الفصل الثالث

الجسد والاستراتيجية المظهرية في الإسلام

ولمَّا كان الجمال، من حيث هو، محبوبًا للنفوس، لم يبعث الله نبيًّا إلا جميل الوجه، كريم الحسب، حَسَن الصوت، كما قال علي بن أبي طالب. وقد سُئل أكان وجه رسول الله مثل السيف: «لا، بل مثل القمر.»

وحُكي أن المأمون استعرض جيشًا، فمرَّ رجل قبيح الوجه فاستنطقه فرآه ألْكَن، فأمر بإسقاطه وقال: «إن الروح إذا وقع أثَرُها في الظاهر كانت صباحة، وإذا وقع أثَرُها في الباطن كانت فصاحة، وهذا الرجل لا ظاهر له ولا باطن.» وحُكي عن بعض النساء أنها كانت تُكثر صلاة الليل، فقِيل لها في ذلك، فقالت: «إنها تحسن الوجه، وأنا أحبُّ أن يحسن وجهي …» فشبَّهوا الحاجب بالنون، والعين بالعين، والصُّدغ بالواو، والفم بالميم والصاد، والثنايا بالسين، المضفورة بالشين. ومن أحسن ما قِيلَ في ذلك قول الشاعر:

يا سينَ طُرَّتِها وصادَ عُيونِها
إني أُعوِّذُها بسورةِ طه
ابن أبي حجلة التلمساني، ديوان الصبابة، ص٥٦–٥٩، ٦٤.

(١) الجسد في الإسلام: من البلاغي إلى المُتخيَّل

بلاغة الجسد في الإسلام

ولعَ عربُ الجاهلية بالجسد، وتتبَّعوا تفاصيله، ولهجوا بمفاتنه. وسواء تعلَّق الأمر بشعراء من قَبيل امرئ القيس، أو طَرَفة بن العبد، أو النابغة الذبياني، أو الأعشى، أو غيرهم، أو بأخبار تناقلَتها أفواهُ الرواة، فإن العرب قد نسَجوا لأنفسهم في تلك الفترة أنموذجًا جماليًّا للمرأة، بالشكل نفسه الذي نسَجوا به أنموذجًا للفتوَّة والرجولة. وقد تمَّ التعبيرُ في الغالب عن هذه الخاصية بالغزل، وفي المُقدِّمات الطللية والغزلية التي غدَت سُنَّةً شعريةً أنموذجيةً بدَورها. إن هذا الخطاب الذي بلوَرَ صورةً للجمال الأنثوي نجد له أنموذجًا بما وصفَت به ابنة عوف بن ملحم الشيباني لملك كندة عمرو بن حجر، جَدِّ الشاعر امرئ القيس. بَيْدَ أن أهمية هذا التقديم الوصفي الذي يرسم بورتريهًا كاملًا، باللغة، لجمال المرأة، يخلق لنفسه بلاغةً خاصةً تميِّز هذا النوع من القول. قالت الراوية للملك: «رأيتُ جبهةً كالمرآة الصقيلة، يزينها شَعرٌ حالك كأذناب الخيل المضفورة، إن أرسلته خلتَه السلاسل، وإن مشَّطته قلتَ عناقيد كَرْمٍ جلاها الوابل. ومعه حاجبان كأنهما خُطَّا بقلم أو سُوِّدَا بفحم، قد تقوَّسَا على مثل عين العبهرة (البقرة الوحشية) التي لم يرعها قانص، ولم يذرها قَسْوَرة (أسد)، بينهما أنف كحدِّ السيف المصقول، لم يخنس (يتأخر) به قِصَر، ولم يُمعِن به طول، حفَّت به وجنتان كالأرجوان، في بياضٍ محضٍ كالجمَّان (الفضة)، شُق فيه فمٌ كالخاتم، لذيذ المُبتسَم، فيه ثنايا غُر، ذواتُ أشَر (فلجة)، وأسنانٌ كالدُّرر، وريقٌ كالخمر، له نَشرُ الروض بالسحر، يتقلب فيه لسانٌ ذو فصاحة وبيان … يقلبه به عقلٌ وافر، وجوابٌ حاضر، تلتقي دونه شفَتان حمراوان كالورد، يجلبان ريقًا كالشهد، تحت ذاك عنقٌ كالفضة، رُكِّب في صدرٍ كتمثال دمية، يتصل به عَضُدَان ممتلئان لحمًا، مكتنزان شحمًا، وذراعان ليس فيهما عظمٌ يُحَس، ولا عِرقٌ يُجَس، رُكِّبَت فيهما كفَّان دقيقٌ عصبهما، تعقد إن شئتَ منهما الأنامل، وتركب الفصوص في حفر المفاصل، وقد تربَّع في صدرها حُقَّان كأنهما رمَّانتان … يخرقان عليها ثيابها، من تحته بطنٌ ثُني كطيِّ القباطي المدمجة، كُسِي عُكَنًا كالقراطيس المدرجة، تحيط تلك العُكَن بسُرَّة كمدهن العاج المجلو، خلف ذلك ظهر كالجدول، ينتهي إلى خصرٍ لولا رحمة الله لانخدل، تحته كفلٌ (ردف) يُقعدها إذا نهضَت، ويُنهضها إذا قعَدَت، لبده سقوط الطل، يحمله فخذان لفَّاوان، كأنهما نضيد الجمان، تحملان ساقَين خلجتَين (ممتلئتَين)، وُشِيتَا بشَعرٍ أسود كأنه حلق الزرد (الدرع)، ويحمل ذلك قدمان كحذو اللسان، تبارك الله، مع صِغَرهما كيف تُطيقان حمل ما فوقَهما، فأمَّا سوى ذلك فتركتُ أن أصفَه، غير أنه أحسن ما وصفه واصفٌ بنَظمٍ وشعر.»١
إن هذا الجَرْدَ الدقيق لمعالِم الجمال الأنثوي، الذي يشبه في دقَّته الرسمَ التشكيلي، هو الذي سوف نجده في وصف امرئ القيس لفاطمة، والنابغة لمُتجرِّدته ولهريرة، والأعشى لصاحبته، بل هو الذي سوف يحكُم علاقة الواصف بالموصوف، ومن ثَم يضع الشروط الخطابية لإقامة أنموذجٍ جمالي للمرأة؛ فالوصف يبدأ من الأعلى نحو الأسفل؛ أيْ من المكشوف وموطن الهُويَّة (الوجه) إلى الجسد المجهول، مقابلًا بين الجسد والعناصر الطبيعية، مؤكدًا هذا الطابعَ الرمزي الذي يَسِم المقارنة التشبيهية، ومستحضرًا الجسد الغائب عن النظر عَبْر نظائره الطبيعية الماثلة في ذهن المتلقي، والتي تحظى بمرجعية في وعيه. إن المرأة الواصفة تجعل هنا من الجسد الموصوف صورةً ذهنيةً٢ قابلةً للتجلي اللغوي والتخيُّلي، غير أنَّ دقَّة الوصف تتجاوَز، في كثيرٍ من الأحيان، مجرَّد الرؤية والتمحيص. فليس ذلك يكفي لمعرفة مذاق رُضاب المرأة أو عِظامها أو عرفها. وكأن العين الواصفة تأخذ موقع المتلقي وتوقعاته، وتستبدل عينها بعينٍ رجولية، وتستخدم بذلك بلاغةً رجوليةً سائدةً في الشعر والنثر، كما تفصح بذلك علنًا، وهو ما يدل على مدى تجذُّر الأنموذج البلاغي في الوعي الثقافي العام.
فالجمال هنا هو أولًا، وقبل كل شيء، جمالٌ مرئي وخطابي وظاهراتي؛ إذ تُلحُّ المرأة الواصفة على ضرورة التجربة والإدراك الحسي للجسد الأنثوي. بَيْدَ أن اللغوي هنا يشكِّل ممرًّا للمحسوس. وما يعجز اللسان عن استكماله باللغة — نظرًا لجلال المقام الملكي — تتكفل التصوُّراتُ الشعريةُ بتصويره؛ ذلك أن ما نعنيه بالجمال، هو أولًا وقبل كل شيء، جمال الجسد. وكل تأملية في فكرة الجمال لا بدَّ وأن تعترض طريقَها المشكلات التي تطرحها صورةُ الجسد.٣ وبما أن الجمال جمالٌ محسوس لا فكرة استيطيقية مجرَّدة، فمن السهل فهمُ الإشارة الأخيرة للمرأة الواصفة: «أمَّا ما سوى ذلك، فتركتُ أن أصفه. غير أنه أحسنُ ما وصفه واصفٌ بنَظم أو شِعر.» إنه صمتٌ يتصل إضافةً إلى ما سبق بأمرَين هامَّين؛ يتعلق أحدهما بحدود الوصف المتعلقة بالجمال الأنثوي ووقوفه عند حدود المرئي والمقبول؛ بحيث إنَّ ما وصلنا من شعرٍ جاهلي، وإن وصَف عمومية الجسد والعملية الجنسية — كما في معلقة امرئ القيس — لا يتطرق لوصف الأعضاء الجنسية، بل إن العضو كثيرًا ما يُسمَّى لغةً بالفرج، أيْ مُنفرج الساقَين، بشكل مجازي، ونادرًا ما يُسمَّى باسمه كالهَن والحِر … إلخ، وثانيهما يتعلق بما لم تذكُره المرأة الواصفة، وهو ما يُسميه مشيل فوكو بأنماط الحظر على الجنس؛٤ أيْ بالممنوعات الخطابية التي تقف عائقًا أمام الحديث المباشر عن المحظور.
إن تتبُّع الجمال الجسدي للمرأة في الإسلام يشكِّل إثارةً لثقافة الجسد في الإسلامي التاريخي، وهو من ثَم لن يخرج عن هذه القاعدة العامة؛ قاعدة البوح والصمت. فقد تُذكر مفاتنُ المرأة كلها وتُسرد أعضاؤها بدون تحفُّظ، كما ساد لدى أخباريِّي وأدباء الشرق،٥ وقد يُستخدم التعميم والإيحاء، كما ساد ذلك لدى الأندلسيين.٦ وفي هذه المُراوَحة بين الخطابية والصمت تتبلور بلاغة الجسد الإسلامي مخترقةً ضرورات الخطاب الشرعي أحيانًا، ومستدلةً به أحيانًا أخرى بشكل مُوارب للإفصاح عن ضرورة حضور الجسد في عمليات التواصل الثقافي.

الجسد والجمال والمُقدَّس

ينطلق التصور الجمالي الإسلامي للجسد من مُسلَّمة الجمال نفسها، فقد روَت عائشة: «إن الله جميل يحبُّ الجمال»، وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله قال: «ثلاثة تجلو البصر؛ الخضرة والماء الجاري والوجه الحسن.» وعن ابن عباسٍ أنه قال أيضًا: «النظر إلى الوجه الحسن يورث الفرح.» وأنه قال عن المرأة: «النظر إلى الجارية الحسناء يزيد في البصر.» وقوله أيضًا: «اطلبوا الخير عند الحسان. مَن آتاه الله وجهًا حسنًا فهو من صفوة خلق الله.» ورُوي عن عمر بن الخطاب أنه قال: «لا تُكرهوا فتياتِكم على الرجل القبيح، فإنهنَّ يُحبِبن ما تُحبُّون.»٧

ومع أن الرسول نهى عن الزواج بالزرقاء البدينة، والطويلة الهزيلة، والعجوز أو القصيرة القبيحة، وذات الولد من غير الرجل، إلا أن هذا التفضيل للجمال والنضارة والشباب لا يلبَث أن يَنمَحيَ لصالح الوظيفية الجنسية؛ فقد فضَّل الوَلود على الحسناء لجمالها فقط. إن هذا التأكيد على الجمال، كما يبدو، ليس تأكيدًا مطلقًا؛ فبالرغم من ارتباطهما معًا بالقداسة، إلا أن ثمَّة تراتبيةً أصليةً تجعل الخصوبة أعلى مقامًا من الجمال. فبمجرد ما يصير الجمال ظاهرةً مطلقة، في ذاتها، ينزاحُ لصالح ما هو أكثر جوهريةً في التعبير عن الأنثوي. فالإنجاب والخصوبة شرطٌ أساسي وأوَّلي تفُوق فيه السوداءُ المُنجِبةُ الحسناءَ العاقر، وهو الشيء الذي يتأكَّد في التصنيفات التي سادت لاحقًا للنساء.

