الفصل السادس

الإسلام والصورة: المُفارَقة والتأويل

تفرضُ التطوُّراتُ الجديدة التي طرأَت على البحوث في مجال الأنثربولوجيا الثقافية من جهة، والتحليلات الجديدة في مجال السيميائيات البصرية من جهةٍ ثانية، والتحوُّلات العارمة التي يشهدُها مجال الصورة المرئية من جهةٍ ثالثة، والتأثيرات التي تنعكسُ منها على مجال الدراسة والبحث، محاولةَ إعادةِ النظر في إحدى أكبر المُشكلاتِ التي عرفَها تاريخُ العرب الثقافي، أعني ما سُمِّي بتحريم التصوير. وليس غرضنا هنا فقط مناقشة هذا الموقف أو مقارنته بالمجال التاريخي. بقَدْر ما نطمَح إلى الكشف عن أن الصورة (المُجسَّمة) ظلَّت حاضرةً في صُلب الموقف الفقهي. في هامشٍ اختطَّته لنفسها، وبالعلاقة مع معطياتٍ وجودية تتجاوز بشكلٍ كبير إمكان إقبار دلالات حضورها. كما أن مسعانا يكمُن هنا في توسيع مفهوم الصورة لتشمل الصورة الذهنية (ناهيك عن الصورة البلاغية)، ولنعتبِر أن ما تم محاصرتُه في المُجَسَّم والعيني قد وجد مرتعًا له في الصورة الكتابية (الخط)، وفي الصورة الوجودية لدى المتصوِّفة.

إن هذا يعني من جانبنا أيضًا إعادة النظر في القطيعة بين المرئي واللامرئي التي ركَّزَتْها الحداثة وعصر سيادة البصري le visuel، وإعادة الاعتبار لذلك التفاعل الذي ظل يخترق بِنْية الثقافة العربية الإسلامية بين الطبيعي وما بعد الطبيعي، وبين الغائب والشاهد، والكلام والصورة. بَيْد أن تعامُلًا من قبيل هذا، إن كان قمينًا بوَضعِنا في صُلب إشكالية المقدَّس بكل التباساتها، وأبعادها الوجودية والرمزية، فإنه يحتِّم علينا إعادة توكيد التداخُل والتفاعُل الذي ظل حاضرًا في صُلب الذاكرة اللغوية العربية والذاكرة الثقافية والاجتماعية بين الجسم والصورة، وهو الأمر الذي يجعل من قضية الصورة أحد الامتدادات الجوهرية، بل النواة الأساس التي تربط بين الجسد والمقدَّس، سواء بحضورها أو غيابها أو بأشكالِ تمظهُرها المتنكِّرة، وسواء بمعاداتها وتحريمها وكبتها أم بالاعتقاد التقديسي فيها. إنها اللُّحمة الضرورية، اجتماعيًّا، لتمرير المقدَّس، مهما تمَّ تجريدُها ونقلُها من المشخَّص إلى ضَربٍ من التصويري العلامي والذهني.

(١) جنيالوجيا الصورة والتحريم

تملك الصورة من الجاذبية ما يجعل أثَرَها يفوقُ أحيانًا الكلام. وذلك بتعدُّدية دلالاتها وانغراسها في المتخيل الرمزي والاجتماعي للكائن. إنها قد تكون علامةً ودليلًا، غير أنها علامةٌ ودليلٌ يحملان مظهر دلالتهما في مظهرهما، حتى وهي تستحضر الغائب وتعيِّنه؛ لذا، إذا كانت اللغةُ قادرةً على صياغة المرئي ومفهمة اللامرئي، فإن قدرة الصورة تكمُن بالأساس في تحويل المرئي واللامرئي إلى كيانٍ محسوسٍ ماثل هنا والآن. هذا البعد الرمزي هو الذي خلَق مشكلاتٍ كبرى تصدَّت لها الديانات التوحيدية الثلاثة. فللصورة قدرةٌ خارقة على الدلالة على الغائب واستحضاره، بَيْدَ أن حضورَها الأكيد قد يتحوَّل إلى حضور بذاته. وبهذا تستحيل الوظيفة الأولية التوسطية (التي تحكُم الصور عمومًا) إلى حاجبٍ كثيفٍ يغيب ما استحضره بدءًا (فكرة الألوهية). هكذا فإن العلاقة التوسطية التقديسية التي مارسَها الإنسان في بدايات وعيه الديني تتحول إلى علاقةٍ مباشرةٍ ذات وقعٍ مباشر، فتحلُّ الجاذبية محلَّ الرمزية وتأخذ الصورة مكانَ ما تُصوِّره وترمُز إليه، وتعدو بذلك بدلًا للمرموز.

