الإسلام والصورة: المُفارَقة والتأويل
تفرضُ التطوُّراتُ الجديدة التي طرأَت على البحوث في مجال الأنثربولوجيا الثقافية من جهة، والتحليلات الجديدة في مجال السيميائيات البصرية من جهةٍ ثانية، والتحوُّلات العارمة التي يشهدُها مجال الصورة المرئية من جهةٍ ثالثة، والتأثيرات التي تنعكسُ منها على مجال الدراسة والبحث، محاولةَ إعادةِ النظر في إحدى أكبر المُشكلاتِ التي عرفَها تاريخُ العرب الثقافي، أعني ما سُمِّي بتحريم التصوير. وليس غرضنا هنا فقط مناقشة هذا الموقف أو مقارنته بالمجال التاريخي. بقَدْر ما نطمَح إلى الكشف عن أن الصورة (المُجسَّمة) ظلَّت حاضرةً في صُلب الموقف الفقهي. في هامشٍ اختطَّته لنفسها، وبالعلاقة مع معطياتٍ وجودية تتجاوز بشكلٍ كبير إمكان إقبار دلالات حضورها. كما أن مسعانا يكمُن هنا في توسيع مفهوم الصورة لتشمل الصورة الذهنية (ناهيك عن الصورة البلاغية)، ولنعتبِر أن ما تم محاصرتُه في المُجَسَّم والعيني قد وجد مرتعًا له في الصورة الكتابية (الخط)، وفي الصورة الوجودية لدى المتصوِّفة.
(١) جنيالوجيا الصورة والتحريم
تملك الصورة من الجاذبية ما يجعل أثَرَها يفوقُ أحيانًا الكلام. وذلك بتعدُّدية دلالاتها وانغراسها في المتخيل الرمزي والاجتماعي للكائن. إنها قد تكون علامةً ودليلًا، غير أنها علامةٌ ودليلٌ يحملان مظهر دلالتهما في مظهرهما، حتى وهي تستحضر الغائب وتعيِّنه؛ لذا، إذا كانت اللغةُ قادرةً على صياغة المرئي ومفهمة اللامرئي، فإن قدرة الصورة تكمُن بالأساس في تحويل المرئي واللامرئي إلى كيانٍ محسوسٍ ماثل هنا والآن. هذا البعد الرمزي هو الذي خلَق مشكلاتٍ كبرى تصدَّت لها الديانات التوحيدية الثلاثة. فللصورة قدرةٌ خارقة على الدلالة على الغائب واستحضاره، بَيْدَ أن حضورَها الأكيد قد يتحوَّل إلى حضور بذاته. وبهذا تستحيل الوظيفة الأولية التوسطية (التي تحكُم الصور عمومًا) إلى حاجبٍ كثيفٍ يغيب ما استحضره بدءًا (فكرة الألوهية). هكذا فإن العلاقة التوسطية التقديسية التي مارسَها الإنسان في بدايات وعيه الديني تتحول إلى علاقةٍ مباشرةٍ ذات وقعٍ مباشر، فتحلُّ الجاذبية محلَّ الرمزية وتأخذ الصورة مكانَ ما تُصوِّره وترمُز إليه، وتعدو بذلك بدلًا للمرموز.
هذا الالتباس (الذي هو التباس الرمزي والمقدَّس) هو ما يفسِّر الصرامة التي تعاملَت بها الديانة اليهودية مع الصورة والفعل التصويري. فالقمع الطهراني للصور يعبِّر عن رفض التعبُّد بها، ورفض وساطتها. ووحدَها الكلمة والنَّفَس قادران على خلقِ صِلاتِ وصلٍ مع الإلهي وتمثُّله في مطلَقه؛ لذا فإن النصوص العبرانية (من توراة ومزامير) ما فَتِئَت تُعبِّر عن معاداة التصوير وتحريمه: «اللعنة على مَن يصنَع الصورَ المنحوتة»، «اللعنة على مَن يصنَع الصورَ المنحوتة»، «إنهم لضالُّون أولئك الذين يتعبَّدون بالصور»، «إنك لن تصنَع صورةً في السماء أو في الماء أو تحتَ الأرض».