غير أن هذا لا يمنع من أن يرتبط الجمال، في التصور الإسلامي، باختيار الزوجة؛ فقد قِيلَ لرسول الله: «أيُّ النساء خير؟» قال: «التي تسُرُّه إذا نظر، وتُطيعُه إذا أمر، ولا تُخالِفه في نفسها ومالها بما يكره.»٨ على هذا النحو يتواشج الديني والدنيوي، والجمال الجسدي بالواجبات الدينية، ليتحكَّم المُقدَّس في الدنيوي من غير أن يعمل على إلغائه. إن هذا الأخير لا يتأكد ويأخذ قيمته إلا في صُلب ما يمنحه تلك القيمة، أعني مجال المُقدَّس، إلا أن ذاك الترابط، وهو يؤسِّس لمشروعية الجمال الجسدي، يُحدِّد بعضًا من شروط مقبوليته، ويجعله مؤطرًا بفاعليته الاجتماعية والدينية. فالأنموذج النبوي للمرأة يبدو كالتالي: أن تكون كما وصفها أمامه كعب بن زهير، هيفاء إذا هي أقبلَت، عجزاء إذا هي أدبرَت، لا يُشتكى منها قِصَر ولا طول، ممتلئة، وربما ذات لونٍ يشبه لون عائشة؛ أيْ حُميرة كما كان ينعتها بنفسه.٩ ومع أن هذا الأنموذج الجسدي غير مكتمل الأوصاف، فإنه يكتمل من الناحية العملية بالزواج من البِكر كي تلاعب الرجل ويلاعبها.١٠ وهو ما يدُل مرةً أخرى على أن هذا الأنموذج الإسلامي النبوي أنموذجٌ اجتماعي إيماني للجمال الأنثوي. وهو يكتمل بالزينة التي تكون المرأة مطالَبةً بها أمام الزوج، ومن جهة أخرى بالحُور العِين كأنموذجٍ أخروي يدل اسمُهنَّ على ما يُبهِج العين من فرحة الجمال، وعلى ما لجمال العين من موقعٍ في الجمال الأنثوي.١١

سوف تتطور هذه الإرهاصات، فيما بعدُ، وتأخذ أشكالًا متلاحقةً ومتداخلة. وسوف تُتداول في الثقافة والمجتمع العربي الإسلامي أقانيمُ جماليةٌ للمرأة وحُسْنها ومَلَاحتها، وذلك من خلال تصوُّرَين اثنين:

  • (١)
    تصوُّر كلي للجسد وجماله، يأخذ المرأة في اكتمال ذاتها، ويشير بشكلٍ إيحائي وعمومي وبلاغي لحسنها. وفي هذا الإطار فرَّقَت العرب بين الجمال والملاحة:
    فمن قولهم في الجارية: «جميلة من بعيد، مليحة من قريب.» فالجميلة التي تأخذ بصرك جملة، فإذا دنَت لم تكُن كذلك، والمليحة التي كلما كرَّرتَ فيها بصرك زادتك حُسنًا. وقال بعضهم: «الجميلة السمينة، من الجميل وهو اللحم، والمليحة أيضًا من الملح وهو البياض.»١٢

    إن هذا التمييز في الحقيقة تكاملي، ويخضع لذاتية التلقِّي ولمقصد المستقبِل للجمال الذي يتحكَّم فيه ذوقُه البصري. يبدأ الجمالُ من حيث تنتهي الملاحة، وكأن الجمال شيءٌ موضوعي لا يتمُّ إلا بملاحة القرب. بَيْدَ أن ثمَّة معاييرَ عامةً لا تخضع، في مجملها، لذاتية هذا التقويم؛ ذلك أن العرب قد صاغت لنفسها مجموعةً من المعايير الجمالية الجسدية التي خضعَت بدَورها لتبدُّلاتٍ تاريخية جزئية أو كلية. إن هذا الأنموذج الجمالي يتجلى واضحًا في البورتريه الذي رسمَته الواصفة لبنت عوف، والذي أثبتناه في مجمله في بداية هذا الفصل. وهو الأنموذج الذي سوف يستمر إلى حدود نهاية العصر الأموي الذي عُرف بشغَفه الخطابي والتخييلي بقِيَم الجاهلية.

    يتمثَّل هذا الأنموذج في قول الخليفة عبد الملك بن مروان لرجل من غطفان:

    «صِفْ لي أحسن النساء، قال: «خُذها يا أمير المؤمنين ملساء القدمَين، رمداء الكعبَين، مملوءة الساقَين، جمَّاء الرُّكبتَين (غير بارزة العظمين)، لفَّاء الخدَّين، مُقرمَدة الرفعَين (أصلَي الفخذ)، ناعمة الأليتَين، مُنيَّفة المأكمتَين (عظيمة ملاقي العَجُز)، فعمة (ممتلئة) العَضُدَين، فخمة الذراعَين، رخصة (ناعمة) الكفَّين، ناهدة الثديَين، حمراء الخدَّين، كحلاء العينَين، زجَّاء (رقيقة) الحاجبَين، لمياء الشفتَين، بَلجاء الجبين، شمَّاء العِرْنِين (الأنف)، شَنْباء الثَّغر (بيض أسنانه)، حالكة الشَّعر، غيداء العُنق، عَيْناء العينَين، مُكسَّرة البطن، ناتئة الركب.»

    فقال: «ويحك! وأنَّى تُوجَد هذه؟» قال: «في خالص العرب أو في خالص الفُرس.»١٣
    على عكس الوصف الجاهلي، يبدأ الوصف هنا من الأسفل نحو الأعلى، وكأن الواصف يبني أنموذجه الجسدي قطعةً قطعة. وهذا بالضبط ما جعل المتلقِّي (عبد الملك بن مروان) يتساءل إن كان الأمر يتعلق بتخييل بلاغي أم بأنموذجٍ ممكن الواقعية. ولعلَّ إجابة الواصف تنمُّ عن شبه استحالة واقعية هذا الأنموذج الذي تخلَّص من أنموذجية الطبيعي والتشبيه البلاغي المُفرِط. إن هذا الأنموذج ينبني في اللغة وبها، لكنه رغم ذلك لا يخرج عن مقياس الضخامة والبهكنة، الذي ميَّز المرأة المرغوبة في زمنٍ ما قبل الإسلام، فقد اشتُهر العرب الأوائل بعشق المكتنزة١٤ المليحة والجميلة. وليس مثال عائشة بنت طلحة بن الزبير إلا تأكيدًا لذلك، بَيْدَ أن الاكتناز ينضاف إلى سماتٍ أساسية أهمُّها البياض وسواد الشَّعر وحُسن العينَين وسَعتُهما وضخامة الثدي؛ ممَّا يدُل على أن العرب تداولَت أنموذجًا جماليًّا لا نزال نجده في البوادي العربية وفي المُتخيَّل الشعبي عامة، وربما يُلخِّص لنا هذا القولُ خصائصَ هذا الأنموذج: «قال أبو العباس أمير المؤمنين لخالد بن صفوان: يا خالد إن الناس قد أكثروا في النساء، فأيُّهن أعجَبُ إليك؟ قال: أعجبُهنَّ، يا أمير المؤمنين، التي ليست بالضرع الصغير، وحسبُك من جمالها أن تكون فخمةً من بعيد، مليحةً من قريب، أعلاها قضيب وأسفلها كثيب. كانت في نعمة ثُم أصابتها فاقة، فأترفَها الغِنَى وأدَّبَها الفقر.»١٥

    هكذا يتطابق الجمال والفخامة، بل يُختزل الأنموذج الجمالي فيها بعد أن كان الاسترسال وتَعداد المحاسن خاصيةً سائدةً فيما قبل (لاحظ: فحسبُك من جمالها …)، هكذا بدأ الجمال يتدرَّج من البلاغي نحو الدقة. وباتجاه الاختزال؛ ذلك أن ما غدَا هامًّا هو بالأساس عينية الجسد وحضوره الذي يملأ العين بمحسوسيَّته. إن ما يقودنا إليه هذا الرأي هو تفاعُل المشهد الجسدي العام مع الخصائص الاجتماعية (كالأدب) والخصوبة؛ فالثدي الضخم يصلُح للمرأة كي تُدفئ الضجيع وتَروي الرضيع، أمَّا فخامة الجسد العامة فتُحيل بالضرورة على فخامة أعضائه من الذراع إلى الفرج، ألم تُفضِّله العرب كبيرًا بارزًا يملأ اليد ويشبه رأس سبع بين الفخذَين؟

    إن هذا الطابع العمومي للرؤية الجمالية للجسد الأنثوي هي التي سوف يُلخِّصها بشكلٍ قاطع أبو منصور الثعالبي في فصل ترتيب حُسن المرأة، موضحًا ومصنفًا بذلك الأسماء المختلفة المتصلة بجمالها، ومؤكدًا في الآن نفسه المنظوراتِ المختلفة التي اختزنَتها ذاكرة اللغة في هذا المجال: «إذا كانت بها مَسحةٌ من جمال، فهي وضيئة وجميلة. فإذا أشبه بعضُها بعضًا في الحسن فهي حسانة. فإذا استغنَت بجمالها عن الزينة فهي غانية. فإذا كانت لا تبالي أن تلبس ثوبًا حَسَنًا ولا تتقلد قلادةً فاخرةً فهي مِعطال، فإذا كان حُسنها ثابتًا كأنه قد وُسِم فهي وسيمة. فإذا قُسم لها حظٌّ وافر من الحُسن فهي قسيمة. فإذا كان النظر إليها يسرُّ الروع فهي رائعة. فإذا غلبت النساء بحُسنها فهي باهرة.»١٦

    ومع أن هذا الترتيب قد يخلو من إمكانية المقارنة، فإنه يُصرِّح باهتمام العرب الواقعي واللغوي بأصناف الحُسن ومراتبه، قدْر اهتمامهم بقضايا اجتماعية ودينية أخرى. وهو ما يثبت، في نظرنا، أن الثقافة العربية الإسلامية قد اهتمَّت بالجسد الكلي لغةً وواقعًا، وأن بالإمكان الانطلاق من الجمال الجسدي للبحث عن مؤشراتٍ عربية إسلامية لإستطيقا خاصة وخصوصية، وتوسيع هذا البحث ليشمل الشِّعر والخطَّ والمُنَمنمات والزخرفة، وضروب الصناعات الأخرى كالعِمارة وغيرها.

  • (٢)
    تصوُّر دقيق للجسد وجماليته. فإذا كان التصور الأول ينتمي، من الناحية التاريخية، وحسب مُكوِّناته وصوره العامة، إلى فترةٍ أولى من الحضارة العربية الإسلامية، تمتدُّ من الجاهلية إلى العصر الأموي، فإن التصوُّر الثاني يُعتبر مُحدَثًا بالمقارنة معه؛ لأنه أدخل تغييراتٍ وتعديلاتٍ كثيرةً على معطياته.١٧

    وبما أن الجانب اللغوي يفرضُ نفسَه علينا هنا، باعتباره مدخلًا ضروريًّا لهذا التحليل، فإننا نجد أن العملية التصنيفية التي مُورِسَت على جمال الجسد الأنثوي كانت تستهدف تفادي اللبس من جهة، وتمكين المُتلقِّي من تعيين نوع الجمال الذي يبحث عنه من جهة ثانية. ولأن كُتُب الفروق في اللغة، كتلك التي صنَّفها أبو هلال العسكري، وأبو سعيد الأصمعي، ومُصنَّفات من قَبيل المُخصَّص لابن سِيدَه وزهر الآداب للحصري؛ تبتغي أصلًا التحديد المُعجمي لما يتقارب من الكلمات في المدلول أو الصياغة، فإن الثعالبي، وهو يهتمُّ بجمع التعاريف واختلافها، يقوم أيضًا بالمهمَّة نفسها، وذلك بالتركيب بين التمييز الاسمي والتعيين اللغوي المعجمي، وهو ما يمكن ملاحظتُه في المقطع التالي: «الصَّباحة في الوجه. الوَضَاءة في البشرة. الجمال في الأنف. الحلاوة في العينَين. المَلاحة في الفم. الظُّرف في اللسان. الرشاقة في القَد. اللباقة في الشمائل. كمالُ الحُسن في الشَّعر.»

إن هذه الدقة المعجمية في الأوصاف تُحيل عملية الوصف نفسها إلى فعلٍ له شروطه، ويفترض أهليةً ومقدرةً وصفيةً تستند بدَورها على مُدوَّنة أو معجمٍ خاص غني وصارم.١٨ من ناحية أخرى يرتبط هذا الترتيب في الكتاب بفصولٍ أخرى في ترتيب السمنة، وترتيب خفَّة اللحم، وترتيب هُزال الرجل … إلخ. كل هذا يأتي في إطار ضبطٍ معجمي للجسد وحركاته وأوصافه في المخزون اللغوي العربي. يقود هذا الهوسُ التصنيفي المعجمي إلى التأكيد على موقع الجسد من التواصُل التعبيري، من جهة، وعلى تأصيل ذلك الزخم اللغوي الذي اتصل بالجسد منذ الجاهلية ومنحَه (في القرنَين الرابع والخامس حيث عاش الثعالبي) صبغةً قارَّةً ومخصوصة. كما أن تبلوُر علم الباه لم يعرف نشاطًا تصنيفيًّا واضحًا إلا في القرون الأخيرة للمجتمع الوسيط، باعتباره نتيجةً مباشرة «للتخصُّص» الذي ساد المُصنَّفات العربية، ووضوح التمايزات بين العُذري والماجن والجمال البلاغي و«الجمال الجنسي» … إلخ.

يمكن الحديث إذَن، ضمن هذا التصوُّر، عن اهتمامٍ كبيرٍ بالأعضاء الجسدية، وعن ترابُطٍ وثيق بين الجمال وسُبل المتعة الجسدية. هذا الترابط هو الذي تتمثَّل صورتُه الخطابيةُ واضحةً في اهتمام العلماء المسلمين بأخبار القِيان والجواري، وظهور شِعرٍ «جسدي» لدى أبي نواس وبشار بن برد وعمر بن أبي ربيعة، ونجده أكثر في ألف ليلة وليلة. أمَّا صورتُه القُصوى فنجدها في الكتابة الإيروسية مع مصنَّفاتٍ من قبيل: جوامع اللذة والروض العاطر، ورجوع الشيخ إلى صباه ونزهة الألباب … إلخ. من ناحية أخرى، تبلورَت صورة أخرى أكثر خصوصيةً للجمال الأنثوي لن نستطيع أبدًا إغفالها. يتعلق الأمر بالتحول التأويلي، الذي تبلوَر في الكتابات الصوفية من قَبيل تائية ابن الفارض، وكذا ترجمان الأشواق لابن عربي بالأساس. فإذا كانت المتعة الجسدية، التي تدعو لها الكتابات الأولى، مرفوقةً بمعرفةٍ طبية عن الجسد تجعل منها — كما لدى النفزاوي — مدخلًا لتطبيب العجز الجنسي وتعلُّم الأوضاع الأكثر إنتاجًا للذة، فإن ازدواجية المعنى (ذات الطابع الرمزي إذ تجمع بين المحبوبة، والذات الإلهية في ملفوظٍ واحد)، هي التي تتحكم في التصوُّر الصوفي للجسد.