هذا الالتباس (الذي هو التباس الرمزي والمقدَّس) هو ما يفسِّر الصرامة التي تعاملَت بها الديانة اليهودية مع الصورة والفعل التصويري. فالقمع الطهراني للصور يعبِّر عن رفض التعبُّد بها، ورفض وساطتها. ووحدَها الكلمة والنَّفَس قادران على خلقِ صِلاتِ وصلٍ مع الإلهي وتمثُّله في مطلَقه؛ لذا فإن النصوص العبرانية (من توراة ومزامير) ما فَتِئَت تُعبِّر عن معاداة التصوير وتحريمه: «اللعنة على مَن يصنَع الصورَ المنحوتة»، «اللعنة على مَن يصنَع الصورَ المنحوتة»، «إنهم لضالُّون أولئك الذين يتعبَّدون بالصور»، «إنك لن تصنَع صورةً في السماء أو في الماء أو تحتَ الأرض».

هذا الحسمُ القاطع حوَّل الصورة إلى شرٍّ يلزمُ اجتثاثُ أصوله. وليس من قبيل الصُّدقة أن يكون لهذا الشر علاقةٌ بالنظر. فالصورة جاذبةٌ للعَين، وقد جاء في سفر التكوين بصدَد حكاية التفاحة: «ورأت المرأة أن الشجرة طيبةُ المأكل وجميلةُ المنظر …» وللخطيئة علاقةٌ بالبصَر. من ثمَّ، وكما يحلِّل ذلك بشكلٍ رائعٍ ريجيس دوبري،١ فإن المرأة والصورة والشر والخطيئة مترادفات، بل إن تلِّيريان القرطاجنِّي، الذي كان يرى في الأصنام والصورة عمومًا أكبر شرٍّ وأخطره، هو نفسه الذي سوف يهاجم، في بدايات المسيحية، التبرُّج والتجمُّل والزينة النسائية بلا هوادة؛ إذ إن ذلك، كما رأينا في الفصول السابقة، يُحوِّل المرأة إلى صورة والوجه إلى قناع. بل لقد كان من الشائع في الأوساط اليهودية ذات الثقافة الهلينية في القرن الأول للميلاد أن صناعة التماثيل هي في أصل الجماع والمباضعة. إن هذه العلاقة الحميمة بين معاداة الصور ودونية المرأة، تكشف بالمقابل عن علاقةٍ حميمة ووجودية بين مظهرية الصورة وجماليتها، وجمالية ومظهرية المرأة، وكذا بين الرغبة الأنثوية والجمال والمظهر، كما بينَّا ذلك سابقًا أيضًا.
لكن، إذا كانت اليهودية قد حرَّمَت الصورة والتصوير تحريمًا قاطعًا، نظرًا لبِنْيتها التجريدية والمُغرِقة في الانغلاق، فإن المسيحية نفسها، وإلى حدود القرن اﻟ ٨ للميلاد لم تعرف التصوير إلا بشكلٍ مُحتشِم وتدريجي، وهي لذلك لم تقبل بالنحت وصناعة التماثيل كما شاع ذلك في الحضارة الإغريقية مثلًا، بل اكتفَت بالتصاوير البارزة والمنقوشة bas-relief ذات البُعد الواحد. وقد كانت الكنيسة الشرقية (البيزنطية) تعيش صراعًا حادًّا بين المُعادين للتصوير iconoclasts والمدافِعين عنها والمعتقدين فيها iconophiles أو iconodules. غير أن هذا الصراعَ أخذ مظهَر التصادُم بين الكنيسة الشرقية والكنيسة الرومانية، التي أصدرَت منذ عام ٦٩٢م قرارًا بإجازة تشخيص العناية الإلهية والحقيقة عَبْر صورة المسيح. ينبَني هذا القرارُ على الاعتقاد في عودة وتجسُّد المسيح عند نهاية الخليقة Incarnation، غير أنه من جهةٍ أخرى يرفَع من قيمة شخصية المسيح الآني والمُصَوَّر والمستَحْضَر على حساب عودَته المنتظَرة.
ولم يتمَّ الحسمُ العقائدي في مشروعية الصورة في المسيحية إلا عند احتداد الصراعات المذهبية الدموية حولها، وذلك في المجمع الديني بلينسي عام ٧٨٧م. بَيْدَ أن هذا القرار لم يضَع مع ذلك حدًّا للحرب الأهلية التي امتدَّت حتى سنة ٨٤٣م.٢ وبذلك تم تغليبُ الأولوية المطلَقة للكلمة على الصورة، التي تنبَني عليها الثقافة اليهودية، والانصياعُ للآثار الحاسمة للثقافة البصَرية الإغريقية على العقلية المسيحية.

