(١) الجسد: هل هو مكبوت الثقافة الإسلامية؟
ظلَّ الجسد الإسلامي يعيش حالة تغييبٍ متعدِّد من مجال الدراسات التي تطرَّقَت
للتاريخ الإسلامي نصًّا ومجتمعًا، سواء من منظور أنثربولوجي أو تاريخي أو أدبي. من
ثمَّة ساد تمثُّل الجسد تارةً في علاقته بالسلوك الإيماني للمسلم في بُعده الديني
واليومي، وأخرى في بُعده الآدابي (علمًا أن الأدب في مفهومه الأصلي كان يعني كل
مُقوِّمات السلوك والتفكير الأمثلَين). كما تمَّ البحثُ فيه تارةً أخرى ضمن التراتُبية
الثنائية العتيقة للروح والبدن، ليغدوَ هذا المجالُ أفضلَ موطن وأكثره ملاءمةً للبحث
عن
تصوُّرٍ إسلامي للجسد. ولم ينعَم الجسد ببعض الحضور إلا في عمومية الجسم الكلامي
والفلسفي الذي يجتمع فيه الجسد الإنساني والأفلاك، وكل ما له هندسةٌ طويلة، وعرضية،
وحجم ووزن.
١ وكذا في الأحكام المتعلقة بالنكاح والنظافة والطهارة. وفي الشعر الغزَلي
سواء كان عذريًّا أو «ماجنًا».
هكذا توزَّعَت هذه المباحث والقضايا موضوعًا لم يُنظر إليه إلا باعتباره ظاهرةً
توسطيةً تُعتبر أحيانًا وعاءً للروح المحركة، وتشكِّل في حالةٍ أخرى موطنَ نوازعَ غريبة
وطبيعية يلزم ضبطُها وإعادة تشكيلها. ولأن الجسد مثَّل دائمًا تلك الكتلة المادية
المُشخصة التي تميز الكائن الإنساني صورة، ولا تميزه وجودًا إلا عَبْر المُكوِّنات
الإدراكية والنفسية والسلوكية الاجتماعية، فإن الاهتمام انصبَّ دائمًا، سواء في النصوص
الدينية أو في النظرية الأخلاقية والفلسفية،
٢ على ما يتمُّ النظرُ إليه باعتباره «هُويَّة» الجسد، سواء تعلَّق الأمر
بالنفس أو الروح أو العقل والقلب … إلخ. إن هذا التفكير الإلحاقي يجد تبريره في
البِنْية العامة للثقافة العربية الإسلامية، وفي مفاهيمها الأساسية التي تحكَّمَت في
تطوُّرها فكرًا وممارسة، ثقافةً وسياسة، والتي لم يُخصَّص فيها للجسد سوى مكان المنفعل
والمحجوب والمكبوت؛ بحيث يسهُل علينا القولُ بأن الجسد ظلَّ، في حدودٍ مُعيَّنة وتبعًا
للمجالات التي نودُّ فيها الحديث عنه، مكبوت الثقافة الإسلامية أو على الأقلِّ موضوعها
المُهمَّش والمُقنَّع.
إن هذا التهميش يبدو لنا مزدوجًا وذا وجهَين من الناحية التاريخية؛ إذ هو تهميش
مارسَته الثقافة العربية الإسلامية «الكلاسيكية»؛ لأنه في أحسن الأحوال ارتبط لديها
بقضايا روحانية، وفقهية، وطبية وأدبية. وبهذا لا يدخل الجسد مجال الخطاب إلا بوصفه
موضوعًا طارئًا وعرَضيًّا؛ لذا ظلَّ الجسد وقضاياه موضوعًا ممكنًا أو مؤجلًا؛ لأنه لم
يحظَ إلا بأهميةٍ جزئية. كما أنه من ناحيةٍ أخرى تهميش مارسَته الثقافة الحديثة
والمعاصرة، بنفس الجدَّة وتبعًا للاستراتيجية والمقاصد نفسها. إن هذا يعود في جانب منه
إلى تأخُّر الدراسات التاريخية العربية ذات المنحى السوسيولوجي والأنثربولوجي، بل أيضًا
إلى الأولوية التي ظلَّ يحتفظ بها الأيديولوجي والسياسي في حقل ثقافتنا المعاصرة. وكذا
إلى الارتياب والحذَر اللذَين قُوبِلَت بهما العلوم الإنسانية من قِبل الباحثين،
وبالأخصِّ منها الأنثربولوجيا والتحليل النفسي.