إن الأنموذج الجمالي الذي تحدثنا عنه سوف يخضع للتغيُّر تبعًا لتطوُّر المعارف والبناء الاجتماعي والحضاري والهُجْنة العِرقية والثقافية التي ساهمَت في تشكيل تصوُّراتٍ جديدة للجسد والعلاقات الإنسانية. فبعد أن كان عربُ الجاهلية والعصور الإسلامية الأولى يُفضِّلون الفخمة من النساء، ويُشبِّهون المرأة الفخمة بحيوان ذي ستِّ قوائم، غدَوا يُفضِّلون الرشيقة المُجدوَلة من النساء، ويُشبِّهونها بعود البان. ففي تفصيل المجدولة. جاء في أخبار النساء، بعد أن صرَّح أحدُهم بمحبَّته للمرأة الضخمة: «وأكثر البصراء بجواهر النساء الذين هم جهابذة هذا الأمر يُقدِّمون المُجدوَلة، فهي تكون في منزلة بين السمينة والمشقوقة، مع جودة القدِّ وحُسن الخرط. ولا بدَّ أن تكون كاسية العظام، وإنما يريدون بقولهم مجدولة جدولة العصب وقلة الاسترخاء، وأن تكون سليمةً من الزوائد والفضول؛ لذا قالوا خمصانة وسيفانة، وكأنها جدل عنان وغصن بان وقضيب خيزران. والتثنِّي من مِشية المرأة أحسن ما فيها، ولا يمكن ذلك للضخمة والسمينة، ووصفوا المجدولة فقالوا: «أعلاها قضيب وأسفلها كثيب.»١٩
على هذا النحو يتمُّ مجاوزةُ الضخامة مع احترام اعتدال في القد؛ بحيث تظلُّ المرأة محافظةً على بعضٍ من بدانتها خاصةً في العجيزة والأرداف. والحقيقة أن هذا التطور ليس خاصًّا بالمجتمع الإسلامي؛ فقد عرفَته أيضًا أوروبا التي كانت تتطلب من المرأة أن تكون فخمةً سمينةً تتغدَّى بكل ما يمكِن أن يزيد من وزنها وصورتها. كما أن أوروبا عرَفَت أيضًا تغيراتٍ كبيرةً في نماذجها الجمالية وفي مقبوليتها وحدود المرغوب فيه، وفي الجسد القابل للتأمل والتصور.٢٠

إن التحول في الأنموذج الجمالي يدلُّ على الاشتغال المستمر للثقافي على الطبيعة، وهو يشكِّل أيضًا فعل الجسد المثال على الجسد الواقعي؛ بحيث يتحول الجسد بفعل هزَّات وتبدُّلات عنيفة كي يتلاءم مع الصورة العُرفية المتواضع عليها. بهذا المعنى يكون التركيز على الاعتدال نوعًا من مداورة المصير البيولوجي للجسد وتحويله إلى أداةٍ رمزية خاضعة أكثر فأكثر لقرار المجموعة البشرية في تحديد الجميل والمشتهى والمقبول.

بَيْدَ أن هذا التحول، بالرغم من العنف الذي يفترضه، لم يتمَّ بشكلٍ فجائي؛ فهو يتعايش مع التصور القديم ويجادله، بل ويصارعه خطابيًّا. إنه ليس تحولًا كليًّا، فإذا كانت الرشاقة وتقدُّم وتعقُّد مواد الزينة والتجميل وغِنَى المظهر اللِّباسي سمة الحداثة إلى درجة التقنُّع،٢١ فإن رشاقة الجزء العلوي لم تمنع مع ذلك من الاستمرار في طلب كثابة الجزء السفلي وسمنته. فقد ولِعَ العربُ الأوائلُ بضخامة العَجِيزة والهَن. وهذا ما جعل عمر بن الخطاب يرى في العَجيزة الوجه الخلفي للمرأة؛٢٢ أيْ صورةً لهُويَّتها الجسدية الخالصة ومُحدِّدًا لأنثويتها، بل هذا ما منَح لعَجيزة عائشة بنت طلحة شهرة جمال وجهها.

يفسر صلاح الدين المنجد هذا التغيُّر في الأنموذج الجمالي الأنثوي، كما لمسه في العصر العباسي بقوله: «ومعنى هذا أن الذوق العام قد تحوَّل عن أشباه عائشة بنت طلحة، والثريا، وعبدة، ومال إلى المتناسقات الأعضاء، الكابيات العِظام اللواتي لا سمن في أجسامهن ولا ترهُّل.» ونستطيع أن نوضِّح الفروق التي طرأَت على الأنموذج الإسلامي بما يلي:

  • (١)

    صدَفوا عن النساء السمينات وفضَّلوا المَجْدوَلات …

  • (٢)

    أعرَضوا عن البطون ذات العكن … وفضَّلوا الضامرات البطون …

  • (٣)

    صدَفوا عن النهود الضخمة التي رغبوا فيها، في صدر الإسلام، وفضَّلوا النهودَ الكواعبَ التي ورد ذِكرُها في القرآن …

  • (٤)

    لهَجُوا بالتعبير عن القدِّ الممشوق …

  • (٥)

    ظهرَت نزعة من النقد اللاذع للتشبيهات التي كانت تصادف في الشعر الجاهلي.

  • (٦)

    زاد التنويه بمحاسن المرأة الروحية.

  • (٧)
    أدرَكوا أن لا بُدَّ من حُسن تناسُب الأعضاء، حتى يكمل الحسن والجمال …٢٣
من ثَم يمكن القولُ بأن تاريخية الجمال تكمُن أساسًا في تغيُّر المعايير والقِيَم المرتبطة بالجسد، التي تعمل على تغيير صورته، سواء في الخطاب أو في المُتخيَّل الجماعي. كما أن تغيُّر السَّنَن code الثقافي المتحكِّم في التواصل الذهبي، باعتباره مجموع المواضعات العامة، قد تجلَّى أساسًا في نوعٍ من الانزياح عن معايير وسنن الجاهلية وصدر الإسلام. وغدَا الاهتمام بالجسد عنصرًا من عناصر الحضارة الجديدة وقِيَمها الثقافية والأخلاقية التي عرَفَت تطورًا واضحًا تجلَّى في رهافة الذوق الأدبي، وظهور فئةٍ اجتماعيةٍ جديدة لها مكانتُها الثقافية والفنية، نعني بذلك الجواري والقِيان اللواتي أضفَين على حميمية المجالس الخاصة من اللباقة ما جعل كبار المثقفين العرب آنذاك، كالأصفهاني والجاحظ والسيوطي … يُفرِدون لهنَّ المؤلَّفات الخاصة.

لكنَّ ثمَّة فَرقًا طفيفًا بين المرحلتَين؛ ذلك أن جمال القِيان إذا كان قد ارتبط بقِيَمٍ فنية كالغِناء ونَظم الشعر، فإنه قد ساهم بذلك في نقل المعايير الجمالية من الديني الأخلاقي (كما شهدناه مع ظهور الإسلام)، إلى الفني الثقافي، ومن البلاغة الطبيعية المُفرِطة إلى نوعٍ من الأنموذجية المبنية بناءً صناعيًّا. فجمال القَيْنة جمالٌ ممكنٌ وقابلٌ للصُّنع والتداول والامتلاك للمتعة، بل إنه قابل للخلق مع تطوُّر فن الزينة والتجميل والتقيين. لذلك فإن تداولية الجمال سوف تعمل على الحدِّ من تخييليَّته البلاغية لتُحوِّله باتجاه تخييليَّةٍ تداولية، وسوف يظهر أيضًا اهتمامٌ واضحٌ بالجمال الذكوري (الغلمان)، ليأخذ مكانه في هذا الفضاء الجمالي الجسدي، ويكاد يزاحم الجمال الأنثوي، ويسرقُ منه شيئًا من حُظْوته التليدة.

على أن هناك خصائصَ مشتركةً بين رؤيتَي المرحلتَين؛ فقد ظلَّت بعض الخصائص مستمرةً في الأنموذج الجديد، وبخاصة ضخامة الهَنِ والأرداف. يفسِّر بوحديبة هذا الاستمرار قائلًا: «ثمَّة سيكولوجيا اجتماعية للأرداف، باعتبارها تتمتع في الغالب بحظوةٍ كبرى؛ فالاستدارة الفخمة تمنَح المتعة للعين؛ إذ هي مقدِّمة لامتلاك الجسد المرغوب فيه امتلاكًا خلال العملية الجنسية.»٢٤ وهذا ما يدلُّ على أن ذلك الاستمرار ينبع من أن الجمال الجسدي ظاهراتي يتمُّ في جدل المرئي واللامرئي، الفيزيقي والذاتي، السابق واللاحق.
إن بناء أنموذجٍ جمالي في المرحلة الثانية قد بدأ بالتحرُّر من التشبيهات الجاهلية لاستبدالها بتشبيهاتٍ جديدةً (استبدال التشبيه بالبقرة بغصن البان مثلًا)، ليتمَّ فيما بعدُ الانسلاخُ كليةً عن التشبيهات الطبيعية، والنظر إلى الجمال الأنثوي في مرجعيته الخاصة. يُعبِّر الجاحظ عن هذا المنزع العقلي الجديد الذي يمكن اعتبارُه مدخلًا للنظر في أنثوية المرأة، بشكل مباشر، وخارج أيِّ تبعية للطبيعي والقُدسي، داعيًا إلى فصل الخطاب المتعلق بالجمال الأنثوي عن البلاغة التشبيهية وصورها المسكوكة قائلًا: «وقد تعلم أن الجارية الفائقة الحُسن أحسن من البقرة، وأحسن من الظبية، وأحسن من كل شيء شُبِّهت به، وكذلك قولهم كأنها الشمس، فالشمس وإن كانت حسنةً فإنما هي شيءٌ واحد. وفي وجه الإنسان الجميل، وفي خلقه ضربٌ من الحُسن الغريب والتركيب العجيب. ومَن يشكُّ أن عين الإنسان أحسنُ من عين الظبي أو البقرة، وأن الأمر بينهما متفاوت؟»٢٥ يُعبِّر موقف الجاحظ هذا، في سمته الإنسانية العقلية، عن تغيُّرٍ جذري في النظرة الفكرية للمرأة وجمالها. إنه يؤكِّد الانتقال من مركزية الكتلة اللحمية إلى مركزية النظر العقلي للجمال الإنساني بوصفه كيانًا مُركَّبًا شاملًا يحتلُّ الأولوية في سُلَّم الكيانات الأرضية. بهذا المعنى يُمكِن القول إن المنظور التاريخي الثقافي الإسلامي للجمال قد ركَّز دومًا على الجسدي المباشر المرئي، لكنه صاغه خطابيًّا عَبْر مسبقاتٍ طبيعية وقُدسية وأخلاقية وقِيَمية، خضعَت للتطور وسايرَت التحولات الفكرية التي عاشَتها الثقافة العربية الإسلامية القديمة.

الجمال بين البلاغي والتخييلي والشهواني

لقد ألمحنا سابقًا إلى الطابع البلاغي و«الاستحالة» التخييلية للأنموذج الجسدي الذي بُني في الخطاب حول الجسد. إن ذاك الطابع التخيلي يكمن أساسًا في كونه جسدًا متعاليًا عن الجسد الواقعي؛ بحيث يغدو تركيبةً من المُكوِّنات المتناثرة التي يتمُّ تنسيقُها في صورةٍ مكتملة ومتكاملة. إنه صورة figure غير مُشخَّصة وغير قابلة للتعميم، حتى حين تجد لها سندًا واقعيًّا (كدعدة في الجاهلية، وضباعة بنت عامر أو عائشة بنت طلحة أو زينب المخزومية في العصر الإسلامي)، بل إن الأمر يتعلق بجسدٍ مرسوم، ومُختلَق باللغة والخطاب والمقارنة التركيبية. فالجسد بمجرد ما تمتلكه اللغة المصورة، يكفُّ عن أن يكون جسدًا واقعيًّا ليغدوَ جسدًا ثقافيًّا بالدرجة الأولى. ومتى ما مسَّ الوصف الجسد، فإنه يتعامل معه انطلاقًا من مخزونه الفكري، وذاكرة اللغة، وقِيَمها وأخلاقها، وأيضًا من خلال الممكنات البلاغية التي تسجنه في الصورة؛ لذا يغدو الجسد بهذه العملية البلاغية الوصفية مثالًا لغويًّا قد يحاكي أصوله المرجعية، غير أنه في هذه اللعبة التأملية يتحول إلى مشهد للمتعة والتأمل الجمالي. إن النموذج المعياري للجمال يكون دائمًا مثاليًّا، ولا يقبل التعميم إلا انطلاقًا من تحويله إلى قانونٍ عام بالمواضعة.
يتحول الأنموذج الجسدي، ببلاغيته تلك، إلى جسدٍ مُتخيَّل، تمتلكه الذاكرة الإنسانية واللغة والرغبة، وتستحضره المخيِّلة لتعيش فيه باستمرار استيهاماتها الشهوانية والجمالية. إنه جسد من خلق مخيِّلة الواصف الناحت له، يمنَحه من توقُّعاته وحساسيته كل ما ينقصه من الاكتمال والتعالي. وهو صورةٌ أيضًا؛ لأنه جسد يتمُّ تجريدُه في الكثير من الأحيان من خصائصه الظاهرية phénoménale، وعزلُه عن محيطه لإعادة تركيبه في مُتخيَّل اللغة وفق منظور يسلب منه طابعه الوجودي.٢٦ وقد أكد صلاح الدين المنجد على أن عرب الجاهلية كانوا يركِّزون على الطابع اللحمي للجسد في خطابهم عنه. إن هذا الاقتطاع للجسد من عالمه وسياقه الذاتي والموضوعي هو بالضبط ما يجعله جسدًا مُتخيَّلًا؛ فبمجرَّد ما نُفرِّق بين ما هو فيزيقي وما هو نفسي، مُفككين بذلك الوحدة الوجودية للكائن الإنساني، يغدو الجسد تخييليًّا؛٢٧ ذلك أن بُعده النفسي يجعل منه جسدًا واعيًا وذا مقصدية، لا مجرَّد منعكسٍ للرغبة الجنسية أو الجمالية. هذا الاختزال للجسد في مظهره الفيزيقي — وإن لم يكُن عامًّا في المنظورات الإسلامية — يجعل منه جسدًا من أجل الآخر؛ أيْ مُوجهًا للمتعة الخطابية والحِسيَّة. وهو أيضًا جسدٌ تخييلي لأنه يُبنى بلاغيًّا، وكأن الكائن العربي حتى وإن لم يكُن شاعرًا (لأن البلاغة والبيان ليسا لحسن الحظِّ من ملك الشعراء وحدهم)، لم تكُن تكفيه المعاينة المباشرة للجسد، فيسعى إلى صياغتها على مقاسٍ مرئي أو مرئيات أخرى يرتبط بها وجوده الطبيعي والاجتماعي. إن بلاغةً من هذا القبيل إن كانت تؤكِّد انفتاح ذاك الكائن على المُقدَّس، سواء كان ذا صورٍ طبيعية أو علوية، فهي من جهةٍ ثانية تكشف عن الطابع الملتبِس للجسد الإنساني في انتمائه للذات والآخر في الآن نفسه.