والحقيقة أن عودةَ الصورة في الديانة المسيحية يُفصِح عن المهادنة والتوفيق الذي مارسَتْه هذه الأخيرة بينها والعالَم الوثَني الإغريقي والروماني، وتَوْقها العميق إلى خَلقِ تواشُجاتٍ بين الصورة الوثنية والتصورات الدينية الجديدة؛ بحيث يُمكِن الحديث (من منظور أنثربولوجي) عن «وثنية» جديدة مجالُها وأداتُها التصوير.

وإذا كان امتدادُ التصوير من الحضارات الدهرية إلى المجتمعات التوحيدية ينمُّ عن الحيَل التاريخية للصورة ورسوخِ سُلطتِها وفتنتِها وجماليِتها وضرورتِها في صياغة المقدَّس وتعضيده وتمريره، فإن هذا الامتداد لم يتحقَّق في الحضارة الإسلامية، بل عَرفَ تصوُّرًا جديدًا للصورة له طابعٌ مركَّب، ويخضع عمومًا لمحاربة التصوير في طابعه التجسيمي الوثني، وتركيز فكرة الألوهية المنزهة. ففي هذه المنظومة الدينية والثقافية الجديدة، كان من اللازم التصدِّي للتصوير والرمزية الدينية الإشراكية المرتَكِزة على التصوير.

بَيْدَ أن للتاريخِ منطقَه الخاص، والديانة أيضًا لها تآويلها وممارساتها التاريخية. فقد جاوَر العربُ ودمَجوا في ديانتهم شعوبًا وحضاراتٍ عرفَت الصورة (كالفرس والهند والترك). ولم يكن بإمكان هؤلاء محوُ ذاكرتهم التصويرية والخيالية بسرعة ولا بسهولة، ولا التشطيب الكامل على مخلَّفاتها، بل تكييفها مع مُقتضياتِ ومُنفتحاتِ الحضارة الجديدة. وإذا كانت الأحاديثُ النبوية قد أولَت اهتمامًا خاصًّا للصورة، ولتحريمِها إلى هذا الحدِّ أو ذاك — كما سنرى ذلك بتفصيل — فإن الصورة والتصوير قد تبلوَرا وتطوَّرا في الهوامش والمنفتحات التي تركها الإسلام، وارتبطا بتطوير الصورة الشعرية والبلاغية والذهنية بسرعةٍ تفوقُ إمكانات تطوير الصورة البصرية.

(٢) الصورة ووَهْم المحاكاة

لقد اعتبَر الإسلامُ الصورة مجردَ تمثيلٍ جامد لا يُمكِنه أبدًا أن يُكرِّر الأصل، ولا أن يُعبِّر عن حقيقته المتمثِّلة في الحياة بكلِّ مغازيها وارتباطاتِها بخالقِها البارِئ المصوِّر. وإذا كانت الدنيا نفسُها مجرد مَعْبر لا أكثر، فإنها، كما يُلِح على ذلك الحديثُ المشهور، أشبه بالمنام أو الوَهْم الذي لا يستفيقُ منه الكائنُ إلا ليواجه حياةً أخرويةً حقيقية. إن الحقيقي في التصوُّر الإسلامي للوجود ليس هو القريب من الحواس، وإنما ما يتجاوز كل حسِّية، إنه المُتعالي الذي يمتلكُ لوحده حقيقةَ وماهيةَ الوجود ومحرِّكها الأساس (الروح)؛ لذا، فإن وجود الصورة في الدنيا تعريضٌ بالحياة (أي بما يملك روحًا)، ومنح الاعتبار للجامد الذي لا يمتلكُ أيَّ فاعليةٍ واقعية. فالصورة بهذا المعنى جمادٌ غيرُ حيٍّ وغيرُ فاعل، وهذا التخصيصُ الأخير، للتمييز بينها وبين الجامد الذي يمتلكُ في التصوُّر الكوسموجوني الإسلامي حياتَه الخاصة، باعتباره يُسبِّح لخالقِه ويُشارِك الموجوداتِ الأخرى الحياة. إن ما يَفرِق بين الصورة الطبيعية والصورة المُحاكية يكمُن أساسًا في:

  • (١)

    المصدَر الإلهي للأولى، والمصدَر الإنساني للثانية.

  • (٢)

    أن الأولى خَلْق، والثانية صناعة.

  • (٣)

    أن الأولى طبيعية، أما الثانية فإنتاجٌ ثقافي، بالمعنى الأنثربولوجي للكلمة.

  • (٤)

    أن الأُولى أصل، أما الثانية فنسخةٌ تتماهَى مع الأصل.

