الجسد والاستراتيجية المظهرية في الإسلام
ولمَّا كان الجمال، من حيث هو، محبوبًا للنفوس، لم يبعث الله نبيًّا إلا جميل الوجه، كريم الحسب، حَسَن الصوت، كما قال علي بن أبي طالب. وقد سُئل أكان وجه رسول الله ﷺ مثل السيف: «لا، بل مثل القمر.»
وحُكي أن المأمون استعرض جيشًا، فمرَّ رجل قبيح الوجه فاستنطقه فرآه ألْكَن، فأمر بإسقاطه وقال: «إن الروح إذا وقع أثَرُها في الظاهر كانت صباحة، وإذا وقع أثَرُها في الباطن كانت فصاحة، وهذا الرجل لا ظاهر له ولا باطن.» وحُكي عن بعض النساء أنها كانت تُكثر صلاة الليل، فقِيل لها في ذلك، فقالت: «إنها تحسن الوجه، وأنا أحبُّ أن يحسن وجهي …» فشبَّهوا الحاجب بالنون، والعين بالعين، والصُّدغ بالواو، والفم بالميم والصاد، والثنايا بالسين، المضفورة بالشين. ومن أحسن ما قِيلَ في ذلك قول الشاعر:
(١) الجسد في الإسلام: من البلاغي إلى المُتخيَّل
بلاغة الجسد في الإسلام
الجسد والجمال والمُقدَّس
ومع أن الرسول نهى عن الزواج بالزرقاء البدينة، والطويلة الهزيلة، والعجوز أو القصيرة القبيحة، وذات الولد من غير الرجل، إلا أن هذا التفضيل للجمال والنضارة والشباب لا يلبَث أن يَنمَحيَ لصالح الوظيفية الجنسية؛ فقد فضَّل الوَلود على الحسناء لجمالها فقط. إن هذا التأكيد على الجمال، كما يبدو، ليس تأكيدًا مطلقًا؛ فبالرغم من ارتباطهما معًا بالقداسة، إلا أن ثمَّة تراتبيةً أصليةً تجعل الخصوبة أعلى مقامًا من الجمال. فبمجرد ما يصير الجمال ظاهرةً مطلقة، في ذاتها، ينزاحُ لصالح ما هو أكثر جوهريةً في التعبير عن الأنثوي. فالإنجاب والخصوبة شرطٌ أساسي وأوَّلي تفُوق فيه السوداءُ المُنجِبةُ الحسناءَ العاقر، وهو الشيء الذي يتأكَّد في التصنيفات التي سادت لاحقًا للنساء.
سوف تتطور هذه الإرهاصات، فيما بعدُ، وتأخذ أشكالًا متلاحقةً ومتداخلة. وسوف تُتداول في الثقافة والمجتمع العربي الإسلامي أقانيمُ جماليةٌ للمرأة وحُسْنها ومَلَاحتها، وذلك من خلال تصوُّرَين اثنين:
-
(١)
تصوُّر كلي للجسد وجماله، يأخذ المرأة في اكتمال ذاتها، ويشير بشكلٍ إيحائي وعمومي وبلاغي لحسنها. وفي هذا الإطار فرَّقَت العرب بين الجمال والملاحة:فمن قولهم في الجارية: «جميلة من بعيد، مليحة من قريب.» فالجميلة التي تأخذ بصرك جملة، فإذا دنَت لم تكُن كذلك، والمليحة التي كلما كرَّرتَ فيها بصرك زادتك حُسنًا. وقال بعضهم: «الجميلة السمينة، من الجميل وهو اللحم، والمليحة أيضًا من الملح وهو البياض.»١٢
إن هذا التمييز في الحقيقة تكاملي، ويخضع لذاتية التلقِّي ولمقصد المستقبِل للجمال الذي يتحكَّم فيه ذوقُه البصري. يبدأ الجمالُ من حيث تنتهي الملاحة، وكأن الجمال شيءٌ موضوعي لا يتمُّ إلا بملاحة القرب. بَيْدَ أن ثمَّة معاييرَ عامةً لا تخضع، في مجملها، لذاتية هذا التقويم؛ ذلك أن العرب قد صاغت لنفسها مجموعةً من المعايير الجمالية الجسدية التي خضعَت بدَورها لتبدُّلاتٍ تاريخية جزئية أو كلية. إن هذا الأنموذج الجمالي يتجلى واضحًا في البورتريه الذي رسمَته الواصفة لبنت عوف، والذي أثبتناه في مجمله في بداية هذا الفصل. وهو الأنموذج الذي سوف يستمر إلى حدود نهاية العصر الأموي الذي عُرف بشغَفه الخطابي والتخييلي بقِيَم الجاهلية.
يتمثَّل هذا الأنموذج في قول الخليفة عبد الملك بن مروان لرجل من غطفان:«صِفْ لي أحسن النساء، قال: «خُذها يا أمير المؤمنين ملساء القدمَين، رمداء الكعبَين، مملوءة الساقَين، جمَّاء الرُّكبتَين (غير بارزة العظمين)، لفَّاء الخدَّين، مُقرمَدة الرفعَين (أصلَي الفخذ)، ناعمة الأليتَين، مُنيَّفة المأكمتَين (عظيمة ملاقي العَجُز)، فعمة (ممتلئة) العَضُدَين، فخمة الذراعَين، رخصة (ناعمة) الكفَّين، ناهدة الثديَين، حمراء الخدَّين، كحلاء العينَين، زجَّاء (رقيقة) الحاجبَين، لمياء الشفتَين، بَلجاء الجبين، شمَّاء العِرْنِين (الأنف)، شَنْباء الثَّغر (بيض أسنانه)، حالكة الشَّعر، غيداء العُنق، عَيْناء العينَين، مُكسَّرة البطن، ناتئة الركب.»
