مقدمة

الإسلام والجسد والمُتخيَّل

١

لقد ظلَّ مفهوم الجسد، في ثقافتنا العربية الحديثة والمعاصرة، حبيسَ النصِّ الفقهي، التشريعي منه والسِّجالي، ولم يجد مرتعًا لبعضٍ من حرية التفكير والتصوُّر إلا في النصِّ التخييلي، شعرًا كان أو حَكْيًا أو مسرحًا. وبين صرامة النصِّ الفقهي والحرية الممكِنة للنصِّ الأدبي يصعُب الحديثُ في ثقافتنا هذه عن تصوُّرٍ فعلي للجسد من حيث هو كيانٌ له استقلاله الذاتي، بل إن المصنَّفات المخصَّصة له نادرة، ولا تتجاوز أصابع اليد.١ أمَّا تلك التي تلامسه بهذا القدْر أو ذاك من الدقة والعمق، فإنها تحصُره في وظائفه وارتباطاته الميتافيزيقية أو السلوكية (علاقته بالروح أو الوظيفة الجنسية أو العاطفية والعملية مثلًا). وما دامت الوظيفة الجنسية، بالرغم من الحظر الخطابي الذي تعرفه في مجتمعاتنا العربية، لا تختزل وجود الجسد وكيانه الخصب والمتعدد الجوانب، وبما أن المباحث التي يجد فيها هذا الأخير موطنًا فكريًّا، كالتحليل النفسي والفلسفة والأنثربولوجيا وعلم الاجتماع، ضعيفةُ الانغراس في تربة الثقافة العربية المعاصرة، أو متلعثمةُ الفكر، أو تعيش لحظة التكوين؛ فإن الجسد ظلَّ يعيش على تُخوم الفكر والتفكير. تتدخل في ذلك أحيانًا عواملُ ذات صبغةٍ أيديولوجيَّة محضة ترتبط إلى هذا الحدِّ أو ذاك بتصوُّراتٍ طهرانية، أو روحانية، أو بمنزع تحريري مغرق في الآنيَّة أو التجريد.

إضافةً إلى ذلك فإن طبيعة الجسد، باعتباره كيانًا أوليًّا متعدد الدلالات والوظائف، تخترق بإلحاحٍ مجموعةً من المباحث والعلوم، من الطبِّ إلى علم الأديان مرورًا بالفلسفة والعلوم الإنسانية والأدب؛ وهو ما يجعل من مقاربته أو تناوله بالبحث محكومًا بالجهوية، حتى ولو ابتغى الشمول والكلية. إن هذه الوضعية العمومية واللامتحدِّدة للجسد هي ما يدفع بالدارس إلى ضربٍ من المفارقة التي يصعُب قبولُها في التفكير الأكاديمي ذي المنزع الموضوعي، أعني الانطلاق من شمولية المفهوم للوصول إلى تجذُّراته الخصوصية في الممارسات الجهوية المتعددة، والبرهنة من ثمَّة على كون خصوصيته تلك أساسَ شموليته كمفهوم ونُسْغَها غير القابل للاختزال.

وإذا كان الجسد بهذا المعنى مفهومًا ثقافيًّا (بالمعنى الأنثربولوجي للكلمة)، فإن قابليَّته للتفكير الفلسفي النظري، وللتحليل الثقافي في الآن نفسه، هو ما يؤكد خصوبة البحث فيه، والجدَّة التي يمثِّلها ذلك البحث؛ وذلك من دون السقوط في أيِّ نظرةٍ أيديولوجية تبتغي تحريره من دائرة المُحرَّم والتأكيد على طابعِه المادي، بل من دون أيِّ مقصدٍ يروم إخراجه من هامشيَّته أو استجلابه من اللاوعي إلى الوعي، ومن مجال المسكوت عنه واللامُفكَّر فيه إلى مجال القول والحقيقة والفكر؛ فلا يخفى أن مقصدًا من قَبيل هذا، إضافةً إلى استحالته — الجزئية على الأقل — سيُجرِّد البحث في الجسد والمُتخيَّل من خاصيته الاستكشافية، ويُجرِّد الجسد من فضاءاته الفعلية، ليُحوِّله إلى موضوعٍ مجرَّد عن الذات الباحثة فيه.