  • (٥)

    أن الأولى تمتلكُ روحًا، أما الثانية فخلوٌ منها.

  • (٦)

    أن الأولى عابدةٌ لخالقِها، أما الثانية فمعبودةٌ من طرَف صانعِها.

  • (٧)

    أن الأولى تنتمي للنظام الكوني للخَلْق، أما الثانية فتنتمي للمتخيل الإنساني الوضعي.

وبما أن الصورة ارتبطَت في المجتمعات السابقة على ظهور الإسلام بمدلولاتٍ وممارساتٍ تأليهيةٍ رمزية لها طبيعيةٌ قُدسيَّة، فإن الإشارات القرآنية الست قد ركَّزَت كلُّها على هذا الطابع الرمزي التقديسي، مؤكِّدةً على أن مهمة التصوير مهمةٌ إلهيةٌ مرتبطة بعناية الله تعالى بتنظيمِ وتشكيلِ وتسييرِ دفَّة الكون؛ فالتصوير، لذلك، خلقٌ وتكوينٌ تُعتبَر الذاتُ الإنسانية موضوعَه ومادتَه؛ ولذا فإن المصوَّر ككائنٍ حيٍّ وُهبَت له ملكَة العقل يغدو بهذا الشكل عاجزًا أونطولوجيًّا عن عملية الخَلْق؛ أي عن «إنتاج» نظيرٍ له تكون له نفسُ الخاصيات (حتى لا نقول: عن خَلْق الكائنات المغايرة له طبيعة وطابعًا). ذلك العجزُ هو ما يجعَل مهمتَه كامنةً في التفكُّر في عملية الخَلْق، وتعقُّل الكون وصناعة ما يمكنه من ممارسة وجوده حسبَ التعليمات العقائدية التي جاءت لتنظيم علاقته لخالقه.

إن محدوديةَ القدرة الإنسانية هي ما يجعل الإنسان، عَبْر فعلِ التصوير، يُغامِر بمحدوديته تلك ويتحدَّى بها فعلَ خلقِه هو باعتباره كائنًا محدودًا أيضًا في الزمن والمكان، ومرتهنًا في وجوده بالولادة والموت؛ ومن ثمَّة بالبعث والحساب.

ترغب الصورة (الإنسانية) في محاكاة الكائن وتخليده، حتى بعد غيابه وفَنائه. إنها بهذا الفعل إمكانُ الاستمرارِ في الزمن لما هو محكومٌ أصلًا بالفَناء (الجسد)، وهي تُشكِّل بالتالي تخليدًا لوَهْمٍ مضاعَف (وَهْم الجسَد ووَهْم خلوده). لقد جاء الإسلام بأولوية الروح على البدن؛ من ثَم فإن الصورة — إضافةً إلى كونها تسعى إلى مضاهاة الخلق الإلهي — تمنَح الوجود للخدعة والاصطناع.٣ وتُمكِّن النسخة من أن تأخذ وضعيةً أكثر أهميةً من الأصل الحي. إن الصورةَ بهذا المعنى استحضارٌ رمزيٌّ مُحاكٍ للغائب، وصنعةٌ ترغب في الإمساك المستحيل بالزمن، وهي لذلك بحثٌ عن وجودٍ مطلَق لا إمكان له إلا في الحياة الأخروية، وكأن الصورة بذلك تسعى إلى بعث ما لا يُبعث في الدنيا، بل ما اختلَف الفقهاء في بعثه (الجسد)،٤ بَيْدَ أن تركيز النصوص على خلوِّ الصورة المحاكية من الروح يجعل منها جسدًا هامدًا؛ أي رُفاتًا أو جثَّة لا تمتلك قوة الحياة، والحركة، والفعل والتفكير. إنها جثةٌ صامتة وجسدٌ فارغ أو جسدٌ للفراغ.٥ وبفراغها ذاك٦ تحتمل الصورة المعنى ولا تحتمل الروح. والمعنى الذي يمنَحه لها الصانع والمتلقي أكبر من طبيعتها (الجامدة والفارغة)، ولن يكون المعنى لما يفتقد ذلك المعنى. إن الطابع التخييلي للصورة هو ما يجعل أثرها تخييليًّا وخياليًّا، وهو ما يُشكِّل مدخلًا للأثَر الأسطوري للصورة ولمجازِها الخطِر؛ ومن ثَم لولادة الديانات الوضعية الوثَنية التي ارتكَزَت على استحضار صورة الأجداد كما يوضِّح ذلك التاريخُ القديم وقصَص الأنبياء.٧
وبما أن التصوير التقديسي الإشراكي ارتبَط — حسب المصادر نفسها — بحضور الشيطان وفعلِه، فإن اللعنة كانت من نصيبه كما كانت من نصيب المصوِّر، وهو ما جعل العقلَ الإسلامي لا يكُف عن المزاوجة بين المصوِّر والشيطان في اللعنة.٨
إننا لن نتمكَّن في هذا الحيِّز، من تحليل ولا استعراض كل ما يتعلق بالصورة في النصوص الإسلامية المرجعية أو التفسيرية والتأويلية، لتنوُّعها وكثرتها؛ لذلك تمكينًا لنا من الوضوح والفاعلية اقتصَرنا على مجموعة من الأحاديث النبوية الشريفة لتكون لنا منطلقًا إلى قراءة نوعية امتداد التصوُّر الإسلامي الأوَّلي للصورة في الممارسة التاريخية والنصية اللاحقة. وبذا سنتمكَّن من الانتقال من مجال العقل الإسلامي٩ إلى فكر الصورة، وهو انتقالٌ تُسوِّغه، بل وتدعو إليه المدلولاتُ المتعدِّدة والمتباينة للفظة «صورة» في اللسان العربي؛ فالصورة لغةً هي: الجسم والوجه والزخرفة والخط والوشم والخيال والوهم والتماثيل المجسمة والعلامات الرمزية وغير الرمزية.١٠

