مقدمة جديدة

رهانات الجسد والصورة؛ ماضيًا وحاضرًا

حين نشرنا في ١٩٩٩م هذا الكتاب البحثي، الذي أنجزناه في أواسط التسعينيات، لم يكُن المجال الثقافي العربي يتجرأ بعدُ على تناول قضايا الجسد من زاوية أنثربولوجية وجمالية. كانت الدراسات التي تتناول قضايا الجسد باعتبارها ظاهرةً ثقافيةً نادرة، لعلَّ أهمَّها ما جاء في كتاب «الاسم العربي الجريح»، لعبد الكبير الخطيبي، عن الوشم والجماع ودراسات مالك شبيل. في ذلك الوقت، كانت دراسات الجسد (فاطمة المرنيسي، عبد الوهاب بوحديبة وغيرهما)، تصدُر باللغات الأجنبية، وتتأخر في الترجمة، إضافةً إلى أن أغلبها يعمد إلى اختزاله في الجنس باعتباره، كما عبَّر عن ذلك بو علي ياسين، أحدَ أعمدة الثالوث المحرَّم، والحال أن الجنس وظيفة من ضمن وظائفَ أخرى تواصلية وعاطفية وقدسية ولهوانية … وهو يفترض أن يندرج في وظيفية الجسد باعتباره ناظمًا للتواصل والغواية والرغبة والشهوة والوصال من خلال الحواس وغيرها.

وكان التوجه الذي اخترناه يسعى إلى قراءة الجسد في الثقافة العربية الإسلامية قراءةً تركيبيةً ومنظورية، تروم الإحاطة التأويلية والفينومينولوجية (الهرمينوسية طبعًا) بالخطاب عن الجسد وبصياغته الثقافية. في ذلك الوقت كانت دراسات دافيد لوبروطون السوسيولوجية عن الجسد في بداياتها، ولم تُبلوِر بعدُ ذلك المنظورَ الأنثربولوجي الذي سيتأكد لديه في منشوراته اللاحقة. وسيُلاحِظ القارئ التقاطع الكبير بين دراسات هذا الباحث وما كنَّا قد لامسناه في دراستنا هذه، كما في دراسات لاحقة، كالحواس والغواية والوجه والجمال والتجميل والألم. وهي قضايا يمكن أن نعثُر عليها بتفصيل في الكتب التي عمَدنا إلى ترجمتها تباعًا في السنوات الأخيرة.

ثمَّة لحظتان ماهدتان في الدراسات العربية عن المرأة يعود إليها باستمرارٍ صاحباتُ وأصحابُ الدراسات النِّسْوية و«الجندرية»، ولا يُطلُّون بأنوف فضولهم إلى ما قبلها؛ كتابات نوال السعداوي وكتابات فاطمة المرنيسي. ومن غرائب الأمور أن تُتأوَّل كتاباتُهما، سنواتٍ طويلةً بعد صدورها، ببساطةٍ خادعةٍ على أنها جندرية، مع أنها بشكلٍ أو بآخر مُبشِّرة بهذا التيار الذي لا نعرف الحدود فيه بين النِّسْوية ودراسة النوع. ومن غير الدخول في تفاصيل الاصطلاحات، يحضُرني اليوم عملٌ جبَّار وتنويري وسابق على هذه الدراسات، لا فقط بالحسِّ الأدبي الثقافي لصاحبه، ولكن أيضًا لأن صلاح الدين المنجد (١٩٢٠–٢٠١٠م) من أوائل مَن طرَقوا مسألة الحياة الجنسية (التي أضحَت تُسمَّى اليوم، على سبيل «التدقيق»، جنسانية) في كتابٍ مستقل نشره عام ١٩٥٨م، ومن أوائل مَن تحدَّثوا أيضًا عن جمال المرأة عند العرب من منظورٍ جديد (١٩٥٧م).

من المرأة إلى الجنس، ومن الجنس إلى الجسد

من ثلاثة عقود فقط من الزمن كان الباحثُ العربي ما يزال غارقًا في دراساتٍ وأبحاثٍ تقليدية تتصل بالمرأة، وتنحو في غالبها منحًى أيديولوجيًّا من غير أن تنسج لنا تاريخًا للأنوثة، أو دراساتٍ جهوية مُعمَّقة عن الخطاب حول المرأة في هذه المرحلة أو تلك. ثم جاءت الدراساتُ حول الجنس، وتوالت التحقيقاتُ لكُتُب الباه والجماع والنكاح. وبعد أن كان القارئ لا يجد بين يدَيه سوى بعض المؤلَّفات الإيروسية للسيوطي والنفزاوي، توالت المنشورات للعديد من الذخائر في هذا المضمار لتعرف الدراسات «الجنسانية» من منظور نفسي وسوسيولوجي وتاريخي وأدبي نموًّا مُطَّردًا لا يُمكِننا التغافلُ عنه.