هكذا يصبح الجسد في نظرنا في علاقة وثيقة مع مفهوم الذات sujet ومفهوم الذاتية بوصفها مفهومًا لا منزعًا، ومع مفهومَي الهُويَّة والاختلاف. بَيْدَ أن الأمر لا يقف عند هذا الحد؛ ذلك أن الجسد إذا كان قد وجد موطنه النظري في العلوم والمباحث التي ذكرناها آنفًا، فإن مرتعَه الفعلي والدائم منذ القديم ظلَّ هو مجالات المُتخيَّل، باعتبار هذا الأخير متخيَّلًا جماعيًّا أو فرديًّا. يُمكِّن تعالقٌ كهذا من القول بأن الصورة، بجميع أنواعها المرئية والذهنية (البلاغية)، قد شكَّلَت باستمرار قناةً تمرُّ منها دلالاتُ الجسد، وشكلًا من أشكال وجوده وتجدُّده. ولربما لهذا الأمر تختزن اللغة العربية هذه العلاقة الأصلية في ذاكرتها؛ إذ الجسم والصورة، لغةً، دالَّان لمدلولٍ واحدٍ، والمتن والنصُّ كذلك. وبما أن المتن يُحيل على الكتابة والجسم في الآن نفسه، فليس لنا سوى أن نبحث عن جذور وامتداد هذا التواشُج في الأساس النظري والفكري المعاصر الذي ننطلق منه.
من جهةٍ أخرى تستدعي تعدُّدية الدلالة الجسدية، ولا تحدِّدها المزاوجة بين نمطَين متداخلَين من الدارسة؛ التحليل بوصفه متابعةً لمسار الدلالة وتمظهراتها الشكلية. والتأويل باعتباره محاولةً للإمساك بازدواج أو تعدُّد المعاني. ولأن لا تأويل بدون تحليل، فإن هذا الكتاب يروم جعل التصورات الهيرمينوسية herméneutiques، التي نَمَت في حقل الفلسفة، تصوُّراتٍ نقديةً قمينةً باكتناه النصوص، وذلك بتطعيمها بكل ما يتصل بالنصِّ الأدبي والتاريخي من سيميائياتٍ تأويلية وتحليلٍ بلاغي … إلخ.

إن هذا التفاعُل المنهجي قد شكَّل، بالنسبة لنا، الوسيلة الفضلى للتعامل مع نصوص يتداخل فيها التشريعي الفقهي بالخبر التاريخي بالتخييل الحكائي؛ لهذا عملنا فيه على توضيح تصوُّرنا للجسد والمُتخيَّل والتأويل باعتماد المُعطَيات التاريخية والفكرية المختلفة والمجابهة بينها، وإخضاعها لنسقيةٍ تحليلية وتأويلية تبتغي المساءلةَ والتحليل أكثر ممَّا تبتغي تجميع المعلومات، وإن كان هذا الجانب الأخير له أهميته في استجلاء مُكوِّنات ذاك التصور. ولا بدَّ هنا من التوضيح بأن لجوءنا إلى هذه النظرة التركيبية يستهدف، من جهة، بناء نظرةٍ متكاملة لما سمَّيناه «جسدًا إسلاميًّا» له مُحدداته التاريخية والوجودية والثقافية الخاصة، وصياغة منظورٍ تأويلي تركيبي تتقاطع فيه مُكوِّنات التأويل الإسلامي والأنثربولوجيا والهيرمونيسيا والسيميائيات التأويلية والتحليل النصِّي بمختلف توجُّهاته البِنيوية والتداوُلية وغيرها، من ناحيةٍ ثانية.