بَيْدَ أن هذا الإلحاح من جانبنا على موضوع الجسد لا يعني أننا ندعو له بكيانٍ مستقل
معرفيًّا وأنطولوجيًّا؛ فالجسد منفتح باستمرار على ما يتجاوزه،
٣ وهو بذلك كيان ثقافي،
٤ يتبلور فيما يربطه بالظواهر الأخرى لا فيما يفصله عنها؛ لذا، وما دام
الإنسان موضوعًا مشتركًا بين عِدَّة علومٍ إنسانية، فإن الجسد بدَوره موضوع ومبحث
تتقاطع فيه عِدَّة ممارساتٍ منهجية وعلمية ومعرفية. إضافةً إلى ذلك، فإن الحديث عن
الجسد بوصفه موضوعًا معرفيًّا مستقلًّا يشكِّل، بصورةٍ ما، إحياءً للثنائية العتيقة
للنفس والجسد، وانصياعًا لطابعها الميتافيزيقي الصارم. ولو سلكنا في ذلك طريق القلب
وأمسكنا بها بطرفها الآخر؛ ذلك أن طرفَي التناقض يحافظان على البنية نفسها من هذا
الموقع أو ذاك. إن ما نعنيه باستقلال الجسد هو الاستقلال الخطابي القَمين بتحريره من
الإلحاق، من غير أن يعزلَه عن ارتباطاته، بل من غير أن يجعل منه النقيضَ المباشرَ للروح
والروحاني؛
٥ فالجسد بوصفه كيانًا ماديًّا، وظاهرة تربط الإنسان بالعالم المحسوس، قد بدأ
يأخذ في السنوات الأخيرة موقعَه ضمن التجربة الإنسانية المعرفية إلى درجةٍ بدأ معها من
الممكن الحديث عن فكرٍ للجسد.
٦
لكن، وقبل الدخول في تحديد عوائق البحث في الجسد الإسلامي من حيث هو موضوعٌ معرفيٌّ
خصوصي، سيكون من الضروري تحديد ما نعنيه بمقولة «الجسد الإسلامي». إن هذه الصفة ذات
طابعٍ تاريخي ومعرفي؛ فالجسد الإسلامي مفهومٌ جامع للعناصر النصِّيَّة والواقعية،
المُتخيَّلة والتاريخية بصدَد الجسد، بهذا يكون الجسدُ الإسلامي نتاجًا لمختلف
مُكوِّنات هذه الثقافة، لا فرق في ذلك بين التصوُّرات السائدة والهامشية، ولا بين
الفقهي والكلامي والتصوفي والفلسفي والشعبي والعالم.
٧
يُمكِّننا هذا المنظور من تجاوز ثنائية النصِّ والتاريخ الإسلاميَّين وتقويض التعارض
بين العقلي واللاعقلي والواقعي والمُتخيَّل. هكذا فإن الانطلاق من النصوص المؤسِّسة
يغتَني بشُسوع وعُمق التجربة التاريخية. ولنا هنا في مسألة التصور الإسلامي نموذجٌ
واضح؛ إذ سوف تقوم التجربة التاريخية، ومعها انتشار التصوير بجميع أشكاله من الزخرفة
إلى المُنمنمات إلى الخط والتجسيم، بتعميق المنفتحات التي بلورَتها النصوص التشريعية،
وتُغنيها بمعطياتٍ تتجاوز بكثيرٍ المعطيات التي حدَّدَتها وسنَّتها.
٨ وإذا كان الجسد الإسلامي قد تحدَّدَت صورتُه في النصوص الإسلامية الأساسية،
فإن التطورات الأدبية والاجتماعية والتاريخية اللاحقة سوف تمنح له ديناميةً جديدةً
تؤكِّد أن الجسد لا يمكِن أن يخضع للتشريعي فقط، وأنه بوتقة تجربةٍ وجودية وخطابية
تنغرس في تربة الكيان الثقافي والاجتماعي للإنسان العربي، وتخضع للتطوُّرات التي تطرأ
على تصوُّره للعالَم، وعلى ممارسته الثقافية الاجتماعية.
بَيْدَ أن مقولةً من قبيل هذه، لا يُمكِنها أن تمنح نفسَها للتحليل من دون توضيحٍ
لمفهوم الجسد ذاته، خاصةً وأن الصورة التي نملكها عنه لا تزال مشدودةً إلى الأرضية
الدينية والقدسية التي ترعرَعَت فيها؛ من ثَم يغدو من الضروري استيضاحُ علاقته بمفاهيمَ
من قَبيل الوعي والنفس والذات، حتى يكون مدخلُنا لمساءلته في حقل الثقافة الإسلامية
متصلًا اتصالًا وثيقًا بموقعنا المعرفي الراهن ومنفتحاته الإبستمولوجية.
لنقُل بدءًا إن العلاقة بين الجسد والوعي ليست علاقةً برَّانيَّة؛ فالجسد ليس الموضوع
السلبي لوعيٍ نشيط يفعل فيه من خارجه؛ فكما لا يُمكِن أن نختزل النشاط الجسدي في علةٍ
خارجة عنه تكون موجهةً كليةً لانفعاله، لا يُمكِننا أن نُرجِع بعض الأفعال الجسدية إلى
الآلية الجسدية وأخرى إلى الوعي؛ فالجسد والوعي لا يحدُّ أحدهما الآخر، إنهما لا يمكن
أن يكونَا متوازيَين. والوعي هو الوجود إلى الشيء عَبْر الجسد، أو كما يوضِّح ذلك
ميرلوبونتي: «إن تجربة الجسد تجعلنا نتعرَّف على فرض معنًى ليس هو فرض الوعي الكوني
الذي يُوجَد وراء الأشياء. إنه معنًى يتشاكل مع بعض المضامين؛ فجسدي هو هذه الأداةُ
الدالة التي تتصرَّف بوصفها وظيفةً عامة، ومع ذلك تُوجَد وتتعرَّض للمرض؛ ففيه نتعلم
معرفة عقدة الوجود هذه، وهذه الماهية التي نجدها عمومًا في الإدراك.»
