(١) الجسد الإسلامي بين الأنموذج والقدسي
لقد اهتمَّ النصُّ القرآني، وبالأخصِّ منه الآيات المدنية، بالعبادات اهتمامًا
كبيرًا؛ بحيث كان المُستهدَف في هذا الانتقال القِيَمي، كيان المؤمن الشامل وعلاقته
التعبُّدية بالخالق وروابطه الاجتماعية بالآخر. بَيْدَ أن القارئ للنصِّ القرآني لا
يلبث أن يتنبَّه إلى أن مهمَّته تكمُن في التحديد العام للكثير من القضايا العبادية
والإيمانية كأوضاع الصلاة مثلًا، والتعريف بصورتها العامة، من غير تحديدٍ دقيق لمسائلها
ولمُكوِّناتها الخصوصية. لقد بدَا واضحًا أن النصَّ القرآني يُنظِّر للحدود المؤسِّسة
لإيمانية وعقائدية المسلم، تاركًا للسيرة النبوية والأحاديث مَهمَّة التفصيل والتمييز
والتفسير، والإجابة الأدق عن الأمور الطارئة والمُستَجدَّة. ولعلَّ هذا هو ما يُفسِّر
كون الممارسة النبوية ظلَّت القدوة المُثلى، وأنها شكَّلَت التجسيدَ الحيَّ للرسالة
الإسلامية. من ثمَّة فقد اعتُبر جسدُ النبي جسدًا مرجعيًّا أنموذجيًّا يتطلب الاحتذاء
والمحاكاة.
١
إن تصفحًا، ولو سريعًا، للصحيحَين ولمُسنَدات الأئمة السبعة، تكفي للخروج بتصوُّرٍ
واضح ومتكامل عن مكانة الجسد في سمفونية الحياة اليومية للمؤمن؛ ذلك لأن الجسد النبوي
—
في أنموذجيته — كان يخضع للمراقبة والمساءلة؛ فهو يشكِّل المثال اليومي، وهو أيضًا
يُجيب عن كل ما يخطُر على بال المؤمن من تساؤلات؛ من ثمَّة يُعتبر التماهي والتماثل
والمحاكاة سبيلَ المؤمن إلى التطابُق مع التعاليم الإسلامية وتطبيقها من دون زيغٍ أو
ضلال.
هذه الوضعية الأصلية هي التي تجعل من الجسد الأنموذجي للنبي جسدًا خطابيًّا
وتعبيريًّا. إنه جسدٌ خطابي؛ لأنه يصوغ وظيفيَّته اليومية ويمنحها صفة القاعدة التي
يتمُّ توصيلُها للآخرين؛ بحيث يغدو لها طابعٌ رمزي. بهذا المعنى تتمُّ صياغة الجسد
والجسدي في الممارسة اليومية والخطابية التي يتحول فيها الجسد الأنموذج إلى مشهدٍ
مستمرٍّ يُوصَف، ويتمُّ الإخبارُ عنه. وإذا كان الإسلام لم يُبلوِر تصوُّرًا للجسدانية
(أيْ للجسد الشخصي)، فلأنه بكل بساطة ليس فلسفةً فينومينولوجيةً للذات، إضافةً إلى أن
الفكر الديني في صورته التوحيدية لم يعرف مفهوم الذات الذي يتأطر تاريخيًّا ومعرفيًّا
بولادة الفرد والمنظومة المرجعية التي تأسَّس عليها.
٢
يدخل هذا الجسد الخطابي للغة عَبْر الحديث عن نفسه؛ ومن ثمَّة عَبْر التقاط الآخرين
لملامح حياته اليومية (وثَم يكمُن مبدأ السيرة النبوية)؛ بحيث يتحول إلى جسد أنموذج
وقدسي في الآن ذاته. إن السائل أو المُحاوِر في الحديث النبوي (سواء كان عائشة أو فاطمة
أو أيَّ مسلم آخر) يغدو بالضرورة جزءًا من هذه الصورة الأنموذجية للجسد. وبهذا يتطابق
جسد السائل مع الجواب المُعطى الذي يُشكِّل الحلَّ العملي والشرعي للمسألة المطروحة.
ويغدو أول جسدٍ مطالب بتحقيق المماثلة والمحاكاة التي يتطلبها الجسد الأنموذج والمعطيات
الخطابية الصادرة عنه.
لقد قنَّن الإسلام حياة المؤمن في مجملها من الصحو إلى المنام؛ بحيث تحبل النصوص
التشريعية بآداب الصلاة والأكل والصيام والطريق والملابس والطهارة … إن الهدف الأساس
من
هذه الدقة والشمولية يكمن أصلًا في خلقِ أنموذجٍ عام للممارسات السلوكية والخطابية
والجسدية يكون ذا طابعٍ مرجعي، ويتمُّ بمقتضاه توحيد السلوك الجسدي لعامة
المسلمين.
اهتمَّ الإسلام إذَن بتقنين «الجسدي»؛ أي الجسد في مجمل حركاته اليومية العملية
والوظيفية. وبإمكاننا، اعتمادًا على ما جاء في هذا المضمار، أن نُقسِّمه إلى ثلاثة
جوانب:
-
الجسد اليومي الديني: الذي يُمارِس مجموعةً من الشعائر العبادية مصحوبةً
بخطاباتٍ مسكوكة لهذا الغرض. وهذه الشعائر تشكِّل إيقاعًا جسديًّا
واجتماعيًّا ودينيًّا قُدسيًّا يتحوَّل الجسد بمقتضاه إلى صورةٍ نمطية
تستجيب بشكلٍ مُنظمٍ لإيقاع المُقدَّس الذي يتبلوَر هنا في جزئيات
الدنيوي.
-
الجسد اليومي الاجتماعي: فإذا كان الجسد اليومي الديني خاضعًا لقِيَم
الصلاة والصيام والبَسْمَلة والحَوْقَلة … إلخ، فإن المعاملات التي
تُميِّزه هنا تُحوِّل الحياة الاجتماعية إلى مختبرٍ دائم لممارسةِ قدسيةِ
العلاقات الاجتماعية. إن الجسد هنا يُكمل الشعائر المتصلة بالعبادات
ويؤطِّرها بحركاتٍ مُعيَّنة للجلوس والأكل والنظر ودخول الحمَّام …
٣ إلخ، ليصبح الجسد الاجتماعي رَجْعًا للجسد العبادي.
-
الجسد «الشخصي»: الذي يفقد طابعه الذاتي باندماجه المباشر في سمفونية
القدسي التي يُضْفيها الإسلام على الوجود الاجتماعي. إن الأمر يتعلق هنا
بالعلاقة الجنسية ومقاصدها الثوابية، وأوضاعها ومُحلَّلها ومُحرَّمها
ومكروهها، وكذا بأوضاع التبول والنظافة وكل ما يتعلق بالجسد في حميميته.
ومع أن الإسلام قد قلَّص من حظوظ وجود جسد له استقلالُه الفردي، إلا أنه
ترك له هامشًا كبيرًا من الغموض. بحيث لم يتمَّ تحديدُ سوى التخوم التي
يتحرك في إطار مشروعيتها الدينية. إن هذا الجسد ليس سوى الصورة التي تعكس
بشفافية المُسوِّغات الإيمانية للمسلم، والتي يكون الوعي الإيماني للمسلم
مُحدِّدها في علاقته بذاته.
يعود هذا الترابط بين المناحي الثلاثة، في صلبه، للطابع القدسي المُعمم للحياة
الإسلامية. وإذا كان الإسلام قد خصَّص الكثير من الأحاديث للجسد الحميم، وتحدَّث عن ماء
الحيض والمجامعة من الدُّبُر في القُبُل. وحرَّم التبول جهة القِبلة والتعرِّي الكامل
أثناء الجماع، وتحدَّث عن مقدار ولوج الذكر في الفرج …
٤ فإن هذه الأحاديث تُعمِّم ممارسات الجسد الشخصي وتدمجه في كليَّة السلوك
الإيماني للمسلم.
يتمُّ التفاعلُ بين مستويات الجسد في الإسلام ضمنَ عملية تسنينٍ شاملة تستهدف بشكلٍ
واضح خَلْقَ ما يمكِن تسميتُه أجروميةً للجسد لها قواعدها الخاصة؛ فالمسلم مُطالَب
باحترام التركيبة الأنموذجية لصورة الجسد الإسلامي. إنه تقنينٌ لأوضاع الجسد عمومًا له
مقاصده الأخلاقية والاجتماعية والرمزية. إن هذا النحو الصارم هو الذي نجده مُبوَّبًا
في
الصحيحَين والسُّنَن، وفي كتابٍ فقهي موسوعي كإحياء علوم الدين للغزالي أو الآداب
للبيهقي، ونجد صورًا له فيما كتَبَه ابن الجوزي والسيوطي وابن تيمية … إلخ. ولا يخفى
أن
مُصنَّفات من قَبيل هذه تمنح للمسلم معرفةً ذات طابع أنسكلوبيدي عن جسده، وتُجدِّد
معرفته بالقضايا الطارئة التي تُواجِه وجودَه اليومي.