إن منطلقنا النظري المُحدَّد يتمثَّل في أن ثمَّة علاقةً صميمةً بين الجسم والصورة (ومن ثمَّة بين الجسم والتصوُّر والخيال) والمقدَّس، تجد أصلَها في ذاكرة اللغة العربية وامتداداتها في التصوُّر الإسلامي للجسد ولمُكوِّناته. هكذا عمَدنا إلى التحليل التركيبي لهذه العلاقة والكشف عنها في النصوص المؤسِّسة لذلك التصوُّر ومتابعتها في عموم الثقافة العربية الإسلامية القديمة، وفي بعض مظاهرها التي احتفظَت بها لنا ذاكرةُ تلك الثقافة؛ لذا فإن المفترضات التي ننطلق منها تتمثل في:

  • (أ)

    أن الجسد محدد أساس تنهض عليه الممارسة الإيمانية للمسلم، وأن الجسد النبوي غدَا أنموذجًا قِيَميًّا وسلوكيًّا، في هذا المجال، لا يقلُّ قيمةً عن النموذج الخطابي النبوي في بناء الصورة العامة لإيمانية المسلم.

  • (ب)

    أن الجسد الإسلامي جسد مُتخيَّل بقدْر ما هو واقعي. إنه جسدٌ ثقافي يتبلور في صُلب تمظهرات المقدَّس، بل إنه أحد تمظهراته الأساسية، سواء في خاصيته الجمالية أو الجنسية أو الرمزية.

  • (جـ)

    أن هذا الطابع المقدَّس والمتخيَّل قد تجذَّر ثقافيًّا، فغدَا يُبلوِر نماذجه الجمالية؛ بحيث بدأ ينزاح مع تطوُّر الثقافة العربية الإسلامية عن المقدَّس الديني، بالتدريج، ليجد في المتخيَّل الاجتماعي والبلاغي والأدبي حريةَ تطوُّره.

٢

يبدو، منذ البدء، أن ثمَّة صعوباتٍ منهجيةً ومعرفيةً كبرى تقف وراء كل تعاملٍ تحليلي مع الجسد في الإسلام؛ أولًا: لأن الأمر يتعلق بكيانٍ إشكالي يغدو من الشائك تجريدُه من سياقه الشرعي، وثانيًا: لأن الكتابات القليلة في هذا المجال تنحو باتجاه التركيز على قضية الجنس والعلائقية الجنسية، سواء من منظور ذي منزعٍ نسائي أو من منظورٍ سوسيولوجي وتاريخي يقع تحت فتنة موضوعه، أو من منطلقٍ صحفي أكثر منه علميًّا.٢ ولأن الأمر كذلك فإن دراسة الجسد في الإسلام تشبه البدعة في مجال الدراسة الأنثربولوجية والأدبية والمعرفية، وتتسم بالمغامرة في مضمارٍ بِكر لا يزال يحتاج إلى الانفتاح المنهجي المطلوب، وإلى التفاعُل المعرفي الضروري.

بَيْدَ أن ما يُهوِّن من الأمر هو كونُ دراستنا هذه تتعامل مع خطاباتٍ لها منطقُها اللغوي والتاريخي، ولها درجة تخييليَّتها وممارساتها الأسلوبية. وهو الشيء الذي يُبعدنا عن الدقة التاريخية، ويُقرِّبنا من الدراسة الأنثربولوجية التحليلية والسيميائية، ويحوِّل الخطاب الثقافي من البحث عن حقيقة الجسد (إذ الجسد لا حقيقة له)، إلى البحث عن نوعيات صياغته الثقافية التي يتداخل فيها، بقدْرٍ كبير، الخطابُ التخييلي ببلاغته وأسلوبيته واستيهاماته، والحقيقةُ التاريخية بوصفها واقعةً ثابتةً ومُؤرَّخة. إن الجسد إذا كان لا يملك حقيقة، فهو مع ذلك يملك تاريخًا، هو ذلك التاريخ الجهوي الذي دعَا إليه مشيل فوكو، وجاك دريدا، بوصفه تاريخًا لا يتسم بالشمولية بقدْر ما يتسم بالخصوصية والانغراس في تربة الوعي واللاوعي الجماعي الذي يسم مراحلَ مُعيَّنة. من هنا، فإن دراستنا هذه بقدْر ما تُعيِّن جسدًا قابلًا للتحديد التاريخي بقدْر ما تمنح له طابع اللاتحدُّد، باعتبار قضايا الجسد تخترق الديني والتاريخي والاستيهامي والحميمي الشخصي الذي يقبل الحكي والحكاية (ومن ثمَّة علاقته بالتاريخ كحكاية وحكي)، ويتعالى بشكلٍ ما على التأريخ.