والحقيقة أن عودةَ الصورة في الديانة المسيحية يُفصِح عن المهادنة والتوفيق الذي مارسَتْه هذه الأخيرة بينها والعالَم الوثَني الإغريقي والروماني، وتَوْقها العميق إلى خَلقِ تواشُجاتٍ بين الصورة الوثنية والتصورات الدينية الجديدة؛ بحيث يُمكِن الحديث (من منظور أنثربولوجي) عن «وثنية» جديدة مجالُها وأداتُها التصوير.
وإذا كان امتدادُ التصوير من الحضارات الدهرية إلى المجتمعات التوحيدية ينمُّ عن الحيَل التاريخية للصورة ورسوخِ سُلطتِها وفتنتِها وجماليِتها وضرورتِها في صياغة المقدَّس وتعضيده وتمريره، فإن هذا الامتداد لم يتحقَّق في الحضارة الإسلامية، بل عَرفَ تصوُّرًا جديدًا للصورة له طابعٌ مركَّب، ويخضع عمومًا لمحاربة التصوير في طابعه التجسيمي الوثني، وتركيز فكرة الألوهية المنزهة. ففي هذه المنظومة الدينية والثقافية الجديدة، كان من اللازم التصدِّي للتصوير والرمزية الدينية الإشراكية المرتَكِزة على التصوير.
بَيْدَ أن للتاريخِ منطقَه الخاص، والديانة أيضًا لها تآويلها وممارساتها التاريخية. فقد جاوَر العربُ ودمَجوا في ديانتهم شعوبًا وحضاراتٍ عرفَت الصورة (كالفرس والهند والترك). ولم يكن بإمكان هؤلاء محوُ ذاكرتهم التصويرية والخيالية بسرعة ولا بسهولة، ولا التشطيب الكامل على مخلَّفاتها، بل تكييفها مع مُقتضياتِ ومُنفتحاتِ الحضارة الجديدة. وإذا كانت الأحاديثُ النبوية قد أولَت اهتمامًا خاصًّا للصورة، ولتحريمِها إلى هذا الحدِّ أو ذاك — كما سنرى ذلك بتفصيل — فإن الصورة والتصوير قد تبلوَرا وتطوَّرا في الهوامش والمنفتحات التي تركها الإسلام، وارتبطا بتطوير الصورة الشعرية والبلاغية والذهنية بسرعةٍ تفوقُ إمكانات تطوير الصورة البصرية.
(٢) الصورة ووَهْم المحاكاة
لقد اعتبَر الإسلامُ الصورة مجردَ تمثيلٍ جامد لا يُمكِنه أبدًا أن يُكرِّر الأصل، ولا أن يُعبِّر عن حقيقته المتمثِّلة في الحياة بكلِّ مغازيها وارتباطاتِها بخالقِها البارِئ المصوِّر. وإذا كانت الدنيا نفسُها مجرد مَعْبر لا أكثر، فإنها، كما يُلِح على ذلك الحديثُ المشهور، أشبه بالمنام أو الوَهْم الذي لا يستفيقُ منه الكائنُ إلا ليواجه حياةً أخرويةً حقيقية. إن الحقيقي في التصوُّر الإسلامي للوجود ليس هو القريب من الحواس، وإنما ما يتجاوز كل حسِّية، إنه المُتعالي الذي يمتلكُ لوحده حقيقةَ وماهيةَ الوجود ومحرِّكها الأساس (الروح)؛ لذا، فإن وجود الصورة في الدنيا تعريضٌ بالحياة (أي بما يملك روحًا)، ومنح الاعتبار للجامد الذي لا يمتلكُ أيَّ فاعليةٍ واقعية. فالصورة بهذا المعنى جمادٌ غيرُ حيٍّ وغيرُ فاعل، وهذا التخصيصُ الأخير، للتمييز بينها وبين الجامد الذي يمتلكُ في التصوُّر الكوسموجوني الإسلامي حياتَه الخاصة، باعتباره يُسبِّح لخالقِه ويُشارِك الموجوداتِ الأخرى الحياة. إن ما يَفرِق بين الصورة الطبيعية والصورة المُحاكية يكمُن أساسًا في:
-
(١)
المصدَر الإلهي للأولى، والمصدَر الإنساني للثانية.