يمكن اعتبارُ الجسد الثوابي إذَن جسدًا غائبًا يستهدفُ غرسَ القدسي في صُلب الحياة
اليومية. إنه جسدٌ من أجل المُقدَّس؛ فهو بحركاته المُقنَّنة تلك، وفي مستوياته
الوجودية كلها، يمنَح للقُدسي تعبيراته الشعائرية، ويسِمُها بحضوره. إنه ليس مجرَّد
ركيزةٍ أو وسيطٍ لها بقدْر ما يُشكِّل العماد والفضاء الدينامي الذي يمنح المعنى
والحضور المُشخص للقدسي. فعَبْر التكرار والمحاكاة والمداومة، بوصفها إحدى دعامات
تجذُّر القدسي وتجلِّيه، يختزن الجسد ويصرف في يوميه ديناميته وفاعليته المُنتِجة
للأفعال والشعائر ذات المصدر والصفة القدسيَّين. إنه الدالُّ الضروري الذي تمرُّ عَبْر
صِيَغه الملموسة كل المدلولات الروحانية، وتتجسَّد من خلال الصوت والحركة والإشارة
والنبرة، لتُعبِّر عن تداخُل وتفاعُل الدنيوي والديني. كما يُعبِّر عن ذلك ونينبرغر:
«فحتى عندما تكون العلاقة مع الإلهي ذاتَ مظهرٍ غير جسماني، وتنحو إلى أن تكون خالصةً
كما هو الشأن في الصلاة، فإنها لا يُمكِن أن تستغني عن الوسيط الجسماني الذي يتطلب
إشاراتٍ تصويرية، مَهمَا كانت خفيفةً وبسيطةً (كالتمتمة وتحريك السبحة … إلخ).»
٥
وربما كان هنا جديرًا بنا القول بأن شعائرية الجسد في الإسلام التي اكتسبها جسد
الإنسان المسلم، قد اندمجَت في صلب تقنياته الجسدية التي اكتسبها سابقًا عَبْر تاريخه،
وجعلَت من صورة جسده صورةً خصوصيةً من الناحية الأنثربولوجية؛ فالجسد الإسلامي قد
اكتسب، بهذا الشكل سلوكًا وتقنياتٍ جسديةً وأوضاعًا وحركاتٍ جديدةً جعلَت منه جسدًا
ثقافيًّا يستجيب للمُحدِّدات الثقافية الجديدة، ويختلف عن الجسد في الثقافات الأخرى.
أمَّا الطابع الثوابي والإيماني للجسد، فإنه يظلُّ لصيقًا بالجسد، حتى في المجتمعات
التي تراجعَت فيها قيمة القدسي. فلم يتفكك ذاك الترابط بين الجسد وذاكرته القدسية، ولم
يفقد مُبرِّراته بشكل نهائي. فإذا كان الغرب قد عرف تقهقُرًا للأشكال التقليدية للقدسي،
المتصلة بالديانات، فإن هوامشه تحبل بمظاهرِ ما يُسمِّيه مشيل ليريس المظاهر اليومية
للقدسي. وليست الطقوس المرتبطة بالموسيقى وغيرها سوى تعبيرٍ عمَّا سمَّاه مرسيا إلياد
عودة القدسي. أمَّا في المجتمعات الإسلامية الحالية، فإن تجذُّر مظاهر القدسي تتخلل
أكثر المظاهر الاجتماعية حداثة. وليس الشكل الطقوسي والسياسي الذي تأخذه الظاهرة
الإسلامية، سوى تعبيرٍ عن تدبيرٍ سياسي من النخبة لديمومة المقدَّس.
(٢) مسألة النفس والجسد في الإسلام: الثنائية المؤسِّسة
بما أن استراتيجيتنا التحليلية تبتغي الشمول، ونُحاوِل من خلالها البحث في الجسد في
الإسلام عَبْر مجموعة من مناطق فعله وديناميته التي تُحدِّد صورته الذاتية والاجتماعية،
فإن العودة إلى طرح مسألة الجسد المؤسس تغدو ضرورية. تنبع تلك الضرورة من كون الإسلام،
شأنه شأن الفكر «الكلاسيكي» بكامله، سواء كان أسطوريًّا أو دينيًّا أو فلسفيًّا، قد
انبنى على ثنائيةٍ ميتافيزيقيةٍ مركزية، هي ثنائية الروح (أو ما يُنعت عادةً بالنفس)
والجسد، تحكَّمَت من الناحية المعرفية، في كل الفكر المتصل بالإنسان والجسد، سواء كان
تشريعًا أو معرفةً أو عِرفانًا. وإذا كانت مركزية هذه الثنائية قد تبدَّت أصلًا في
النصوص المرجعية (القرآن والحديث)، فإن حجم المصنَّفات التي تناولَتْها من قريبٍ أو
بعيد، والرسائل التي خُصِّصَت لها بشكلٍ حصري أو عرَضي، يبيِّن عن موقعها الهام في
الثقافة العربية الإسلامية، وذلك بدءًا من المُصنَّفات الفقهية إلى المؤلَّفات
الفلسفية، مرورًا بمقالات المتكلمين والمتصوفة.
ومع أن النصَّ القرآني ألحَّ على مجهولية الروح وطابعها المُلغز، واختصاص المعرفة
بها
بالعلم الإلهي،
٦ إلا أن الكثير من علماء الإسلام قد أولَوها عنايةً خاصة، إمَّا بطَرْقها
بشكلٍ مباشر عَبْر علاقة النفس بالبدن، وبعْث الأجساد والأرواح وقِدَمها أو حُدوثها،
أو
بطريقةٍ غير مباشرة. إن هذه المداخل المتعددة قد شكَّلَت قضايا فكريةً وكلاميةً
وفلسفيةً ترتبط، من ناحية، بالسؤال الميتافيزيقي عن أصل الوجود الإنساني، وهو سؤالٌ أخذ
مظهرًا ثنائيًّا عَبْر قسمة الوجود إلى دنيا وآخرة؛ وتتصل، من ناحيةٍ أخرى، برؤًى
تفسيرية وتأويلية هدفُها الإجابة عن التساؤلات الأساسية والفرعية التي تنبُع من لغزية
هذه القضية في الوجود والذات العربيَّين.
وإذا نحن استحضرنا امتداداتِ الثنائية التي نحن بصدَدها وتحكُّمها في ثنائياتٍ فرعية
أخرى، كالشكل والمعنى والصورة والحياة والصوت والكتابة، فإننا سوف نقف داخل حقل الثقافة
الإسلامية على كونية واسعة، وآفاق هذه الثنائية التي تنبني على تراتُبية محدَّدة يكون
الجسد بمقتضاها مجرَّد وعاء وصورة للروح أو النفس. يقول ابن قيم الجوزية مؤكدًا هذه
البداهة: «وقد وصفَها [النفس] الله سبحانه وتعالى بالدخول والخروج والقبض والتوفِّي
والرجوع، وصعودها إلى السماء، وفتح أبوابها لها وغلقها عنها. فقال تعالى:
وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ
وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ، وقال
تعالى:
يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً
* فَادْخُلِي فِي
عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي، وهذا يُقال عند المفارقة
للجسد، وقال تعالى:
وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا *
فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، فأخبَر أنه سوَّى البدن في قوله:
الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فهو سبحانه
سوَّى نفسَ الإنسان كما سوَّى بدنه كالقالب لنفسه، فتسوية البدن تابعٌ لتسوية النفس،
والبدنُ موضوعٌ لها كالقالب لما هو موضوعٌ له.»
٧
إن التبعية المقصودة هنا تبعية في الخلق، وهي ذات طابعٍ وجودي، بَيْدَ أن المسألة
إن
كانت واضحةً في هذا المستوى التراتُبي الأوَّلي، فإنها تستوجب من جانب الفقيه التساؤل
عن الاختلافات التي تعتري علاقة النفس بالروح ونوعية علاقاتهما بالجسد في التصوُّر
الإسلامي برُمَّته.
ربما كانت المسألة الأساس التي انطلق الإسلام النصِّي منها لتخصيص نظرته للنفس
والروح؛ هي قضية البعث والمعاد. إن هذه المسألة تشكِّل، بالفعل، مدخلًا مُهمًّا لفهم
التصوُّر الإسلامي النصِّي للروح؛ وبالتالي للاختلافات العقائدية والمذهبية المتصلة
بها. وإذا كان أغلب الباحثين يؤكدون على القطيعة التي أحدثها الإسلام في هذا المجال مع
التصورات ما قبل الإسلامية والدهرية، فإنه سيكون من واجبنا استيضاح طبيعة هذه القطيعة،
ومساءلة حقيقتها التاريخية وحدودها النصِّية، معتمدين في ذلك على الدراسة الأنثربولوجية
المقارنة.
في هذا السياق يرى الباحث الفرنسي جوزيف شلحود بأن الروح كانت تُعرف في الجاهلية
بالصدى،
٨ وهي نفسٌ نباتية متصلة بالموت الأرضي، وبالقبر، كما أن كلمة نفس كانت تملك
معنى الدم، وهو ما يفسِّر إلى حدٍّ ما القيمة التي كانت للدم والأخذ بالثأر آنذاك، وإذا
كانت «نفس» كلمةً عتيقة، فإن الروح أحدثُ منها استعمالًا، خاصةً في مدلولها المباشر
كنَفَس. وبالرغم من عدم توفُّر الباحث على ما يوضِّح هذه المسألة من الناحية
الأنثربولوجية والتاريخية، إلا أنه بإمكاننا القول دائمًا — حسب شلحود — بأن العرب
القدماء قد اعتبروا الروح نفَسًا يذهب ويخرج بالعطس؛ ومن ثمَّة استعمال كلمة العطس
مرادفًا للموت. بَيْدَ أن التطابق الكلي بين كلمتَي نَفَس وروح غير وارد هنا. أمَّا
القبول بتقاطُعٍ مُعيَّن في مدلولاتهما، فضروري لتأكيد تصوُّر المبادئ الحيوية
المُحرِّكة للجسد عند العرب آنذاك وجدواها.