فقال: «ويحك! وأنَّى تُوجَد هذه؟» قال: «في خالص العرب أو في خالص الفُرس.»١٣على عكس الوصف الجاهلي، يبدأ الوصف هنا من الأسفل نحو الأعلى، وكأن الواصف يبني أنموذجه الجسدي قطعةً قطعة. وهذا بالضبط ما جعل المتلقِّي (عبد الملك بن مروان) يتساءل إن كان الأمر يتعلق بتخييل بلاغي أم بأنموذجٍ ممكن الواقعية. ولعلَّ إجابة الواصف تنمُّ عن شبه استحالة واقعية هذا الأنموذج الذي تخلَّص من أنموذجية الطبيعي والتشبيه البلاغي المُفرِط. إن هذا الأنموذج ينبني في اللغة وبها، لكنه رغم ذلك لا يخرج عن مقياس الضخامة والبهكنة، الذي ميَّز المرأة المرغوبة في زمنٍ ما قبل الإسلام، فقد اشتُهر العرب الأوائل بعشق المكتنزة١٤ المليحة والجميلة. وليس مثال عائشة بنت طلحة بن الزبير إلا تأكيدًا لذلك، بَيْدَ أن الاكتناز ينضاف إلى سماتٍ أساسية أهمُّها البياض وسواد الشَّعر وحُسن العينَين وسَعتُهما وضخامة الثدي؛ ممَّا يدُل على أن العرب تداولَت أنموذجًا جماليًّا لا نزال نجده في البوادي العربية وفي المُتخيَّل الشعبي عامة، وربما يُلخِّص لنا هذا القولُ خصائصَ هذا الأنموذج: «قال أبو العباس أمير المؤمنين لخالد بن صفوان: يا خالد إن الناس قد أكثروا في النساء، فأيُّهن أعجَبُ إليك؟ قال: أعجبُهنَّ، يا أمير المؤمنين، التي ليست بالضرع الصغير، وحسبُك من جمالها أن تكون فخمةً من بعيد، مليحةً من قريب، أعلاها قضيب وأسفلها كثيب. كانت في نعمة ثُم أصابتها فاقة، فأترفَها الغِنَى وأدَّبَها الفقر.»١٥هكذا يتطابق الجمال والفخامة، بل يُختزل الأنموذج الجمالي فيها بعد أن كان الاسترسال وتَعداد المحاسن خاصيةً سائدةً فيما قبل (لاحظ: فحسبُك من جمالها …)، هكذا بدأ الجمال يتدرَّج من البلاغي نحو الدقة. وباتجاه الاختزال؛ ذلك أن ما غدَا هامًّا هو بالأساس عينية الجسد وحضوره الذي يملأ العين بمحسوسيَّته. إن ما يقودنا إليه هذا الرأي هو تفاعُل المشهد الجسدي العام مع الخصائص الاجتماعية (كالأدب) والخصوبة؛ فالثدي الضخم يصلُح للمرأة كي تُدفئ الضجيع وتَروي الرضيع، أمَّا فخامة الجسد العامة فتُحيل بالضرورة على فخامة أعضائه من الذراع إلى الفرج، ألم تُفضِّله العرب كبيرًا بارزًا يملأ اليد ويشبه رأس سبع بين الفخذَين؟
إن هذا الطابع العمومي للرؤية الجمالية للجسد الأنثوي هي التي سوف يُلخِّصها بشكلٍ قاطع أبو منصور الثعالبي في فصل ترتيب حُسن المرأة، موضحًا ومصنفًا بذلك الأسماء المختلفة المتصلة بجمالها، ومؤكدًا في الآن نفسه المنظوراتِ المختلفة التي اختزنَتها ذاكرة اللغة في هذا المجال: «إذا كانت بها مَسحةٌ من جمال، فهي وضيئة وجميلة. فإذا أشبه بعضُها بعضًا في الحسن فهي حسانة. فإذا استغنَت بجمالها عن الزينة فهي غانية. فإذا كانت لا تبالي أن تلبس ثوبًا حَسَنًا ولا تتقلد قلادةً فاخرةً فهي مِعطال، فإذا كان حُسنها ثابتًا كأنه قد وُسِم فهي وسيمة. فإذا قُسم لها حظٌّ وافر من الحُسن فهي قسيمة. فإذا كان النظر إليها يسرُّ الروع فهي رائعة. فإذا غلبت النساء بحُسنها فهي باهرة.»١٦ومع أن هذا الترتيب قد يخلو من إمكانية المقارنة، فإنه يُصرِّح باهتمام العرب الواقعي واللغوي بأصناف الحُسن ومراتبه، قدْر اهتمامهم بقضايا اجتماعية ودينية أخرى. وهو ما يثبت، في نظرنا، أن الثقافة العربية الإسلامية قد اهتمَّت بالجسد الكلي لغةً وواقعًا، وأن بالإمكان الانطلاق من الجمال الجسدي للبحث عن مؤشراتٍ عربية إسلامية لإستطيقا خاصة وخصوصية، وتوسيع هذا البحث ليشمل الشِّعر والخطَّ والمُنَمنمات والزخرفة، وضروب الصناعات الأخرى كالعِمارة وغيرها.