وحين انبثقَت الدراساتُ الأولى عن الجسد في الثقافة العربية من منظورٍ أنثربولوجي وفلسفي وسيكولوجي، ولو بشكلٍ مُحتشِم، لم يحدُث فحسبُ ما يُشبِه القطيعة مع هذه الموضوعات التقليدية، وإنما أيضًا مع المنهجيات والمقارَبات ذات الطابع التاريخي أو السوسيولوجي الوصفي المحض. وبما أن كل موضوع يأتينا ويتبلوَر في وعينا حاملًا معه منظوراتٍ جديدة، فإن المقاربة الأنثربولوجية الظاهرياتية والتأويلية بدَت، منذ ذاك الوقت، الأقربَ إلى القدرة على تمثُّل موضوعٍ مُركَّب من قَبيل موضوع الجسد من جهة، والأقدر على مقاربته وفقًا لتشابُكاته ومناطق الظلِّ فيه وترابُطاتِه المفاهيمية والدلالية من جهةٍ أخرى.

وما دام الجسد موضوعًا تركيبيًّا، فإنه يراقب ذاته ويتابعها باعتباره موضوعًا وهدفًا للبحث والتقصِّي. إننا نقارب الجسد بجسدنا. وليس ثمَّة من ذاتٍ باحثة تُقارِب هذ الموضوع وغيره من دون أن يكون الجسدُ الشخصي حاضرًا في هذه المقارَبة، باعتباره مُكوِّنًا ذاتيًّا للموضوع؛ من ثَم فإن هذا الموضوع الإشكالي يفترض تصورًا فينومينولوجيًّا وأنثربولوجيًّا لأنه يُحرِّره، كما يُحرِّر مقارَبتَه، من ثنائية الجسد والنفس والذات والموضوع، والواقع والمُتخيَّل، وغيرها من الثنائيات المُتناسِلة منها، التي تُحوِّل الإمساك بالحسِّي والمحسوس إلى خطاطاتٍ عقلانية ذات خلفيات ميتافيزيقية ولاهوتية.

لقد ظلَّ الجسدُ مكبوتَ الثقافة والمجتمع العربيَّين؛ لهذا فهو ينفلتُ من المقاربة الأحادية ويُوقِعها في شَرَك البُعد الواحد المغلق والمحجوز. ولعلَّ النقاد الأدبيِّين في العالم العربي من أوائل ضحايا هذا «المفهوم». فبما أن الجسد موضوعٌ أكيد وتليد للتخييل الشعري والروائي، تراهم يدرُسونه وكأنه موضوعٌ بسيط ومُعطًى، فيُبسِّطونه إلى أقصى الحدود، ويختزلونه إلى مقولات لا ترقى إلى استكناه ما تُقدِّمه تلك الرواياتُ والأشعار من تجاربَ حيوية لا يمكِن الإمساكُ بها إلا في تفاعلاتها، وفي نسيجها الوجودي والفلسفي والنفساني والأنثربولوجي.

هذا الواقع يجعل الجسد سؤال الثقافة العربية برُمَّتها؛ لا لأن الجسد ظلَّ فقط مكبوتَ الثقافة العربية وهامشها اليقظ، ولكنْ لأن الجسد أصلًا مفهومٌ ثقافي عنقودي (استيحاء لعبارة القنبلة العنقودية)، أو عبارة عن شبكة من الجذور rhizomique بتعبير دولوز وغاتاري في كتابهما «مائة هضبة». وهو الأمر الذي يعني أن هذا المفهوم ذو طابعٍ جهوي وأركيولوجي، بتعبير مشيل فوكو؛ أيْ يمكِن دراستُه في تحقُّقاته وتمثُّلاته وتجلِّياته هنا وهناك بهذه المقاربة أو تلك، لكنه أيضًا مفهومٌ شمولي لأن تاريخيَّته هي تاريخ فروعه وتجلِّياته (فنحن لا يُمكِن أن نكتب تاريخ الجسد في المجتمع العربي، مثلًا؛ لأن ما يمكِن أن نكتبه على سبيل التمثيل هو تاريخ «الجنس».) بل إنه في منحًى ما مفهوم المفاهيم لأنه يُولِّد جملةً من المفاهيم الفرعية التي تدين بجنيالوجيتها له، كالجنس والصورة والنفس والرغبة والنوع وغيرها.