٩
إن عدم خضوع الجسد للوعي يؤكد مرةً أخرى لغزية الجسد، من جهة، ولا تحدُّد وغموض
الوجود ذاته.
١٠ ذلك أن هذه الكتلة اللحمية التي تغدو موطن علاقة الذات بالعالَم هي ذاتُنا
وأنانا الطبيعية وجسدُنا الشخصي، وهي من ثمَّة مرآة وجودنا، إلى درجةٍ لا نعرف معها إن
كانت القُوى التي تحملنا وتجرفُنا في حياتنا اليومية هي قُوى الجسد أم قُوانا أم أنها
ليست قُواه ولا قوانا كلية. يؤدِّي بنا كل هذا إلى التفكير في الجسد، لا كطبيعة، وإنما
كبِنية مُتكوِّنة من مجموعة من العمليات ذات الطابع الإدراكي الوجودي؛ فعالَم الإدراك
هو الذي يميِّز ما بين الطبيعي والثقافي في الجسد، وهو الذي يمنح للأفعال والإدراكات
الجسدية طابعَها الرمزي والوجودي؛ فهناك علاقة قرابة بين وجود الأرض ووجود جسدي الذي
لا
أستطيع القول عنه إنه يتحرك؛ لأنه يُوجَد دائمًا على المسافة نفسها مني، وهذه القرابة
تمتدُّ لتطال الأجساد الأخرى.
١١
يُمكِّن هذا التعالق بين جسد الإنسان وجسد العالم — عَبْر مقولة الإدراك — من إعادة
النظر في ثنائيةٍ أخرى، هي الروح أو النفس والبدن. وإذا كان هنالك من علاقة بين المظهر
النفسي والمظهر الجسدي حاول التحليل النفسي توضيحها، فإن ذلك قد تمَّ بإعطاء الأهمية
للقاعدة البيولوجية أو الأساس الفيزيقي للجانب النفسي؛ فمفهوم صورة الجسد، بوصفها
الخطاطة التي تحدِّد مبدئيًّا وعي الذات بوجودها الجسماني الأوَّلي في العالم، تتكئ على
ما يُسمَّى في التحليل النفسي بالأنا الجسدي،
١٢ الذي يُمثِّل مرجعًا للأنا النفسي. أمَّا التمييز بينهما، كما يفعل ذلك د.
أنزيو، فليس سوى تمييزٍ إجرائي، يُمكِّن من القول بأن «الجسد ليس أنا سطحيًّا للجهاز
النفسي، وإنما أنا جسدي موضوع للغرائز.»
١٣ وإذَن فلا فاصل بين العضوي والنفسي، وإنما ثمَّة وحدة للجسد، بها وعَبْرها
يُمارِس وجوده، ويتمُّ إدراكها من غير أن يتمَّ اختزالُها في الإدراك؛ لأنها ترتبط
بالإدراكات والتعبيرات والأفعال الجسدية.
وإذا كان النفسي يحيَا ويجد فضاءه في الجسدي، ومعه يعيش الوعي في الأشياء والظواهر،
فإن مشكلة النفس والجسد تتبع بالضرورة هذا المسار. إن النفس تتواجَد بهذا المعنى في
الطبيعة والطبيعي ومعهما؛ فالجسد والحياة والروح ليست تشكِّل ثلاثة أنظمة من الوجود
المستقل أو من الواقع، وإنما ثلاثة مستويات من الدلالة أو ثلاثة أشكال من الوحدة، لا
علِّية أو تراتُبية قِيَميَّة بينها؛
١٤ فالجسد ليس آلةً منغلقةً على نفسها يُمكِن للنفس أن تفعل فيه من الخارج،
إنه لا يتحدَّد إلا عَبْر اشتغاله الذي يوفِّر له درجاتٍ مُعيَّنةً من الاندماج. وأن
نقول بأن النفس تُمارِس فعلَها عليه يجعلنا نفترض خطأً بأن مفهومَ الجسد مفهومٌ أحادي،
ونُضيفُ إليه قوةً أخرى تمنحُنا معرفةً بالدلالة الروحانية لبعض السلوكيات، فمن الأفضل
القول في هذه الحالة بأن الاشتغال الجسدي يندمج في مستوًى أعلى هو مستوى الحياة، وبأن
الجسد غدَا حقًّا إنسانيًّا. بالمقابل سنقول إن الجسد قد فعل في النفس، إذا هو منَح
نفسَه لنا لنفهمه بوصفه جدليةً حياتية، أو عَبْر الآليَّات النفسية المعروفة.