-
(٢)
تصوُّر دقيق للجسد وجماليته. فإذا كان التصور الأول ينتمي، من الناحية التاريخية، وحسب مُكوِّناته وصوره العامة، إلى فترةٍ أولى من الحضارة العربية الإسلامية، تمتدُّ من الجاهلية إلى العصر الأموي، فإن التصوُّر الثاني يُعتبر مُحدَثًا بالمقارنة معه؛ لأنه أدخل تغييراتٍ وتعديلاتٍ كثيرةً على معطياته.١٧
وبما أن الجانب اللغوي يفرضُ نفسَه علينا هنا، باعتباره مدخلًا ضروريًّا لهذا التحليل، فإننا نجد أن العملية التصنيفية التي مُورِسَت على جمال الجسد الأنثوي كانت تستهدف تفادي اللبس من جهة، وتمكين المُتلقِّي من تعيين نوع الجمال الذي يبحث عنه من جهة ثانية. ولأن كُتُب الفروق في اللغة، كتلك التي صنَّفها أبو هلال العسكري، وأبو سعيد الأصمعي، ومُصنَّفات من قَبيل المُخصَّص لابن سِيدَه وزهر الآداب للحصري؛ تبتغي أصلًا التحديد المُعجمي لما يتقارب من الكلمات في المدلول أو الصياغة، فإن الثعالبي، وهو يهتمُّ بجمع التعاريف واختلافها، يقوم أيضًا بالمهمَّة نفسها، وذلك بالتركيب بين التمييز الاسمي والتعيين اللغوي المعجمي، وهو ما يمكن ملاحظتُه في المقطع التالي: «الصَّباحة في الوجه. الوَضَاءة في البشرة. الجمال في الأنف. الحلاوة في العينَين. المَلاحة في الفم. الظُّرف في اللسان. الرشاقة في القَد. اللباقة في الشمائل. كمالُ الحُسن في الشَّعر.»
يمكن الحديث إذَن، ضمن هذا التصوُّر، عن اهتمامٍ كبيرٍ بالأعضاء الجسدية، وعن ترابُطٍ وثيق بين الجمال وسُبل المتعة الجسدية. هذا الترابط هو الذي تتمثَّل صورتُه الخطابيةُ واضحةً في اهتمام العلماء المسلمين بأخبار القِيان والجواري، وظهور شِعرٍ «جسدي» لدى أبي نواس وبشار بن برد وعمر بن أبي ربيعة، ونجده أكثر في ألف ليلة وليلة. أمَّا صورتُه القُصوى فنجدها في الكتابة الإيروسية مع مصنَّفاتٍ من قبيل: جوامع اللذة والروض العاطر، ورجوع الشيخ إلى صباه ونزهة الألباب … إلخ. من ناحية أخرى، تبلورَت صورة أخرى أكثر خصوصيةً للجمال الأنثوي لن نستطيع أبدًا إغفالها. يتعلق الأمر بالتحول التأويلي، الذي تبلوَر في الكتابات الصوفية من قَبيل تائية ابن الفارض، وكذا ترجمان الأشواق لابن عربي بالأساس. فإذا كانت المتعة الجسدية، التي تدعو لها الكتابات الأولى، مرفوقةً بمعرفةٍ طبية عن الجسد تجعل منها — كما لدى النفزاوي — مدخلًا لتطبيب العجز الجنسي وتعلُّم الأوضاع الأكثر إنتاجًا للذة، فإن ازدواجية المعنى (ذات الطابع الرمزي إذ تجمع بين المحبوبة، والذات الإلهية في ملفوظٍ واحد)، هي التي تتحكم في التصوُّر الصوفي للجسد.
إن التحول في الأنموذج الجمالي يدلُّ على الاشتغال المستمر للثقافي على الطبيعة، وهو يشكِّل أيضًا فعل الجسد المثال على الجسد الواقعي؛ بحيث يتحول الجسد بفعل هزَّات وتبدُّلات عنيفة كي يتلاءم مع الصورة العُرفية المتواضع عليها. بهذا المعنى يكون التركيز على الاعتدال نوعًا من مداورة المصير البيولوجي للجسد وتحويله إلى أداةٍ رمزية خاضعة أكثر فأكثر لقرار المجموعة البشرية في تحديد الجميل والمشتهى والمقبول.
يفسر صلاح الدين المنجد هذا التغيُّر في الأنموذج الجمالي الأنثوي، كما لمسه في العصر العباسي بقوله: «ومعنى هذا أن الذوق العام قد تحوَّل عن أشباه عائشة بنت طلحة، والثريا، وعبدة، ومال إلى المتناسقات الأعضاء، الكابيات العِظام اللواتي لا سمن في أجسامهن ولا ترهُّل.» ونستطيع أن نوضِّح الفروق التي طرأَت على الأنموذج الإسلامي بما يلي:
-
(١)
صدَفوا عن النساء السمينات وفضَّلوا المَجْدوَلات …
-
(٢)
أعرَضوا عن البطون ذات العكن … وفضَّلوا الضامرات البطون …
-
(٣)
صدَفوا عن النهود الضخمة التي رغبوا فيها، في صدر الإسلام، وفضَّلوا النهودَ الكواعبَ التي ورد ذِكرُها في القرآن …
-
(٤)
لهَجُوا بالتعبير عن القدِّ الممشوق …
-
(٥)
ظهرَت نزعة من النقد اللاذع للتشبيهات التي كانت تصادف في الشعر الجاهلي.
-
(٦)
زاد التنويه بمحاسن المرأة الروحية.
-
(٧)
أدرَكوا أن لا بُدَّ من حُسن تناسُب الأعضاء، حتى يكمل الحسن والجمال …٢٣
لكنَّ ثمَّة فَرقًا طفيفًا بين المرحلتَين؛ ذلك أن جمال القِيان إذا كان قد ارتبط بقِيَمٍ فنية كالغِناء ونَظم الشعر، فإنه قد ساهم بذلك في نقل المعايير الجمالية من الديني الأخلاقي (كما شهدناه مع ظهور الإسلام)، إلى الفني الثقافي، ومن البلاغة الطبيعية المُفرِطة إلى نوعٍ من الأنموذجية المبنية بناءً صناعيًّا. فجمال القَيْنة جمالٌ ممكنٌ وقابلٌ للصُّنع والتداول والامتلاك للمتعة، بل إنه قابل للخلق مع تطوُّر فن الزينة والتجميل والتقيين. لذلك فإن تداولية الجمال سوف تعمل على الحدِّ من تخييليَّته البلاغية لتُحوِّله باتجاه تخييليَّةٍ تداولية، وسوف يظهر أيضًا اهتمامٌ واضحٌ بالجمال الذكوري (الغلمان)، ليأخذ مكانه في هذا الفضاء الجمالي الجسدي، ويكاد يزاحم الجمال الأنثوي، ويسرقُ منه شيئًا من حُظْوته التليدة.