يُلخِّص شلحود، أحد أبرز الدارسين لبنية المُقدَّس لدى العرب، التصوُّر العربي القديم
للنفس قائلًا: «إن النفس في التصور العربي ما قبل الإسلام ليست غريبةً عن الخارق، بل
هي
بالأحرى مزدوجة؛ إحداها تتصل بالعالم العلوي الأخروي، والأخرى ترتبط بالدنيوي، موضحةً
بذلك، ضمنيًّا، أنها، عَبْر هذا التقسيم فيما بعد الممات، تُشاكل المُقدَّس.»
٩
في القرآن تقوم الدعوة الجديدة بمحاولة القطع النهائي مع الجوهر المُلتبس لهذا التصور
الذي يفصم النفس إلى حياة ما بعد القبر «المجهولة» والحياة الدنيوية، ويجعلها تخضع
لثنائية المُقدَّس والدنيوي. هكذا سوف تغدو قضية البعث بديلًا عن ذاك الغموض الذي ساد
الرؤية الأنيمية (الإحيائية) العربية لما بعد فَناء الجسد.
١٠ لكن شلحود يلاحظ أن تلك القطيعة التي أضفت على النفس طابعًا خالصًا لم
تُحرِّرها تمامًا من طابعها الثنائي، ولم تحلَّ نهائيًّا الغموض الدائر بمسألة الروح؛
بحيث ظلَّت المبادئ الإحيائية تملك وجودها الخاص وتحافظ عليه. إن ما يثير الانتباه هنا
هو ذلك التناقض الذي يتسلل إلى تحليل شلحود؛ فهو يؤكد، من جهة، أن الإسلام بَلوَر رؤيةً
تملك مقدارًا مُهمًّا من الوضوح عن الروح والنفس؛ بحيث يستحيل الخلطُ بينها وبين
المنظور الجاهلي، بالرغم من التواصلات الجزئية والضمنية بينهما. ومن هذا المنطلق يردُّ
الباحث على القائلين بأن النفس في القرآن تعني النفس النباتية المرتبطة بالبدن الفاني؛
فالقرآن إذا كان لا يزال يعتبر النفس نَفَسًا، فإن التصور أقرب إلى أن يكون غريبًا عن
القرآن؛ فقد رأينا أن أكثر من آية تتعلق بموت النفس، لا تعني النفس بمقدار ما تعني
الكائن الإنساني.
١١ وهو من جهةٍ ثانية، يؤكد قبليًّا أن كل العناصر البنيوية التي ميَّزت
التصور الجاهلي للروح والنفس (أعني المبدأ الثنائي وتعدُّد المبادئ المتحكمة في الروح
والطابع الدنيوي للنفس) هي نفسها التي يستعيدها النصُّ الإسلامي.
وسوف يؤكِّد الباحث، مباشرةً بعد ذلك، أن الشيء الجدير بالانتباه، منذ بداية الدعوة،
هو أن النفس تبدو — باعتبارها مبدأً مُفكِّرًا وغير فانٍ — مسئولة عن أفعال الإنسان.
هكذا تكفُّ النفس عن أن تعني الهامة أو الصدى لتعيِّن، تارةً، الروح، وأخرى الكائن
الإنساني، والنَّفَس الحياتي ثالثة. بَيْدَ أن الاستعمال الكثيف للنفس في القرآن (٢٩٥
مرة) مقابل استعمالٍ ضئيل لكلمة الروح (١٤ استعمالًا)، إذا كان يؤكِّد الغموض الذي لفَّ
به النصُّ القرآني الروح، ليجعل منها كيانًا متعاليًا مطلقًا، فإنه من ناحيةٍ أخرى،
يؤكِّد الطابع الدنيوي للنفس. إن هذه الخاصية تتبدَّى واضحةً في المعاني والدلالات
والسياقات التي تحتملها لفظة النفس في النصِّ القرآني:
وبما أن النفس مبدأ مُحرِّك للجسد يتحكم فيه عقلًا ونظرًا، ويضبط ديناميته ويشغل
مقدراته العلائقية اليومية، فإن الروح هي التي تقوم بوظيفة القوة الحياتية المُحرِّكة
للجسد. وبالرغم من صعوبة التأويل والتفرقة بين الروح والنفس من الناحية الجوهرية
والوظيفية، فبالإمكان محاولة تحديدها بالرجوع إلى سياقاتها النصِّيَّة في النصِّ
القرآني؛ فقد جاءت الروح في خمس دلالات هي نفسها التي يستخرجها صاحب «لسان العرب»؛ فهي
تُعيِّن الرُّوح القُدُس، وتأتي بمعنى الرحمة، وهي أيضًا الملك جبرائيل، كما تأتي بمعنى
الرسالة المُقدَّسة المُوجَّهة إلى الأصفياء؛ أي الوحي. وهي تُعيِّن أخيرًا النَّفَس
النابع من الذات الإلهية الذي يهَبُ الحياة الآدمية لبني البشر. لقد تبيَّن لنا أن
دراسة شلحود اقتصَرَت على النصِّ القرآني، ولم تتعدَّه — للأسف — لمعانقة مصادرَ أخرى
ذات أهميةٍ بالغة في هذا المجال، كالأحاديث النبوية والتفسيرات الفقهية والكلامية
والفلسفية، التي وإن لم تنزح إلا قليلًا عن التصور القرآني، إلا أنها وسَّعَت وعمَّقَت
هذا المنظور وفقًا لمعطياتٍ فكرية جديدة. كما أن الاعتماد على التحليل الفيلولوجي
لوحده، وغياب الدراسة الإثنولوجية والتاريخية، يجعل تصوُّر شلحود لا يتجاوز كثيرًا، في
دراسته هذه، ما قد يجده المرء في لسان العرب أو مُصنَّف من قبيل الروح لابن قيم
الجوزية. إن عوائق البحث الأنثربولوجي التاريخي في المقدَّس عند العرب تتبدَّى هنا
واضحة، خاصةً وأن الكتاب يُشكِّل إحدى الدراسات الرائدة في هذا المضمار.
وفي نظرنا، يكفي الابتعاد عن مجال النصوص التشريعية الأصلية كي تتأسَّس تصوراتٌ
واضحة، وإنْ متباينة، لمسألة النفس والجسد، تُبلور على هذا النحو أو ذاك المعطيات التي
جاء بها النصُّ القرآني. فمع الحكيم الترمذي سوف يتمُّ الأخذُ حَرفيًّا بمفهوم النفس
الضيق، والذي سوف يتمُّ تداوله في الرؤية الصوفية لها لاحقًا. فهو قد اعتبر النفس وعاءً
للهوى ومالكةً للجسد، تقوده حيث شاءت، وهي بذلك تقف على النقيض من القلب (موطن العدل)
ومن العقل (موطن الصدق). وهي، في نظره، تغلو وتجور عليهما إذا ما هي أخذَت نصيبها.
فترابُط النفس والشهوات في نظر هذا الفقيه الصوفي ترابُطٌ جوهري؛ لذا فهو يتحدث عن
النفس باحتقار وازدراء واضحَين، يتبدَّى ذلك في أقوالٍ من قَبيل «أوحال النفس»، و«خبث
النفس ودهائها». لنقرأ كيفية تأويله للآية التالية: «قال في تنزيله:
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ، لم يقُل كل ذي روح، ولا كل
قلب ولا كل بدن، وإنما نسب الذوق إلى النفس؛ لأنها هي التي تُقبِل على الهوى، وتنهل من
الشهوات، من باب النار، من ذلك الأصل الذي يهيج هذا الذي فيها.»
١٣
يرتكز هذا التصور إذَن على التأويل اللغوي الذي تغدو النفس بمقتضاه المقابل القديم
لما سمَّاه فرويد بالليبيدو أو الطاقات الغريزية الواعية واللاواعية. وبهذا المعنى
يتمُّ إزاحة المدلول الإنسي الأنثربومورفي، وتحويل الجسد إلى وساطة بين النفس والشهوة.
هكذا يغدو الجسد في هذه التراتبية أعلى وأرقى من النفس؛ لأنه لا يتحمل أيَّ مسئولية على
نوازعه الغريزية. ويغدو القلب والعقل مصادر التوازن الإيماني والمعرفة اليقينية بالله
وشريعته. من ناحيةٍ أخرى يؤكد هذا الشاهد أن مسألة الفرق أو الترادف بين الروح والنفس،
لدى أغلب الفقهاء، ليس عامًّا كما يزعم ابن سبعين.
١٤ فالروح تملك في هذا التصور، طابعًا روحانيًّا ساميًا مُفارقًا لأدران
الجسد، بالمقارنة مع النفس التي تختلط برغبات الجسد وشهواته الأرضية الطبيعية.
أمَّا ابن قيم الجوزية، فيرى في موسوعته عن الروح، وبعد أن قام باستعراض الدلالات
المختلفة للنفس والروح، ممَّا لا يخرج عمَّا رأيناه لدى ابن منظور وشلحود، أن «الفرق
بين النفس والروح فرق بالصفات لا بالذات».