هكذا يتبدَّى واضحًا التباس الحدود الفاصلة والوشائج الواصلة بين ما هو جسدي وما
يتجاوزه من حيث هو كذلك. غير أن هذا يعني أن الجسد ليس كيانًا منغلقًا في ماديته
الخالصة، وأنه إضافةً إلى ذلك فضاء من نوعٍ خاص ينفتح على العالَم، ويُضفي عليه من
معاني وجوده. إن الجسد يعيش انفتاحه على المتعاليات التي ترغب في إلحاقه كي يُغيِّب كل
غائية أو سببية مُفترَضة تُريد أن تتحكَّم في وجوده وتُلغيه؛ لذا فإن الجسَد يتسلَّح
هنا بالفكر القابل للانطلاق منه؛ ومن ثمَّة يخلق حوارًا مستمرًّا ودائمًا مع ما كان
يُفترَض فيه أنه مُحرِّك له (الوعي والنفس بالأخص). إن تحوُّل الجسد إلى موضوعٍ فكري
وفلسفي وأدبي قد شكل المنعطَف الذي اندمَج فيه الجسد في التجربة الوجودية والفكرية
والتعبيرية المعاصرة. وهنا من اللازم القول بأن تجاوز الثنائيات التي حصرَت الجسد في
إلحاقيةٍ هامشيةٍ ثانوية لم يكُن له أن يتمَّ من غير تحويل الجسدية إلى موضوعٍ ممكِن
للفكر والتفكير. وذلك بطريقةٍ غير ديكارتية وضمنَ إشكالاتٍ نظرية وفلسفية تفكك منظورها
الآلي.
١٥ من هنا تنبع ضرورة إدماج الجسد في مجال الذاتية بوصفها مقولةً مُحدِّدةً
للذات والأنا والشخص في الوجود.
١٦ إن وجهة نظرٍ كهذه تُمكِّن من منح الحقِّ للجسد في الوجود باعتباره ظاهرةً
تتحد بذاتها لا بغيرها. ولعلَّ التصور الفينومينولوجي للجسد، كما تبلوَر مع مين دو
بيران، ثم مع هوسرل وميرلوبونتي وريكور، هو الذي يمكِّننا من التساؤل عن العوائق
المعرفية والتاريخية التي دفعَت بالجسد إلى الهامش، سواء في حقل الثقافة الإسلامية
«الكلاسيكية» أو في ثقافتنا المعاصرة. ويمكِننا تلخيصُ هذه المثبِّطات فيما يلي:
-
(١)
كون البحث في موضوعات هذه الثقافة لا يتجاوز إلا في النادر الموضوعات التي
أقرَّتها في تطوُّرها التاريخي وحفَّتها بضروراتٍ فقهية أو سياسية أو معرفية؛
لذا فإن تناولها وفْق تراتُبية أهميتها، وتبعًا لمركزية القضايا المحورية التي
تخضع لها، قد رمَى بموضوع الجسد في أسفل السُّلَّم، وتمَّ في أحسن الأحوال
التعامل معه في دلالاته القدسية المحضة؛ بحيث تمَّ تجاهُل الدلالات الرمزية
والمُتخيَّلة التي يفصح عنها، والزخم الذي يُنتجه في كل المجالات. هكذا ظلَّت
الموضوعات التقليدية هي نفسها ذات الحظوة في مجال الثقافة الحديثة والمعاصرة،
وظلَّت الموضوعات السياسية تحتلُّ الصدارة كما كان الأمر من قبلُ، بينما ظلَّت
قضايا المُتخيَّل والتصوُّرات الشعبية والأدب النابع منها موضوعَ تهميش
وتحقير.
-
(٢)
بالعلاقة مع ذلك، وبشكل أكثر حِدةً ونمطية، عزَّزَت الثقافة العربية
الإسلامية ثنائية الجسد والروح. ولأن الإسلام دينُ تنزيه، فإنه قد عضَّد في
جميع المجالات حظوةَ الروح والروحاني، بالرغم من أنه قد ترك فجواتٍ كبرى
وفسحاتٍ مُهمةً للجسدي والدنيوي والشهواني. هذا هو ما يفسِّر الدلالة المرتبطة
بالجسد وبدراسته والبحث في قضاياه، ولو من منظور لا يخرج عن أقانيم التصور
الإسلامي للوجود.
-
(٣)
وكنتيجة لانغراس هذه التراتبية القدسية في نسيج الثقافة الإسلامية؛ بحيث غدَت
تراتُبيةً مؤسِّسةً ومحدِّدةً للتصور الإسلامي للخلق والحياة، ظلَّ الجسد مجال
الغرائز والصبوات التي يلزم كبحُها وكبتُها ومنحُها صورةً تتناغم مع العمل
الإيماني للمسلم.