-
(٢)
أن الأولى خَلْق، والثانية صناعة.
-
(٣)
أن الأولى طبيعية، أما الثانية فإنتاجٌ ثقافي، بالمعنى الأنثربولوجي للكلمة.
-
(٤)
أن الأُولى أصل، أما الثانية فنسخةٌ تتماهَى مع الأصل.
-
(٥)
أن الأولى تمتلكُ روحًا، أما الثانية فخلوٌ منها.
-
(٦)
أن الأولى عابدةٌ لخالقِها، أما الثانية فمعبودةٌ من طرَف صانعِها.
-
(٧)
أن الأولى تنتمي للنظام الكوني للخَلْق، أما الثانية فتنتمي للمتخيل الإنساني الوضعي.
وبما أن الصورة ارتبطَت في المجتمعات السابقة على ظهور الإسلام بمدلولاتٍ وممارساتٍ تأليهيةٍ رمزية لها طبيعيةٌ قُدسيَّة، فإن الإشارات القرآنية الست قد ركَّزَت كلُّها على هذا الطابع الرمزي التقديسي، مؤكِّدةً على أن مهمة التصوير مهمةٌ إلهيةٌ مرتبطة بعناية الله تعالى بتنظيمِ وتشكيلِ وتسييرِ دفَّة الكون؛ فالتصوير، لذلك، خلقٌ وتكوينٌ تُعتبَر الذاتُ الإنسانية موضوعَه ومادتَه؛ ولذا فإن المصوَّر ككائنٍ حيٍّ وُهبَت له ملكَة العقل يغدو بهذا الشكل عاجزًا أونطولوجيًّا عن عملية الخَلْق؛ أي عن «إنتاج» نظيرٍ له تكون له نفسُ الخاصيات (حتى لا نقول: عن خَلْق الكائنات المغايرة له طبيعة وطابعًا). ذلك العجزُ هو ما يجعَل مهمتَه كامنةً في التفكُّر في عملية الخَلْق، وتعقُّل الكون وصناعة ما يمكنه من ممارسة وجوده حسبَ التعليمات العقائدية التي جاءت لتنظيم علاقته لخالقه.
إن محدوديةَ القدرة الإنسانية هي ما يجعل الإنسان، عَبْر فعلِ التصوير، يُغامِر بمحدوديته تلك ويتحدَّى بها فعلَ خلقِه هو باعتباره كائنًا محدودًا أيضًا في الزمن والمكان، ومرتهنًا في وجوده بالولادة والموت؛ ومن ثمَّة بالبعث والحساب.
(٣) الملائكة والصورة والعتبة
الأحاديث
-
(١)
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعتُ أبا طلحةَ يقول: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: لا تدخُل الملائكةُ بيتًا فيه كلبُ ولا صورةُ تماثيل (البخاري).
-
(٢)
عن عائشة قالت: واعَد رسولَ الله ﷺ جبريلُ — عليه السلام — في ساعة يأتيه فيها، فراثَ عليه [تأخَّر عليه]، فخرج النبي — ﷺ — فإذا هو بجبريلَ قائم على الباب، فقال: «ما منعك أن تدخُل؟» قال: «إن في البيت كلبًا، وإنَّا لا ندخُل بيتًا فيه كلبٌ ولا صورة» (ابن ماجه).
-
(٣)
عن أبي هريرة قال: استأذَن جبريل — عليه السلامُ — على النبي — ﷺ — فقال: «ادخُل»، فقال: «كيف أدخُل وفي بيتك سِتْرٌ فيه تصاوير؟ فإما أن تُقطع رءوسُها أو تُجعل بساطًا يُوطأ؛ فإنا مَعشرَ الملائكة لا ندخُل بيتًا فيه تصاوير.» (النسائي).
-
(٤)
عن زيدِ بن خالدٍ أن طلحة حدَّثه أن النبي — ﷺ — قال: «لا تدخُل الملائكة بيتًا فيه صورة.» قال بُسْر: فمَرِض زيدُ بن خالد فعُدناه، فإذا نحن في بيته بسترٍ فيه تصاوير، فقلتُ لعبيد الله الخولاني: «ألم يحدِّثنا في التصاوير؟» فقال: «إلا رقمٌ في ثوب، ألا سَمعتَه؟» قلتُ: «لا»، قال: «بلى قد ذكَره» (البخاري).