التباس الجسد تعبير عن مرجعيَّته

من ناحية أخرى، يظلُّ الجسد مفهومًا ملتبسًا، لا لأنه موطن الروح والنفس والعقل والحواس فقط؛ أيْ موطن كل ما يُمكِّن من الحياة، ولكنْ أيضًا لأنه مخزنُ كلِّ العناصر الغريبة والعجيبة التي تتبلوَر في مجازات وصور. إن هذا الالتباس هو ما يجعل الجسد مفهومًا أصيلًا originaire ومرجعيًّا لكل ما يؤسِّس الحياة والموت. لنتذكَّر أن الأسئلة التي أرَّقَت الفقهاء العرب فحاروا في الجواب عليها كانت من قبيل: هل نحن نُبعث بعد الممات أجسادًا أم نفوسًا؟ هل الجنُّ والعفاريت لها أجساد أم هي كائناتٌ أثيرية فقط؟ ما الذي يخضع للعقاب والثواب؛ هل هو الجسد أم النفس؟ إنها أسئلةٌ طريفة جدًّا ومن الأهمية بمكانٍ لم تمسَّها حتى الآن الدراساتُ العربية المتعلقة بالجسد لأنها تعتبرها هامشية، في الوقت الذي لا يمكِن الإمساكُ بالجسد دراسةً وبحثًا إلا بهوامشه؛ أيْ بحبَّات عنقوده وجذوره المتوارية.

ومن بين هذه الجذور أن الجسد منَح للغة العربية أغلب مجازاتها، فصارت مجموعةٌ من التعابير ذات الأصل الشعائري، ومجموعةٌ من الوضعيات والصور الاجتماعية ذات الطابع المجازي للجسد أو لأطرافه، تعبيراتٍ حَرفيةً نستخدمها في الكتابة من غير أن ننتبه إلى مصادرها وجنيالوجيتها، ومن ذلك «وضع اليد على الشيء» التي صارت تُفيد تعيينَ الشيء بعد أن كانت لها وظائفُ طقوسية مغايرة في الأصل. ومن بين ذلك أيضًا أن كلمة اللسان التي تُعيِّن اللغة التي بها نتواصل عن الجسد تعيِّن العضو الذي به نتكلم، ممَّا يعني أن اللغة تأخذ مصدرها في الجسد لتُعيد بناءَه وفقَ نسَقِها الدلالي واللساني والصوتي.