-
(٤)
تبعًا لذلك يكون الجسد مجرَّد مَعْبَر للوظائف الدينية والدنيوية؛ بحيث ظلَّ
خادمًا للمُقدَّس الإسلامي وسندًا له.
١٧ أمَّا النصوص الفقهية التي منحَت أهميةً مُعيَّنةً لبعض قضايا
الجسد كالحبِّ والنكاح … إلخ، فقد ظلَّت خاضعةً للتصوُّر الطبي أو الفقهي
بالرغم من الأهمية التي تكتسِبها في بلورة تصوُّرٍ عربي إسلامي للجسد. إن
مصنَّفاتٍ من قَبيل هذه، وهي تنضافُ لما تَمَّ تداوُلُه من أخبارٍ خاصة
بالعُشاق والمُجَّان وغيرهم، تُشكِّل المجالَ التكميلي الضروري للبحث عن هوامشَ
ترعرَعَت فيها ممكِناتُ الحديث عن «جسد إسلامي» ممكِن.
-
(٥)
من ناحيةٍ أخرى لم تعترف الثقافة الإسلامية «الكلاسيكية» للكائن الإنساني
بوجودٍ حقيقي فعلي. إنه مجرَّد صورة تُعبِّر عن الخالق البارئ المُصوِّر، وهي
من ثمَّة ليست ذاتًا عينًا، ولا ذاتية لها. كما أنها كيان لا هُويَّة له، خاصةً
وأن مفهوم الهُويَّة، سواء بدلالته اللغوية أو المنطقية، ظلَّ يُعبِّر عن الذات الإلهية.
١٨ وبما أن الجسد جزء من الكيان الشخصي للإنسان، فإن نزع الذاتية
والهُويَّة عنه ومنحَها للخالق يُحيل الإنسان — كما سيرى ذلك المُفكرون
الإسلاميون فيما بعدُ — إلى صورةٍ مُصغَّرة عن الكون.
إن هذه العوامل مجتمعةً جعلَت موضوعة الجسد تندمج بشكلٍ واضح في المعطيات المركزية
للثقافة الإسلامية آنذاك، ويصعُب معها في العصر الراهن اجتثاثُها من هذا النسيج. هذا
هو
ما جعل المُهتمِّين المعاصرين القلائل بقضايا الجسد والمُتخيَّل يعترفون بجِدَّة
الموضوع وطابعه الشائك.
١٩ بَيْدَ أن هذه العوائق لا تمسُّ الثقافة الإسلامية وحدها؛ فالجسد لم يرقَ
إلى مستوى الموضوع الفكري إلا مع ظهور فلسفات الذات، سواء كانت عقلانيةً (ديكارت)، أو
فينومينولوجيةً (مين دو بيران ثم نيتشه وهوسرل وهيدجر وسارتر وميرلوبونتي). بذلك يمكِن
القولُ بأن التفكير في الجسد مرتبط إلى حدٍّ كبيرٍ بالتفكير في الذات والهُويَّة. وبهذا
المعنى فإن فكر الجسد يرتبط ضرورةً بالحداثة الفكرية والثقافية. وبالأخصِّ بجوانبها
الأكثر ابتعادًا عن العقلانية سواء كانت ديكارتيةً أو منطقيةً تحليلية.
(٢) الجسد الإسلامي: مفاهيم وتصوُّرات
إذا كانت الدراسات التي نتوفَّر عليها، والتي تخصُّ إلى هذا الحدِّ أو ذاك موضوع
الجسد في الإسلام، قليلة، فإن الكثير منها قد تعرَّض للجسد ضمن اهتمامٍ عمومي أو في
معرض الحديث عن موضوعٍ جهوي كالجمال والجنس. على أن من بين هؤلاء الباحثين يمكن القول
إن مالك شبيل بالرغم من الطابع الصحفي للكثير من أبحاثه، يُعتبر من بين القلائل الذين
طرحوا السؤال حول دراسة الجسد في المجتمع الإسلامي؛ ففي دراسة له عن الرؤى الإسلامية
للجسد من منظور فينومينولوجي واضح،
٢٠ يقسِّم الباحث حديثه عن الجسد في الإسلام إلى أربعِ رؤًى؛ الجسد، والجسدي،
والجسدية، والجسدانية.
فالجسد corps مُعطًى أوَّلي، إنه موضوع يشكِّل منبع
الحياة، والحركة، والفعل والوعي. وهو مكتسبٌ قبلي سابق على كل روح. وباعتباره معيارنا
الأول في الوجود، فهو يشكل مركز الكون ومقاسه الضروري. والحقيقة أن هذا التصور يقترب
كثيرًا — في نظرنا — من التصور الفكري والفلسفي العام لمفهوم الجسم كما نجده لدى
المتكلمة والفلاسفة كالأشاعرة والمعتزلة وابن سينا مثلًا. إنه مفهومٌ عام يتداخل فيه
الجسد الإنساني بالأجسام الكونية والأجرام، هذا بالرغم من أن مالك شبيل يُوحي، في سياق
تحليله، بالحديث حصرًا عن الجسم الإنساني.