بل يمكننا القول بأن بناء الأنموذج الجسدي على غرار الأنموذج الطبيعي يُفصِح عن تصوُّر للكيان الإنساني لا يتمُّ فيه الفصلُ بين الجسدي واللاجسدي والشخصي وغير الشخصي، ممَّا يدل على أن عملية التشبيه في ربطها الجسد وقوة الطبيعة الكونية تحوِّل الجسد إلى كيانٍ رمزي مُحمَّل بقوة الطبيعة وجمالها نفسهما. فليس يوجَد عضو من أعضاء المرأة لم يجد له نظيرًا في الطبيعة والواقع، فقد شبَّهوا الخصر بالسوار لدقته، وشبَّهوا الصدر بصدر التمثال وبياضه بالمرمر، وشبَّهوا الثدي بالرمانة لاستدارتها وصلابتها، والحلمة بنقطة العنبر، والجيد بعُنق الظبية في طوله، والخدود بالورد والخمر وشقائق النعمان والأرجوان وتفَّاح حلب في حمرتها … إلخ. تكشف الخواص التصويرية والتخييلية عن هذا الأنموذج الذي ينطلق من جسد غير متحرك، جسد-موضوع يمنَح نفسه للرؤية وللتخيُّل في أوضاعٍ مريحة، وحين يتحرك فهو يقوم بذلك إقبالًا وإدبارًا، وقوفًا أو قعودًا. إنه بمعنًى ما جسدٌ مقتطَع من سياقه الاجتماعي؛ لأنه مفصول عن مُعطيَاته الحِسيَّة والإدراكية والنفسية التي تهَبه وجودَه الفعلي في العالم؛ لذا فإن الواصف للجسد يُحوِّله إلى جسد من أجله هو، ويفرض عليه سُلطة نظرته ورغباته. فالجسد يغدو تخييليًّا إذا هو وُجد في غير علاقة مع العالم المحيط به، العالم الذي نعيش معه، وليس فقط العالم الذي نعيش إزاءه.

لقد أشار المنجد إلى أن الجسد، كما تصوَّره الجاهليون، جسدٌ مخصوص من لحمٍ ودم. والحال أن واقعيَّته تلك تغدو تخييليةً لا لضخامة الجسد، وإنما لما يُمنَح لها من صبغةٍ بلاغيةٍ تصويرية. ولم يفُت المنجد أن يربط هذا الأنموذج الوثير بالشهوة المتأجِّجة لدى عرب الصحراء؛ فالأنموذج الجمالي ومعايير تعيينه تكون دائمًا تعبيرًا عن وضعية الليبيدو في مجتمعٍ ما؛ من ثَم فإنَّ ترابُط المتعة والشهوة بالأنموذج الجمالي واضحة، إنها تؤسِّس اللحظة الجنسية المُرتقَبة ولو على مستوى المُتخيَّل.

تتحكَّم مقصدية الشهوة إذَن في صياغة هذا الأنموذج الجمالي الخطابي. وبما أن كل رغبةٍ نوعٌ من العشق، فإن ما من شيءٍ يدعو إلى المجازي والتصويري أكثر من العشق والرغبة. فهذه الأخيرة تُجرِّد الجسد من علاقاته لتتمكَّن من تملُّكه تخيُّلًا وواقعًا؛ فالتجريد يكون بهذا المعنى تخصيصًا للجسد من الناحية الليبيدية؛ لأنه يُعبِّر عن الرغبة الكامنة وراءه، ويكشف عنها الحجاب؛ ذلك أن الجسد يحتاج إلى هذه المفارقة لينتج أنموذجه التاريخي بشكلٍ رمزي. فبقَدْر ما يكون مغلقًا ومجرَّدًا عن خصيصته الواقعية بقَدْر ما ينغرس في المُتخيَّل الاجتماعي، ويؤثِّث فضاءاته الشهوية، ويقدر على التحكُّم في النشاط الجنسي ضمن العلاقات الاجتماعية. وإذا كان الأنموذج الجمالي منبعًا لمتعةٍ مزدوجة (كصورةٍ ذهنية وككيانٍ واقعي ممكِن)، فإن اكتماله التخييلي لا ينفصل عن المقصدية النابعة من الذات التي تمنح معنًى جديدًا للموضوعات، وتَسِمها برغباتها الدفينة والمعلَنة، الخطابية والصامتة؛ فالجسد الجميل يُشكِّل مرآةً غيرية، وقناةً تمرُّ من خلالها الرغبات والشهوات. فقد كانت الصورة الخطابية البلاغية التي منحَتها المرأة الواصفة لصورة بنت عوف أمير شيبان، وتلك التي قدَّمها الأعرابي لعبد الملك بن مروان، تُعبِّر عن رغبة ملك كندة ومعه الخليفة عبد الملك، ومن خلفها رغبة المتكلم نفسه امرأةً كان أو رجلًا. كما أن النساء اللواتي وصَفْن جسد عائشة بنت طلحة وعزة الميلاء المُغنية وغيرهما، كُنَّ ينقلن للسامع الغائب مشهدًا يؤكدن من خلاله أنثويَّتَهن في الخطاب والنظر. ويُعبِّرن من خلال ذلك عن كون الأنثوية féminité تتمُّ في الغيرية وتتحقَّق فيها أيضًا،٢٨ ولو كان ذلك عَبْر وساطة أنثى أخرى. من ناحيةٍ أخرى، يمكن القول بأن الجسد الجميل يستعبدُ الواصفَ ومن خلاله يأسر الآخر كما يقول ميرلوبونتي: «فالإنسان لا يرى عادةً جسده لنفسه، وحين يقوم بذلك فتارةً عن خوف، وأخرى بنيَّة الفتنة؛ فهو يظن أن نظرة الآخر الغريب التي تسرح على جسمه تسلبه منه، أو بالعكس يكون استعراضُه لجسده سيمنح له الآخر من دون سلاح، وآنذاك يغدو الآخر عبدًا. فالحشمة والتعرِّي يأخذان مكانهما في جدل الأنا والآخر؛ أيْ في مكانة العبد.»٢٩

إنها أيضًا سُلطةٌ خطابية تُحوِّل النماذج «الواقعية» إلى كائنات جديدة يلعب فيها الخيال دَورًا كبيرًا؛ بحيث تنفصل تدريجيًّا عن مرجعها الخارجي لكي يأخذ فيها الوجه الحسن والعَجيزة الكثيبة موقع الصدارة، ولكي تتحوَّل تلك النماذج إلى أساطير لها موقعُها في التاريخ الذهني للكائن في المجتمع العربي الإسلامي، تغذي باستمرارٍ استيهاماته الذاتية والعلائقية.

(٢) الجسد والاستراتيجية المظهرية في الإسلام

مظهرية الجسد الإسلامي

لا يكفي الحديث عن الجسد الإسلامي في سُننه وطقوسه الدينية كي تكتملَ صورتُه العامة في حقل الثقافة والمجتمع الإسلاميَّين؛ فالجسد يخضع، في هذا المجال، لمجموعة من الواجبات التي تلحق بكيانه، وتختزل حريته «الطبيعية» بأنموذجٍ حركي مُعمَّم، يشترك فيه مع باقي الكيانات الجسدية الأخرى. لذلك لا يمكن فصلُ الجسد الذاتي في الإسلام عن الجسد الديني الاجتماعي. إن غياب ثنائيةٍ واضحة بين الذاتي والموضوعي بخصوص الجسد يجد تبريره في كون النصوص التشريعية قد دمجَت بشكلٍ واضح بين المجالَين، حتى فيما يتعلق بالمظهر الجسدي الشخصي من زينة ولباس. بَيْدَ أن هذا التداخل، الذي يُبين إلى أيِّ حدٍّ ينغرس القُدسي في الدنيوي، ويمارس فيه سُلطته، لا يمنع مع ذلك من الحديث عن معالم جسدٍ شخصي في المجتمع الإسلامي القديم، ينزاح إلى حدٍّ ما عن دائرة الشعائري والمقدس.

فإذا كانت بعض الديانات البدائية تفرض، في الممارسة الشعائرية، توافُر مجموعة من المظاهر كالأقنعة والتشكيلات الصباغية واللباسية الملحقة بالجسد، فإن الإسلام قد دافع عمومًا، عن جسد «فطري» و«طبيعي»، أو أقرب إليهما، بالرغم من إحاطته لمجموعةٍ من الواجبات الشرعية، كالصلاة، بالكثير من الحرص التجميلي المحمود؛ إلا أن هذا الجسد «الفطري» يخصُّ الرجل أكثر من المرأة. فالكثير من الأحاديث النبوية تدعو إلى البساطة في الملبس وتفضيل غير المُزركَش منها أو الحريري. كما تدعو، من جهةٍ أخرى، إلى استعمال السواك والكحل والطيب والخضاب باعتبارها المتطلَّبات الأساسية لزينة الرجل. أمَّا زينة المرأة، فإنها بالمقابل لا تخضع لتقنينٍ خصوصي سوى ما يتعلق منها بالحجاب، ومنع تزيُّنها لغير المحارم. فما يُحرَّم على الرجل يُعزى في الخطاب النبوي إلى المرأة.٣٠
إن هذا الجسد الرجولي المتقشِّف جسدٌ له عمقٌ تطهيري شعائري وثوابي؛ فنظافة البدن أهمُّ وأَولَى من المظهر؛ لأنها تُدخل الجسد الذكوري مباشرةً في وجوده القصدي وتمنَحه الصورة المطلوبة لذلك. لقد أدرك الإسلام أن ما يهمُّ في زينة الرجل لا يكمُن في اللباس الفاخر، وإنما في القدرة على الربط بين بساطة اللباس ووظيفته العبادية، وبين عناصر الزينة الأخرى ومصدرها العلوي المقدَّس (السواك مثلًا يتصل بالجنة). إن أهمية المظهر تكمُن هنا في كونه يندمج بالجسد الذي يحمله وشكل صورته الاجتماعية والذاتية؛ فالترف المظهري عشقٌ لمتع الدنيا، والزهد فيها انفتاحٌ نحو متع الآخرة. هذه العلاقة الأكيدة بين الجسد والمظهر هي التي يؤكِّدها شيلدر هنا: «فكل ما يدخل في تماسٍّ مع مساحة الجسد يندمج إلى هذا الحدِّ أو ذاك فيه، وهو ما يُشكِّل شهادةً إضافيةً على بصرية صورة الجسد.»٣١ إضافةً إلى ذلك، فإن المظهر حين يخرج عن حدود الواجبات الدينية يغدو فتنةً اجتماعية، قد تعوق أحيانًا القيام بأكثر الواجبات الدينية تطلبًا للخشوع، كما وقع ذلك للنبي نفسه مع الخميصة التي تحوي رسومًا؛٣٢ من ثَم فإن القوانين الإسلامية المتعلقة بالمظهر والزينة، تخضع في مجملها إلى مقصديةٍ أخرويةٍ واضحة، تركِّز على إيمان المسلم بالقِيَم المقدسة، وإهماله الجزئي للرغبات والأهواء الشخصية والاجتماعية، باقتصاره على حدٍّ مظهريٍّ أدنى.
إن قاعدة صورة الجسد، كما حلَّلناها، هي التي تقف، من دون شك، وراء التقنينات والتعاليم الإسلامية (النصِّية) للمظهر الجسدي. فتحريم الوشم، مثلًا، ولعنة المصوِّر، يترابطان في الحديث المشهور؛٣٣ لأن الوشم صورةٌ تنطبع على الجسد وتُغير مظهره من جهة، وتستعيد فيه ممارسةً مظهريةً تنتمي للتصوير الوثني في متعالياته الأنيمية. أمَّا السواك والطيب فهما زينةٌ عارضة لا تُغيِّر من صورة الجسد إلا مؤقتًا. إن قدسية الجسد في الإسلام تتبدَّى هنا بشكلٍ واضح؛ فهو دلالةٌ على الخالق المُصوِّر وفعلٌ من أفعاله الخارقة التي لا يستطيع أحدٌ أن يضاهيَها كليًّا أو جزئيًّا؛٣٤ ومن ثَم نهى النبيُّ عن التعرُّض لوجه الإنسان بالضرب والتشويه؛ لأنه صورة الجسد وموطن هُويَّته. هذا بالضبط هو ما يُفسِّر «تحريم» التصوير الخاص بالجسد الإنساني، وتحريم الوشم والكيِّ اللذَين يَسِمان المظهر الجسدي ويُغيِّران طبيعته في شفافيتها الدالة على الخلق والتصوير الإلهي.
لذا يمكن القول بأن الزينة النبوية غير جذرية، ولا تتصل إلا بما يمكن أن يجمِّل الصورة الإنسانية، ويحافظ لها على رونقها؛ فقد طالب الرسول بِيضَ اللِّحَى بصبغها، ونهَى عن نتف الشعر: «إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم.» وأُتي بأبي قحافة يوم فتح مكة ورأسه ولحيته كالثغامة بياضًا، فقال رسول الله : «غيِّروا هذا واجتنبوا السواد.»٣٥ إن نهي الرسول عن صبغ اللحية بالأسود، وتفضيله اللون الأصفر (بغير الزعفران)، يدل على رفضٍ واضح لمحاكاة الطبيعة وللوهم الذي يخلقه ذلك؛ فالسواد إخفاءٌ لوهن العمر، أمَّا الصُّفرة فخضابٌ وزينة، والفرق بينهما واضح، كما أمر الرسول بإحفاء اللحية والشوارب، وإكرام الشعر وتدهينه وإصلاحه، فذلك «خير من أن يلْغِي المرء رأسه كأنه شيطان.»٣٦ كما دعَا إلى تطويل الحجة، أيْ إطالة الشعر حتى يبلغ شحمة الأذن، وكان الرسول يسدل شعره كأهل الكتاب، ثم بدأ يفرقه فيما بعدُ (كما كان يفعل المشركون)، وأوصى كذلك بحلق الشعر كله أو تركه كله؛ ذلك أن الفطرة بالنسبة للرسول خمس، من ضمنها: الاستحداد، ونتف الإبط، وقص الشارب، وتقليم الأظافر.