الجمال بين البلاغي والتخييلي والشهواني
بل يمكننا القول بأن بناء الأنموذج الجسدي على غرار الأنموذج الطبيعي يُفصِح عن تصوُّر للكيان الإنساني لا يتمُّ فيه الفصلُ بين الجسدي واللاجسدي والشخصي وغير الشخصي، ممَّا يدل على أن عملية التشبيه في ربطها الجسد وقوة الطبيعة الكونية تحوِّل الجسد إلى كيانٍ رمزي مُحمَّل بقوة الطبيعة وجمالها نفسهما. فليس يوجَد عضو من أعضاء المرأة لم يجد له نظيرًا في الطبيعة والواقع، فقد شبَّهوا الخصر بالسوار لدقته، وشبَّهوا الصدر بصدر التمثال وبياضه بالمرمر، وشبَّهوا الثدي بالرمانة لاستدارتها وصلابتها، والحلمة بنقطة العنبر، والجيد بعُنق الظبية في طوله، والخدود بالورد والخمر وشقائق النعمان والأرجوان وتفَّاح حلب في حمرتها … إلخ. تكشف الخواص التصويرية والتخييلية عن هذا الأنموذج الذي ينطلق من جسد غير متحرك، جسد-موضوع يمنَح نفسه للرؤية وللتخيُّل في أوضاعٍ مريحة، وحين يتحرك فهو يقوم بذلك إقبالًا وإدبارًا، وقوفًا أو قعودًا. إنه بمعنًى ما جسدٌ مقتطَع من سياقه الاجتماعي؛ لأنه مفصول عن مُعطيَاته الحِسيَّة والإدراكية والنفسية التي تهَبه وجودَه الفعلي في العالم؛ لذا فإن الواصف للجسد يُحوِّله إلى جسد من أجله هو، ويفرض عليه سُلطة نظرته ورغباته. فالجسد يغدو تخييليًّا إذا هو وُجد في غير علاقة مع العالم المحيط به، العالم الذي نعيش معه، وليس فقط العالم الذي نعيش إزاءه.
لقد أشار المنجد إلى أن الجسد، كما تصوَّره الجاهليون، جسدٌ مخصوص من لحمٍ ودم. والحال أن واقعيَّته تلك تغدو تخييليةً لا لضخامة الجسد، وإنما لما يُمنَح لها من صبغةٍ بلاغيةٍ تصويرية. ولم يفُت المنجد أن يربط هذا الأنموذج الوثير بالشهوة المتأجِّجة لدى عرب الصحراء؛ فالأنموذج الجمالي ومعايير تعيينه تكون دائمًا تعبيرًا عن وضعية الليبيدو في مجتمعٍ ما؛ من ثَم فإنَّ ترابُط المتعة والشهوة بالأنموذج الجمالي واضحة، إنها تؤسِّس اللحظة الجنسية المُرتقَبة ولو على مستوى المُتخيَّل.
إنها أيضًا سُلطةٌ خطابية تُحوِّل النماذج «الواقعية» إلى كائنات جديدة يلعب فيها الخيال دَورًا كبيرًا؛ بحيث تنفصل تدريجيًّا عن مرجعها الخارجي لكي يأخذ فيها الوجه الحسن والعَجيزة الكثيبة موقع الصدارة، ولكي تتحوَّل تلك النماذج إلى أساطير لها موقعُها في التاريخ الذهني للكائن في المجتمع العربي الإسلامي، تغذي باستمرارٍ استيهاماته الذاتية والعلائقية.
(٢) الجسد والاستراتيجية المظهرية في الإسلام
مظهرية الجسد الإسلامي
لا يكفي الحديث عن الجسد الإسلامي في سُننه وطقوسه الدينية كي تكتملَ صورتُه العامة في حقل الثقافة والمجتمع الإسلاميَّين؛ فالجسد يخضع، في هذا المجال، لمجموعة من الواجبات التي تلحق بكيانه، وتختزل حريته «الطبيعية» بأنموذجٍ حركي مُعمَّم، يشترك فيه مع باقي الكيانات الجسدية الأخرى. لذلك لا يمكن فصلُ الجسد الذاتي في الإسلام عن الجسد الديني الاجتماعي. إن غياب ثنائيةٍ واضحة بين الذاتي والموضوعي بخصوص الجسد يجد تبريره في كون النصوص التشريعية قد دمجَت بشكلٍ واضح بين المجالَين، حتى فيما يتعلق بالمظهر الجسدي الشخصي من زينة ولباس. بَيْدَ أن هذا التداخل، الذي يُبين إلى أيِّ حدٍّ ينغرس القُدسي في الدنيوي، ويمارس فيه سُلطته، لا يمنع مع ذلك من الحديث عن معالم جسدٍ شخصي في المجتمع الإسلامي القديم، ينزاح إلى حدٍّ ما عن دائرة الشعائري والمقدس.