(٣) الملائكة والصورة والعتبة

الأحاديث

  • (١)

    عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعتُ أبا طلحةَ يقول: سمعتُ رسول الله يقول: لا تدخُل الملائكةُ بيتًا فيه كلبُ ولا صورةُ تماثيل (البخاري).

  • (٢)

    عن عائشة قالت: واعَد رسولَ الله جبريلُ — عليه السلام — في ساعة يأتيه فيها، فراثَ عليه [تأخَّر عليه]، فخرج النبي — — فإذا هو بجبريلَ قائم على الباب، فقال: «ما منعك أن تدخُل؟» قال: «إن في البيت كلبًا، وإنَّا لا ندخُل بيتًا فيه كلبٌ ولا صورة» (ابن ماجه).

  • (٣)

    عن أبي هريرة قال: استأذَن جبريل — عليه السلامُ — على النبي — — فقال: «ادخُل»، فقال: «كيف أدخُل وفي بيتك سِتْرٌ فيه تصاوير؟ فإما أن تُقطع رءوسُها أو تُجعل بساطًا يُوطأ؛ فإنا مَعشرَ الملائكة لا ندخُل بيتًا فيه تصاوير.» (النسائي).

  • (٤)

    عن زيدِ بن خالدٍ أن طلحة حدَّثه أن النبي — — قال: «لا تدخُل الملائكة بيتًا فيه صورة.» قال بُسْر: فمَرِض زيدُ بن خالد فعُدناه، فإذا نحن في بيته بسترٍ فيه تصاوير، فقلتُ لعبيد الله الخولاني: «ألم يحدِّثنا في التصاوير؟» فقال: «إلا رقمٌ في ثوب، ألا سَمعتَه؟» قلتُ: «لا»، قال: «بلى قد ذكَره» (البخاري).

  • (٥)

    عن رسول الله — — قال: «إن في الجنة سوقًا ما فيها بيعٌ ولا شراءٌ إلا الصور من الرجال والنساء، فإذا اشتهَى الرجل صورة دخل فيها، وإن فيها لمجتمَع الحور العين يرفَعن بأصواتٍ لم تسمع الخلائقُ مثلها، يقُلن نحن الخالداتُ فلا نبيد، ونحن الناعماتُ فلا نَبْؤُس، ونحن الراضياتُ فلا نسخَط، فطوبى لمن كان لنا وكُنا له» (الترمذي).

•••

تنتمي الملائكة إلى عالمٍ عُلويٍّ مُفارِق. إنها كائناتٌ نورانيةٌ أطاعت ربَّها طاعةً تامةً بسجودها لآدم، وهي بذلك خيرٌ مطلَق، وتحمل هذه الصفة حيثما حلَّت وارتحلَت. وأن ترفُض الملائكة الدخولَ إلى فضاءٍ معيَّن يعني أن هذا الأخير مدنَّسٌ أو قابلٌ لذلك (لنتذكَّر أنها لا تدخُل الحمامَ وبيتَ الطهارة). والدنَس مرتبط بهذا الشكل أو ذاك بحضورِ الشيطانِ أو حضورِ فِعلِه. وبما أن الصور ترتبط في العالَم العُلوي بالفعل الإلهي وفي الأرض بالفعل الشيطاني، كما يؤكِّد على ذلك تاريخ الأنبياء.١١ فإن وقوفَ الملَك على العتَبة هو أساسًا دعوةٌ إلى تطهير فضاءِ البيت من كل عملٍ يرتبط بالشيطان وباللعنة، لكن لِمَ يرتبطُ الكلبُ ها هنا بالصورة؟ (انظر الحديث رقم ١).