لقد حوَّل الإسلامُ الجسدَ المظهريَّ للمسلم إلى جسدٍ نمطي له مُحدِّداته القدسية؛ فهو يخضع إلى قاعدتَي التحريم، والتحليل، والنهي والإباحة. فاللباس مظهَر للجسد، وهو فتنةٌ مثله في ذلك مثل ما يكسوه. فكما أن العادات المتصلة بالجسد تُحدِّد هُويَّته الدينية والحضارية، فكذلك العادات المظهرية، فلبس القلنسوة حرام؛ لأنها لباس الشيطان، والذهب (للرجال) جمرةٌ من جمرات جهنم. والشَّعر الذي لا يُقصُّ يشبه رأس الشيطان … إلخ. هكذا يتمُّ التأطير الديني للمظهر عبر حدَّي الحلال والحرام، وبالأخص من خلال حدَّي الإنساني والشيطاني؛ من ثَم فإن هذا الطابع الرمزي والقدسي للِّباس يتجاوز بكثيرٍ وظيفتَه الكسائية والتزيينية المحضة ليدخل في سلسلة الدلالات الكونية التي تزجُّ بالمسلم في النظام السلوكي والكوني الإسلامي.

تبعًا لهذا البعد الرمزي الصميم، بل وتماشيًا معه، يخضع الأنموذج التزييني الإسلامي لقاعدتَين؛ قاعدة الفطرة وهي قاعدةٌ ثقافية لا تتطابق مع الطبيعة، بل يتمُّ بمُوجِبها تحويلُ الجسد بما يلائم مبدأ النظافة والاختلاف عن أهل الكتاب، كما لاحظنا ذلك آنفًا. وقاعدة الملاءمة الرمزية التي تعني الانزياح الكامل عن كل ما يمكن أن يُذكِّر بالشيطان باعتباره هنا الصورة والحدَّ الرمزيَّ لكل ما يخالف مقاصد الشريعة العامة. وهما قاعدتان سوف تخضعان بدَورهما للنسبية التاريخية؛ ذلك أن التحولات الحضارية التي عرفَها المجتمع العربي الإسلامي، وانتقالَه التدريجي من البداوة إلى المدنية، سوف يحمل معه التغييرات الضرورية الملائمة. وبما أن المظهري جمالي واجتماعي تواصلي، فإن كل تغيُّر تتدخل فيه عواملُ متعددة، ويُنبئ هو بدَوره عن طبيعة التحول في الممارَسة الاجتماعية والتصوُّرات الذهنية لدى الأفراد والمجموعة البشرية كاملة.

الزينة وجمالية الجسد الشخصي

ظلَّ العربي إذَن يهتمُّ بجسده سواء كان ذلك تأهبًا للصلاة أو احتفاءً بلقاء الآخرين، أو احتفالًا بالأعياد الدينية وغيرها. وربما كان أهم ما يُولِيه العناية اللازمة في هذا المضمار هو ترجيل الجمة؛ أيْ تصفيف الشَّعر ودهنه. وقد اشتُهر بذلك قيس العاشق متأهبًا للقاء معشوقته، والشاعر جرير وهو يستعد لإلقاء شِعره مباشرةً على جمهوره، أو المغني في مجلس الطرب. هكذا بدأَت تظهر تقاليد الزينة الذكورية، وتتوسَّع وظائفها لتتجاوز الحدود الإسلامية التقليدية، وتمنَح للذاتي الشخصي مكانتَه المميزة؛ فقد برزَت «طائفة من الناس كانت تبالغ في الزينة، منهم المُغنُّون، وأشهرهم في هذا المعنى سيد المغَنين في عصره؛ عبد الملك أبو يزيد، الذي لقبوه بالغريض؛ لأنه كان طريَّ الوجه، نضيرًا، غضَّ الشباب، حَسَن المنظر».٣٧ وهو ما يدل على استقلال الزينة عن المرامي القدسية، وتحوُّلها إلى صفةٍ اجتماعيةٍ وجماليةٍ تخصِّص فئةً اجتماعيةً مُعيَّنة.

إن انتقال الاستراتيجية المظهرية من التواصل مع المقدَّس إلى التواصل الاجتماعي الثقافي يؤسِّس تلك الاستراتيجية بوصفها اختيارًا ثقافيًّا وظيفيًّا، يمارس ذاتيته حتى بالعلاقة مع الفضاء المقدَّس نفسه؛ فقد رُوي عن الأحوص، وهو شاعرٌ عباسي معروف، أنه كان يدخل المسجد الحرام لا بثوبٍ واحد، بل بثوبَين اثنَين، مُعَصْفرَين، مدلوكَين؛ ولا يكتفي بهذا، بل يضع على أذنه باقةَ ريحان. تتخذ الزينة هنا وظيفتَين؛ وظيفةً اجتماعية تميزية، ووظيفةً شخصية فردية. وإذا كانت الوظيفة الاجتماعية تدل على تطوُّر القِيَم الاجتماعية المتصلة بالذات والجسد، ومنحها طابعًا «أخلاقيًّا» جديدًا؛ فإن الوظيفة الشخصية تتمثَّل في تجريد الاهتمام بالجسد من كل هدفٍ عبادي مفترض ومباشر. إن الإحساس بأهمية الصورة المظهَرية تفاعل بين المرمى الاجتماعي والرغبة في الغواية، وخلق صورة معيَّنة لدى الآخر.

بَيْدَ أن السؤال الذي يطرح نفسه الآن يتعلق بالفرق بين التجمُّل الذكوري وزينة المرأة، فإذا كان الإسلام قد حدَّد زينة الرجل أكثر من تحديد زينة المرأة، حتى لا تختلط الزينتان ومعهما الجنسان، فذلك أساسًا لأهدافٍ ترتبط بسَعَة الزينة النسائية وتعدُّد مواردها، لكن ذلك التمايز سوف ينمحي تدريجيًّا لتصبح للزينة الذكورية قيمةٌ توازي الأنثوية. إن هذا التحول يؤشر إلى القِيَم الحضارية التواصلية الجديدة التي أفرزَها المجتمع العربي الإسلامي، وإلى التلوينات التي اتخذَتها في العلاقة بالجسد التواصلي.

أمَّا المرأة فإنها «تُبالِغ» في زينتها؛ لأن ثَمَّة معادلةً أكيدة بين الأنثى والجمال. وهي معادلة تضمَّنها الخطاب النبوي مرارًا وألحَّ عليها. والحقيقة أن زينة المرأة تتوزع بين المتعة الذاتية التي تجدها هذه الأخيرة في تأمل جمالها وهيئتها، وبين الضرورة التي تفرضها «طبيعتها» الأنثوية في العلاقة بالآخر في نظام العلاقات الاجتماعية أو مؤسَّسة الزواج. فالتطابق المتواضَع عليه بين الأنثى والجمال وبين الأنثوية والمتعة يدفع بكافة النساء إلى استغلال وسائل ومواد التقيين واللباس لتثمين مناطق جمالهن، ومنح جاذبية أكثر لصورتهن. إن عملية الزينة والتجميل تجعل من المرأة كائنًا مظهريًّا بامتياز، أيْ كائنًا من أجل الآخر.

يوحي هذا الترابط بين الجسد الأنثوي، والاشتغال على صورته لدى المرأة، في نظرنا، بعلاقة أكثر جذرية وعمقًا؛ إنها العلاقة الأنطولوجية للمرأة بجسدها بوصفه رأسمالها الرمزي وموطن هُويَّتها الذاتية؛ فالزينة تفترض العين الرائية لها، المستمتعة بومضاتها الشهوية، سواء كانت تلك العين عين المرأة نفسها أم عين الآخر (الرجل). إن التجميل بهذا المعنى مُولِّد للمحبة والإعجاب، غير أنه من ناحيةٍ أخرى علاقة جمالية بالجسد لها مساربها الليبيدية.

لنعُدْ ونقلْ إن الزينة أولًا، وقبل كل شيء، استراتيجية مظهرية لها علاقة وثيقة بالفتنة والغواية كما يقول بودريار. إنها استراتيجية لأنها ترتبط بما هو أبعد من الظرفي، وتطول المحددات العامة للكيان الأنثوي. وهي لذلك لها طقوسها وشعائرها ونواياها ومواردها وفنيتها التي تخترق العصور التاريخية؛ فقد كانت النساء العربيات في الجاهلية يتزينَّ لأمرٍ ما في الحي، أو حين يتمُّ عرضُهن على الخاطب. وكانت الزينة تُستخدم للزوج أو للزواج، وتمارسها المتزوجة كما الغانيات. ومع تطور المجتمع العربي الإسلامي، سوف يغدو التجميل فنًّا له قواعده ووظائفه المتعددة، المتمثلة في تظريف الجواري وتقيينهن وإخفاء عيوبهن الجسدية. وليس من شكٍّ في أن هذا الشيوع الكبير للتجميل في أوساط النساء الحضاريات هو الذي دفع بالمتنبي إلى القول بنوع من الحسرة:

ما أوجُهُ الحَضَر المُستحسَناتِ بِهِ
كأوجُهِ البَدَويَّاتِ الرَّعابيبِ
حُسْنُ الحضارةِ مجلوبٌ بتطريةٍ
وفي البداوةِ حُسْنٌ غيرُ مَجلوبِ

(…)

أفدي ظباءَ فلاةٍ ما عرفْنَ بها
مَضْغَ الكلامِ ولا صَبْغَ الحواجيبِ

(…)

ومن هوى كلِّ مَنْ ليسَت مُمَوَّهةً
تركتُ لونَ مَشيبي غيرَ مَخضوبِ٣٨

ليس من قبيل الصدفة طبعًا أن يتحدث المتنبي عن الوجه بوصفه مجال المقاربة الجمالية، وعن اللسان بوصفه معيار القيمة الذاتية الفكرية والعقلية؛ فالوجه كما هو معروف صورة الكائن وموطن هُويَّته الفردية وتميُّزه الفيزيقي، ويمتلك حظوة تمثيل الجسد والتواصل بين الناس؛ من ثَمة فالحديث عن التجميل هو حديث عن صورة الوجه؛ لأنه موطن التجميل الظاهر؛ لذلك فقد اعتُبر الوجه دائمًا معيار الجمال، فتمركز الزينة حول العينَين يُعبِّر عن القوة الواقعية والرمزية لهذا العضو. أمَّا الوجه فإنه يُعتبَر المنطقة الأكثر أهميةً في الجسد، وهي الأكثر والأوفر حظًّا في العناية.

إن الوظيفة الأولى للتجميل (أو استعمال الماكياج بلغتنا الحالية)، تكمن في تضعيف جمال المرأة والزيادة من مقبوليته وإدخاله في حظيرة المعيار الجمالي السائد، وذلك بتكبير العينَين وإبرازهما، وإبراز الخدِّ وحُمرته، وصبغ الحاجب، وتصفيف الشعر. أمَّا الوظيفة الثانية فتكمن، ليس فقط في التجميل، وإنما في تغيير معالم الوجه، وذلك لهدف جمالي وموضوعي في الآن نفسه، خاصةً في حال القِيان اللواتي كُنَّ يُتداولن في الأسواق التجارية. وإذا كانت العمليتان لا تختلفان في العمق والطبيعة، فإنهما تتمايزان في الغاية التداولية.