لقد حوَّل الإسلامُ الجسدَ المظهريَّ للمسلم إلى جسدٍ نمطي له مُحدِّداته القدسية؛ فهو يخضع إلى قاعدتَي التحريم، والتحليل، والنهي والإباحة. فاللباس مظهَر للجسد، وهو فتنةٌ مثله في ذلك مثل ما يكسوه. فكما أن العادات المتصلة بالجسد تُحدِّد هُويَّته الدينية والحضارية، فكذلك العادات المظهرية، فلبس القلنسوة حرام؛ لأنها لباس الشيطان، والذهب (للرجال) جمرةٌ من جمرات جهنم. والشَّعر الذي لا يُقصُّ يشبه رأس الشيطان … إلخ. هكذا يتمُّ التأطير الديني للمظهر عبر حدَّي الحلال والحرام، وبالأخص من خلال حدَّي الإنساني والشيطاني؛ من ثَم فإن هذا الطابع الرمزي والقدسي للِّباس يتجاوز بكثيرٍ وظيفتَه الكسائية والتزيينية المحضة ليدخل في سلسلة الدلالات الكونية التي تزجُّ بالمسلم في النظام السلوكي والكوني الإسلامي.
تبعًا لهذا البعد الرمزي الصميم، بل وتماشيًا معه، يخضع الأنموذج التزييني الإسلامي لقاعدتَين؛ قاعدة الفطرة وهي قاعدةٌ ثقافية لا تتطابق مع الطبيعة، بل يتمُّ بمُوجِبها تحويلُ الجسد بما يلائم مبدأ النظافة والاختلاف عن أهل الكتاب، كما لاحظنا ذلك آنفًا. وقاعدة الملاءمة الرمزية التي تعني الانزياح الكامل عن كل ما يمكن أن يُذكِّر بالشيطان باعتباره هنا الصورة والحدَّ الرمزيَّ لكل ما يخالف مقاصد الشريعة العامة. وهما قاعدتان سوف تخضعان بدَورهما للنسبية التاريخية؛ ذلك أن التحولات الحضارية التي عرفَها المجتمع العربي الإسلامي، وانتقالَه التدريجي من البداوة إلى المدنية، سوف يحمل معه التغييرات الضرورية الملائمة. وبما أن المظهري جمالي واجتماعي تواصلي، فإن كل تغيُّر تتدخل فيه عواملُ متعددة، ويُنبئ هو بدَوره عن طبيعة التحول في الممارَسة الاجتماعية والتصوُّرات الذهنية لدى الأفراد والمجموعة البشرية كاملة.
الزينة وجمالية الجسد الشخصي
إن انتقال الاستراتيجية المظهرية من التواصل مع المقدَّس إلى التواصل الاجتماعي الثقافي يؤسِّس تلك الاستراتيجية بوصفها اختيارًا ثقافيًّا وظيفيًّا، يمارس ذاتيته حتى بالعلاقة مع الفضاء المقدَّس نفسه؛ فقد رُوي عن الأحوص، وهو شاعرٌ عباسي معروف، أنه كان يدخل المسجد الحرام لا بثوبٍ واحد، بل بثوبَين اثنَين، مُعَصْفرَين، مدلوكَين؛ ولا يكتفي بهذا، بل يضع على أذنه باقةَ ريحان. تتخذ الزينة هنا وظيفتَين؛ وظيفةً اجتماعية تميزية، ووظيفةً شخصية فردية. وإذا كانت الوظيفة الاجتماعية تدل على تطوُّر القِيَم الاجتماعية المتصلة بالذات والجسد، ومنحها طابعًا «أخلاقيًّا» جديدًا؛ فإن الوظيفة الشخصية تتمثَّل في تجريد الاهتمام بالجسد من كل هدفٍ عبادي مفترض ومباشر. إن الإحساس بأهمية الصورة المظهَرية تفاعل بين المرمى الاجتماعي والرغبة في الغواية، وخلق صورة معيَّنة لدى الآخر.
بَيْدَ أن السؤال الذي يطرح نفسه الآن يتعلق بالفرق بين التجمُّل الذكوري وزينة المرأة، فإذا كان الإسلام قد حدَّد زينة الرجل أكثر من تحديد زينة المرأة، حتى لا تختلط الزينتان ومعهما الجنسان، فذلك أساسًا لأهدافٍ ترتبط بسَعَة الزينة النسائية وتعدُّد مواردها، لكن ذلك التمايز سوف ينمحي تدريجيًّا لتصبح للزينة الذكورية قيمةٌ توازي الأنثوية. إن هذا التحول يؤشر إلى القِيَم الحضارية التواصلية الجديدة التي أفرزَها المجتمع العربي الإسلامي، وإلى التلوينات التي اتخذَتها في العلاقة بالجسد التواصلي.
أمَّا المرأة فإنها «تُبالِغ» في زينتها؛ لأن ثَمَّة معادلةً أكيدة بين الأنثى والجمال. وهي معادلة تضمَّنها الخطاب النبوي مرارًا وألحَّ عليها. والحقيقة أن زينة المرأة تتوزع بين المتعة الذاتية التي تجدها هذه الأخيرة في تأمل جمالها وهيئتها، وبين الضرورة التي تفرضها «طبيعتها» الأنثوية في العلاقة بالآخر في نظام العلاقات الاجتماعية أو مؤسَّسة الزواج. فالتطابق المتواضَع عليه بين الأنثى والجمال وبين الأنثوية والمتعة يدفع بكافة النساء إلى استغلال وسائل ومواد التقيين واللباس لتثمين مناطق جمالهن، ومنح جاذبية أكثر لصورتهن. إن عملية الزينة والتجميل تجعل من المرأة كائنًا مظهريًّا بامتياز، أيْ كائنًا من أجل الآخر.