إن هذه الخاصية هي التي تُنبئنا عنها مُقدِّمات المصادر الأساسية التي سنعتمدها في هذه الدراسة؛ إذ يكفي تصفُّحها السريع للوقوف على الحرج الذي أصاب أصحابَها في تناولهم لقضايا الحبِّ والعشق والوصال. فهذا ابن حزم الأندلسي يقول، بعد أن يشرح للقارئ أن طوق الحمامة ثمرة طلب صديق وجد لديه بعض القبول: «ولولا الإيجاب لك لما تكلَّفتُه، فهذا من العفو، والأولى بنا مع قِصَر أعمارنا ألَّا نصرفَها إلا فيما نرجو به رُحب المُنقلَب وحُسن المآب غدًا.»٣
إن هذا التردُّد إن كان يكشف عن هامشية الموضوع، فهو من جهةٍ أخرى ينمُّ عن الصعوبات الواقعية والأدبية والشرعية الفقهية للكتابة فيه. لذلك لن يلبث ابن حزم أن يحفَّ كتابه باعتبار مرتبة الحبِّ الإلهي هي الأفضل، وبأن أحسن مَن وُصل حبيب رُضيَت أخلاقه وحُمدَت غرائزه، وبأن الوصال وصالٌ محدود لا يتمُّ فيه استهلاكُ الجسد كاملًا، وبأن الحكايات الفاضحة القليلة التي يتضمنها الكتاب إمَّا مُبرَّرة في سياقها أو منعوتٌ أصحابُها بالساقطين. ولكي يتمَّ تبريرُ هذا الالتباس الذي يسم موضوعًا من هذا القَبيل بالنسبة لفقيهٍ نبيه، يسوق ابن حزم قولًا دالًّا لأبي الدرداء: «أجمُّوا النفوس بشيءٍ من الباطل ليكون لها عونًا على الحق.»٤

أمَّا صاحب «مصارع العشاق»، فيصوغ هذا الالتباس على النحو التالي:

كتابُ مصارعِ العُشَّا
قِ من عربٍ ومن عجمِ
ليَعتبرَ الخليُّ بما
لقُوا شكرًا على النعمِ
مُصنِّفه عفيفُ هوًى
مَصونٌ غيرُ مُتَّهمِ
ويُعلِّق ناشر كتاب السراج: «ورواياته خليطٌ من جاهلي وإسلامي وأموي وعباسي، وكلها نزيهٌ يسوده العفافُ وخوفُ الله …»٥
وإذا كان الأمر هكذا مع السرَّاج، فإن هذا الانفصام بين الذات الكاتبة وموضوعها مريب بعض الشيء، فهل يتعلق الأمر بصيانة صورة المؤلِّف،٦ أم أنه يتعلق بسُلطة الخبر ومطابقة المتلقِّي له مع راوِيه؟ أم أن ثمَّة خوفًا مريعًا من قول الحقيقة عن الجسد والوصال،٧ يتمُّ مداورتُه باللعب (الجِدِّي طبعًا) على التباس العمل العلمي الأدبي؟
كيفما كان الأمر، فثمَّة استراتيجيةٌ خطابية تتبدَّى في صورتَين اثنتَين؛ الأولى وهي التي تطرَّقنا إليها، ويتمُّ فيها المزاوجة (المُقنِعة واللاواعية) بين فتنة الموضوعات المتصلة بالعشق والجسد، والكتابة في هذه المسائل على حدِّ الفتنة والواجب الفقهي. والثانية وهي التي نجدها جليةً لدى ابن قيم الجوزية، وتتمثَّل في ربط الحديث عن المَحبَّة بطاعة الخالق، وتعميم المَحبَّة لكي تشمل الوطن والله والأوثان والإخوان والسُّلوان والصبيان والأثمان … إلخ.٨ بهذا الشكل يكسب هذا المنظور لنفسه شرعيةً عامةً في الحديث عن المَحبة، ويمنحها طابعًا قُدسيًّا وكونيًّا، متجاوزًا التذبذب الذي لاحظناه لدى ابن حزم والسراج، مقتربًا ممَّا نجده لدى داود الأنطاكي٩ وابن أبي حجلة التلمساني الذي حوَّل الموضوع إلى قضيةٍ أدبيةٍ محضة.١٠ هكذا يتزاوج في هذا الإطار التوجيهُ والوعظُ بالاختبار والتحليل، تبعًا لثنائية الموضوع نفسه وطابعه الملتبس.
إن تتبُّعًا بسيطًا للآيات القرآنية والأحاديث النبوية المخصَّصة للجسد والمرأة ومسائل النكاح، ونظرةً خاطفةً على كُتُب الآداب المتخصصة،١١ وكذا تصفُّحًا سريعًا لما تُخصِّصه كُتُب اللغة والفروق لأسماء الجسد. وما تداوَله العرب من أخبار النساء،١٢ وكُتُب علم الباه؛١٣ ليؤكِّد على الحُظْوة الخطابية التي تمتَّع بها موضوع الجسد بوصفه موضوعًا لغويًّا وشرعيًّا وأدبيًّا، لا بوصفه موضوعًا اجتماعيًّا وإنسانيًّا. وربما كان هذا الواقعُ هو ما دفع أحد أوائل المُهتمِّين الحديثين بالمسألة إلى التصريح بأن «موقف العرب من الجنس كان كله حريةً وانطلاقًا؛ فما كانوا يتحرَّجون من الحديث عن المرأة والجنس ومن التأليف فيهما. وأعتقد أن حريَّتَهم هي التي سبَّبَت التزمُّت الذي نجده اليوم.»١٤

هل يتعلق الأمر فعلًا بحريةٍ خطابيةٍ عامة أم بشروخ وانفلاتات تُخلخِل منطلق الخطاب الذي يؤطِّر الحديث عن الجسد؟ أم أن الأمر يتعلق بحريةٍ ملتبسة ومشروطة بمُقدِّماتها الفقهية أو الإباحية في الغالب الأعم؟ ذلك ما تقودنا إليه الفِقرات السابقة. إن هذا الواقع الخطابي هو ما يجعلنا نُلِحُّ على ضرورة دراسة قضايا العشق والجنس ضمن إشكالية الجسد العامة، وباعتبارها ممارساتٍ جهويةً له، من جهة، والنظر العميق لطبيعة العلاقة بين تلك الممارَسات وخلفيَّتها القدسية المُعلَنة والمُضمَرة من جهةٍ أخرى. أمَّا الفرضية الأساس التي ننطلق منها هنا، والتي تُحدِّد منظورنا الفكري والتحليلي لما نُسمِّيه تجاوزًا «جسدًا إسلاميًّا»، فهي تخييليَّته النابعة بالأساس من الصياغات الخطابية المتعددة من ناحية، والأنموذج الاجتماعي والذهني الذي تنطلق منه.