-
(٥)
عن رسول الله — ﷺ — قال: «إن في الجنة سوقًا ما فيها بيعٌ ولا شراءٌ إلا الصور من الرجال والنساء، فإذا اشتهَى الرجل صورة دخل فيها، وإن فيها لمجتمَع الحور العين يرفَعن بأصواتٍ لم تسمع الخلائقُ مثلها، يقُلن نحن الخالداتُ فلا نبيد، ونحن الناعماتُ فلا نَبْؤُس، ونحن الراضياتُ فلا نسخَط، فطوبى لمن كان لنا وكُنا له» (الترمذي).
•••
لنُلاحِظ قبل محاولة فهم هذه العلاقة أن الحديث الأول يربط ربطًا جدليًّا بينهما في فضاء البيت لكونهِما يُشكِّلان عنصرَين من عناصره؛ الصورة للزينة والكلب لحراسة البيت، إلا أن ذاك الترابط ناتجٌ عن حدثَين منفصلَين في الحكاية متلائمَين في طريقة وقوعها، ولو أن ما يفصل بين الحديث الأول والحديثَين الآخرَين صيغة الكلام؛ فالأول يجعل الكلام مباشرةً للنبي ﷺ، بينما تُمكِّن الحكاية في الثاني والثالث من عرضٍ لمشهَد إعطاء الكلمة للملَك جبريل كي يُعبِّر مباشرةً عن موقف الملائكة من الصورة في فضاء البيت.
يفتَحُنا الحديثُ الرابع على تمييزٍ آخَر لا يتمثَّل هذه المرة في شكل الصورة أو موقعها، وإنما في نوعها. فأن تكونَ الصورةُ رقمًا (كتابة أو تخطيطًا تجريديًّا) غيرَ تجسيديٍّ أو تشخيصي يُحوِّل طبيعة التعامل معها (قبولها أو رفضها). وإن كانت الأحاديثُ السابقة تقبَل الصورةَ التشخيصية عَبْر شَرط لا تحدُّدها وموقعها الأفقي، فإن هذا الحديث يقبَل وبدون شرط، الصورة الكتابية غير التشخيصية. إن ذلك يعني أن الكتابة صورةٌ أيضًا، أو نوعٌ من أنواع التصاوير ينضافُ للصورة التشخيصية والأعلام، وأن الصورةَ اسمُ نوعٍ شامل يفترض عند الحديث عنها التخصيص والتعيين.
أما الحديث الخامس، فإنه يُدخِلنا في تجربةٍ توقُّعيةٍ مغايرة، وفي عتبةٍ من نوعٍ آخر؛ إذ بين الدنيا والآخرة أيضًا عتَبة، إنها الممَر الذي يُسمِّيه الصوفية بَرْزخًا، والذي تساءل بخُصوصه الفقهاء، وتجادل بصدده المتكلِّمة. وبما أن الحياة الدنيا مُجاورةٌ للحواسِّ والغرائزِ وصراعٌ ضدَّها وفرزٌ تجريبيٌّ لأنواع السلوك (الخيرة/الشريرة)، فإن التصوُّر الإسلامي للكون قد جعل من ثنائية الدنيا/الآخرة إحدى الثنائيات المركزية التي عنها تتفرَّع الثنائيات الحياتية والوجودية الأخرى. فالآخرة، كما جاء في النص القرآني وكما صوَّرَتها كتاباتُ الإسلاميين، كمالٌ مطلَق وتعويضٌ عينيٌّ وخارق عما ينقُص حياة المؤمن في الأرض.