يوحي هذا الترابط بين الجسد الأنثوي، والاشتغال على صورته لدى المرأة، في نظرنا، بعلاقة أكثر جذرية وعمقًا؛ إنها العلاقة الأنطولوجية للمرأة بجسدها بوصفه رأسمالها الرمزي وموطن هُويَّتها الذاتية؛ فالزينة تفترض العين الرائية لها، المستمتعة بومضاتها الشهوية، سواء كانت تلك العين عين المرأة نفسها أم عين الآخر (الرجل). إن التجميل بهذا المعنى مُولِّد للمحبة والإعجاب، غير أنه من ناحيةٍ أخرى علاقة جمالية بالجسد لها مساربها الليبيدية.
لنعُدْ ونقلْ إن الزينة أولًا، وقبل كل شيء، استراتيجية مظهرية لها علاقة وثيقة بالفتنة والغواية كما يقول بودريار. إنها استراتيجية لأنها ترتبط بما هو أبعد من الظرفي، وتطول المحددات العامة للكيان الأنثوي. وهي لذلك لها طقوسها وشعائرها ونواياها ومواردها وفنيتها التي تخترق العصور التاريخية؛ فقد كانت النساء العربيات في الجاهلية يتزينَّ لأمرٍ ما في الحي، أو حين يتمُّ عرضُهن على الخاطب. وكانت الزينة تُستخدم للزوج أو للزواج، وتمارسها المتزوجة كما الغانيات. ومع تطور المجتمع العربي الإسلامي، سوف يغدو التجميل فنًّا له قواعده ووظائفه المتعددة، المتمثلة في تظريف الجواري وتقيينهن وإخفاء عيوبهن الجسدية. وليس من شكٍّ في أن هذا الشيوع الكبير للتجميل في أوساط النساء الحضاريات هو الذي دفع بالمتنبي إلى القول بنوع من الحسرة:
(…)
(…)
ليس من قبيل الصدفة طبعًا أن يتحدث المتنبي عن الوجه بوصفه مجال المقاربة الجمالية، وعن اللسان بوصفه معيار القيمة الذاتية الفكرية والعقلية؛ فالوجه كما هو معروف صورة الكائن وموطن هُويَّته الفردية وتميُّزه الفيزيقي، ويمتلك حظوة تمثيل الجسد والتواصل بين الناس؛ من ثَمة فالحديث عن التجميل هو حديث عن صورة الوجه؛ لأنه موطن التجميل الظاهر؛ لذلك فقد اعتُبر الوجه دائمًا معيار الجمال، فتمركز الزينة حول العينَين يُعبِّر عن القوة الواقعية والرمزية لهذا العضو. أمَّا الوجه فإنه يُعتبَر المنطقة الأكثر أهميةً في الجسد، وهي الأكثر والأوفر حظًّا في العناية.
إن الوظيفة الأولى للتجميل (أو استعمال الماكياج بلغتنا الحالية)، تكمن في تضعيف جمال المرأة والزيادة من مقبوليته وإدخاله في حظيرة المعيار الجمالي السائد، وذلك بتكبير العينَين وإبرازهما، وإبراز الخدِّ وحُمرته، وصبغ الحاجب، وتصفيف الشعر. أمَّا الوظيفة الثانية فتكمن، ليس فقط في التجميل، وإنما في تغيير معالم الوجه، وذلك لهدف جمالي وموضوعي في الآن نفسه، خاصةً في حال القِيان اللواتي كُنَّ يُتداولن في الأسواق التجارية. وإذا كانت العمليتان لا تختلفان في العمق والطبيعة، فإنهما تتمايزان في الغاية التداولية.
لقد أدرك العرب والمسلمون أن الوجه مبدأ الجمال ومصدره الأصلي؛ ذلك أن الوجه يُشكِّل الموضوع الأساس للاهتمام الجمالي والمكان المُفضَّل لتفاعل الفن والصنعة؛ لذا فإن ارتباط الجمال أولًا، وقبل كل شيء، بحُسن الوجه ونضارته وتناسق أجزائه، يُعبِّر عن المركز الذي مُنح للوجه بين مناحي الجسد، والقيمة الرمزية المرتبطة به في التواصل والغواية، وفي كل المجتمعات، وفي أيامنا هذه، تتمثل وظيفة الماكياج، ليس فقط في التجميل، وإنما أيضًا في تغيير صورة الوجه. هكذا يتمُّ الحديث، في لغة التجميل المعاصر، عن إبراز فمٍ جميل وعن التقريب أو إبعاد العينَين أو عن تغيير دائرة الوجه.
إن استعراض وتحليل مُكوِّنات هذه الوضعية التي أحاطت بالجسد الإسلامي بوصفه جسدًا جماليًّا مركزيًّا في العلاقة بين الرجل والمرأة، وبين الكائن الإنساني ونفسه، إن لم يدعُنا إلى إعادة النظر الكلية في هامشية الجسد في الثقافة والمجتمع الإسلاميَّين ومنظومتهما الاجتماعية، فإنه على الأقلِّ يُقوِّض هذه الأطروحة ويستدرجُنا لذلك؛ فقد عَرفَت الثقافة العربية الإسلامية اهتمامًا مطردًا بالحضور المتعدد للجسد، وجعلَت منه إحدى موضوعاتها الكبرى سواء عبر موضوعة الحب أو موضوعة طب الجسد أو غير ذلك من الموضوعات كالأخبار والقصص. ومع أن الشاعر العربي، سواء عبر الوصف أو الغزل، قد ربط هذه العلاقة بالجمال تارةً وبالعشق أخرى، إلا أن ذلك لم يطُل فقط طبيعة الموضوع، بل طريقة التناول الفكري أيضًا؛ لذا فإن صورة المرأة الجسدية غالبًا ما كانت تتحكم فيها وضعية الواصف الخاضع للمعايير العامة للجمال، أو سُلطة العاشق الذاتية التي كانت تُحوِّل كل شيء إلى جمال.