١٥ وإذا كان الكثير من الفقهاء قد فرَّقوا بينهما، فليؤكدوا الطابع اللاهوتي
للروحي والخاصية الناسوتية للنفس. فالنفس، انطلاقًا من ذلك، تشكل صورة العبد، وهي
بالتالي مجال الشهوة، وترتبط بالدنيا وقِيَمها؛ ولذلك فإن الشيطان يتبع خطاها. أمَّا
الروح فهي في اتصالها بالعالم العلوي تدعو للآخرة؛ من ثَم فقوام النفس بالروح. إن هذا
التصور، كما يبدو، يسعى إلى خلق تراتبية لا تميِّز بين النفس والروح في الطبيعة، وإنما
في الوظيفة والوجهة؛ فالروح إيجابية مطلقًا، أمَّا النفس فتحتاج إلى اتِّباع الروح في
وجهتها كي تسموَ بنفسها إلى مقامها وتتوصل إلى النجاة ممَّا كان يربطها بالدنيوي. بهذا
المعنى تكون الروح قدسيةً أصلًا، فيما تسعى النفس إلى السُّمو نحو القدسي بالمجاهدة
والانفصال عن معطياتِ الجسدِ المباشرة.
وسواء تعلق الأمر بنفسٍ موحَّدة أو بنفوسٍ ثلاث، هي النفس الأمارة واللوامة
والمطمئنة، أو بنفوسٍ أربع إذا أُضيفَت لها النفس السوَّالة.
١٦ فإن هذا يؤكِّد خضوع النفس لمُحدِّدات السيكولوجيا الإنسانية والطابع
المتعالي للروح. وإذا كان الفقهاء قد اعتبروا النفس جسمًا لطيفًا مُفارقًا للبدن، فإن
متكلمًا كالباقلاني قد اعتبرها جوهرًا روحانيًّا مُفارقًا، بالرغم من أن أغلب الأشاعرة
اعتبروا الأرواح جسومًا لطيفة، وأنكروا الجواهر الروحانية، وأقاموا الدليل على أن ذلك
باطل ومحال، وأنْ لا موجود إلا الجوهر الجسماني والأعراض خاصة. إن هذا التوافق والترادف
بين مقولتَي الروح والجسم كمقولتَين لمدلولٍ واحد هو ما يؤكِّده النظَّام المعتزلي،
الذي يرى في الروح جسمًا، وأنه هو النفس، وأن «سبيل كون الروح في هذا البدن على جهة أن
البدن آفة عليه وباعث له على الاختيار، ولو خلص منه لكانت أفعاله على التوالد والاضطرار».
١٧
ومع أن هذا التصور الجوهراني للنفس قد فصل فصلًا لا رجعة فيه بين النفس والروح من
جهة، وبين البدن، فإنه جعل بين النفس والروح قرابةً جوهريةً نابعةً من الحدِّ والتعريف
الذي يُمنح لهما بوصفهما جسومًا لطيفةً مُفارقة. بذلك ينبني تقابُل بين النفس — الروح
—
وبين الجسد بواسطة التحديد المنطقي الفكري الكلامي؛ بحيث تتحول مقولة الجسم إلى مقولة
منطقية فكرية، والبدن إلى مقولة بيولوجية وفقهية محضة.
أمَّا المتصوفة، كما أشرنا لذلك من قبلُ، فلهم تصوُّر مخصوص عن النفس؛ فهم «يطلقونها
على أنحاء وفي مواطن بحسب المُنتقَد والمُسلَّم، فتارةً يطلقونها على الأخلاق المذمومة
وعلى العقلات مثل ما يقول الصوفي للمتخرف هذا صاحب نفس، أيْ غير متخلف، وهي عندهم كيفية
لا فائدة لها ومكروهة.»
١٨ إنه تصوُّر يؤكد المنظور الفقهي الصوفي الذي عاينَّاه مع الحكيم الترمذي،
والذي يربط النفس مباشرةً بالهوى، ويؤكِّد من ناحية أخرى نزوع السالكين والنُّسَّاك إلى
تخليصها من أدران الجسد، ممَّا حذَا ببعض المُتصوِّفة إلى تعميق هذا التسامي والقول
برؤية الجنة والأكل من ثمارها ومعانقة الحور العين.
وسواءٌ تعلَّق الأمر بتصوُّرٍ سلبي للنفس أو بآخرَ يمنَح لها القُدسية التي تعود
لها،
ويربطها بالخواطر كما هو الأمر لدى القُشيري،
١٩ فإن الصوفي يؤمن بترابط النفس بالجسد، ويعتبر أن علة احتقار النفس يكمن في
هذا الترابط. ففي هذه العلاقة تكتسب النفس طابعًا ثنائيًّا (عموديًّا وأفقيًّا) يجعلها
مشدودةً من جهة، إلى المعيطات الحسيَّة الدنيوية، ونزوعها إلى الخلوص منها من جهةٍ
ثانية بالمجاهدة الصوفية، كما يؤكِّد ذلك ابن عربي،
٢٠ الذي سنتابع لديه تصوُّرًا خاصًّا للنفس.
لا يخرج تصوُّر ابن عربي للنفس عن هذا الإطار، وإن كان تحليله لها لا يُغفِل مجمل
الدلالات القرآنية التي أثرناها فيما سبق. فالنفس لديه ذاتُ معايب وكيانٌ مذموم يتطلب
النصح والمحاورة، حتى تستوي وتصل إلى جوهر الحقيقة والطريقة. لهذا تعجُّ رسالة روح
القدس بالأخبار والمرويات عن المُتصوِّفة الأُصلاء، وهي في الحقيقة لا تدور مباشرةً عن
النفس، وإنما عن فساد الأمور، وتقَهقُر المسير الصوفي والتباسه بالكثير من الانحرافات.
فالنفس، كما تتبدَّى هنا، هي المجاز الذي من خلاله يتمُّ طَرق وانتقاد أمور التصوف
التاريخية والنظرية. إنها علَّة لتبدُّل أحوال التصوف وانهيار أسسه الأصلية، ممَّا
ينمُّ عن «لذة نفسانية شيطانية».
٢١ تفشَّت في أوساط الصوفية، وكشفَت عن غياب تجربةٍ تصوفية حقَّة وأصلية، وفي
حوارٍ مباشر لابن عربي مع نفسه، يحكي لها من الأخبار المتصلة بأهل الصفة والتصوف
والخلفاء الراشدين، والصالحين من الناس، كي يختبر قدرتها على الفهم والاستيعاب
والتمثُّل، ويُناصِحها ويجلو صدأَها، وهو ما يجعل من قضية النفس، لدى ابن عربي قضية
«تاريخية» وشخصية، تبدأ من التمثُّل الذاتي للعلاقة معها لكي تنسحب كأنموذجٍ صالح يلزم
أن يُحتذَى من قِبَل الآخرين.
٢٢
إن هذه الرسالة كما يتوضَّح ذلك من عنوانها تنطلق من ثنائيةٍ واضحة بين النفس والروح.
كما لاحظنا ذلك لدى الترمذي، وهي ثنائيةٌ عامة تتضمن ثنائيةً فرعيةً نجدها في طبيعة
النفس ذاتها، وتتعلَّق بالنفس من حيث هي علَّة، ومن حيث هي معلول، أيْ «باعتبار وجهتها
تجاه الخالق أو تجاه المخلوق. وبما أن النفس تنتمي إلى عالم البرازخ
٢٣ (وهو ما يؤكد ما قاله ابن القيم من عدم اختلاف الروح والنفس في الطبيعة،
وإنما في الصفات)، فهي بالضرورة ثنائية، ومن ثَم موقعها بين الحمد والذم؛ أيْ بين الجسد
وأمزجته وبين تدبير ذاك الجسد.»
٢٤
إن هذه الدلالة التي تؤكِّد الاختلاف الفكري بين الفتوحات المكية التنظيرية ورسالة
روح القدس، المذهبية هي التي يفتتح بها ابن عربي، وبشكلٍ تصويري رائع، كتاب «الفتوحات
المَكيَّة»، مستغلًّا تعدُّد دلالة كلمة الروح ومدمجًا إياها في حكايةٍ شبه أسطورية.
يقول في ذلك: «الباب الأول في معرفة الروح الذي أخذتُ من تفصيل نشأته ما سطرتُه في هذا
الكتاب، وما كان بيني وبينه من الأسرار.»
٢٥
هكذا يتبدَّى الروح عبارةً عن فتًى متكلم وصامت، ليس بحي ولا هو بميِّت، مركَّب
وبسيط، محاط ومحيط …
٢٦ يشكِّل هذا الروح مصدر المعرفة الصوفية؛ فهو عبارة عن قطعة نور متمازجة
بالكليات هي المصدر النوراني للعلم الصوفي. إن هذا التحديد الثنائي للروح يشكِّل، في
حقيقة الأمر، تحديدًا جدليًّا يوحِّد بين المتناقض، ويجعل الروح موضوعًا جامعًا ولا
متحدِّدًا في الآن نفسه. فالروح هي بالنسبة لابن عربي «روح الياء»؛ وهي الروح المنسوبة
معرفتها إلى الله؛ أي الروح الماهوية، والروح بمعنى العلم والوحي، وهي الدلالة التي
يطوِّرها ابن عربي بهدف الوصول إلى استواء النبي والولي في المعرفة مع عدم استوائهما
في
النبوة. إن إلقاء الروح أو الرسالة يرتبط لدى ابن عربي بالذوق والحال، ممَّا يؤكِّد
توفُّر الولي على معرفة مُتنزلة روحًا.