ويشكِّل الجسدي
corporel مجال التعبيرية؛ فبما أن
الإنسان أصلًا حضورٌ جسدي في العالم، فإن فضل وجوده يكمن في قدرته على التعبير. من
ثمَّة فإن الجسد يمسرح دائمًا تعبيريته تلك عَبْر صورٍ متعددة؛ فهناك الجسدي الصامت
كالمظهر الجسدي وتعابير الوجه، وهناك الجسدي الحركي كحركات المناضل والمُمثِّل المسرحي
والرياضي، وهناك الجسد الاجتماعي المُسنَّن الذي يتبدَّى في العمل اليدوي والحِرْفي.
وهناك أخيرًا الجسد الإخباري المتمثل في لغة الصُّمِّ والعلامات المتبادَلة بين
البحارة، أيْ كل جسد «منطوق» ينتُج عنه فعلٌ اجتماعي. إن الجسدي يبدو في نظرنا جسدًا
وظيفيًّا وتواصليًّا اجتماعيًّا. إنه جسدٌ مرجعي يخضع لقوانين المؤسَّسة التواصلية
الاجتماعية، ويوظِّف معطياتها. أمَّا جسد المُمثِّل فإنه يبدو لنا هنا ناشزًا؛ نظرًا
لأنه يخضع لممارسةٍ بلاغية وتأويلية وتخييلية تتجاوز بكثير السُّنن التواصلية الوظيفية.
إنه جسدٌ مجازي
٢١ ينزاحُ عن الوظيفية الجسدية اليومية، وإن كان يمتَح منها بعضًا من
ممارسته.
أمَّا الجسدية
corporéité فهي «ليست شيئًا آخر غير
الصيغة البيولوجية لحياة الجسد، وهي تقوم بفعلها كما لو كانت جسدًا مقلوبًا.»
٢٢ يتصل بالجسدية، إذن، كل العالم الغريزي الذكوري والأنثوي، لتُعيَّن بذلك
المعطيات الحميمة لدى الكائن. إنها بمعنًى ما كل الأعمال الحرْفية التي لا نتحدث عنها
للآخرين كالحيض والتبرُّز والاستحلام … إلخ.
وإذا كان الجسد مُعطًى ماديًّا أوليًّا، وكان الجسدي وصفًا شبه إثنوغرافي للجسد
اليومي في تعبيراته وأفعاله، وكانت الجسدية الوجه الباطني الشخصي لهما، فإن الجسدانية
corporalité هي الممارسة العُليا للجسد في كل
تمظهراته التأويلية، وهي البِنية الفوقية الذهنية التي يتمُّ عليها عزفُ المقطوعة الجسدية.
٢٣
ثم ينتهي الباحث إلى دراسة الأوضاع الجسدية التي تقنَّنَت في المجتمع العربي الإسلامي
حاصرًا إياها في اثنتَي عشرة وضعيةً مُفضَّلة. بَيْدَ أن أهمَّ ما يثيره شبيل هنا هو
أن
الإسلام لا يتحدث بشكل مُفصَّل إلا عن الجسدي، ولا يُلحُّ إلا على الجسدية. أمَّا
الجسدانية فقد ظلَّت مسألةً مُعلَّقة. والحال أن الجسدانية تشكِّل في نظر شبيل
الاعتبارات النظرية التي يمكِن انطلاقًا منها دراسة الأوضاع الجسدية والألم، واللذة،
والوشم وغيرها؛ فقد منح الإسلام للجسد العضوي أهميةً خاصة، ولم يتناول الجسد في كليته،
بل اكتفى بالتركيز على الأعضاء المفردة: «إن أغلب الإشارات المُخصَّصة للجسد في الإسلام
— كما يقول شبيل — تتعلق بالجسد الجزئي على حساب كليته؛ فالعالم المسلم لا يهتمُّ سوى
بالقلب، أو اليد، أو بالعين، أو بالعضو الجنسي.»
٢٤
هل يتعلق الأمر فعلًا بغياب تصوُّر إسلامي للجسد في كليته؟ ثم هل التصور النصِّي
الإسلامي المؤسِّس يلغي المنفتحات التطويرية التي عرفناها مع المتكلمة والفلاسفة
والمتصوفة؟ وأخيرًا ألا يتعلق الأمر هنا بتعاملٍ عملي مع أعضاء الجسد يهدف إلى بلورة
سلوكٍ عملي إيماني من جهة، ويسعى في منحًى آخر (لم يُولِهِ شبيل العناية التي تليق به)
إلى إضفاء بُعدٍ رمزيٍّ قدسي على بعض الأعضاء كالقلب؟
قبل بلورة هذه التساؤلات ومناقشة الفرضية التي يطرحها شبيل سيكون علينا النظر في
المُقدِّمات المعرفية والمنهجية التي ينطلق منها، سواء في بُعدها الأنثربولوجي أو
النفساني أو الفينولوجي (الذي يبدو أن المؤلِّف يمتَح منه معطياته من غير أن يشير إليه
إطلاقًا).