لقد أدرك العرب والمسلمون أن الوجه مبدأ الجمال ومصدره الأصلي؛ ذلك أن الوجه يُشكِّل الموضوع الأساس للاهتمام الجمالي والمكان المُفضَّل لتفاعل الفن والصنعة؛ لذا فإن ارتباط الجمال أولًا، وقبل كل شيء، بحُسن الوجه ونضارته وتناسق أجزائه، يُعبِّر عن المركز الذي مُنح للوجه بين مناحي الجسد، والقيمة الرمزية المرتبطة به في التواصل والغواية، وفي كل المجتمعات، وفي أيامنا هذه، تتمثل وظيفة الماكياج، ليس فقط في التجميل، وإنما أيضًا في تغيير صورة الوجه. هكذا يتمُّ الحديث، في لغة التجميل المعاصر، عن إبراز فمٍ جميل وعن التقريب أو إبعاد العينَين أو عن تغيير دائرة الوجه.

وإذا كانت هذه الوظيفة المزدوجة تخضع اليوم لدراسة النماذج الوجهية والجسدية والخصائص اللونية للبشرة … إلخ، فإن وظيفة التقيين القديم كانت تتمثل في معالجة الأعضاء الخفيَّة بالنورة لتكون ناعمةً، وطليها بالزعفران والطيب لتغدوَ مُعطَّرة، وتبديل شكل بعض الأعضاء وإخفاء عيوبها، خاصةً أعضاء الوجه. أمَّا الهيئة العامة فقد كان يتمُّ تسمينُها كما كان الأمر مع عائشة زوج النبي، حتى تتوافق مع الأنموذج المطلوب. وقد ذكر المنجِّد أن المرأة كان بإمكانها أن تُبدِّل لون عينَيها وأن تُذهب الكلف والنَّمش عن بَشَرتها وكذا عن فمها. بل لقد كان بإمكان الثيِّب أن تعود بِكرًا كما شاع الأمر لدينا في السنين الأخيرة. وقد استغلَّ تجار القِيان وظيفة التجميل هذه أيَّما استغلال. يقول في ذلك ابن بطلان: «فكم من قضيفة [نحيفة] بِيعَت بخصبة [ممتلئة]، وسمراء كَمِدَة بِيعَت بصفراء مُذهبة، وكم جعلوا العين الزرقاء كحلاء … وكم مرة حمَّروا الخدود وسمَّنوا الوجوه النحيفة، وكبَّروا الفقاح [حلقات الدُّبر] الهزيلة … وكم أكسبوا الشعور الشقر حالك السواد، وجعَّدوا الشعور السبطة، وبيَّضوا الوجوه المسمرَّة، ودمْلجوا السيقان المُعرَّقة، ورطلوا الشعور المُمرَّطة، وأذهبوا آثار الجدري والوشم، والنمش والحكة …»٣٩ ويشير ابن بطلان كذلك إلى تقنيات تجميلية أخرى تمَّ توظيفُها في الوجهة نفسها، كإزالة الشعر من الوجه والأطراف، وتطويل الشعر، وجلاء الأسنان، وتطبيب الفم … إلخ. وهي كلها عمليات، مَهمَا بدَا بعضُها خارقًا وخياليًّا أو مبالغًا فيه، تؤكد تجذُّر المظهرية الجسدية في المجتمع الإسلامي؛ بحيث لم تختص بالقِيان لوحدهن، بل تعدَّتهن إلى الحرائر. هكذا تحوَّل الأمر إلى صناعة وصنعة عمومية مُتداوَلة يتمُّ امتهانُها بشكل حِرْفي، إلا أن هذا الأمر يفصح من ناحيةٍ ثانية عن سيادة أنموذج (أو أكثر) في مجال المظهر الجمالي؛ بحيث يتمُّ تطويعُ أجساد القِيان لها؛ فالتزيين يُقدِّم نفسه بوصفه وسيلةً لاستحضار وجه أنموذج جمالي مُعطًى؛ إذ يتمُّ تعدادُ الملامح الصحيحة والمشوهة بالعلاقة مع الأنموذج الجمالي المُعطى. ومن ثَم يتمُّ تقويمُ الملامح المشوهة وتصحيحُها، فحكمة التجميل تكمن في تطبيق القواعد المتحكمة في المظهر وفي التواصل الاجتماعي؛ وبالتالي في الجنس والغواية.

إن استعراض وتحليل مُكوِّنات هذه الوضعية التي أحاطت بالجسد الإسلامي بوصفه جسدًا جماليًّا مركزيًّا في العلاقة بين الرجل والمرأة، وبين الكائن الإنساني ونفسه، إن لم يدعُنا إلى إعادة النظر الكلية في هامشية الجسد في الثقافة والمجتمع الإسلاميَّين ومنظومتهما الاجتماعية، فإنه على الأقلِّ يُقوِّض هذه الأطروحة ويستدرجُنا لذلك؛ فقد عَرفَت الثقافة العربية الإسلامية اهتمامًا مطردًا بالحضور المتعدد للجسد، وجعلَت منه إحدى موضوعاتها الكبرى سواء عبر موضوعة الحب أو موضوعة طب الجسد أو غير ذلك من الموضوعات كالأخبار والقصص. ومع أن الشاعر العربي، سواء عبر الوصف أو الغزل، قد ربط هذه العلاقة بالجمال تارةً وبالعشق أخرى، إلا أن ذلك لم يطُل فقط طبيعة الموضوع، بل طريقة التناول الفكري أيضًا؛ لذا فإن صورة المرأة الجسدية غالبًا ما كانت تتحكم فيها وضعية الواصف الخاضع للمعايير العامة للجمال، أو سُلطة العاشق الذاتية التي كانت تُحوِّل كل شيء إلى جمال.

بهذا المعنى يمكن القولُ بأن الأديب الشاعر، إن كان يهتمُّ بالجسد خارج كل مظهر لباسي أو تزييني، إلا أننا لا نعدم في الأدبيات الأخرى ما يكفي لمنحنا رؤية ذلك؛ لذا يمكن تركيز موقع المظهر الجسدي في هذه الثقافة في الملامح التالية:

  • (١)

    عمق وتجذُّر العناية بالجسد سواء في الشعر أو الحكاية أو الأخبار أو الواقع التاريخي العيني. لقد تطوَّرَت هذه العناية لتغدوَ مقياسًا وممارسةً جماليةً ملموسة، الهدف منها تأسيس حضور مُعيَّن للجسد (الأنثوي منه بالأخص) … وهو ما يؤكد أن حظوة الجمالي تدين في وجودها إلى حدٍّ كبير، إلى المتعة والمتعة البصرية، ووضعية الإغواء، وسُلطة الخطاب والخيال.

  • (٢)
    إن المجتمع العربي الإسلامي قد عرف، إلى جانب ما يُعرف بفنِّ الجماع ars erotica،٤٠ فنَّ التقيين والتجميل. وإذا كان التجميل قد ارتبط بالشعائرية الرمزية والدينية، فمن المُحتمَل أن يكون الإعجابُ به يستعيد فرشاتٍ عميقةً ولا واعية من المُتخيَّل الاجتماعي، وله أصول مَنسيَّة. بَيْدَ أن ما اكتسبه من دلالات اجتماعية وثقافية ومساهمته الأكيدة في صياغة الأنموذج الجسدي ومنحه صبغةً واقعيةً جعلَت منه الأساس الواقعي للجمال، بالشكل الذي يكون فيه الطقس أو الشعيرة الممارسة التطبيقيَّة للأسطورة. هذه الوظيفة الاجتماعية للتجميل جعلَته يخرج إلى مجال التداول بوجود القِيان ككائنات لا تدخل في مجال المقدسات الأسروية وخاضعة للاستهلاك والمتعة.
  • (٣)
    إن التواصل عَبْر استراتيجية المظهر يفترض قواعد مُعيَّنة تُحيل على هندسة الجسد، ومحيطه اللباسي، وما يرتسم عليه من وشمٍ وحناء وغيرهما؛ من ثَم فهو تواصل يتوازى وأنواع الاتصال الأخرى كالخطاب اللغوي والإشارة. إن مجرَّد التزيُّن يُعَدُّ من جانب المرأة دعوةً للغواية ولِلُعْبتها الصامتة؛ فهو ذو بُعدٍ إيحائي واقتراحي واضح: «فالغواية الأنثوية تمرُّ أساسًا عَبْر المجال الجسدي الفيزيقي، وعَبْر قانون المظهر. ونادرًا ما تمُرُّ من خلال الكلام أو الروح esprit (…) والغواية والصمت يترابطان منذ أصلهما الأسطوري الأول.»٤١
    هكذا يتوازى، بل يتقاطع، فِعل وسِحر الكلام مع فِعل وسِحر الجسد في عملية الإقناع بالذات والغواية، ولا يخفَى أن هذا الاهتمام بالذات souci de soi، كما يُحلِّل ذلك فوكو، هو نوعٌ من بناء شروط العلاقات الجنسية، ومعها بناء الذات في علاقتها بكيانها الشخصي والثقافي.

استراتيجية المظهر واستراتيجية الغواية

يمكن اعتبار الجمال مدخلًا للحب والعشق. وبما أن الجمال يتحول إلى مشهدٍ بصري، فإن النظر يغدو شرطًا أساسًا من شروط الغواية وتلقِّي الجمال؛ لذا نادرًا ما انبنَى الحبُّ على السمع وحده، وتكوَّنَت صورة المعشوقة في الخيال وحده.٤٢ ونادرًا أيضًا ما انبنَى الحبُّ على نظرة لم تُصِب وجه المرأة أو أحد مُكوِّناته وخاصةً العينَين.
لقد شكَّل الجمال والحُسن، وبالأخصِّ منه حُسن الوجه، مصدرًا دائمًا للدهشة المُولِّدة للعشق والتفكُّر. أفليس الحُسن علامةً على حُسن الخالق وتناسق الكون؟ ثم أليس الجسد والكون يتبادلان، من زمن الأسطورة، صورتَيهما، ويدخل الكائن لذلك بجسده في علاقة تلاحُم مع جسم الكون والعالم المحيط به؟٤٣ إن تلك الدهشة هي التي عبَّر عنها صحابيٌّ وَرِع، هو أبو هريرة، حين وقع بصره على وجه عائشة بنت طلحة فلم يتمالك أن قال: «ما أجملَك وأحسنَك! والله لكأنما خرجتِ من الجنة!» وليس ثمَّة أبلغ من تشبيه الجمال الدنيوي بجمال الحور العين في طابعه الخارق والقُدسي والرمزي. وهي أيضًا الدهشة نفسها التي عرفها أبو حازم (وهو فقيه ناسك متعبد)، وقد رأى امرأةً مُحْرِمة، وعبَّر عنها بقوله لأتباعه من النُّساك: «تعالوا ندعُ الله ألَّا يُعذِّب هذه الصورة الحَسَنة بالنار.» فقام يدعو وأصحابُه يُؤمِّنون.٤٤

إن هذه الدهشة الوجودية والخطابية تُترجَم، من الناحية الدينية، بالإحالة على المصدر القدسي للجسد والجمال، لتمنحه بذلك كيانًا مُلغزًا مُنفتحًا نحو التسامي الإلهي كما سوف يتبلوَر ذلك مع ابن عربي لاحقًا. إنها تشهد أيضًا على أن الجسد (أو رمزه الوجهي)، بمجرَّد ما يعرض روعته الخلقية ينتج وقعًا جماليًّا لدى مُتلقِّيه وما يتبعها من متعةٍ جمالية وبصرية، لا تكون صامتةً فقط، وإنما تُولِّد خطابًا مُعبِّرًا عن ذلك، بل لِمَ لا نقول إن تلك الدهشة ليست سوى تمظهرٍ خطابي يسعى لتجاوز الصمت الذي تفترضه صدمة الجمال الحَسَنة وتثمين وجود الآخر وتأكيد وجود المتلقي في الآن نفسه؟

يتطلَّب الجمالُ استعراضَ نفسه بشكلٍ كامل أو جزئي. وكل استعراض دعوة للنظر والتأمل الحسي والتلقي الضروري للنصِّ الجمالي، إنْ صحَّ التعبير؛ لذا لم يكُن هناك أفضل من استعراض جمال الوجه والجسد لتأكيد سُلطة الأنوثة وفرض وجودها الذاتي؛ ذلك أن وجود المرأة يرتبط أنطولوجيًّا بوجودها من أجل الآخر ومع الآخر. فقد أجابت عائشة بنت طلحة زوجَها مصعبَ بن الزبير يومَ عاتبها على عدم ستر وجهها: «إن الله وَسَمني بميسم جمال، فأحببتُ أن يراه الناس، ويعرفوا فضلي عليهم.» ليس من شكٍّ إذَن في أن العلاقة بين الجمال والفتنة تُحوِّل الجسد إلى رأسمالٍ رمزي له تأثيره وفعله في العلاقات الإنسانية؛ ممَّا جعل النصوص الدينية الإسلامية تُحذِّر من فتنة النساء وفي الآن نفسه تعمل على إدماج الجمال في المؤسَّسة الزوجية. وبما أن الوجه تعبيري فإن الرغبات تنطبع عليه وتظهر في حركاته وسكناته؛ بحيث يُشكِّل، إلى جانب الخطاب اللغوي، خطابًا من نوع سيميائي موازٍ له.

إن اعتبار الإسلام المرأة عورةً تستلزم السَّتْر والحَجْب، واعتبارها فتنةً تتطلب الدَّرء، ينبني أساسًا على الرغبة والشهوة اللتَين ترتبطان أكثر بالجمال والمظهر الجسدي، وخلفهما بالليبيدو. وإذا كان ابن حنبل يعتبر المرأة عورةً من شَعر رأسها إلى ظفر رجلَيها؛ فذلك لأن البعض يعتبر أن كل أجزاء الجسد الأنثوي فاتنة، وتُخضع الرجل إلى نوعٍ من الاستعباد.