بهذا المعنى، يُكافَأ المؤمن مقابلَ تحصين فَرْجه في الدنيا بمعاشرة ما يحلُو له من الحور العين في الآخرة، كما يُكافَأ مقابلَ رفضِه التصويرَ والخضوعَ لفتنة الصورة بالتمتُّع بجمالية الصورة وتحقيق «شهوته» فيها ومنها. إن الصورةَ في الآخرة فتنةٌ غريزية (وإنَّ فيها لمجتمع الحور العين …) وشهوانيةٌ جنسية. والمؤمن مطالَب، إن هو رَغِب فيها؛ أي ممارسة نكاحٍ فعليٍّ معها — داخلها — يعوِّضه عن كلِّ الإثارات التي قمعَها تجاههَا في دنياه. والصورة في الآخرة؛ لذلك، صورةٌ مُتحرِّكة، ناطقة (طوبى لمن كان لنا وكُنا له).
إن سوق الصور في الجنة سوقٌ للرغبة، خاضعٌ للشهوة وتحقيق نوازعها. وهو يحقِّق للمؤمن ما عجز عنه أيضًا في الدنيا؛ أي منح الحياة للصورة، وما عاشه فيها على سبيل الخيال والتوهُّم. إن علاقتَه بالصورة في الجنة علاقةٌ خاضعة لطراوة الرغبة وعُنفوان الحواس، وواقعية اللذَّة، واستمراريتها، وخلودها زمنًا وفضاء. وهنا لا مجال لحضور أي عتبةٍ من أي شكل؛ لأن العتبةَ ترتبطُ بفضاءٍ مغلَق (هو البيت كما في الحديث ٢ و٣) أما السوق ففضاءٌ مفتوحٌ وجماعي.
(٤) المرأة والصورة والوسادة
الأحاديث
-
(١)
حدَّثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالكٌ عن نافعٍ عن القاسم بن محمد عن عائشة أم المؤمنين — رضي الله عنها — أنها أخبرَتْه أنها اشترت نُمرُقةً فيها تصاوير، فلما رآها رسولُ الله — ﷺ — قام على الباب فلم يدخُله، فعرفَت في وجهه الكراهةَ فقالت له: «يا رسول الله أتوب إلى الله وإلى رسوله — ﷺ —، ماذا أذنبتُ؟» فقال رسول الله — ﷺ —: «إن أصحابَ هذه الصورِ يومَ القيامة يعذَّبون فيُقال لهم أحيُوا ما خلَقتُم»، وقال: «إن البيتَ الذي فيه الصورُ لا تدخُله الملائكة» (البخاري).
-
(٢)
عن عائشةَ قالَت: قَدِم رسول الله — ﷺ — من سفَر، وقد ستَرتُ بقِرامٍ على سهوةٍ لي فيه تصاوير فنَزعَه، وقال: «أشدُّ الناس عذابًا يوم القيامة الذين يُضاهُون بخلقِ الله» (النسائي).
-
(٣)
عن عائشة قالت: خرَج رسول الله — ﷺ — خرجةً ثم دخل، وقد علَّقتُ قِرامًا فيه الخيلُ أولاتُ الأجنحة، قالت: فلمَّا رآه، قال: «انزعيه» (ابن ماجه).
-
(٤)
عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت اتخذَت على سهوةٍ لها سترًا فيه تماثيلُ فهتَكَه النبي — ﷺ — فاتخذَت منه نُمرُقتَين (وسادتَين)، فكانتا في البيت يَجلسُ عليهما (البخاري).
-
(٥)
عن عائشة زوج النبي — ﷺ — قالت: كان لنا سِترٌ فيه تماثيلُ طيرٍ مستقبل البيت، إذا دخل الداخل، فقال رسول الله — ﷺ —: «يا عائشة حوِّليه؛ فإني كلما دخلتُ فرأيتُه ذكرتُ الدنيا.» فقالت: وكان لنا قطيفةٌ لها علَم، فكُنا نلبَسُها فلَم نقطَعه (النسائي).
لكل حديثٍ نبوي حكايتُه، وحكاية الوسادة ذات التصاوير تختلف من روايةٍ إلى أخرى، فالحديث الأول يتحدَّث عن الوسادة جاهزة مصنوعة. بينما لا يُشير إليها الحديثُ الثاني والثالث والخامس، أما الحديث الرابع فإنه يُقدِّم لنا الحكايةَ كاملةً من وقوع نظَر الرسول على السِّتر إلى هَتكِه إلى تَحويلِ عائشةَ له إلى نُمرُقتَين (وسادتَين) إلى جلوسِ النبي عليهما.
