بمثابة خاتمة

بين الواقعي والخطابي ثمَّة تواطؤٌ تاريخي يختزل بموجبه هذا الأخير المعطيات، ويُحوِّلها تبعًا لمنطقٍ داخلي يلعب فيه الخيال البشري دورًا مركزيًّا. هكذا، إذا كان الجسد الإسلامي قد تبلوَر في مُجمل الممارسات الشعائرية التي توجِّهه وفقًا لقواعدَ وخلفياتٍ دينية قدسية ورمزية معيَّنة، فإن طابعه الرمزي ذاك الذي نلاحظه في الجانب العبادي الشعائري هو نفسه الذي يستحوذ على إحدى القضايا الأساسية في التصوُّر الإسلامي للوجود؛ أي الجمال.

يتصل الجمال بضروراتٍ إلهية قدسية، وليس تمظهره الإنساني سوى تعبير عن ذلك. بَيْدَ أن هذا الترابط يكتسب واقعيته، ويا للمفارقة! من صيَغه الخطابية؛ لذلك يُمكِن القول بأن الصيَغ الخطابية التي تبلوَر فيها الحس الجمالي والأنموذج المرافق له خضَعَت للعمليات التالية:

  • (١)

    صياغة أنموذجٍ بلاغي تصويري تم تداوله شعرًا ونثرًا، ومنحه طابعًا كونيًّا ورمزيًّا.

  • (٢)

    صياغة أنموذجٍ دينيٍّ قدسي للجمال يرتبط بالزواج، والخصوبة والإنجاب من جهة، وبالمرامي الثوابية التي تُرجى منه. هذا الأنموذج لا يختلف عن الأول إلا في مقاصده المباشرة، وخُلوِّه من البلاغة وأقانيمها التشبيهية.

  • (٣)

    تبلور رأسمالٍ معجميٍّ خاص بالجمال والجسد. إن هذا المعجَم، وإن كان يهدف في بُعده المباشر إلى تسهيل تسمية الأشياء بمسمَّياتها الدقيقة، إلا أنه لم يُلغِ مع ذلك تناميَ الصياغات البلاغية للجسد، التي تشكِّل المجال الذي يعكس تطوُّرات الأنموذج الجمالي.

وبالفعل، فإن تغيُّر الصور وتحوُّلها واعتمادها على مكوِّناتٍ جديدة، هو ما يشكِّل مقياس ذاك التطور ونوعية التغيُّر الحاصل في تداول الجمال والوعي به خطابيًّا وواقعيًّا. إن طبيعة العلاقة بين الأنموذج القدسي للجمال والأنموذج البلاغي تُنبئ باعتماد الأول على الفاعلية الثوابية، بالرغم من أنه يتخذ من الجمال الجسدي أساسًا لا متغيرًا. أما الثاني فإن طابعه التخييلي ينبُع بالأساس من مثاليته الواضحة التي تعبِّر، في حقيقة الأمر، عن استيهامات الإنسان العربي، وعن أسطَرته للجسد. بَيْدَ أن التواصُل بين النموذجَين لا ينعدم مع ذلك، فإذا كان الجمال القدسي جمالًا من أجل الآخر، محكومًا بمدى فاعليته الثوابية، فإن مستتبعاته الواقعية تكون ذات أهميةٍ خاصة. ذلك أن التجمل الأنثوي والذكوري يغدو في هذا الإطار، واجبًا دينيًّا مقدسًا، والاهتمام بالجسد والذات جزء لا يتجزأ من الممارسة الإيمانية للمسلم؛ من ثَم يُمكِن القول بأن المقصد الاجتماعي للجمال والزينة هنا يترابط مع المقصد الاجتماعي العلائقي للنموذج الجمالي البلاغي، ويتقاطع معه.

وبما أن الطابع القدسي الرمزي للأنموذج الجمالي، الذي تبلوَر في حِضْن التعاليم الإسلامية، جزءٌ لا ينفصل عن التصوُّر العربي للجَمال الذي تم بناؤه منذ الجاهلية، يُلغيه في بعض جوانبه ويتلاقى معه في بعض مكوِّناته، فإن سعة الأنموذج البلاغي وطابعه الاجتماعي الثقافي يجعلان منه، في الآن نفسه، أنموذجًا واقعيًّا وغير واقعي. وفي ثنائيته تلك يتشاكل في بِنْيته مع نظيره القدسي، لكن الاختلاف الأساس يتبدَّى في كون الأنموذج البلاغي يخضع مبدئيًّا للتغيُّر، فيما يعتبر الأنموذج القدسي نفسه فوق كل التبدُّلات الواقعية الممكِنة.