بهذا المعنى يمكن القولُ بأن الأديب الشاعر، إن كان يهتمُّ بالجسد خارج كل مظهر لباسي أو تزييني، إلا أننا لا نعدم في الأدبيات الأخرى ما يكفي لمنحنا رؤية ذلك؛ لذا يمكن تركيز موقع المظهر الجسدي في هذه الثقافة في الملامح التالية:
-
(١)
عمق وتجذُّر العناية بالجسد سواء في الشعر أو الحكاية أو الأخبار أو الواقع التاريخي العيني. لقد تطوَّرَت هذه العناية لتغدوَ مقياسًا وممارسةً جماليةً ملموسة، الهدف منها تأسيس حضور مُعيَّن للجسد (الأنثوي منه بالأخص) … وهو ما يؤكد أن حظوة الجمالي تدين في وجودها إلى حدٍّ كبير، إلى المتعة والمتعة البصرية، ووضعية الإغواء، وسُلطة الخطاب والخيال.
-
(٢)
إن المجتمع العربي الإسلامي قد عرف، إلى جانب ما يُعرف بفنِّ الجماع ars erotica،٤٠ فنَّ التقيين والتجميل. وإذا كان التجميل قد ارتبط بالشعائرية الرمزية والدينية، فمن المُحتمَل أن يكون الإعجابُ به يستعيد فرشاتٍ عميقةً ولا واعية من المُتخيَّل الاجتماعي، وله أصول مَنسيَّة. بَيْدَ أن ما اكتسبه من دلالات اجتماعية وثقافية ومساهمته الأكيدة في صياغة الأنموذج الجسدي ومنحه صبغةً واقعيةً جعلَت منه الأساس الواقعي للجمال، بالشكل الذي يكون فيه الطقس أو الشعيرة الممارسة التطبيقيَّة للأسطورة. هذه الوظيفة الاجتماعية للتجميل جعلَته يخرج إلى مجال التداول بوجود القِيان ككائنات لا تدخل في مجال المقدسات الأسروية وخاضعة للاستهلاك والمتعة.
-
(٣)
إن التواصل عَبْر استراتيجية المظهر يفترض قواعد مُعيَّنة تُحيل على هندسة الجسد، ومحيطه اللباسي، وما يرتسم عليه من وشمٍ وحناء وغيرهما؛ من ثَم فهو تواصل يتوازى وأنواع الاتصال الأخرى كالخطاب اللغوي والإشارة. إن مجرَّد التزيُّن يُعَدُّ من جانب المرأة دعوةً للغواية ولِلُعْبتها الصامتة؛ فهو ذو بُعدٍ إيحائي واقتراحي واضح: «فالغواية الأنثوية تمرُّ أساسًا عَبْر المجال الجسدي الفيزيقي، وعَبْر قانون المظهر. ونادرًا ما تمُرُّ من خلال الكلام أو الروح esprit (…) والغواية والصمت يترابطان منذ أصلهما الأسطوري الأول.»٤١هكذا يتوازى، بل يتقاطع، فِعل وسِحر الكلام مع فِعل وسِحر الجسد في عملية الإقناع بالذات والغواية، ولا يخفَى أن هذا الاهتمام بالذات souci de soi، كما يُحلِّل ذلك فوكو، هو نوعٌ من بناء شروط العلاقات الجنسية، ومعها بناء الذات في علاقتها بكيانها الشخصي والثقافي.
استراتيجية المظهر واستراتيجية الغواية
إن هذه الدهشة الوجودية والخطابية تُترجَم، من الناحية الدينية، بالإحالة على المصدر القدسي للجسد والجمال، لتمنحه بذلك كيانًا مُلغزًا مُنفتحًا نحو التسامي الإلهي كما سوف يتبلوَر ذلك مع ابن عربي لاحقًا. إنها تشهد أيضًا على أن الجسد (أو رمزه الوجهي)، بمجرَّد ما يعرض روعته الخلقية ينتج وقعًا جماليًّا لدى مُتلقِّيه وما يتبعها من متعةٍ جمالية وبصرية، لا تكون صامتةً فقط، وإنما تُولِّد خطابًا مُعبِّرًا عن ذلك، بل لِمَ لا نقول إن تلك الدهشة ليست سوى تمظهرٍ خطابي يسعى لتجاوز الصمت الذي تفترضه صدمة الجمال الحَسَنة وتثمين وجود الآخر وتأكيد وجود المتلقي في الآن نفسه؟
يتطلَّب الجمالُ استعراضَ نفسه بشكلٍ كامل أو جزئي. وكل استعراض دعوة للنظر والتأمل الحسي والتلقي الضروري للنصِّ الجمالي، إنْ صحَّ التعبير؛ لذا لم يكُن هناك أفضل من استعراض جمال الوجه والجسد لتأكيد سُلطة الأنوثة وفرض وجودها الذاتي؛ ذلك أن وجود المرأة يرتبط أنطولوجيًّا بوجودها من أجل الآخر ومع الآخر. فقد أجابت عائشة بنت طلحة زوجَها مصعبَ بن الزبير يومَ عاتبها على عدم ستر وجهها: «إن الله وَسَمني بميسم جمال، فأحببتُ أن يراه الناس، ويعرفوا فضلي عليهم.» ليس من شكٍّ إذَن في أن العلاقة بين الجمال والفتنة تُحوِّل الجسد إلى رأسمالٍ رمزي له تأثيره وفعله في العلاقات الإنسانية؛ ممَّا جعل النصوص الدينية الإسلامية تُحذِّر من فتنة النساء وفي الآن نفسه تعمل على إدماج الجمال في المؤسَّسة الزوجية. وبما أن الوجه تعبيري فإن الرغبات تنطبع عليه وتظهر في حركاته وسكناته؛ بحيث يُشكِّل، إلى جانب الخطاب اللغوي، خطابًا من نوع سيميائي موازٍ له.