لنُلاحِظ قبل محاولة فهم هذه العلاقة أن الحديث الأول يربط ربطًا جدليًّا بينهما في فضاء البيت لكونهِما يُشكِّلان عنصرَين من عناصره؛ الصورة للزينة والكلب لحراسة البيت، إلا أن ذاك الترابط ناتجٌ عن حدثَين منفصلَين في الحكاية متلائمَين في طريقة وقوعها، ولو أن ما يفصل بين الحديث الأول والحديثَين الآخرَين صيغة الكلام؛ فالأول يجعل الكلام مباشرةً للنبي ، بينما تُمكِّن الحكاية في الثاني والثالث من عرضٍ لمشهَد إعطاء الكلمة للملَك جبريل كي يُعبِّر مباشرةً عن موقف الملائكة من الصورة في فضاء البيت.

لقد كان إبليس أصلًا ملَكًا. ومن صفات الملائكة التصوُّر بالصور التي تُمكِّنها من القيام بمهامها. وكذلك الأمر بالنسبة للشيطان؛ فقد أجمع الإسلاميون على قدرته على التشكُّل١٢ في صورة إنسان أو حيوان. ومن ضمن هذه الصور الكلب، الأسود منه بالأخص؛ فالكلب في هذه الحالة استدعاءٌ لصورة الشيطان بقذارته. وحيثما وُجد الكلب إذن (كصورة من الصور المُمكِنة للشيطان) يغيب الملَك؛ ذلك أن هذا الأخير يتطابق في نورانيته مع كل ما هو جميل وطاهر. وبما أن قذارة الكلب جعلَته صورةً لقبح وبشاعة الشيطان، فإن الصورةَ كفعلٍ من أفعال المحاكاة الإنسانية للطبيعي تُضفِي على فضاء البيت البشاعة والقذارة الرمزية لما هو كاذبٌ ومصطنعٌ وغير حقيقي. بيد أن ما يفسِّر ذلك التطابُق بين الكلب والشيطان هو كون الكلب (كما جاء لدى الجاحظ) حيوانٌ هجين بين السبع والبهيمة، وهو ما يبرِّر مرةً أخرى وقوفَ جبريل عند العتَبة.
إلا أن الحديث الثالث يدعونا إلى فعلٍ قادرٍ على الإبطال الرمزي للمفعول الشيطاني للصورة. فما يمنَح الصورة المجسمة وجودَها وهُويتَها هو وجهُها. ووجهُ الشيء عينُه وجوهرُه، أو كما يُعرِّف ذلك لسان العرب، وكما يشير إلى ذلك الحديثُ النبوي هو صورته؛١٣ لذلك يطالب جبريلُ النبي — — بقطعِ رأسِ الصورة لإبطالِ هُويتها، وذلك بوضع صبغٍ يُغطِّي موضع الرأس، حتى تظل الصورة مجرد جثة صورة بدون رأس يُعيِّنها، وحتى لا تُحيل ولا تدُل بذلك على شخصٍ أو شخصيةٍ معيَّنة. بقَطْع الرأسِ إذن تُفصل الصورة عن معناها الواقعي والرمزي وتُشوَّه وتُقتَل؛ فالفصل بين رأس الصورة وجسَدها فصلٌ رمزي أيضًا بين عقل الصورة وبدَنها.
وللإنسان الاختيار بين عملية القطع الرمزي هذه وبين نقل الصورة من عَموديتها إلى أفُقيَّتها. إن استواء الصورة عموديًّا يجعلُها مقابلةً لبصَره ومَحَطًّا له؛ ومن ثَم مدعاةً للتأثير والفتنة، كما عبَّر عن ذلك الرسولُ بنفسه. فالعين مَعْبَرٌ أساسٌ لكل ما له علاقةٌ بالإغراء والفِتْنة؛ ولذلك ألحَّت النصوصُ الإسلاميةُ دومًا على غضِّ البصر إزاء ما يدعو لذلك. إضافةً إلى ذلك، فإن هذا التموقُع الفضائي للصورة عموديًّا بفَتحِها تجاه القداسة والتعالي كما يوضِّح ذلك جلبير دوران١٤ في كتابه عن البِنْيات الأنثربولوجية للمتخيل؛ لذا فإنَّ وطء الصورة يمكِّن من جهةٍ من تفَادي القَطع الرمزي للرأس، ومن نَقْلها إلى الفضاء الأفقي للبيت، وتحرير العين منها من جهةٍ ثانية، ومن الحفاظِ عليها كزينةٍ عادية ضمنَ ما يُداس ويُمتَهن ويُوطَأ من ناحيةٍ ثالثة. تغدو الصورة إذن في عموديَّتها جثةً غير متحدِّدة المَعالِم ومجهولة الهُوية، وفي أفقيَّتها مجرَّد بساطٍ جميل، لكنه جمالٌ يُداس دَوْسًا.