وإذا كان الأنموذج الجمالي القدسي يركز على المعطيات الجمالية المركزية والعامة، من لباس وطهارة جسدية وتطيب، وسواك … إلخ، ويُعلِن عن نفسه من غير دخول في تفاصيل الجسد الذكوري والأنثوي، فإن الأنموذج البلاغي بتصويريته تلك يمنح للرؤية جسدًا تشكيليًّا بتفاصيله الظاهرة والدفينة، وكذا بذكرٍ غير محتشم للأعضاء الجنسية. إن هذه الحرية اللسانية تجعل من البناء المزدوج للأنموذج البلاغي أقربَ بكثير من الجسد المحسوس، وأكثر بُعدًا عنه، وقُربًا من المثال المتصوَّر والخيالي. ولعل هذا الازدواج هو الذي يكمُن وراء تطوُّر مظاهر الزينة والتجمُّل في المجتمع الإسلامي الوسيط، متجاوزًا بذلك عناصر «الفطرة»، التي تم التركيز عليها في الأنموذج القدسي.

ولأن التركيز في الزينة يتم في الوجه، وأن هذا الأخير موطن الحواس، فإن البُعد الإغوائي للزينة يبدو واضحًا. فتجميل العينَين وتركيز ملامح الوجه بجميع التقنيات المعروفة تجعل من الجمال قيمةً اجتماعية، ومن الجسد رأسمالًا ذاتيًّا يتم تصريفهما في الوسط الاجتماعي وعلاقاته؛ لذا، فإن تطوُّر تقنيَّات التجميل يعبِّر عن تطوُّر في الوعي بالجسد، وموقعه الاجتماعي. كما أن الهدف الثاوي وراء ذاك التطوُّر يعبِّر عن رغبة في امتلاك الجسد، وتحويله من جسدٍ طبيعي (أو فطري)، إلى جسدٍ ثقافي كلية، تتمحور حوله مجمل التواصُلات الحميمة ومظاهرها الخطابية من حكاية وأشعار وممارسات.

يمكِن التأكيد، إذن، أن الاهتمام بالجمال الجسدي في المجتمع الإسلامي الوسيط قد ارتبط بخلفيةٍ قدسية، من جهة سهرَت على توجيهه، ووضع حدودٍ واضحة لمعطياته الجمالية، وبممارسةٍ بلاغية خطابية رسمَت الملامح العامة لأنموذجٍ جمالي جسدي وجدَت فيه استيهاماتُ الإنسان العربي مجالًا خصبًا لقولها، وحوَّلَت الجسد من ثَم إلى كيانٍ متخيل يغذِّي تلك الاستيهامات، ويؤجج اللاوعي المتصل بها، وأخيرًا باشتغال على التقنيات الكفيلة بتغيير الجسد عَبْر الزينة، وتحويله إلى جسدٍ جمالي.

بيد أن ما حاولنا العمل على طرحه، من منظورٍ تركيبي، يتعلق بكون البناء الثقافي للجسد وقضاياه الجمالية يصُب صبًّا في الخيال والمتخيل، اجتماعيًّا كان أو فرديًّا. هذا بالضبط ما تختزله بشكلٍ خاص مسألة الصورة في الإسلام. فليس اعتباطًا أن يكون مفهوم الصورة ذا علاقةٍ لسانية ودلالية وثيقة بمفهوم الجسد. كما ليس من قبيل الصُّدفة أن تكون المشكلات التي عانت منها الصورة (إضافةً إلى ارتباطها بالخاصية التقديسية للأوثان) تعود، في جانبٍ هامٍّ منها، إلى ما لها من صلةٍ بالتجسيم والتشخيص؛ أي تصوير الجسد سواء كان واقعيًّا أو خياليًّا. إن إعادةَ طرحِ ما سُمِّي في الأدبيات الاستشراقية بتحريم الصورة في الإسلام قد مكَّنَنا من وضع مسألة الصورة في سياقٍ عام هو مسألة التجسيم والتجسيد والجسد، من جهة، وأتاح لنا توسيعَ مفهومِ الصورة لتشملَ الصورةَ الواقعية والخيالية في الآن نفسه، مما قادنا إلى تقويضِ مقولةِ التحريم، ومنح الخصوصية التي تعيشُها الصورة في العالم العربي الإسلامي خصوصيتَها الثقافية ضمن مكوِّنات الثقافة العربية وآليات اشتغالها الخصوصية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