لهذا يشبِّه الصوفي هذا التنزيل الروحي الرسالي لعلم الغيب في قلب الصوفي بكنوز تنزل،
فتضيء سراج القلب، فتحصل الإضاءة، وتحصل المعرفة. وليس يخفى أن هذا التأويل الصوفي
ينطلق — كما عوَّدَنا على ذلك ابنُ عربي — من إعادة الاعتبار للمعنى الأصلي للكلمات،
ناحتًا منها ومُبلوِرًا فيها بناءً مفاهيميًّا يتمُّ مسرحتُه وتشخيصُه في تشكيل التأويل
العِرفاني.
٢٧ بَيْدَ أن المعنى الآخر الذي يطوِّره ابن عربي ويمنَحُه حظوةً عِرفانيةً
خاصةً تتخلَّل تصوُّره الكوسموجوني الكوني، هو نوعية استعماله للنَّفَس. ومعلوم أن
النَّفْس والنَّفَس من جذر لغوي واحد، وأن النفس والروح يأتيان بمعنًى واحدٍ أيضًا في
لسان العرب. ينطلق ابن عربي من هذا المعنى المشترك ليقرنه بدلالةٍ جاءت في حديث نبوي
يفسره في الفتوحات: «إني أجد نَفَس الرحمان من قبل اليَمن …» يأخذ النفَس هنا معنى
الرحمة، غير أنه يغدو، نظرًا لجدل الحقيقي المادي (النفَس المادي) والمجازي، نَفَسًا
رحمانيًّا، وهو بذلك ذو طابعٍ كوني، فهو «لا روح ولا جسد»، أيْ كيان مُفارق مفارقةً
كلية.
إن مهمَّة النفس الرحماني تكمن في إخراج الذات الإلهية من الوحدة المطلقة (الباطن)
إلى الظهور، وهو حركة عشقٍ شوقية أحبَّ بها الله أن تتمَّ معرفتُه من قِبل الخلق؛ لذا
فإن هذه الأنفاس الرحمانية ليست أنفاسًا ماديةً محسوسة، وهي خاصة بالأنبياء والأولياء
يشمُّونها، ويتعرفون من خلالها على الوجود الإلهي الخالص. هذه النظرة للنفس والروح
ومرتبة الأنفاس والنَّفس الرحماني تُنضِّدها وتُرتِّبها ضمن عالَم يصوغه ابن عربي بشكلٍ
مرآوي؛ فالجوهر الروحاني يأتي أولًا، وبعده العقل، ثم النفَس، فالجوهر السماوي، وبعد
ذلك الجسم.
٢٨ أمَّا النفْس الكلية، فإنها في هذه الهندسة الكونية ليست سوى المرادف
الجوهري للَّوح المحفوظ، أيْ لتلك المقصدية الخالقة والحافظة لأسرار الخلق. من هنا
يتوضَّح الثراء المجازي الذي يلحق موضوعة النفس لدى ابن عربي؛ بحيث تنقسم لتغطية
مدلولاتٍ متعددة، ثم تعود إلى أصلها اللغوي (وهي ممارسةٌ فيلولوجية يوظفها المؤلِّف
بصفةٍ نسقيةٍ منتظمة)، لتستثمر فيه ممكناته التعبيرية. هذه العملية هي ما يخلق بالضبط
لعبةً دلاليةً بين المعنى الحرفي والمعنى المجازي والرمزي وفْق عمليةٍ تأويليةٍ واضحة،
ممَّا يغني مفهوم النفس والنَّص المُبلوِر له. أمَّا الجسد فإنه يظلُّ في هذه التراتبية
المُلحَق الأخير. لكن ما يلزم الإشارة له هو أن تلك التراتبية تنحلُّ كلها في عمليتَي
الخيال والمحبة، مما يجعل الروح تتجَسْدَن والجسد يترَوْحَن في علاقة تبادل لا نهاية
لها. «هكذا — كما يقول ﻫ. كوربان — تتحقق المواءمة بين اللامرئي والمرئي، وبين الروحي
والبدني، وذلك بفضل الخيال الفاعل.»
٢٩ فالمحبة عشقٌ لكائنٍ محسوس يتجلى فيه المحبوب الربَّاني، ولهذا يغدو
الأنثوي سابقًا على الذكوري؛ لأن هذا الأخير (في شخص آدم) يجد نفسه بين أنثَيَين؛ بين
ذات الحقِّ الذي خلق آدم على صورته، وحواء التي خُلِقَت من ضلع هذا الأخير.
٣٠
لكن إذا كان هذا التخصيص للجسد المحسوس يمنحه موقعًا مركزيًّا، فإن الخيال هو الأداة
التي تُجسِّد، أيْ تمنح جسدًا، لكل ما هو روحاني وتنقل اللامرئي إلى مجال المرئي
المحسوس، خالقًا بذلك تفاعلًا وجوديًّا بين العالمين.
وبما أن مَرمانا ليس استعراضَ، ولا تتبُّعَ قضية النفس والجسد في تاريخ الفكر
الإسلامي برُمَّته، فإننا سنكتفي، بدل مقاربة هذا الموضوع لدى الفلاسفة المسلمين كابن
رشد وابن سينا، بالتطرق لتصوُّر تركيبي وأنموذجي ذي مَنزعٍ أخلاقي بَلوَره ابن مسكويه
اعتمادًا على منظورٍ فلسفي واضح. وينبع اختيارُنا لابن مسكويه اعتمادًا على منظورٍ
فلسفي واضح، وينبع اختيارُنا لابن مسكويه من كون التفكير الأخلاقي غدَا معه تفكيرًا
مستقلًّا بعد أن ظلَّ مُوزَّعًا بين الفقه والفلسفة والأدب.
ينطلق البحث في القيَم لدى هذا المُفكر من معرفة النفوس؛ ما هي، وأيُّ شيء هي، وبأيِّ
شيءٍ أُوجِدَت فينا، أعني كمالها وغايتها، وما قُواها ومَلَكاتها. إن طريق الخلق الجميل
يرتبط مبدئيًّا بالمعرفة، وبمعرفة خاصة أساسية (فلسفية) بالطابع الوجودي للنفس. إن هذه
الأخيرة ليست جسمًا ولا جزءًا من جسم، وليست عرضًا ولا تحتاج إلى جسم في وجودها. إنها
جوهرٌ بسيطٌ غيرُ محسوسٍ بشيءٍ من الحواس. بهذا المعنى يكون كتاب «تهذيب الأخلاق»
٣١ جوابًا على تلك السلسلة من الأسئلة الجوهرية المتصلة بماهية النفس، بل إنه
البرنامج المعرفي الذي يقود إلى معرفتها معرفةً صحيحةً قويمة.
يتحدث ابن مسكويه عن ملذَّات الجسد بألفاظٍ سجالية، فهي لذات خسيسة، وطباع الجسد
طباعٌ مذمومة، بَيْدَ أن هذه الخاصية تنبُع من جهة من المقصد الأخلاقي السلوكي للكتاب،
الذي يُعرِّف وينتقد نقدًا صارمًا في الآن نفسه، ومن سيطرة الفقهي على النظرية
الأخلاقية الإسلامية التي لم يسعفها الفكر الفلسفي في تجاوزها أو الانزياح عنها. فالجسد
له طباع مرتبطة بالأمور الجسمانية، أمَّا النفس فجوهرٌ مُفارق للبدن، ومخالف له في
طبعه. من ثمَّة فإن الجسم لا يصل للمعرفة إلا بالحواس، وبما أن تلك المعرفة مشوبةٌ بكل
أنواع الشهوات البدنية، فإنها لا تصل إلى الآراء الصحيحة، ولا تدرك المعقولات البسيطة؛
ذلك أن هذه الأخيرة أمر من أمور النفس التي كلما انفصلَت عن هذه «المعاني البدنية» كلما
حقَّقَت اكتمالَها وتمامَها.
٣٢
تدرك الحواس المحسوسات فقط، أمَّا النفس فإنها تدرك أسباب الاتفاقات والاختلافات
التي
تقع بين المحسوسات، وهي تقوم بذلك بغير استعانة بآثار الجسد. انطلاقًا من هذا التمييز
في الوظيفة يبني ابن مسكويه تصوُّره للكائن على تراتبية وظيفية لمناطق الكائن؛ فالنفس
العاقلة تقوم بتقويم خطأ الحواس، أمَّا النفس الشريفة (أي القوة الناطقة) فهي القوة
المَلَكية؛ لأن آلتها من الجسم الدماغ، وهي بذلك أرفع مقامًا من القوة الشهوية
(البهيمية) والقوة الغضبية (السبعية). أمَّا الإنسان فهو لذلك تركيب تراتبي من هذه
الأنفس الثلاثة، «وإنما صار إنسانًا بأفضل هذه النفوس، أعني الناطقة، وبها شارَك
الملائكة، وبها بايَن البهائم.»
٣٣
لذلك فإن أخلاقية الإنسان ترتهن بقوة هذه النفس وسيطرتها على السلوك، وبهيميَّته
ناتجة عن ضعفها وانسياقها وراء الملذات، بل يمكن القول إن مرتبة الإنسان من الوجود
متصلة جوهريًّا، في منطق هذا التصور، بنوعية علاقته بالجسدي أو النفسي. «فالسعيد إذَن
من الناس يكون في إحدى مرتبتَين؛ إمَّا مرتبة الأشياء الجسمانية، متعلقًا بأحوالها
السفلى، سعيدًا بها، وهو مع ذلك يطالع الأمور الشريفة، باحثًا عنها، مشتاقًا إليها،
متحركًا نحوها مغتبطًا بها. وإمَّا أن يكون في رتبة الأشياء الروحانية، متعلقًا
بأحوالها العُليا، سعيدًا بها، وهو مع ذلك يطالع الأمور البدنية، معتبرًا بها، ناظرًا
في علامات القدرة الإلهية ودلائل الحكمة البالغة، مقتديًا بها، ناظمًا لها، مفيضًا
للخيرات عليها، سابقًا لها نحو الأفضل، فلا فضل بحسب قبولها وعلى نحو استطاعتها.»
