مقدمة
الإسلام والجسد والمُتخيَّل
١
إضافةً إلى ذلك فإن طبيعة الجسد، باعتباره كيانًا أوليًّا متعدد الدلالات والوظائف، تخترق بإلحاحٍ مجموعةً من المباحث والعلوم، من الطبِّ إلى علم الأديان مرورًا بالفلسفة والعلوم الإنسانية والأدب؛ وهو ما يجعل من مقاربته أو تناوله بالبحث محكومًا بالجهوية، حتى ولو ابتغى الشمول والكلية. إن هذه الوضعية العمومية واللامتحدِّدة للجسد هي ما يدفع بالدارس إلى ضربٍ من المفارقة التي يصعُب قبولُها في التفكير الأكاديمي ذي المنزع الموضوعي، أعني الانطلاق من شمولية المفهوم للوصول إلى تجذُّراته الخصوصية في الممارسات الجهوية المتعددة، والبرهنة من ثمَّة على كون خصوصيته تلك أساسَ شموليته كمفهوم ونُسْغَها غير القابل للاختزال.
وإذا كان الجسد بهذا المعنى مفهومًا ثقافيًّا (بالمعنى الأنثربولوجي للكلمة)، فإن قابليَّته للتفكير الفلسفي النظري، وللتحليل الثقافي في الآن نفسه، هو ما يؤكد خصوبة البحث فيه، والجدَّة التي يمثِّلها ذلك البحث؛ وذلك من دون السقوط في أيِّ نظرةٍ أيديولوجية تبتغي تحريره من دائرة المُحرَّم والتأكيد على طابعِه المادي، بل من دون أيِّ مقصدٍ يروم إخراجه من هامشيَّته أو استجلابه من اللاوعي إلى الوعي، ومن مجال المسكوت عنه واللامُفكَّر فيه إلى مجال القول والحقيقة والفكر؛ فلا يخفى أن مقصدًا من قَبيل هذا، إضافةً إلى استحالته — الجزئية على الأقل — سيُجرِّد البحث في الجسد والمُتخيَّل من خاصيته الاستكشافية، ويُجرِّد الجسد من فضاءاته الفعلية، ليُحوِّله إلى موضوعٍ مجرَّد عن الذات الباحثة فيه.
إن هذا التفاعُل المنهجي قد شكَّل، بالنسبة لنا، الوسيلة الفضلى للتعامل مع نصوص يتداخل فيها التشريعي الفقهي بالخبر التاريخي بالتخييل الحكائي؛ لهذا عملنا فيه على توضيح تصوُّرنا للجسد والمُتخيَّل والتأويل باعتماد المُعطَيات التاريخية والفكرية المختلفة والمجابهة بينها، وإخضاعها لنسقيةٍ تحليلية وتأويلية تبتغي المساءلةَ والتحليل أكثر ممَّا تبتغي تجميع المعلومات، وإن كان هذا الجانب الأخير له أهميته في استجلاء مُكوِّنات ذاك التصور. ولا بدَّ هنا من التوضيح بأن لجوءنا إلى هذه النظرة التركيبية يستهدف، من جهة، بناء نظرةٍ متكاملة لما سمَّيناه «جسدًا إسلاميًّا» له مُحدداته التاريخية والوجودية والثقافية الخاصة، وصياغة منظورٍ تأويلي تركيبي تتقاطع فيه مُكوِّنات التأويل الإسلامي والأنثربولوجيا والهيرمونيسيا والسيميائيات التأويلية والتحليل النصِّي بمختلف توجُّهاته البِنيوية والتداوُلية وغيرها، من ناحيةٍ ثانية.
إن منطلقنا النظري المُحدَّد يتمثَّل في أن ثمَّة علاقةً صميمةً بين الجسم والصورة (ومن ثمَّة بين الجسم والتصوُّر والخيال) والمقدَّس، تجد أصلَها في ذاكرة اللغة العربية وامتداداتها في التصوُّر الإسلامي للجسد ولمُكوِّناته. هكذا عمَدنا إلى التحليل التركيبي لهذه العلاقة والكشف عنها في النصوص المؤسِّسة لذلك التصوُّر ومتابعتها في عموم الثقافة العربية الإسلامية القديمة، وفي بعض مظاهرها التي احتفظَت بها لنا ذاكرةُ تلك الثقافة؛ لذا فإن المفترضات التي ننطلق منها تتمثل في:
-
(أ)
أن الجسد محدد أساس تنهض عليه الممارسة الإيمانية للمسلم، وأن الجسد النبوي غدَا أنموذجًا قِيَميًّا وسلوكيًّا، في هذا المجال، لا يقلُّ قيمةً عن النموذج الخطابي النبوي في بناء الصورة العامة لإيمانية المسلم.
-
(ب)
أن الجسد الإسلامي جسد مُتخيَّل بقدْر ما هو واقعي. إنه جسدٌ ثقافي يتبلور في صُلب تمظهرات المقدَّس، بل إنه أحد تمظهراته الأساسية، سواء في خاصيته الجمالية أو الجنسية أو الرمزية.