يُشكِّل الوجه عنصرًا مركزيًّا في الدلالة الجسدية، إنه مجازُ الجسد وصورتُه المركزية، بل هو بدل الفرد بكامله. وبما أن الوجه لا يُرى أبدًا من قِبَل صاحبه إلا بواسطة مرآة، فإنه يُشكِّل المنطقة الجسدية التي تُعيِّن الفرد وفي الآن نفسه تجعله كيانًا من أجل الآخر، خاصةً وأنه المنطقة الأكثر حساسية، والتي تتجمع فيها الحواسُّ الإنسانية. إنه لذلك يُشكِّل الأنا الحميمة المكشوفة للآخر؛ لذا فإن الوجه بتعبيريته المُكثَّفة، وبذاتيته وموضوعيته، يتحوَّل إلى حلقةٍ أساس في التبادل الاجتماعي للمعنى. وفي هذا الإطار يقول بودريار: «إن الوجوه ليست أساسًا فردية، إنها تُحدِّد مناطق التوتُّر أو الاحتمالات، وتؤطِّر حدود مجالٍ يُجمِّد قَبلًا التعبيرات والترابطات المتمرِّدة على الدلالات الملائمة. هكذا فإن الذاتية والوعي، أو الولع، تظلُّ كاملة الفراغ؛ إذ لم تُشكِّل الوجوه أماكن صدًى يُصفِّي الواقع والمحسوس ليجعل منه مسبقًا شيئًا متطابقًا مع الواقع السائد. (…) إن الوجه يبني الجدار الذي يحتاجه الدالُّ للقفز. إنه جدار الدالِّ، وإطاره أو شاشته. الوجه يحفِّز الثقب الذي يحتاج إليه التذويت لممارسة فعله، إنه يشكِّل الثقب المظلم للذاتية subjectivité بوصفها وعيًا أو تولعًا أو كاميرا. إنه العين الثالثة.»٤٥ هذه الخاصية التي يسمِّيها دولوز وغاتاري «وجهية» visagéité هي التي تمنح للوجه في نظرهما طابعه المركزي في التواصل الإدراكي، وتجعل منه حشوًا في الآن نفسه. فالوجه بهذا المعنى وسيطٌ متميز يمارِس من خلاله الجسد علاقته السيميائية بالمدلول الغوائي. بَيْدَ أن ذلك الطابع الحشَوي لا يتمُّ إلا في مجتمعات يكون فيها الخطاب متحررًا من كل منعٍ أو حظر. أمَّا في المجتمعات العربية، قديمًا أو حديثًا، فإن الوجه يظلُّ يمارِس عناد خطابه في قلب حالة الحظر المفروضة على الخطاب اللغوي، يملأ ثقوبه ويُكمل ما تعذَّر عليه الإفصاحُ به عرضًا أو مباشرةً.
لذا فإن الوجه قد يتخذ طابعًا يتجاوز بكثيرٍ هذا الطابع التواصلي الواقعي ليغدوَ فلسفيًّا معنًى لوحده، ودلالةً خارج كل سياق كما يقول ليفناس.٤٦ إنه يتكلم بمعنى أنه يمنح الإمكانية للكلام، ويكون مبتدأً لكل خطاب. لكن هذا التواشُج بين الوجه والخطاب لا يتمثل فقط في كون منبع الخطاب يُوجَد في الوجه، ولكن أيضًا في كون الوضعية التواصُلية تفترِض أن يكون المتخاطبان وجهًا لوجه.
انطلاقًا من ذلك يكون الوجه منطقةً تعبيريةً هامةً في الجسد، وتكون العين مركز هذا الخطاب. إنها لوحدها مَعينٌ لا ينضب للتعبيرية؛ بحيث تخلُق لنفسها لغةً خاصة. وبما أن العين باب النفس الشارع كما يقول ابن حزم، فإنها تُشكِّل العضو السيميائي الأكثر ثراءً في الإشارية. ومع أن اللغة الإشارية محدودةٌ بالمقارنة مع الخطاب اللغوي، وسَننها طبيعي ورمزي بالمقارنة مع اعتباطية العلامات، فإن لغة العَين تقول في التواصُل الغوائي ما لا تقوله اللغة، خاصةً في سياقاتٍ مُعيَّنة موسومة بالحظر والممنوع. هذا ما تُفسِّره ي. بكار: «إذا كان الفم مغلقًا والتعبير همسًا، فإن قوة الحياة تتركز في العينَين. فبامتلاك لعبة الأهداب يتحدث النظر: إنه يوافق، ويقترح، ويرفض، ويكذب، ويسخر، ويتوسل أو يصمت. ففي هذا التعبير يكون الخطاب المزدوج مضمرًا؛ لأنه يتكون من إشاراتٍ عُرفية وصمتٍ ملتبس وأسرارٍ مشتركة.»٤٧ إذا كان الأمر كذلك، عمومًا، فإن الوجه الذي لا يُعبِّر ولا يتواصل يغدو أشبه بقناع مطاط، وهو ما يشي بالرغبة في عدم التواصل. أمَّا الوجه المُجمَّل فإن حضوره في التواصل يكون مدعاةً لتوسيع مسرح الخطاب ولعبته. ولأن العين مركز الوجه فإن تجميلها يُحوِّلها إلى ترسانةٍ من المُكوِّنات التعبيرية التي تغدو بمُوجِبها عينًا باسمة، وقاضمة، وشاربة، مثلها في ذلك مثل الفم. إنها موطن تحويل الآخر وامتلاكه واستعباده. فتمركُز الماكياج في العينَين يُعبِّر عن القوة الواقعية والرمزية التي يملكها هذا العضو. ولذلك فللعينَين قيمةٌ كبرى لدى كل النساء. فالعين المُزيَّنة بالكحل تغدو موطن الشهوة والحب.
هكذا يتمُّ في الكثير من الأحيان تحويلُ الوجه والعينَين إلى جسدٍ كامل، ويتمُّ اختزالُ هذا الأخير في الوجه ليتمَّ بذلك تحويلُه إلى مشهدٍ دائم للتواصل الغوائي. وبما أن العين في هذا الإطار تغدو صلة الوصل بين الرغبة الباطنة وتعبيرها الإشاري الرمزي، فإن زينة الوجه تُشكِّل بالنسبة للجسد صورةً جديدةً تتجاوز بكثير الوظيفة التي يقوم بها اللباس بجميع أشكاله، بل إن تكاملهما يُحدِّد الكيان الذاتي للمرأة، ويُدخِلها بشكلٍ خصوصي إلى مسرح التواصل الشهوي. بهذا يغدو الوجهُ الجسدَ الثانيَ للمرأة، ويمنَح للجسد البيولوجي وجوده الثقافي والاجتماعي، ويسلبُ منه واقعيَّته البحتة ليُحوِّله إلى جسدٍ شِبه مُتخيَّل، وكأن الأمر يتعلق بأدوار يُشكِّل فيها الوجه المُجمَّل دَور القناع والسيمولاكر. وإذا كانت الغواية تفترض السيمولاكر والمُتخيَّل وأبعادهما الرمزية، فإن الوجه يغدو صورةً على/في صورة، تُؤَوِّل الأولى منهما الثانية؛ ذلك أن كل تخييلٍ تأويلي يستلب ويُغرِّب الجسد من حيث هو كذلك. ويظلُّ هذا الأخير قابلًا لهذا التغريب بشكلٍ مستمر، لكنه يظلُّ أيضًا دائمَ التمرُّد، وغيرَ قابلٍ للاختزال في صورته التمثيلية، مطورًا ومبلورًا نوعًا من السلبية négativité. إن الوعي والألم واللذة المرتبطة بجسدنا يتمُّ تغريبُها وسلبُها كي تغدوَ علاماتٍ وصورًا وكلماتٍ ومفاهيم، هي التي تُبيِّن بجلاءٍ تخييلية الجسد.
إن الوجه يتحول إلى قناعٍ شفَّاف يمنَح للشخص ذاتيته الجمالية. إنه وجه يكتسي طابعًا مثاليًّا؛ لأنه لا يساير الذات في مسارها الحياتي بكامله، بقَدْر ما يلبي دعوة الدَّور الذي قد يمنَحه لها في أوقاتٍ معينة. بهذا يُمكِن اعتبار الوجه المُجمَّل مؤشرًا (بالمعنى البورسي للكلمة)؛ ذلك أنه يؤشِّر على رغبة صاحبه في أن يثير وينال إعجاب الآخرين. إنه أيضًا علامةٌ أيقونية (بالمعنى الذي يعطيه لها أ. إيكو)،٤٨ بما أنه يحاكي، ويُعبِّر عن، ويعيد إنتاج خصائص نموذجٍ سابق عليه، وإن كان عُرفيًّا. من ثَم فالوجه المُجمَّل وجهٌ مستعار يصلُح مَدخلًا لبوابة الرغبة والغواية، وتُوجَد بينه وبين الوجه الأصلي علاقةُ قرابةٍ كتلك الموجودة بين مادة اللوحة واللوحة نفسها.
لا يخضع الوجه المُزيَّن لأيِّ اعتباطية. إنه يأخذ كامل مشروعيته من الجسد المرجعي الذي يحاكيه، وينزاح عنه في الآن نفسه، ومن الذات التي تتحمل مسئوليته اجتماعيًّا وخطابيًّا، وكذا من «الشيء المُمثَّل représenté». وليس غريبًا أن يتحكَّم الوجه «الأصلي» في المرحلة الثانية من التواصل الغوائي. فإذا كان الوجه المُزيَّن (القناع) يقترح بذاته لحظة الغواية، ويفتحها — على قدْر تبرُّجه ووضوح تقاسيمه — فإن الوجه الأصلي ما يلبث أن يمنَح للقناع الحياة، وذلك عَبْر الحركية الذاتية التي تجعل كل جسدٍ يرفض أن يتمَّ قولُه باللغة. بهذا يندمج القناع بالوجه الأصلي ليُشكِّلا كيانًا واحدًا يخلق وضعيَّته التواصليَّة فيما قبل وفيما وراء اللغة.
بين الوجه ذي القناع التجميلي الخفيف، والذي لا يفعل سوى تأكيد ملامحه الأصلية وإدخال تغييراتٍ طفيفة عليها، والوجه ذي القناع الكثيف؛ مسافة ما بين الجسد المُحتشِم الذي يُمارِس وجوده الغوائي بكل ما يلزم من الحذَر، والجسد المحترِف للغواية، أعني جسد القَيْنة أو البَغِي، إلا أن هذا التثمين لفعل الوجه المُزيَّن وأثَره، لا ينبغي أن يُنسينا أن الغواية فعلٌ متكامل يقوم به الجسد في كليته حسب تراتُبيةٍ زمنية وقِيَميَّة تخضع لها مناطقه المكشوفة والمحجوبة. فقد خصَّص أحمد التيفاشي المغربي في نزهة الألباب فيما لا يوجَد في كتاب، فصولًا كاملةً للتقنيات التي تستعملها المرأة الشبقة والحِيَل التي تتوسل بها في الغواية، ومن ضمنها بالأخصِّ النظرة والتحديق الطويلان.٤٩ إن هذه التقنيات الجسدية، كالمشية وغيرها، جعلَت الجاحظ، بالمقابل، ينفي عن القَينة المتهادية في مشيتها صفة العُهر. وهو ما يدُل على أن الاهتمام الذي حظِيَت به طرقُ وتقنياتُ وبلاغاتُ الجسد والتواصل الغوائي، وارتباط هذا الفعل بتضافر مجموع المُكوِّنات الجسدية في تحقيقه، يخلُق في نهاية المطاف ما يمكن أن نُسميه لغة الجسد أو خطابه الغوائي.
وإذا كان للخطاب اللغوي دَوره في التواصل الغوائي إلى جانب لغة الجسد، فلأن سِحْر الجسد لدى العرب قد ظلَّ دائمًا مرتبطًا بقِيَم تتجاوزه،٥٠ وتُحدِّد هُويَّته الثقافية والاجتماعية. فقد خصَّص العرب لتفنُّن المرأة في القول والخطاب مصنَّفاتٍ كثيرةً كبلاغة النساء لابن طيفور وكتاب «القِيان» للأصفهاني و«القِيان» للجاحظ، وما جاء في «الأغاني» للأصفهاني، و«أخبار النساء» لابن قيم الجوزية، و«الإماء الشواعر» للسيوطي، وغيرها ممَّا هو متناثر في مصنَّفاتٍ أخرى. فقد كان «جمال» المرأة الخطابي معترفًا به للنساء الشواعر في العصر الجاهلي. إن فصاحة المرأة وبلاغتها يوازيان وجوديًّا جمالها، وهو ما يُخلخِل «الأخلاق الذكورية» السائدة في المجتمع العربي الإسلامي.٥١ ففي المجتمع العباسي لم يقتصر جمال القَينة على حُسنها، بل تعدَّاه إلى البحث في مدى ظُرْفها وإتقانها لفنون المحادثة والمسامرة. فقد كان عند الرشيد جاريتان، فقال لهما: لتقُل كل واحدةٍ منكما شعرًا، فمَن كانت أرقَّ شعرًا باتت عندي، فقالت الأولى:
أنا التي أمشي كما يمشي الوجي
يكاد أن يصرعني تغنُّجي
من جنة الفردوس كان مخرجي

وقالت الثانية:

أنا التي لم يرَ مثلي بشرُ
كلاميَ اللؤلؤُ حين يُنثرُ
أَسحرُ مَن شئتُ ولستُ أُسحرُ
لو سمع الناسُ كلامي كفَروا٥٢

يتوازى على هذا النحو فِعل وسِحر الجسد وفِعل وسِحر الكلام، في عملية الإقناع بالأنوثة. فكلتا الحالتَين تتساويان في نَظم الشعر المتجه نحو المديح الذاتي، مركِّزتَين على الجمال وظُرف الخطاب. إن هذه الحظوة التي امتلكَها الخطابي إلى جانب الجسدي تؤكِّد على التغيُّرات التي تطول النموذج الجمالي، ومحدِّداته العامة. بَيْدَ أن الخطاب نفسه حين يكون إغوائيًّا يتخذ بُعدًا جسديًّا واضحًا. إنه يغدو بدَوره خطابًا جسديًّا متغنجًا؛ ذلك أن الجسد بغنجه ودلاله تعبير عن حضورٍ أكيد للرغبة، ومعها المقاصد الإغوائية. فحركاته تلك تقنيةٌ تجعل منه في الآن نفسه باثًّا لمظهرٍ فيزيقي ومتلقيًا لمظهر الآخرين. فكل لقاء بين الأفراد يُنتج بثًّا واستقبالًا متبادلًا، كما الإخبار عن المظهر. إن هذا النمط التواصلي المزدوج يخضع لنوعَين من الأعراف؛ الأول ذو طابعٍ سيميولوجي يرتبط بالتواصل عَبْر لغة الجسد، والثاني يتعلق بالطابع الاجتماعي للمظهر، الذي يتمُّ تقنينُه حسب جدلية الحلال والحرام، والمباح والمكروه، وحسب القوانين الأخلاقية والتقليعات الجارية.