وبينما يؤكِّد الحديثُ الرابع موقفَ الرسول من الصور المعروضة والمقابِلة للعين والنظر (وهو ما يبرِّر فعل الهَتْك باعتباره عنفًا موجهًا ضد الصورة المعروفة لا ضد الثوب في ذاته)، فهو من جهةٍ ثانية، يُثبِت ما جاء في الحديث الثالث من المجموعة السابقة؛ أعني ضرورة وطء الصورة، وتحرير العين منها؛ ذلك أن تَركَها في مَوضِعها ذاك يحوِّلها — كما سبق الذِّكر — إلى جماليةٍ بصرية وإلى بعدٍ رمزي قابل للمتعة والتفكُّر. وكلُّ متعة (إن لم تكن محكومةً بالشرع) فتنة، وكلُّ فتنةٍ ضلالة …
إن قبول الصورة في فضاء البيت — كما يتوضح لحد الآن — رهين بمجموعة من الوسائط التي تُمكِّن من إبطال مفعولها التأثيري والرمزي؛ الهتك – النزع والإزاحة من أمام البصر – الطعن والتهشيم والتشويه (بخصوص التصاليب والأصنام) – قطع الرأس – الوطء … إلخ.
يُشير الحديثُ الخامس إلى أن الصورة ترتبط بالحسي والمحسوس؛ إذ هي إقرارٌ بالمرئي (وكل مرئيٍّ دنيوي)، وإثباتٌ له في الزمن والفضاء. بهذا المعنى تكون الصورة في جماليتها وتخييليتها تعضيدًا للدنيوي، ولحضوره إلى الحواس، وتهميشًا للامرئي، ولما لا يقبل أبدًا التصوير وإنما فقط التصوُّر. إنها واقعٌ ثانٍ يُخالِف الأصل، لكنه يلتصق بمدلولاته. هذه الحركة المزدوجة هي ما يميِّز الصورة؛ فهي تَطمِس المرجع، وتحافظ على مدلول هو بدَوره دالٌّ لمدلول هو العالم الخفي الذي يتحكَّم في الكون، ويُدير دفَّتَه. وهذا التضعيف والوساطة المزدوجة هي ما يجعل، بل ما يدفع بالمؤمن إلى أن يستهدف لا الدالَّ الصوري ولا مدلولَه الدنيوي المباشر، وإنما المرجع الأسمى الخفي الذي يكمُن وراء كل هذه العملية. إن الصورة مطالَبة بأن تُزاح من مكانها كي لا تحجُب عن المؤمن ما يكمُن وراء الوجود الإنساني بكامله. وباعتبارها حجابًا فهي تفترضُ هتكَها كي تتسلَّل من ورائها حقيقة الوجود وحقيقة القوة الكامنة وراءه.
ولنتساءل الآن: لِمَ لَمْ تقطع نساءُ النبي القطيفةَ المزركشة (ذات الأعلام)؟ هل لكون الزركشة عناصر تجريدية غير تمثيلية ولا تشخيصية شأنها شأن الكتاب (انظر الحديث ٤ من المجموعة الأولى)؟ أم لارتباط الزركَشَة وجمالها التجريدي بالزينة، وارتباط المرأة بكلِّ ما هو تجميلٌ لفَضائها الذاتي والموضعي؟
يبدو أن الصورة في طابعها الزُّخرفي التزييني لها ارتباطٌ عميق بالمرأة (يؤكِّد ذلك أن أغلبَ الأحاديثِ المتعلِّقة بالصورة مرويةٌ عن عائشة رضي الله عنها)، وهو ارتباطٌ جعلنا نَدين بتجويز الصورة، وحضورِها لنساء النبي، وبدخول الملائكة البيتَ الذي تُوجَد فيه الصور لهن أيضًا. إن ارتباط المرأة بالصورة يبدو هنا ارتباطًا وجوديًّا، سابقًا على كل ما من شأنه أن يمنَح للصورة وجودَها أو عدمَه؛ إذ الدلالات الجمالية والرمزية للصورة لا يُمكِنها أن تُوجَد بعضُها بدون البعض.