في وقتٍ سابق، حين اهتمَّ شبيل بدراسة صور الجسد في التقاليد المغاربية، بدأ بالتمييز
بين الجسد اللغة والجسد التشريحي، ليخلُص بأن «الجسد يحيا». من ثمَّة فإن الجسد الذي
تأخذه تلك الدراسة موضوعًا لها هو «جسد من أجل الإثنولوجيا»، يتمُّ التعاملُ معه في
«امتداداته الرمزية»: «إن ما يُهمُّنا، كما يقول شبيل، ليس الجسد في تمظهُره العضوي،
وإنما على العكس من ذلك، التمثيل الذي يختصُّ به؛ أيْ ذلك التجريد للجسد كما يتبدَّى
في
التصوُّرات التقليدية في المغرب العربي.»
٢٥
ينطلق شبيل إذَن من التمييز بين الجسد العضوي موضوع العلوم الحقَّة، والجسد الذي يمكن
أن نُسمِّيه ثقافيًّا بوصفه موضوع العلوم الإنسانية. بَيْدَ أن الانتقال من الجسد
العضوي المنفعل إلى الجسد الثقافي الرمزي الفاعل، لن يمكنه أن يتمَّ إلا بتوسُّط صورٍ
أخرى للجسد سوف ينتبه لها الباحث — لاحقًا — ويُسمِّيها الجسدي والجسدية.
إن الجسد، كما حُدِّد سابقًا، هو بالضبط الجسد الفينومينولوجي الذي اهتمَّت بدراسته
السيكولوجيا والتحليل النفسي، ثم الأنثربولوجيا وعلم الأديان والفلسفة الفينومينولوجية.
إنه مُعطًى حيوي وحياتي يتمفصل فيه البيولوجي والسيكولوجي ليُشكِّلا «أنا جسدية» تدخل
في علاقة مباشرة مع الآخر فضاءً وزمنًا، وتصوغ لنفسها ما تُسميه الممارسة التحليلية
«صورة أو خطاطة الجسد»، باعتبارها تشكِّل الوعي الأول والمباشر بوحدة الجسد. الجسد، كما
حدَّده شبيل، يفترض، إضافة إلى ذاك الجسد الحيوي الذي يعي وجوده وحدوده، جسدًا يمتلك
بُعد السلوك حيث يتفاعل الوعي، والحركة الجسدية، والنفسي، والوظيفي. إنه الجسد الشخصي
الذي يشكِّل مدخلًا لبناء الشخصية، والذي يشكل ممرَّ المرء إلى التواصل الاجتماعي؛ فمن
غير الممكِن الحديث عن الوجود الإنساني بمعزلٍ عن وجوده البيولوجي؛ ذلك أن الوجود
البيولوجي مشدود إلى الوجود الإنساني، وهو لا يتجاهل أبدًا إيقاعه الخاص.
إن هذا التصور الفينومينولوجي يُمكِّننا من خلخلة ثنائية البيولوجي — الإنساني من
جهة
— ويُحرِّرنا من كل تصوُّرٍ آلي لحياة الجسد، ويُقدِّم لنا جسدًا مُفكرًا، أيْ جسدًا
لا
يغدو جسدًا محضًا، حتى وهو محروم من النطق، ومنكفئ على ذاته. والنقاش الذي يُقيمه
المُفكِّر الفينومينولوجي، مارك ريشر، مع أعمال المُحلِّل النفسي ل. بينسفانكر (ذات
البُعد الفينومينولوجي بدَورها) له دلالتُه في هذا المجال. وينبني على تصنيفاتٍ خصبة
قد
تُساعدنا على إدراك مفهوم الجسد وتوظيفها في دراسة الجسد في المجتمعات الإسلامية، خاصةً
وأن إطارها الفلسفي الهيدغري يُساعدنا على تخطِّي التصور الديكارتي للجسد، كما انتقده
هيدغر نفسه بوضوح في كتابه الوجود والزمن.
٢٦ يقول مارك ريشر: «إذا نحن فهمنا الإنسان باعتباره كائنًا في العالم، أو
ظاهرةً من العالم، فإن
leib أيْ جسده المعيش أو جسده
الحي أو جسده البدني؛ حيث يلزم فهم بدن
chair بالمعنى
الذي أعطاه إياه ميرلوبونتي في المرئي واللامرئي … يُشكِّل جزءًا لا يتجزأ منه، من غير
أن يكون أبدًا قابلًا لأن يُعزل عنه كجزءٍ مستقل …»
٢٧ بهذا المعنى يكون الجسد البدني ظاهرةً مندمجةً في العالم ومحكومةً بوجودٍ
أنطولوجيٍّ عام، وتنتمي من ثَم إلى الدزاين؛ أيْ إلى الوجود الحاضر، والحياة في العالم.
