن
ثمَّ يتضمن الدلالة على التكامل داخل نفس هذا وذاك، وأخيرًا
الإشارة إلى التكامل بين المادة والروح. ويستعير يونج تعبير
التَّخمُّر fermentation من
الخيمياء للإشارة إلى عمليات النقل المتبادل ما بين الوعي
واللاوعي. ويصف يونج حالة الارتباط المشار إليها مستخدمًا تعبيرين
من الخيمياء؛ أولهما ما نسميه «الرِّباط المقدس»، و(الذي يستخدمه
توفيق الحكيم للدلالة على الزواج) وهي كلمة
hierosgamos حيث ارتباط الروح
بالجسد وما يؤدي إليه من ميلاد روحٍ أخرى؛ أي المادة الجديدة في
الخيمياء، ويسميه يونج
impregnation ويصفه بأنه تحرُّر
روح الخاضع للتحليل، ومولد إنسانٍ جديدٍ (في حالة النجاح). وقد
يسبق النجاح تحوُّلٌ يتسم في العمليات الخيميائية بلونٍ أسود يكسو
العناصر المختلطة في البوتقة ويسمَّى
nigredo يقابله في التحليل حالة
انقباضٍ، وهو الذي يتميز بصعود أبخرةٍ ترهص بنجاح التحليل، ويشير
إليها يونج بالمصطلح الخيميائي
putrifaction الذي يدل على أن بعض
العناصر قد ماتت في البوتقة أو نفس الشخص والمصطلح الخاص به هو
mortificatio ونصل أخيرًا إلى
مصطلح Mercurius الذي ذكرت في
مستهل هذا الفصل أنه الاسم الروماني للإله المصري تحوت، وكيف أصبحت
الكلمة تعني الزئبق. ولكن الرب الروماني كان يتخذ صورًا لا حصر
لها، ويقال إنه يقوم بمهامَّ متضادةٍ بل ومتناقضةٍ من دون أدنى
تغيير فيه، فكان الخيميائيون يجدون في الزئبق «العامل المساعد»
الذي يحدث التغيُّر في وجوده من دون أن يتغير؛ فهو معدني وسائلٌ
وخيرٌ وشرٌّ معًا، وعدم التغيُّر أو الثبات هو المطلوب على وجه
الدقة في عمليات التغيُّر النفسي، ويصفه يونج، أثناء التحليل، بأنه
«الطرف الثالث في التحالف» ويقول إنه يمثل الجمع بين اللهو
الشيطانيِّ والعظمة الربانية، والثبات والتحوُّل معًا (يونج:
المجلد ١٦، الفقرة ٣٨٤).