(٥) المسجد والقصر: فضاءاتٌ لجمالية الصورة
وفي «قصر الحمراء»، الذي اكتُشفَت آثارُه مؤخرًا، يُمكِن معاينة التراكُم التشكيلي الذي خصَّ به الأُمويون فضاءاتهم الداخلية، ومن ضِمنِها تشكيلٌ لجسد امرأةٍ ضمن محيطٍ حضَري إضافةً إلى صورةٍ واقفة للخليفة هشام. أما في «خربة المفجر» فقد عثرَت الحفريات، من ضمن ما عُثِر عليه، على تمثال راقصةٍ نصفِ عارية ورسم صواني للوليد الثاني. وبينما يحتوي قصريُ الحمراء على رسومٍ جدارية ومشاهدَ للصيد، يحبل «قصر الخير الغربي» بصنوفِ الشخصيات الحيوانية كاللقلق والثعلب والغزال ومالك الحزين والخروف والجمل والقرد الراقص والدب الموسيقي، فضلًا عن صور للذكور والإناث متحرِّكة أو ثابتة.
من ناحيةٍ أخرى، وبالرغم من الجدالات التي تعلَّقَت بالصورة والتصوير تفسيرًا وفقهًا وكلامًا، أدَّى ذاك التفاعُل إلى ولادة حساسيةٍ جديدة تجاه الصورة تعترف بجماليتها، أو على الأقل تقبل ضمنيًّا بمُتخيلها.
(٦) الخط العربي: جسد اللغة وصورتها
إذا كنا في تحليلنا للأحاديث الخاصة بالصورة المرقومة قد انطلَقنا من قدسية اللغة، فلأن العربية لغةُ آدم في الجنة، وإن كانت لغته في الأرض السريانية. وكأننا بذلك أمام لغتَين؛ واحدة للتواصل الإنساني تكون تاريخية، وأخرى للتواصل الأخروي وتكون خالدةً ولا زمنية.
إن تأخُّر نشوءِ فنِّ خطٍّ عربي ناتجٌ عن تلك الحظوة اللاهوتية التي كان يكتَسِبها المنطوق والصوتي، والتي سادت سواء عند اللغويين العرب أو الفقهاء؛ فحَدُّ اللغة كما عَرفَها العرب وكما لخَّصَ ذلك ابنُ جني أصواتٌ يتعارف بها القوم فيما بينهم ويتواصَلون؛ لذا، وانطلاقًا من هذه المركزية الصوتية، حظي الذِّكر وتجميلُ الصوت في الذِّكر بوصية الفقهاء المسلمين تعبيرًا عن ارتباط النص القرآني «بالجوهر الصوتي» للغة التَّرداد والقراءة.
وبالرغم من أن المكتوب لا يُضاهي الصوتي، إلا أن ارتباطهما معًا بقدسية النصوص المرجعية الإسلامية وبقدسية أسماء الله الحسنى، وأهمية بعض الجمل في الممارَسة اليومية للمؤمن (الشهادة، التكبيرة …) جعل الخطَّاط العربي يعبِّر عن ذلك الارتباط (ويخرقُه في الآنِ نفسِه) عَبْر جمالية الخط وجلال الصورة المكتوبة.
وقد وعَى العرب بعلاقة الخط بالتصوير؛ إذ يقول ابن البواب بهذا الصدد:
ويقول ابن المعتز في قلم الوزير القاسم بن عبيد الله:
بل إن الحروف، بالإضافة إلى دلالاتها لدى الصوفية، قد كانت تدُل على صورٍ معيَّنة؛ فالخليل بن أحمد الفراهيدي يقول في كتاب «الحروف» بأن الألف هو الرجلُ الحقيرُ الضعيف، وقيل هو السخيُّ والفرد في الفضائل، والباء هو الرجل الكثير الجماع، وما إلى ذلك.