ومن بينها أيضًا أمرٌ لم ينتبه له أحدٌ إلا عَرَضًا؛ وهو أن اللغة العربية تحتفظ لنا بتواشُجاتٍ حاسمة تُمكِّننا من بناءٍ نظريٍّ هامٍّ للعلاقة بين الجسد والصورة. فكما نعلم؛ تعني كلمة «صورة»: الجسم والوجه والرَّقم والرَّقش والشخص والتمثال والنصب والظل والخط، وغيرها من الدلالات، كما احتفظَت لنا بذلك ذاكرة اللسان العربي. وهو ما يشي بأن ثمَّة بين الجسد والصورة عروةً وثقى تُمكِّننا منها ذاكرة اللغة وتؤكِّدها العلاقة المتبادلة دلاليًّا بين مفردتَي «المتْن» (المطية) و«النص»، والتي نجد لها صدًى في ألسُنٍ أخرى (corps/corpus). ومن بينها أخيرًا تلك العلاقة التي يقيمها الجسد مع الكون، ممَّا يجعل منه مجاز الكون عمومًا وصورته المُصغَّرة؛ فالعرب المُتفلسِفة تستخدم كلمة الأجسام لتعيين كل ما له حجم، مثلهم في ذلك مثل الفلاسفة في بلاد الغرب، ممَّا يطرح مشكلة ترجمة تلتبس فيها المقابلات؛ فكيف نترجم كلمة chair، على سبيل التمثيل، لدى فيلسوف من قَبيل ميرلوبونتي في كتابه عن بنيات السلوك؟ كيف نُعيِّن بلغتنا التمييز بين chair وcorps، علمًا أن الكلمة الأولى لها مدلولاتٌ لاهوتية مسيحية؟ لهذا الغرض اقترحنا التمييز المفهومي بين البدن والجسد والجسم، بالرغم من أن الكتابات القديمة لا تُفرِّق أحيانًا بين الجسد والجسم، بل إن بعض الكتابات تأخذ كلمة الجسد بمعنى الجثمان أو الجثة … ونحن في حقيقة الأمر مدينون لابن عربي بمنح عبارة الجسد وضعًا مفاهيميًّا يقارب كثيرًا المعنى الحالي الذي نمنحه له، فقد حسَم الأمر لصالحنا، بل إننا ندين له، هو العالِم المُتصوِّف العارف بخبايا اللغة، بذلك المنحى الفيلولوجي الصارم الذي يستعيد ذاكرة اللغة ويجعل منه ظاهرياتيًّا (هو الظاهري) أقرب إلى نيتشه، وبالأخصِّ إلى هايدجر في استعادته للمعاني الأُولى. بل إنه أول مَن استعاد فكريًّا تلك العلاقة الثاوية في اللغة العربية بين الجسد والصورة، وكأنه يقول لنا بصريح العبارة: لا حديث ولا خطاب ولا دراسة ممكنة عن الجسد من غير أن تكون، في الآن نفسه، حديثًا وخطابًا ودراسةً عن الصورة. هذا المُنفَتَح هو ما يزخر به كتاب «فصوص الحكم» و«الفتوحات المكيَّة»، والتي ما تزال بحاجة ملحاحة إلى التفحُّص والتفكير.

حرية الخطاب من حرية الجسد

يتمثَّل اختزالُ مفهوم الجسد في المرأة، أو في الجندر (النوع)، تشذيرًا يبدِّده تبديدًا، ويعوق تحليل تمظهراته المتشعبة. إن الدراسات النوعية ليست دراساتٍ للجسد إلا بمقدار ما إنها دراسةٌ جهوية لقضية من قضايا الجسد. ومن المحاذير التي نُشير إليها هنا الاحتراس من اختزال الجسد في الجنس من حيث هو تحقُّق للرغبة؛ فالرغبة أشمل من الجنس لأنها تعبيراتٌ إشارية وخطابية ومنامية ومكبوتات لاواعية … والخطاب عن الجنس هو بالأحرى أحد التعبيرات عن الرغبة في اللغة، أمَّا المضمون الجنسي فيخضع في عمومه للخيال والاستيهام والمجاز، ممَّا يعني أن ما ندرسه ليس هو الجنس حصرًا، وإنما هو التحوُّلات الخطابية التعبيرية لمضمون لا يتجلَّى إلا من خلالها وعَبْرها.

لقد أدرك صلاح الدين المنجد الحريةَ الخطابيةَ التي كانت تُميِّز العرب القدماء في تعاملهم مع قضايا الجسد من أنوثة وجمال وقبح وخيال وجماع. ولا أدل على ذلك من أن مُصنَّفات من قَبيل «رشف الزُّلال من السحر الحلال» للسيوطي، و«جوامع اللذة»، وغيرها، ستُعتبَر اليوم كتاباتٍ بورنوغرافيةً فيما كانت تُعتبَر مؤلَّفاتٍ تربويةً وتنويريةً في وقتها. ونحن اليوم بحاجة أكبر لهذه الحرية؛ لأن الجسد اليومي يعرف تحوُّلات في السمات (الجراحة التجميلية)، وتدخُّلات بزرع الأعضاء، ولأن الروبوهات أضحَت تتطور بشكلٍ حثيث، ولأن العوائد اليومية تغيَّرَت (استعمال آلات التنقُّل عِوَضَ المشي)، ولأن مفهومَي الأنوثة والذكورة ينزاحان تدريجيًّا عن مُحدداتهما الثقافية. بَيْدَ أن هذه الحرية في تناوُل قضايا الجسد تَعْني أيضًا التحرُّر من المقارَبات الميكانيكية؛ لأن رحابة الجسد وعمقه ووشائجه تستدعي فكرًا منظوريًّا منفتحًا قمينًا بمتابعة تحوُّلاته. الجسد كيانٌ ثقافي قبل أن يكون صورةً جسمانية، وعلينا ألَّا ننسى ذلك.

مراكش، في ٢٠ مارس ٢٠٢٣م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