٣٤
إن المنظور الأخلاقي لابن مسكويه يوضح، بشكل جازم، كيف انبَنَت النظرة الفكرية للمثقف
المسلم على ثنائية الجسد والنفس في تركيبتها المتفرعة، فقد أصبحنا نجد أنفسنا هنا أمام
تصوُّر فكري شامل للإنسان يحكُم سلوكه الأخلاقي نظرًا وعملًا، قِيَمًا وممارسة، بعد أن
كان الأمر يتعلق بمنظورٍ فقهي ضيِّق يُعدِّد الواجبات والنواهي والمُحرَّمات
والمكروهات، ويصف بدقةٍ ما على المسلم فعلُه لدرء شهوات النفس، وكيف عليه التصرف في
البيت، والشارع، والمنام واليقظة.
٣٥ فالمنظور الأخلاقي ليس اتباعيًّا، سواء في هذه المسألة أو في قضايا أخرى.
إنه منظورٌ فكري تنظيري يؤسِّس التصور الوجودي للنفس قبل بسط عمومية السلوك ومبادئ
القِيَم العامة المُحددة له كالفضيلة والسعادة. من ثمَّة فإن التحوُّلات المعرفية التي
طالت تناوُل علاقة الجسد بالنفس لم تعمل سوى على تعميق تلك الثنائية مانحةً إياها
أرضيةً فكريةً أكثر صلابةً وأكثر إقناعًا، بعد أن كان التصور الفقهي التقليدي
يُحوِّلها، في الكثير من الأحيان، إلى قضية «أسطورية» يخترقها المُتخيَّل من كل
الجوانب.
الإسلام والجنس والمُقدَّس
لا يمكن الحديثُ عن الجسد الإسلامي من دون ربطه بالصورة القدسية التي أضفاها عليه
الإسلام. عَبْر تقنين حركاته وسكناته، ومَنْحها دلالاتٍ علويةً تُدخِلها مباشرةً في
علاقة مع النظام الإلهي للكون. فالطابع القدسي للجسد أثناء الصلاة (الجسد الطاهر
المستقبل قِبلة ربِّه، والخاشع خشوعًا صوفيًّا)، وأثناء الصيام، وكذا الحدود
القدسية المفروضة عليه، باعتباره جسدًا اجتماعيًّا وثقافيًّا، في لحظات الحرب
والعمل وفي لحظاته الذاتية الحميمة … كلها عناصر تؤكِّد تداخُل وتنافُذ الديني
والدنيوي، وهو تفاعُل يتمُّ في جميع مستويات الحياة اليومية للمسلم، الشيء الذي
انتبه إليه، منذ مدة، دارسو الديانة الإسلامية: «إن الدنيوي — كما يقول وورنبرغر —
ليس فقط استجابةً ورجعًا للمُقدَّس، وإنما هو ما يجعلنا نؤكد أن بعض الديانات لم
تعرض هذه الثنائية، فإعلان الإيمان بالشهادتَين من لَدُن المسلم المؤمن يكفي، حسب
لوي ماسينيون ولوي غاردي، لإدخاله في رحاب قدسية واسعة؛ بحيث يمكننا القول بأننا
نشهد في الإسلام عمليةً قُدسيةً مُعممةً للحياة الإنسانية.»
٣٦
ليس ثمَّة فَرقٌ إذَن بين الديني والدنيوي؛ ذلك أن العمل الاجتماعي والأُسروي له
امتداداته ومقصدياته الثوابية الواضحة. إن حياة المسلم برُمَّتها حياةٌ من أجل
الحياة الأخرى؛ بحيث يترابط المُقدَّس واليومي ترابطًا ميتنًا يصعُب معه الحديث عن
أيِّ تعارضٍ ممكن بينهما، بل إن الأمر يتعلق فقط بتراتبيةٍ ناتجة عن أصالة وأولوية
المتعالي الإلهي الخالد، بالمقارنة مع البشري العارض والعابر. هذه التراتبية خاضعة
في أصلها لكون الدنيوي والإنساني علامةً على الأُخروي، ومن ثمَّ فهو غايته ومنتهاه؛
ذلك أن الإلهي قد عمل على إبراز الصِّيَغ المتعددة للمُقدَّس في صلب بنية العالم
نفسها، وكذا في الظواهر الكونية برُمَّتها. وهذا هو ما يدفعنا إلى القول بأن
الهوَّة بين المُقدَّس والدنيوي، التي ينظِّر لها مرسيا إلياد وروجي كايوا،
٣٧ ليست ذات طابعٍ عمومي وكوني، بل ليست سوى مظهرٍ جهوي، وتعبير عن
إمكانية علاقةٍ أخرى يؤكِّدها الإسلام في صورتها الخصوصية. بَيْدَ أن تلك الهوَّة،
كما هو واضح، كامنةٌ في خلفية التصور الإسلامي الذي سعى منذ البدء إلى ردمها من
خلال المقولة المتداوَلة عنه بوصفه دينًا ودنيا في الآن نفسه.
إن هذا المقصد هو الذي يتحكم في التصور الإسلامي للجسد وتدبيره لممارساته،
وبالأخص لليبيدو، باعتبارها أكثر الوظائف تعقدًا وأكثرها تجذرًا في الوعي واللاوعي
البشري. تتبدَّى صورة المُقدَّس في التصور الإسلامي للجسد، بدءًا في الطريقة
البلاغية التي يمثِّل بها النصُّ القرآني لعملية النكاح والمباضعة بقوله:
نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى
شِئْتُمْ.
٣٨ إن تشبيه الذكوري بالمحراث وتشبيه الأنثوي بالأرض يُحيل في المُتخيَّل
الكوني إلى خلق تعاضدٍ صوفي بين المرأة والأرض، ويجعل الرموز المتصلة بالمرأة
رموزًا ليلية لها صفة العمق والغور والظلمة، وتلك المرتبطة بالرجل رموزًا نهاريةً
عموديةً ومنتصبة.
٣٩ من ناحيةٍ أخرى يؤكد هذا الترابط الرمزي أن لخصوبة المرأة أنموذجًا
كونيًّا يتمثل في الأرض الأم المُنجبة والكونية.
هذه البِنْية الكونية التي يندمج فيها فعل التواصل الجسدي، وما يترتب عنه من
خصوبة، هي التي تتحكم في التصور الإسلامي للعلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة، والتي
سوف يفسِّر بها ابن عباس، بشكلٍ غير مباشر، الآية المذكورة آنفًا: «عن محمد بن كعب
القرطبي أن رجلًا سأله عن المرأة تؤتى من دُبرها؟ فقال محمد: إن عبد الله بن عباس
كان يقول: إيتِ حَرثَك من حيثُ نباته.»
٤٠ يتبدَّى إذَن أن هذا الترابط بين المرأة والأرض ترابطٌ أصلي ونمطي،
يتجاوز من بعيد مؤسَّسة النكاح الشرعي، لكنه يشكل بالمقابل عنصرها الأساس ومُعطاها
المركزي الذي عليه تنبني مؤسَّسة الأُسرة بكل أبعادها الدينية والاجتماعية
والنَّسَبية.
لقد انتبه الإسلام، وبصورة حادة، إلى توزُّع الممارسة الجنسية في الجاهلية،
واعتبرها فوضى خطرةً تُجهِز على النَّسَب؛ لذا عمدَت النصوص الإسلامية إلى تقعيده
وشدِّه إلى وظيفته الاجتماعية الدينية؛ أيْ إخراجه من دائرة الرغبة الفردية
الاعتباطية والعادة الطقسية، بُغيةَ إدماجه مباشرةً في دائرة المُقدَّس. هذه
الدائرة هي بالضبط المجال الجدلي لتعالُق الجنس بالمُقدَّس، وذلك ما حدَا ببوحديبة
إلى القول بعدم عداء الإسلام للمرأة، حتى وهو يحدِّد موقعها الثانوي في الحياة
الزوجية والحياة الجنسية والاجتماعية.
٤١
وإذا كنَّا قد انطلقنا من هذا الترابط الصميم بين الجنس والمُقدَّس في الإسلام،
وحاولنا تبيُّن موقع الجسد منه، فإننا لن نكتفي بالحديث العمومي عن هذه البديهية،
بل سنحاول استيضاحها من خلال قضيتَين مركزيتَين في هذا المضمار، أعني حدود
المُحرَّم من جهة وحدود الطاهر والمدنس من جهةٍ ثانية. ليس من شكٍّ في أن هذه
الحدود تدخل في صميم الحدِّ النظري والمعرفي المتداول لمفهوم المُقدَّس نفسه؛
فبينما يرى البعض أن العلاقة بين المُحرَّم والمُقدَّس، علاقة خرق؛ بحيث لا يتعارض
المُحرَّم والإلهي إلا في معنًى ما، باعتبار الإلهي المظهر الفاتن للمُحرَّم،
يمكِننا من جانبنا اعتبار المُحرَّم في الإسلام العملية التي يتمُّ بمُوجِبها
تحديدُ وإقرارُ المُقدَّس وتنظيمُه ورسمُ حدوده وتخومه، بل ورسم تخوم المُحرَّم
نفسه. بهذا النحو يتحدَّد الجنس في الإسلام بانزياحه عن المُحرَّمات الجنسية الأساس
(كوطء المحارم …)، والثانوية كتحريم المعاشرة المثلية الجنس والوطء في الدُّبر،
وتحريم النظر إلى عورات النساء والزنا … إلخ.