-
(جـ)
أن هذا الطابع المقدَّس والمتخيَّل قد تجذَّر ثقافيًّا، فغدَا يُبلوِر نماذجه الجمالية؛ بحيث بدأ ينزاح مع تطوُّر الثقافة العربية الإسلامية عن المقدَّس الديني، بالتدريج، ليجد في المتخيَّل الاجتماعي والبلاغي والأدبي حريةَ تطوُّره.
٢
بَيْدَ أن ما يُهوِّن من الأمر هو كونُ دراستنا هذه تتعامل مع خطاباتٍ لها منطقُها اللغوي والتاريخي، ولها درجة تخييليَّتها وممارساتها الأسلوبية. وهو الشيء الذي يُبعدنا عن الدقة التاريخية، ويُقرِّبنا من الدراسة الأنثربولوجية التحليلية والسيميائية، ويحوِّل الخطاب الثقافي من البحث عن حقيقة الجسد (إذ الجسد لا حقيقة له)، إلى البحث عن نوعيات صياغته الثقافية التي يتداخل فيها، بقدْرٍ كبير، الخطابُ التخييلي ببلاغته وأسلوبيته واستيهاماته، والحقيقةُ التاريخية بوصفها واقعةً ثابتةً ومُؤرَّخة. إن الجسد إذا كان لا يملك حقيقة، فهو مع ذلك يملك تاريخًا، هو ذلك التاريخ الجهوي الذي دعَا إليه مشيل فوكو، وجاك دريدا، بوصفه تاريخًا لا يتسم بالشمولية بقدْر ما يتسم بالخصوصية والانغراس في تربة الوعي واللاوعي الجماعي الذي يسم مراحلَ مُعيَّنة. من هنا، فإن دراستنا هذه بقدْر ما تُعيِّن جسدًا قابلًا للتحديد التاريخي بقدْر ما تمنح له طابع اللاتحدُّد، باعتبار قضايا الجسد تخترق الديني والتاريخي والاستيهامي والحميمي الشخصي الذي يقبل الحكي والحكاية (ومن ثمَّة علاقته بالتاريخ كحكاية وحكي)، ويتعالى بشكلٍ ما على التأريخ.
أمَّا صاحب «مصارع العشاق»، فيصوغ هذا الالتباس على النحو التالي:
هل يتعلق الأمر فعلًا بحريةٍ خطابيةٍ عامة أم بشروخ وانفلاتات تُخلخِل منطلق الخطاب الذي يؤطِّر الحديث عن الجسد؟ أم أن الأمر يتعلق بحريةٍ ملتبسة ومشروطة بمُقدِّماتها الفقهية أو الإباحية في الغالب الأعم؟ ذلك ما تقودنا إليه الفِقرات السابقة. إن هذا الواقع الخطابي هو ما يجعلنا نُلِحُّ على ضرورة دراسة قضايا العشق والجنس ضمن إشكالية الجسد العامة، وباعتبارها ممارساتٍ جهويةً له، من جهة، والنظر العميق لطبيعة العلاقة بين تلك الممارَسات وخلفيَّتها القدسية المُعلَنة والمُضمَرة من جهةٍ أخرى. أمَّا الفرضية الأساس التي ننطلق منها هنا، والتي تُحدِّد منظورنا الفكري والتحليلي لما نُسمِّيه تجاوزًا «جسدًا إسلاميًّا»، فهي تخييليَّته النابعة بالأساس من الصياغات الخطابية المتعددة من ناحية، والأنموذج الاجتماعي والذهني الذي تنطلق منه.
إن الطابع المتخيَّل للجسد هو ما حذَا بنا إلى دراسته، أولًا وقبل كل شيء، باعتباره مُكوِّنًا خطابيًّا ومعرفيًّا للثقافة العربية، وباعتباره، من ناحيةٍ ثانية، مُكوِّنًا ثقافيًّا تنهض عليه معرفة حاضر الخطاب الثقافي على الجسد في الثقافة العربية المعاصرة. وليس يخفى أن غِنى وتداخُلات والتباسات ثقافتنا العربية القديمة، وكذا تحوُّلاتها التاريخية ونوعية تطوُّراتها، تُشكِّل مجالًا خصبًا لتلمُّس الأسُس التي تتحكم في تصوُّراتنا الراهنة لمُجمَل القضايا الشائكة المطروحة علينا في ممارستنا الثقافية العامة. من هذا المنطلق لا يزال تاريخ الثقافة العربية بحاجةٍ إلى التخلص من المنزع التاريخي، لمعانقة رحابة وزخم المعطيات المعرفية والمنهجية الجديدة التي تتبلوَر في حِضْن العلوم والمعارف الراهنة، وهو الأمر الذي لا يتحقق إلا بطَرق الموضوعات الجديدة وفق ما تمليه على الدارس من منظورات وتساؤلات ليست أقلَّ جِدَّة. إن هذا الترابط بين الموضوع والمنظور الفكري لا يُغفِل مع ذلك ضرورةَ إعادةِ دراسةِ مُجمَل القضايا السياسية والفكرية العربية وفْق هذه التطورات المعرفية نفسها.