(٧) الصورة والخيال والحقيقة الصوفية
ينهض التصوُّر الإسلامي للوجود على مجموعةٍ من الثنائيات المؤسسة التي تجعل المفارَقة واضحةً بين الإلهي والإنساني، وبين الحقيقة والخيال، وبين المنزَّه والمجسَّم، والمرئي واللامرئي … إلخ، إلا أن هذه الثنائيات الصارمة قد خضَعَت بدَورها للتأويل في الفكر الإسلامي اللاحق، مانحةً لها بذلك، سواء باتباع النظر الفلسفي أو الصوفي الكلامي، مصداقيةً عقلية، أو مفكِّكة لعنادها بالتخييل الباطني. وليس يهمُّنا هنا سوى الطريقة التي نظَّر بها المتصوفة، وابن عربي أساسًا، للصورة والشكل الذي به نَظَّر لها في نسيج تصوره.
الصورة عند ابن عربي إذن حقيقةٌ جوهريةٌ متجاوزة للحضور الحسي للشكل، وبالرغم من أنه لا يغمط حقَّ الحسي في قوله:
بالرغم من ذلك، فإن الفرق واضحٌ حين يتعلق الأمر لا بصورةٍ حسية، وإنما بصورةٍ يكون مدلولها غيرَ قابلٍ لأية مقارَبةٍ من ذاك النوع. فحين تعجز العين عن رؤية ما ليس محسوسًا، يُمكَّن الخيال وحده — عَبْر تقابل المرايا — من الرؤيا والكشف؛ لذا يتساءل المتصوِّف:
يتبدَّى إذن أن الصورة قد وجَدَت لها في الثقافة العربية الإسلامية منافذَ كثيرة، من خط وتصوُّر صوفي وبلاغة وشعر … إلخ. إن هذا يعني أن الصورة التجسيمية لم تُمنع منعًا كليًّا من جهة، وأن ما طُرِد من الباب عاد للولوج من النافذة، من جهةٍ ثانية. بيد أن المشكلة لا تكمُن بالنسبة إلينا في إعادة طرح الإشكالية بالشكل الذي طُرح لدى المستشرقين؛ أي بالمعارضة بين التشخيصي والتجريدي، والبحث عن مشروعية الصورة التجسيمية في الثقافة العربية الإسلامية، بقَدْر ما نُلِح على أن الصورة كلٌّ متعدد ومتكامل الأطراف، وأن وجودها قد اخترق مجالات السلوك الثقافي متنقلًا بين المعقول والمحسوس، وخالقًا مجالاتِ تبلوُره.
وبهذا المعنى يُمكِن القول بأن الممارسة التصويرية قد ظلت تُوازي الكلمة في وظيفتها القداسية، بل تجسد قداستها في التصوير، وأن الإسلام قد بنى تصوُّره للصورة تدريجيًّا، وانطلاقًا من عملٍ تفكيكي تم بموجبه قَبول الصورة الجسمية مجردة من هُويتها (رأسها ووجهها)، والصورة النباتية والطبيعية عمومًا في جزئيتها (الأوراق في الزخارف)، وانطلاقًا من عملٍ شمولي تم بمقتضاه تحويل الخط من وظيفيته الكتابية إلى فن، والزخرفة إلى تصوير.
إن هاتَين العمليتَين تمكِّناننا من الوقوف على نوعية الصراع المكتوم، الذي حبلَت به الممارسة «الفنية»، والسلوك الجمالي الإسلاميان، اللذين خضَعَا لبِنْيات تطوُّر تاريخية وثقافية، وحافَظَا على توازُنٍ خفيٍّ بين هذا التطوُّر الذي منح للتصوير مجالًا أكبر، وبين مقتضيات النصوص التشريعية. هذا التوازن هو الذي لا يزال يتبدى لحد الآن في خلفية فنون الصورة في العالم العربي الحديث والمعاصر، الذي تطوَّرَت فيه فنون «التجريد» أكثر من التشخيص، والتشكيل أكثر من النحت، وغاب فيه فن البورتريه، الذي ظل تقريبًا حكرًا على الصورة الفوتوغرافية، التي لم تغدُ بدَورِها فنًّا معترفًا به إلا في العقود الأخيرة.
Cf. M. Aziza, L’Image et l’lslam: I’image dans la société arabe contemporaine, A. Michel, Paris, 1978. p, 454.
وهم يؤكِّدون جميعًا أن الخط لم يأتِ كتعويضٍ تجريدي عما سُمي بتحريم الصورة في الإسلام.