لقد أدخل الإسلام العنصر الجنسي في صلب الممارسة الإيمانية للمسلم، واعتبر النكاح
(الشرعي طبعًا) الشكل الأسمى للعلاقة الجنسية، فهو الذي يمنحها معناها ودلالتها،
وهو الذي يضمن سلامة الخلق، ومن ثمَّة خلوص الذرية الإسلامية. إن الجنس المنظَّم
بهذا الشكل يمثِّل أصل ونواة النظام الاجتماعي الإسلامي. ولن نغالي إن نحن قُلنا
بأن دعوة الإسلام إلى تعميم الزواج تشكِّل، من جهة، درءًا للفتنة وتحديدًا للشهوة
(التي يساعد الصيام أيضًا، حسب الحديث، على التخفيف منها)، ومن جهةٍ ثانية دعوةً
إلى ضبط الفرد بإدخاله إلى مسئوليات النظام الاجتماعي بمؤسَّساته كلها.
وإذا كان مصطلح النكاح مصطلحًا شرعيًّا ملتبسًا، فلأنه يُعيِّن في الوقت نفسه
المعاشرة الجنسية وصيغتها الشرعية التي تخضع للسَّنن الديني والاجتماعي. وفي هذا
التذبذب بين الجسدي المباشر والقدسي الكوني يعيش المؤمن نوعًا من التلاؤم بين لذة
المجامعة، بما هي لذةٌ حسيَّة مباشرة، ولذة الثواب الذي يُحسب له. إن تأطير المسلم
للعملية الجنسية، بصِيَغ بَسْمَليَّة وحَمْدَليَّة، مثلها في ذلك مثل الأكل وغيره
من الممارسات اليومية، يجعل الجنس — رغم طابعه الغامض والرهيب أحيانًا — جزءًا من
سمفونية الفعل اليومي للمؤمن، الذي يعيش كل شيء بشكلٍ طقوسي خاص. هذه الألفة
والتآلف هي ما دفع بوحديبة إلى القول بأن الجماع ليس ولوجًا إلى عالم الشر، وإنما
دخولًا إلى عالم القُوى القُدسيَّة.
٤٢
يَعتبر الإسلامُ النصيُّ الوظيفةَ الجسديةَ وظيفةً مُقدَّسة. وفي هذا بالضبط
يكمُن طابعُها الكلي الشامل، وبالتالي وظيفتها الرمزية، باعتبارها تُحيل على فعل
الخلق وعظمة الخالق ودوام الخليقة. وبما أن كل وظيفةٍ قدسية تكون وظيفةً حصرية، فإن
النصَّ القرآني والحديثي (ومن بعدُ التفسيرات الفقهية والأحكام) ركَّزت على أشكال
وصِيَغ هذه القدسية، وحدَّدَت من ثَم المباح والمُستحَب والمكروه والمُحرَّم،
ليغدوَ الجسد بذلك جسدًا علائقيًّا مشروطًا في وجوده الشخصي بما يقوم به، وبالقواعد
التي تضبطه في وضعيته السياقية الجماعية.
هكذا يغدو من الصعب، بل من المستحيل، الحديث عن جسدٍ إسلامي في ذاته؛ ذلك أن
النصوص الأولى اهتمَّت أساسًا بتحويل الجسد في موقعه الاجتماعي الديني؛ أيْ عَبْر
التركيز على ما يُعرف بالعبادات، مُرجِئةً الاعتقادات في صورتها الجزئية لما بعد.
أمَّا الجسد المعطى، فهو جسد مادي شهواني وخطير، إنه جسد يَلزم إدماجُه في الفكري
والإيماني.
ينسلخ الجسد عن ماديته تلك عَبْر انسياقه مع قوانين ذات طابعٍ حصري، تُحرِّم عليه
ما قد يبدو له طبيعيًّا. إن التحريم من هذا المنظور فعل ثقافي يضفي على الجسد
طابعًا قدسيًّا. هكذا فإن الزواج يشكِّل موطن تحويل الشهوة إلى فعلٍ اجتماعي وقدسي؛
لذا يأخذ الجسد حقَّه في علاقة توازن يكون للإشباع الجنسي فيها دَور أساسي؛ بحيث
يغدو من حقِّ الزوجة، مثلًا إن اختلَّ هذا التوازن، وكان الزوج عِنِّينًا، أن تطلب
الطلاق، وأن تطلب الصَّداق إن وقَعَ بين الرجل والمرأة خلوة، وتطلب الانفصال إن غاب
الزوجُ من غير إشعار أو كان لواطيًّا …
٤٣ بَيْدَ أن موقع الرغبة هذا له حدوده وقوانينه التي تنعكس على صورة
الجسد وترسمُ هندستَه وجغرافيتَه؛ فالفَرْجُ للوطء والفمُ للأكل والاستُ للتبرُّز.
ولا يلزم أبدًا استبدالُ عضو بآخر، وإلا غُرِّبَت صورتُه وفسدَت العلاقة الجنسية
ودخلَت مجال المُحرَّم.
٤٤
لكن لكل مُحرَّم وجهه الآخر؛ فإذا كان الإسلام قد رسم حدود الممارسة النكاحية
سعيًا منه نحو تدبيرٍ واضح للمؤسَّسة الجنسية، فإنه قد خلق بالمقابل صورةً
أنموذجيةً للمعاشرة تتجلى في خطوطها العامة في اختيار البكر؛ لأنها تكون أقرب إلى
متعة المعاشرة وفرحتها، وتلاعب الرجل وتضاحكه.
٤٥ إن استيهام المرأة البِكر هذا يتجاوز المعاشرة الدنيوية ليطول المعاشرة
الأُخروية التي تتمثل فيها الحور في صورة أبكار، ممَّا يدل على الموقع الرمزي
و«الأسطوري» الذي يحتله الجسد في بنية التفكير الإسلامي الحميم منه والاجتماعي. كما
ألحَّت النصوص الإسلامية على اختيار المرأة الوَلود الوَدود
٤٦ لحسن معاشرتها وتمكُّنها من إثبات خصوبة الحياة الزوجية. وبهذا يُمكِن،
إذا نحن ركَّبنا بين هذه النواهي والتخصيصات، واطَّلَعنا على صورتها الكاملة كما
يُقدِّمها الغزالي، مثلًا؛ أن نتحدث عن أنموذج نبوي للزوجة، قد لا ينطبق على نسائه
اللواتي لم يتزوج منهنَّ البِكر سوى عائشة، بَيْدَ أنه يظلُّ الأنموذج المُقترَح
على المسلم. كما أننا، إذا نحن تتبَّعنا الخطاب النبوي والفقهي في هذا المضمار،
يمكننا أن نَرسمَ أنموذجًا نبويًّا للمعاشرة الجنسية، يتوزَّع بين ما قام به
النبيُّ نفسه وما قال وأفتى به، كالنهي عن التجرُّد الكامل والبدء بالقبلة
والمؤانسة والمحادثة، وعدم الإتيان في الدُّبُر، وإمكان إتيان القُبُل من الدُّبُر،
٤٧ وإمكان مباشرة الحائض …
٤٨ إلخ.
لقد حثَّ الإسلام على المباضعة ورغَّب فيها؛ فقد قال النبي: «إن على كل امرئ، كل
يوم طلعَت فيه الشمس، صَدقةً منه على نفسه (أيْ جسده)، ومن ضمن هذه الصدقات، للرجل
في جماع زوجته أجر.»
٤٩ ولم يقتصر هذا التشجيع على الرجل المُتزوِّج، بل تعدَّاه لتشجيع
الأعزَب على النكاحِ الشرعي؛ ذلك أن الإسلام لا يقبل الجسد المُجرَّد من نوازعه
ورغباته، والمُتنسِّك طمعًا في حياة آخرة بنبذ الدنيا. إن جسدًا من هذا القَبيل
يغدو لا واقعيًّا، قريبًا من الملائكية وبعيدًا عن الإنسانية، ومن ثَم رفَض
الإسلامُ أيَّ نسك أو رهبنة؛ فقد أوصى النبيُّ أحدَهم أن يصوم ويفطر ويقوم الليل
وينام النهار؛ إذ لنفسه (جسده) عليه حق. فالجسد ذو حقوقٍ تتجلى، لا فقط في إعمال
التسامي، وإنما أيضًا في الإشباع، بل أساسًا فيه. إن حقَّ الجسد كما يطرحُه
الإسلامُ هنا مدخلٌ ضروريٌّ لخلق توازُن القُدسي والدُّنيوي عَبْر إدماج أحدهما في
الآخر، وجعْل تحقيق المتعة البدنية مدخلًا لخلق الطمأنينة الدينية، بوصفها غايةً
مقدسة.
وإذا كان الجسد المجرَّد يقود مباشرةً إلى اللاتحدُّد الجسدي، ومن ثَم إلى خلقِ
كيانٍ خيالي يتماهى والكائنات غير البشرية؛ فإن النقيض المباشر لهذا الجسد يتمثل في
الجسد الغرائزي الشهواني الذي عبَّر الإسلام عن رفعه برفض ممارسة الزنا. فالأول
جسدٌ يمارِس التسامي على معطيات جسده الطبيعية، ويسعى إلى خلق صورةٍ عمودية للجسد،
بينما يشكِّل الثاني جسدًا يمارِس، بدون قيد، نوعًا من التبذير الشهوي عَبْر
استراتيجيةٍ لا منتهى لها.