إن الطابع المتخيَّل للجسد هو ما حذَا بنا إلى دراسته، أولًا وقبل كل شيء، باعتباره مُكوِّنًا خطابيًّا ومعرفيًّا للثقافة العربية، وباعتباره، من ناحيةٍ ثانية، مُكوِّنًا ثقافيًّا تنهض عليه معرفة حاضر الخطاب الثقافي على الجسد في الثقافة العربية المعاصرة. وليس يخفى أن غِنى وتداخُلات والتباسات ثقافتنا العربية القديمة، وكذا تحوُّلاتها التاريخية ونوعية تطوُّراتها، تُشكِّل مجالًا خصبًا لتلمُّس الأسُس التي تتحكم في تصوُّراتنا الراهنة لمُجمَل القضايا الشائكة المطروحة علينا في ممارستنا الثقافية العامة. من هذا المنطلق لا يزال تاريخ الثقافة العربية بحاجةٍ إلى التخلص من المنزع التاريخي، لمعانقة رحابة وزخم المعطيات المعرفية والمنهجية الجديدة التي تتبلوَر في حِضْن العلوم والمعارف الراهنة، وهو الأمر الذي لا يتحقق إلا بطَرق الموضوعات الجديدة وفق ما تمليه على الدارس من منظورات وتساؤلات ليست أقلَّ جِدَّة. إن هذا الترابط بين الموضوع والمنظور الفكري لا يُغفِل مع ذلك ضرورةَ إعادةِ دراسةِ مُجمَل القضايا السياسية والفكرية العربية وفْق هذه التطورات المعرفية نفسها.

١  منذ نَشْر هذا الكتاب، وترجمة كتابات دافيد لوبروطون وميرلوبونتي عن الجسد، وظهور الدراسات الثقافية والنوعية (الجندرية)، يمكننا القولُ إن الجسد (كما الصورة) صارَا موضوعَين هامَّين، سواء في الكتابات النقدية الأدبية أو البحوث الأكاديمية.
٢  نعني بالمنظور الأول كتابات الباحثة المغربية فاطمة المرنيسي، الأولى بالأخص، وبالثاني كتابات الباحث التونسي عبد الوهاب بوحديبة، وبالثالث كتابات الصحفي والأنثربولوجي الجزائري مالك شبيل، وكلها أُنجِزَت أصلًا بالإنجليزية والفرنسية.
٣  ابن حزم الأندلسي، «طوق الحمامة»، ضمن رسائل ابن حزم، تحقيق إحساس عباس، دار الأندلس، بيروت، ١٩٨٠م، ج١، ص٨٦.
٤  نفسه، ص٨٦.
٥  أحمد بن الحسين السراج، «مصارع العشاق»، دار صادر، بيروت، ب.ت، ج١، ص٥ و٩.
٦  أم بنظير له، كما جاء بذلك ع. الفتاح كليطو، «الكتابة والتناسخ»، دار التنوير، المركز الثقافي العربي، بيروت، ١٩٨٥م.
٧  M. Foucault, Histoire de la sexualité I, Gallimard, Paris, 1976, p. 76.
٨  ابن قيم الجوزية، «روضة المُحبين ونزهة المُشتاقين»، ت. السيد الجميلي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط١، ١٩٨٧م، ص١٧.
٩  «تزيين الأسواق في أخبار العشاق»، مكتبة الهلال، ١٩٨٦م، ص٨.
١٠  «ديوان الصبابة»، منشأة المعارف، الإسكندرية، ١٩٨٧م.
١١  انظر مثلًا: البيهقي، «الآداب»، مؤسَّسة الكتب الثقافية، بيروت، ط١، ١٩٨٨م.
١٢  راجع مثلًا: الأصمعي، كتاب «الفَرْق»، دار أسامة، بيروت، ١٩٨٧م، خاصةً الفصل المتعلق بما خالف به الإنسان البهائم، ص٥٥. وكذا: ابن قيم الجوزية، «أخبار النساء»، دار الكتب العلمية، بيروت، ط١، ١٩٩٠م.
١٣  انظر بهذا الصدد: عبد الكبير الخطيبي، «الاسم العربي الجريح»، ترجمة محمد بنيس، دار العودة، بيروت، ١٩٨٠م؛ حيث يُلِحُّ على ازدواجية خطاب الشيخ النفزاوي وتأرجُحه بين موقع الجسد وموقع الفقه، ص١٠٢.
١٤  صلاح الدين المنجد، «الحياة الجنسية عند العرب»، بدون ذكر دار النشر، ط١، ١٩٥٨م، بيروت، ص٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