يفتَحُنا الحديثُ الرابع على تمييزٍ آخَر لا يتمثَّل هذه المرة في شكل الصورة أو موقعها، وإنما في نوعها. فأن تكونَ الصورةُ رقمًا (كتابة أو تخطيطًا تجريديًّا) غيرَ تجسيديٍّ أو تشخيصي يُحوِّل طبيعة التعامل معها (قبولها أو رفضها). وإن كانت الأحاديثُ السابقة تقبَل الصورةَ التشخيصية عَبْر شَرط لا تحدُّدها وموقعها الأفقي، فإن هذا الحديث يقبَل وبدون شرط، الصورة الكتابية غير التشخيصية. إن ذلك يعني أن الكتابة صورةٌ أيضًا، أو نوعٌ من أنواع التصاوير ينضافُ للصورة التشخيصية والأعلام، وأن الصورةَ اسمُ نوعٍ شامل يفترض عند الحديث عنها التخصيص والتعيين.

إن الحرفَ المخطوط صورةٌ للسان؛ فهو جسده وهيئتُه. وبالرغم من هذا التمييز الكوني١٥ بين الصوت والرسم المكتوب في نسَق اللغة، والذي أعطى الحُظْوة دائمًا للصوت، وجعَل الكتابة مجرد زينةٍ مُكررةٍ له، فإن القبول بصورة الكتابة، كزينةٍ جمالية تصويرية داخل فضاء البيت، ينبُع أساسًا من أن المخطوط يحرِّر دلالاتٍ ومعاني تسكُن داخل قُدسيَّة الكلام العربي، وأنه قابلٌ لذلك لأن يُمنَح أهميةً نابعة من أهمية الكلام في مركزيَّته المعقولة والمقدَّسة.

أما الحديث الخامس، فإنه يُدخِلنا في تجربةٍ توقُّعيةٍ مغايرة، وفي عتبةٍ من نوعٍ آخر؛ إذ بين الدنيا والآخرة أيضًا عتَبة، إنها الممَر الذي يُسمِّيه الصوفية بَرْزخًا، والذي تساءل بخُصوصه الفقهاء، وتجادل بصدده المتكلِّمة. وبما أن الحياة الدنيا مُجاورةٌ للحواسِّ والغرائزِ وصراعٌ ضدَّها وفرزٌ تجريبيٌّ لأنواع السلوك (الخيرة/الشريرة)، فإن التصوُّر الإسلامي للكون قد جعل من ثنائية الدنيا/الآخرة إحدى الثنائيات المركزية التي عنها تتفرَّع الثنائيات الحياتية والوجودية الأخرى. فالآخرة، كما جاء في النص القرآني وكما صوَّرَتها كتاباتُ الإسلاميين، كمالٌ مطلَق وتعويضٌ عينيٌّ وخارق عما ينقُص حياة المؤمن في الأرض.

بهذا المعنى، يُكافَأ المؤمن مقابلَ تحصين فَرْجه في الدنيا بمعاشرة ما يحلُو له من الحور العين في الآخرة، كما يُكافَأ مقابلَ رفضِه التصويرَ والخضوعَ لفتنة الصورة بالتمتُّع بجمالية الصورة وتحقيق «شهوته» فيها ومنها. إن الصورةَ في الآخرة فتنةٌ غريزية (وإنَّ فيها لمجتمع الحور العين …) وشهوانيةٌ جنسية. والمؤمن مطالَب، إن هو رَغِب فيها؛ أي ممارسة نكاحٍ فعليٍّ معها — داخلها — يعوِّضه عن كلِّ الإثارات التي قمعَها تجاههَا في دنياه. والصورة في الآخرة؛ لذلك، صورةٌ مُتحرِّكة، ناطقة (طوبى لمن كان لنا وكُنا له).