وإذا كان المظهر يُشكِّل مجموع العناصر المرئية التي تلتصق بجسد الفرد، ويستعرضها أمام الآخرين، فإنه يُشكِّل بحقٍّ أحد أُسُس التواصل بين الأفراد ويَسِم ذاك التواصل باعتبارات الانتماء الاجتماعي والفِئَوي والثقافي، ليغني بذلك التواصل اللغوي. من ثَم فإن حضور الجسد، في صورته المجملة، دعوة للغواية، خاصةً في السياقات الزمنية والمكانية التي تسهل أو تطلب ذلك. إنه رسالةٌ مسنَّنَة يكفي امتلاك الرغبة في فكِّها كي يتمَّ التواصل، أو على الأقل إعلان انبثاقه في كل المتع البصرية والجسدية التي يفترضها.

•••

يتحول الجسد إلى كيانٍ بلاغي بمجرَّد ما يتأطر بالتحوُّلات التصويرية، وبمجرَّد ما يغدو جسدًا خطابيًّا. إنه يغدو جسدًا مثاليًّا وأنموذجيًّا، خاصةً حين يتعلق الأمر بتعميم صورةٍ وحيدة له. بَيْدَ أن تاريخية الأنموذج وتغيُّراته ليست فجائية، ولا تتأثر إلا قليلًا، وتدريجيًّا بالتحولات السياسية والاجتماعية؛ ذلك أن مُتخيَّل الجسد مُنغرِس في الذاكرة الليبيدية والخطابية للفرد.

هكذا يتوجَّه الجسدي سواء في جماليته أو زينته نحو اللذة الحسية والبصرية، ويتجه هذا الكل نحو شرائطه القدسية المحدِّدة له. من ثَم فإن هذه القصدية المزدوجة تخضع لنزاع بين الحواسِّ والمحدِّدات الثوابية. ويظلُّ الجسد بينها ذلك الكيان الذي يُخلخِل في حضوره الجمالي المقصديتَين معًا ليخلق لنفسه فضاءً أكثر التصاقًا به.

وإذا كان الجسد ليس مُعطًى جاهزًا، فإن الاستراتيجية المظهرية تشكِّل أدواتٍ له يُنظم ويُعيد بها تنظيم ذاته، وفقًا للرغبة الاجتماعية والذاتية، متخطيًا بذلك في الكثير من الأحيان الأنموذج الجسدي الديني، نحو آفاق الحضور الاجتماعي العلائقي بكل ما يفترضه من غوايةٍ بصرية وحسية وفعلية.

وهنا لا بدَّ من التذكير بأن الجسد يحقِّق في التاريخي والاجتماعي ما يظلُّ في الخطابي والديني شِبهَ محظور. إنه يوسِّع تدريجيًّا مجال البلاغي، ويُعمِّق شيئًا فشيئًا مجالاته الخاصة ليقترب بشكلٍ محسوس من غاياته الذاتية، التي تفترض خرقًا جزئيًّا أو كليًّا لمقتضيات الأنموذج الجسدي ذي الطابع القدسي، وتنحو، ولو جزئيًّا، باتجاه بلوَرة جسدٍ شخصي.

١  ابن عبد ربه، «طبائع النساء» (مختارات من العقد الفريد)، ت: محمد إبراهيم سليم، مكتبة القرآن، ب.ت، ص٨٥-٨٦.
٢  كما يحدِّدها سارتر في: L’Imaginaire, Gallimard-Idées, Paris, 1980, p. 15.
وانظر كذلك: Sartre, L’Imagination, PUF, col. Quadrige, Paris, 8éme éd. 1981, p. 37.
٣  P. Schilder, L’Image du corps, Op. Cit., p. 285.
٤  مشيل فوكو، «إرادة الخطاب»، دار النشر المغربية، البيضاء، ١٩٨٥م، ص١٠.
٥  انظر مثلًا: ابن طيفور، «بلاغات النساء»، دار الحداثة، بيروت، ١٩٨٧م.
٦  صلاح الدين المنجد، «جمال المرأة عند العرب»، بدون دار النشر، بيروت، ط١، ١٩٥٧م، ص٥٧. ومثال ذلك: «طوق الحمامة» لابن حزم الأندلسي، ضمن «رسائل ابن حزم»، ت: إحسان عباس، دار الأندلس، بيروت، ١٩٨٠م.
٧  عن التيجاني، «تحفة العروس ونزهة النفوس»، دار الجيل، بيروت، ١٩٨٩م، ص١٣٤، ٢١٦–٢١٨.
٨  المرجع السابق، ص٥٧، وكذلك ص٦٤-٦٥، ٥٧.
٩  كما جاء ذلك في حديث رواه البخاري، «صحيح البخاري»، مرجع مذكور، ص١٠٩.
١٠  النسائي، كتاب «عشرة النساء» من «السُّنَن الكبرى»، مرجع مذكور، ص٢٧.
١١  وهو ما يدل على أن فضاء وكائنات الجنة جاءت على مقاس استيهامات الكائن الدنيوي، كما يوضِّح ذلك الخطيبي في مقدمة: F. Mernissi, Le Maroc raconté par ses femmes, SMER, Rabat, 1986, p. 9-10.
١٢  ابن عبد ربه، مرجع مذكور، ص١٠٩.
١٣  ابن عبد ربه، مرجع مذكور، ص٥٢-٥٣.
١٤  المرجع السابق، ص٢٩، وإليك ما قِيلَ شعرًا في ذلك:
صُلبة الخدِّ طويلٌ جيدُها
ضخمةُ الثَّدي ولمَّا يكتنز
ص٢٩١
١٥  نفسه، ص٥١.
١٦  الثعالبي، كتاب «فقه اللغة»، دار مكتبة الحياة، بيروت، ب .ت، ص٤٠.
١٧  Ph, Hamon, Introduction á l’analyse du descriptif, éd; Hachette U, Paris, 1981, p. 40 et supra.
١٨  يروي ابن عبد ربه الخبر التالي: عن عروة، عن أبيه، أن مخنثًا كان عند أم سلمة زوج الرسول فقال لعبد الله بن أُميَّة ورسول الله يسمع: «أبا عبد الله، إن فتح الله لكم الطائف غدًا، فأنا أدلُّك على بنت غيلان، فإنها تُقبِل بأربع وتُدبِر بثمانٍ …» مرجع مذكور، ص٤٧.
١٩  ابن قيم الجوزية، «أخبار النساء»، دار الكتب العلمية، بيروت، ١٩٩٠م، ص٢٠٠، وهو نفس رأي الجاحظ في كتاب «القِيان»، ضمن «رسائل الجاحظ الكلامية»، دار مكتبة الهلال، ط١، ١٩٧٨م، ص٧٥.
٢٠  Ph. Perrot, Le Corpsféminin, le travail des apparences, Seuil-Points, Paris, 1984, p. 68 et 67.
٢١  O. Burgelin, ‘Les Outils de la toilette ou le contrôle des apparences’. In Traverse, n° 14-5., pp. 27,30.
٢٢  فقد خطب الرسول ضباعة بنت عامر لاشتهارها بسمنتها. فلما وصله تقدُّمها في السنِّ سكت عنها. كما أن عائشة نفسها كانت نحيفةً ضامرة، فعمدَت أمُّها إلى تسمينها إعدادًا لها للزواج، صلاح الدين المنجد، «جمال المرأة عند العرب»، مرجع مذكور، ص٢٥، وص٢٧.
٢٣  نفسه، ص٦٣–٣٨، وهو الأنموذج الذي نجده مسكوكًا في «ألف ليلة وليلة».
٢٤  عبد الوهاب بوحديبة، «الإسلام والجنس»، مرجع مذكور، ص٢٧٥، وتجدر الإشارة أننا تصرَّفنا في نصِّ الترجمة اعتمادًا على الأصل الفرنسي.
٢٥  الجاحظ، كتاب «النساء»، ضمن «الرسائل الكلامية»، دار مكتبة الهلال، القاهرة، ط١، ١٩٨٧م، ص١٠٢.
٢٦  M. Merleau-Ponty, Phénoménologie de la perception, Op. Cit., p. 223.
«الوجود البيولوجي متصل بالوجود الإنساني، ولا يتجاهل أبدًا إيقاعه الخاص» نفسه، ص١٨٦.
٢٧  C. Reichler et al., Le Corps et ses fictions, Minuit, Paris, 1976, p. 30.
٢٨  P. Aulagnier-Spairani, ‘La Féminité’, in: Le Désir et la perversion, Seuil-Points, Paris, 1967, p. 73.
٢٩  Merleau-Ponty, Phénoménologie de la perception, Op. Cit., p. 194.
٣٠  البيهقي، «الآداب»، ت: السعيد المندوه، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، ١٩٨٨م، ص١٩٢.
٣١  كما يعتبر شيلدر أن النظافة تُشكِّل صورة الجسد، مرجع مذكور، ص٢١٨.
٣٢  رواه البخاري في «الصحيح»، مرجع مذكور، ج١، ص٩٨-٩٩.
٣٣  نفسه، ج٣، ص٤٣.
٣٤  لمزيد من التفصيل، انظر الفصل الرابع من هذا الكتاب.
٣٥  البخاري، «الصحيح»، ج٣، مرجع مذكور، ص٢٤٢ و٢٢٥.
٣٦  نفسه، ص٢٢٧ و٢٢٩.
٣٧  ظافر القاسمي، «الحياة الاجتماعية عند العرب»، دار النفائس، بيروت، ١٩٧٨م، ص١٦٣.
٣٨  عن المنجد، «جمال المرأة عند العرب»، مرجع مذكور، ص٤٤.
٣٩  M. Foucault, Histoire de la sexualité I, La volonté de savoir, Gallimard, Paris, 1976, p. 77.
٤٠  أبو الفرج الأصفهاني، «القِيان»، تحقيق: جليل عطية، رياض الريس، لندن، ١٩٨٩م، والجاحظ، «مفاخرة الجواري والغلمان»، ضمن «الرسائل الكلامية»، مرجع مذكور.
٤١  M. Chebel, Le Livre des séductions, Lieu Commun, Paris, 1986, p. 48.
٤٢  بالرغم من أن ابن حزم يُخصِّص لذلك فصلَين من «طَوق الحمامة» (ضمن «رسائل ابن حزم»، مرجع مذكور) لهذا النوع من الحبِّ هما: باب مَن أحَبَّ في النوم، وباب مَن أحَبَّ بالوصف.
٤٣  M. Eliade, Le Sacré et le profane, Gallimard/Tel, 1968., p. 146.
٤٤  المنجد، «جمال المرأة …»، مرجع مذكور، ص٨.
٤٥  Baudrillard, De la seduction, Galilée, 1980.
٤٦  E. Lévinas, Ethique et infini, Fayard, Paris, 1982, p. 80.
٤٧  Y. Fekkar, “La Femme, son corps et l’Islam”, in: Le Magreb musulman en 1979, éd. CNRS, Paris, 1983, p. 139.
٤٨  U. Eco, La Structure absente, Mercure de France, Paris, 1972, p. 174-176.
٤٩  التيفاشي، «نزهة الألباب فيما لا يوجَد في كتاب»، ت. جمال جمعة، رياض الريس، ١٩٩٢م، بالأخص الفصلان ٢ و٣.
٥٠  مفهوم المجاوزة excés هذا نستقيه في تحديده الفلسفي والفينومينولوجي من: Marc Richir, Le Corps, Hatier, Paris, 1993, p. 7.
٥١  يُحدِّد مشيل فوكو الأخلاق الذكورية باعتبارها «أخلاق رجال»؛ أيْ أخلاقًا مكتوبةً ومفكَّرَة، ويتمُّ تعليمُها من قِبَل الرجال وموجَّهة للرجال الأحرار طبعًا؛ فهي أخلاق ذكورية لا تظهر النساء فيها إلا كأشياء، وفي أحسن الأحوال كرفيقات.
M. Foucault, Histoire de la sexualité III, Op. Cit., p. 29.
٥٢  وينتهي الأمر بالخليفة إلى الحيرة، فيبيتُ معهما معًا، راجع في هذا الصدد، المنجد، «جمال المرأة عند العرب»، مرجع مذكور، ص٥٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