إن الجسَد البدَني يشكِّل، بالنسبة لريشر وبينسفانكر، ليس الإحساسات العضوية المَعيشة
والخاصة المتمثلة في الإدراكات، وإنما حالة وجود ظاهراتية تتعلق بامتلاك جسدٍ شخصي
والإحساس به واختباره. وفي هذا التحديد يختلف اﻟ
Leib
اختلافًا جوهريًّا عن اﻟ
Korper؛ أي الجسد العضوي موضوع
العلم التشريحي.
٢٨ وهي ثنائيةٌ تؤكِّد تمييز شبيل الآنف الذكر بين الجسد العضوي والجسد من أجل
الإثنوغرافيا (الجسد الثقافي). بَيْدَ أن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل بمجرَّد ما
يفقد شخصٌ ما النطق يعيش حياةً جسديةً خالصةً ولا واعية؛ أيْ ينسلخ عن هذا الوجود
الظاهراتي في العالم؟ إن ريشر الذي ينطلق بوضوح من الترابط الحاصل بين الرمزي الثقافي
والظاهراتي، ينتهي إلى نفس تصوُّر ميرلوبونتي، ليقف على المفارقة التي يقع فيها
المُحلِّل النفسي، والتي يُمكِننا الإحساسُ بها بدَورنا لدى شبيل: «إن ما يشكل مفارقةً
كبرى هو أن الانكفاء داخل الجسدية
corporéité لا يزال
يُشكِّل نمطًا من الوجود مَهمَا كان ناقصًا وغير مكتمل.»
٢٩
باستثمارنا للثنائية الفينومينولوجية الفارِزة بين الجسد الشخصي والجسد الموضوعي،
والتي تبلوَرَت بالأخصِّ في كتابات ميرلوبونتي وبول ريكور، وبدون المَفْهَمَة
الميتالغوية التي لجأ إليها شبيل، يمكن التعامل مباشرةً مع الممكِنات التي توفِّرها لنا
الألفاظ المختلفة الدالة على الجسد في اللغة العربية، وإضفاء طابع مفاهيمي وإجرائي
عليها؛ بحيث تستوعب المعطيات المختلفة والمستويات المتعددة التي يطرحها التناول الفكري
والأدبي والفلسفي للجسد. بهذا يمكِننا أن نقترح النمذجة التالية:
-
(١)
الجسم: ونعني به الجسد الموضوعي الذي يتألف
مع كل الأجسام، سواء كانت حيوانيةً أو جِرْمية. إنه نفس المفهوم الذي ظلَّ
مُتداوَلًا في الثقافة «الكلاسيكية» العربية الإسلامية، والذي شكَّل من ثمَّة
الموضع المعرفي للفكر والفلسفة الإسلامية.
٣٠
-
(٢)
البدن: وهو الجسد اليومي الذي يخضع لقوانين
وسُنن التواصل الاجتماعي. إنه المؤسَّسة الجسدية — إذا صحَّ هذا القول — التي
تُشكِّل موضوع الدين والمقدس، والذي تمَّت موضعتُه بحيث أصبح جسدًا مشتركًا بين
كل الناس؛ فهو صورتُهم المميزة وعمادُ أفعالهم اليومية والوظيفية؛ ومن ثَم فهو
جسدٌ وظيفي يخدم أهدافًا خارجةً عن مُقوِّماته الشخصية.
-
(٣)
الجسد: وهو ما يقابل لدى ريكور مفهوم
chair، ولدى ريشر مفهوم
leib. إنه الجسد الشخصي الذي يشكِّل الوحدة
الأنطولوجية التي تسِم وجود الكائن في العالم. ومن ثمَّة فهو يشكِّل هدفيَّة
الوجود الذاتي للإنسان. هذا الطابع لا يخلو من علاقاتٍ ذات مِيسَمٍ ثقافي ورمزي
وتعبيري يُعيد بها الجسد صياغة العالم، ومنحه خصوصياتٍ جديدة.
إن هذه النمذجة تُمكِّننا، من جهة، من الحفاظ على وحدة الجسد ووحدة وظائفه، وتفادي
مَفْهَمة الصفات على حساب الأسماء من جهةٍ ثانية. كما تُمكِّننا من جهةٍ ثالثة، من
النظر إلى الجسد في مستويات علاقته بالعالم؛ من ثمَّة فإن الانتقال من الجسم إلى الجسد
إلى البدن هو انتقالٌ ممكِن ومفتوح، ولا يخضع لأيِّ تراتُبيةٍ مُعيَّنة، على اعتبار أن
المادي البيولوجي يشكِّل الأساس المرئي، وأن الثقافي الرمزي يُشكِّل الانفتاح العمودي
للجسد نحو ممكِناتِ الوجود العميقة، وأن القِيَمي المعرفي يمثِّل المستوى الضروري الذي
في إطاره وبالمقارنة معه يبحث الجسد عن تعبيريته، وعن تميُّزه الشخصي. هذا بالضبط هو
ما
يفسِّر ذاك الطابع أو البِنية الهجينة للذات باعتبارها جسدًا من ضمن الأجساد، وفي الآن
نفسه جسدًا يتحدَّد كذات وكأنا.
٣١