إن اعتبار الإسلام المرأة عورةً تستلزم السَّتْر والحَجْب، واعتبارها فتنةً تتطلب الدَّرء، ينبني أساسًا على الرغبة والشهوة اللتَين ترتبطان أكثر بالجمال والمظهر الجسدي، وخلفهما بالليبيدو. وإذا كان ابن حنبل يعتبر المرأة عورةً من شَعر رأسها إلى ظفر رجلَيها؛ فذلك لأن البعض يعتبر أن كل أجزاء الجسد الأنثوي فاتنة، وتُخضع الرجل إلى نوعٍ من الاستعباد.
وقالت الثانية:
يتوازى على هذا النحو فِعل وسِحر الجسد وفِعل وسِحر الكلام، في عملية الإقناع بالأنوثة. فكلتا الحالتَين تتساويان في نَظم الشعر المتجه نحو المديح الذاتي، مركِّزتَين على الجمال وظُرف الخطاب. إن هذه الحظوة التي امتلكَها الخطابي إلى جانب الجسدي تؤكِّد على التغيُّرات التي تطول النموذج الجمالي، ومحدِّداته العامة. بَيْدَ أن الخطاب نفسه حين يكون إغوائيًّا يتخذ بُعدًا جسديًّا واضحًا. إنه يغدو بدَوره خطابًا جسديًّا متغنجًا؛ ذلك أن الجسد بغنجه ودلاله تعبير عن حضورٍ أكيد للرغبة، ومعها المقاصد الإغوائية. فحركاته تلك تقنيةٌ تجعل منه في الآن نفسه باثًّا لمظهرٍ فيزيقي ومتلقيًا لمظهر الآخرين. فكل لقاء بين الأفراد يُنتج بثًّا واستقبالًا متبادلًا، كما الإخبار عن المظهر. إن هذا النمط التواصلي المزدوج يخضع لنوعَين من الأعراف؛ الأول ذو طابعٍ سيميولوجي يرتبط بالتواصل عَبْر لغة الجسد، والثاني يتعلق بالطابع الاجتماعي للمظهر، الذي يتمُّ تقنينُه حسب جدلية الحلال والحرام، والمباح والمكروه، وحسب القوانين الأخلاقية والتقليعات الجارية.
وإذا كان المظهر يُشكِّل مجموع العناصر المرئية التي تلتصق بجسد الفرد، ويستعرضها أمام الآخرين، فإنه يُشكِّل بحقٍّ أحد أُسُس التواصل بين الأفراد ويَسِم ذاك التواصل باعتبارات الانتماء الاجتماعي والفِئَوي والثقافي، ليغني بذلك التواصل اللغوي. من ثَم فإن حضور الجسد، في صورته المجملة، دعوة للغواية، خاصةً في السياقات الزمنية والمكانية التي تسهل أو تطلب ذلك. إنه رسالةٌ مسنَّنَة يكفي امتلاك الرغبة في فكِّها كي يتمَّ التواصل، أو على الأقل إعلان انبثاقه في كل المتع البصرية والجسدية التي يفترضها.
•••
يتحول الجسد إلى كيانٍ بلاغي بمجرَّد ما يتأطر بالتحوُّلات التصويرية، وبمجرَّد ما يغدو جسدًا خطابيًّا. إنه يغدو جسدًا مثاليًّا وأنموذجيًّا، خاصةً حين يتعلق الأمر بتعميم صورةٍ وحيدة له. بَيْدَ أن تاريخية الأنموذج وتغيُّراته ليست فجائية، ولا تتأثر إلا قليلًا، وتدريجيًّا بالتحولات السياسية والاجتماعية؛ ذلك أن مُتخيَّل الجسد مُنغرِس في الذاكرة الليبيدية والخطابية للفرد.
هكذا يتوجَّه الجسدي سواء في جماليته أو زينته نحو اللذة الحسية والبصرية، ويتجه هذا الكل نحو شرائطه القدسية المحدِّدة له. من ثَم فإن هذه القصدية المزدوجة تخضع لنزاع بين الحواسِّ والمحدِّدات الثوابية. ويظلُّ الجسد بينها ذلك الكيان الذي يُخلخِل في حضوره الجمالي المقصديتَين معًا ليخلق لنفسه فضاءً أكثر التصاقًا به.
وإذا كان الجسد ليس مُعطًى جاهزًا، فإن الاستراتيجية المظهرية تشكِّل أدواتٍ له يُنظم ويُعيد بها تنظيم ذاته، وفقًا للرغبة الاجتماعية والذاتية، متخطيًا بذلك في الكثير من الأحيان الأنموذج الجسدي الديني، نحو آفاق الحضور الاجتماعي العلائقي بكل ما يفترضه من غوايةٍ بصرية وحسية وفعلية.
وهنا لا بدَّ من التذكير بأن الجسد يحقِّق في التاريخي والاجتماعي ما يظلُّ في الخطابي والديني شِبهَ محظور. إنه يوسِّع تدريجيًّا مجال البلاغي، ويُعمِّق شيئًا فشيئًا مجالاته الخاصة ليقترب بشكلٍ محسوس من غاياته الذاتية، التي تفترض خرقًا جزئيًّا أو كليًّا لمقتضيات الأنموذج الجسدي ذي الطابع القدسي، وتنحو، ولو جزئيًّا، باتجاه بلوَرة جسدٍ شخصي.
وانظر كذلك: Sartre, L’Imagination, PUF, col. Quadrige, Paris, 8éme éd. 1981, p. 37.
«الوجود البيولوجي متصل بالوجود الإنساني، ولا يتجاهل أبدًا إيقاعه الخاص» نفسه، ص١٨٦.
M. Foucault, Histoire de la sexualité III, Op. Cit., p. 29.