٥٠ إنه بهذا المعنى جسدٌ أفقي يتعالى عن كل تقنينٍ رمزي ويتابِع نداءات
الجسد المباشرة ليُحوِّلها إلى أسلوب حياة.
يتمُّ الزنا بالنظر أولًا، وقبل كل شيء، وإن كان من الناحية الشرعية لا يثبت إلا
بأربعة شهود، وبتقنية تأكُّد تتمثل في تمرير خيطٍ دقيق بين الجسدَين لمعرفة
تماسِّهما؛ فالعين عاشقة، كما يقول ابن عربي، وهي باب النفس الشارع، كما يقول ابن
حزم، ووسيلة الجسد التواصلية الأولى ومَعبَر الشهوة. إن سُلطة العين هذه هي ما يجعل
منها أولًا وقبل كل شيء لغة، ومدخلًا للفعل. ولعلَّ هذه السُّلطة هي التي حذَت
بالمُشرِّع إلى الدعوة إلى غضِّ الطرف، وتجنُّب النظر إلى عورات الآخرين،
٥١ بل هي التي دعَت إلى تقسيم الجسد إلى ما يُشكِّل عورةً ويتطلَّب
الحجْب، وإلى ما يقبل النظر كالوجه واليدين مثلًا. بَيْدَ أن هذا التقسيم نفسه قد
استدعى الإلغاء من قِبَل بعض الفقهاء ليتمَّ اعتبارُ الجسد الأنثوي عورةً بأتمه،
محاولًا بذلك الدفع بالجسد الأنثوي بكامله إلى مهاوي العدم والغياب المطلق
والإلغاز. إن هذه الأهمية التي مُنِحَت للنظر (ومعه للعين) هي التي جعلَت منه (في
هندسة الشهوة) أشبه بالعضو الجنسي؛ أفلم يَنهَ أحدُهم ابنَه عن النظر إلى زوجته
قائلًا: «قد أحبلتَها بالنظر»؟
٥٢ تبدو هذه المقارنة ذات أهميةٍ بالغة؛ لأن العين ترتبط في المُتخيَّل
الكوني، بالقِيَم الفكرية والعقلية والذهنية. فكما أن النظر ثاقبٌ وله سهامه، فكذلك
العضو الذكوري في شكله ووظيفته والصورة المُتخيَّلة التي يتشخَّص فيها؛ لذا وبما أن
النظر مدخل لتبليغ الشهوة والتعبير عنها، دعَا الإسلامُ إلى غضِّ البصر وكبح العين
والحدِّ من سطوتها؛ درءًا لما عُرف في الاصطلاح الإسلامي بالفتنة.
ترتبط الفتنة في صورتها الذاتية بالبصر، باعتباره مرآة الداخل التي تُشكِّل خطرًا
مزدوجًا، فالعين رائية ومرئية، باثَّة ومُتلقِّية، وهي من ثَم تنقل المعلومات من
الداخل إلى الآخر، وتستقبل الخبر والمعنى لتزجَّ به في عمق الحواس. إن خطرها قد
يحصل أحيانًا في أكثر الحالات قداسةً وخشوعًا (الصلاة)، ولأكثر الناس عصمة،
٥٣ ولا يقلُّ السمع عن العين أهمية؛ ذلك أن الأذن أيضًا عاشقة، كما يقول
أيضًا ابن عربي، وتُفتتَن بما تسمعه، سواء كان مجرَّد صوتٍ نِسوي تدُل نبراتُه على
الدلالِ والغُنجِ والرغبة المُعلَنة، أو كان كلامًا مسبوكًا، دالًّا وتصويريًّا؛
لذلك اهتمَّ الفقهاء بهذا الجانب، ونهَوا المرأة عن التحدث بصوتٍ مرتفع أو التغَني
بصوتٍ رخيم عذب؛ لأن ذلك مَدعاةٌ للفتنة، وكل فتنة مدخل للزنا. أمَّا حركة الجسد،
فإنها كلما كانت متصنَّعة، تُظهِر مفاتن الجسد ومفاصلَه، سواء بالمشية المتدللة أو
الرقص، فإنها تُشكل لغة، اعتبرها البعض دلالةً على تهتُّك صاحبتها، فيما رأى آخرون
(الجاحظ مثلًا) فيها صفةً من صفات الأنوثة لا غير.
٥٤
إجمالًا؛ تدخل الحرب ضدَّ الحواس في استراتيجية تقنين الفعل الجنسي برُمَّته،
وبالتالي في توضيح أهمية وخطورة المسارب المؤدِّية له والمُمهِّدة لصورته
المُحرَّمة. بهذا المعنى يحتلُّ الزنا موقعًا تحديديًّا، ويساهم في توضيح مَعالم
النكاح الشرعي. فبالعلاقة مع الخوف من الزنا تظهر أهمية الزواج؛ لأن كل الرغبات
يلزم توجيهُها نحو الزوجة، اقتداءً بسيرة النبي في هذا المضمار. يشغل الزنا إذَن
المساحة الشاغرة بين الرغبة والنكاح، غير أن بينهما مجالًا بالغ الالتباس لا يرتبط
سوى بقرارٍ فردي. فما ملكَت الأيمان التي جاءت في النصِّ القرآني، هي بهذا الشكل
مجال غير مُتحدِّد، ولا يختلف إلا في صفته الشرعية عن الزنا. إنه مجال الشهوة
بامتياز. إلى نفس المنطقة المُلتبِسة ينتمي زواج المتعة الذي تخلَّى عنه أهلُ
السُّنة، والذي يجمع في اسمه ذاته بين المتعة العابرة والزواج الشرعي. إنه نوع من
المتعة المشروطة. من ناحيةٍ أخرى يرتبط الغموض الذي يعتري مسألة الزنا بصعوبة
إثباته من الناحية الشرعية، إلا بأربعة شهود يصعُب أحيانًا جمعُ كلمتهم، كما حصل في
عهد عمر بن الخطاب. أمَّا إذا ثبَت الزنا، فإن صاحبه يُرجَم كما يُرجَم الشيطان؛
أيْ إنه يُعاقَب بشكلٍ جسدي محسوس، وهو ما يوضِّح أن الزنا يرمي بصاحبه خارج مجال
المقدَّس، الذي هو هنا المعاشرة الشرعية، ليتمَّ إلحاقُه بثنائي يُرجَم جماعيًّا؛
الأوثان والشيطان.
•••
يبدو من الواضح إذَن أن الظاهرة الجسدية في الإسلام تخضع، من الناحية الواقعية
والخطابية، إلى سَنن الأنموذج الذي تبلوَر في حِضْن التأسيس الأول للممارسة
العقائدية الإسلامية، ومن الناحية الميتافيزيقية إلى ثنائية النفس والبدن. إن هذا
التأطير يخلُق تراتُبيةً في الخلفيَّات الوجودية والفكرية التي تحكَّمَت في صياغة
قوانين وسُنن وتقنيات الجسد الثقافية في المجتمع الإسلامي الوسيط، ولا تزال تتحكَّم
فيه، بهذا القدْر أو ذاك، من التطور إلى حدود الآن. فالخلفية الميتافيزيقية تنبني
على انشطارٍ واضح بين المادي المحسوس والروحي المتعالي، ولا تقبل بالتماسِّ بين
العضوي والنفسي، إلا في درجةٍ مُعيَّنة يتمُّ توجيهُها كي تنتهي إلى الخلوص الروحي.
أمَّا الممارَسة الواقعية والخطابية، فإنها تُشكِّل ذلك المزيج الذي تتداخل فيه
قُدسيةُ النفس مع الوجهة القُدسية للجسد. فالأنموذج الجسدي هو في الآن نفسه يهدف
إلى إضفاء طابعٍ روحي على الجسد من غير أن يُغمِطه حقَّه في شهوات الدنيا. إنه في
الحقيقة أنموذجٌ توجيهي تعليمي، ومن ثم تكمُن أهميتُه التاريخيةُ والمرجعية، خاصةً
في كونه يسعى إلى ضبط الفضاء التاريخي للجسد.
هذا الطابع التاريخي والمرجعي للجسد يمكِّن الخطاب حول الجسد من تأطير المسألة
الجنسية، وتجاوُزها في الآن نفسه، وذلك داخل حدود هذه المرجعية، ومن غير أيِّ
تعامُلٍ صراعي مكشوف معها. فالشهوة والرغبات الليبيدية كلها تأخذ طابعًا سننيًّا في
تعبيرها عن ذاك الأنموذج والاحتذاء به، ومحاكاته في الأمور التي تمَّ تقنينُها،
والانفلات من ذاك التقنين في الفجوات التي تُركَت كما هي.
من ثَم يبدو أن القضية الجنسية تُشكِّل الجانب الأكثر تعبيرًا عن القُدسي
والتباساته، فهي على عتَبة الديني والدنيوي، والواقعي والمُتخيَّل، والنفسي
والجسمي. وهي بالتالي تشكِّل الجانب الأكثر صعوبةً والأحوج إلى التقنين؛ لأنها ذات
تفرُّعاتٍ متعددة تمتدُّ من المتعة إلى التوارث الاجتماعي للخيرات إلى تحديد
هُويَّة الجنس الإنساني.