إن سوق الصور في الجنة سوقٌ للرغبة، خاضعٌ للشهوة وتحقيق نوازعها. وهو يحقِّق للمؤمن ما عجز عنه أيضًا في الدنيا؛ أي منح الحياة للصورة، وما عاشه فيها على سبيل الخيال والتوهُّم. إن علاقتَه بالصورة في الجنة علاقةٌ خاضعة لطراوة الرغبة وعُنفوان الحواس، وواقعية اللذَّة، واستمراريتها، وخلودها زمنًا وفضاء. وهنا لا مجال لحضور أي عتبةٍ من أي شكل؛ لأن العتبةَ ترتبطُ بفضاءٍ مغلَق (هو البيت كما في الحديث ٢ و٣) أما السوق ففضاءٌ مفتوحٌ وجماعي.

(٤) المرأة والصورة والوسادة

الأحاديث

  • (١)

    حدَّثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالكٌ عن نافعٍ عن القاسم بن محمد عن عائشة أم المؤمنين — رضي الله عنها — أنها أخبرَتْه أنها اشترت نُمرُقةً فيها تصاوير، فلما رآها رسولُ الله — — قام على الباب فلم يدخُله، فعرفَت في وجهه الكراهةَ فقالت له: «يا رسول الله أتوب إلى الله وإلى رسوله — —، ماذا أذنبتُ؟» فقال رسول الله — —: «إن أصحابَ هذه الصورِ يومَ القيامة يعذَّبون فيُقال لهم أحيُوا ما خلَقتُم»، وقال: «إن البيتَ الذي فيه الصورُ لا تدخُله الملائكة» (البخاري).

  • (٢)

    عن عائشةَ قالَت: قَدِم رسول الله — — من سفَر، وقد ستَرتُ بقِرامٍ على سهوةٍ لي فيه تصاوير فنَزعَه، وقال: «أشدُّ الناس عذابًا يوم القيامة الذين يُضاهُون بخلقِ الله» (النسائي).

  • (٣)

    عن عائشة قالت: خرَج رسول الله — — خرجةً ثم دخل، وقد علَّقتُ قِرامًا فيه الخيلُ أولاتُ الأجنحة، قالت: فلمَّا رآه، قال: «انزعيه» (ابن ماجه).

  • (٤)

    عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت اتخذَت على سهوةٍ لها سترًا فيه تماثيلُ فهتَكَه النبي — — فاتخذَت منه نُمرُقتَين (وسادتَين)، فكانتا في البيت يَجلسُ عليهما (البخاري).

  • (٥)

    عن عائشة زوج النبي — — قالت: كان لنا سِترٌ فيه تماثيلُ طيرٍ مستقبل البيت، إذا دخل الداخل، فقال رسول الله — —: «يا عائشة حوِّليه؛ فإني كلما دخلتُ فرأيتُه ذكرتُ الدنيا.» فقالت: وكان لنا قطيفةٌ لها علَم، فكُنا نلبَسُها فلَم نقطَعه (النسائي).

لكل حديثٍ نبوي حكايتُه، وحكاية الوسادة ذات التصاوير تختلف من روايةٍ إلى أخرى، فالحديث الأول يتحدَّث عن الوسادة جاهزة مصنوعة. بينما لا يُشير إليها الحديثُ الثاني والثالث والخامس، أما الحديث الرابع فإنه يُقدِّم لنا الحكايةَ كاملةً من وقوع نظَر الرسول على السِّتر إلى هَتكِه إلى تَحويلِ عائشةَ له إلى نُمرُقتَين (وسادتَين) إلى جلوسِ النبي عليهما.

يؤكِّد الحديثان الأول والثاني على عذاب المصوِّرين يوم القيامة باعتبارهم يصنعون صورًا جوفاء هم عاجزون أصلًا عن نفخ الروح فيها. إن عذابَهم ذاك ناتجٌ أصلًا عن محاكاتهم لفعلٍ إلهي حَصْرًا، يكمُن في الخَلْق والتصوير. هذه المحاكاة لا تتَجاوَز كونَها كذلك؛ لأنها تظل محكومةً بالنقصِ الذي يعتوِرُها. إنها تخرقُ التراتُبية العمودية التي تحكُم الكون، والتي تجعل من الكائن الإنساني كائنًا يعيش الوَهْم والتصوُّر كحقيقةٍ زائفةٍ تُمكِّنه من اعتبارِ فعل التصوير عمليةَ خلقٍ وإبداعٍ إنساني، إلا أن الصورة المصنوعة تتحوَّل بفِعل الخيال والوَهْم الذي يُحاط بها إلى كائنٍ مُستقلٍّ عن صانعها؛ لأنها تَنسَى للتوِّ مرجعَها ومصدرَها وأنموذجَها، وتتحكَّم بهذه الاستقلالية في خيال الكائن البشري عَبْر الآثار والإيحاءات والفتنة التي تُمارِسُها عليه. وكأن الإنسان، إضافةً إلى عجزه عن تحويل المصطنع إلى كيانٍ حي (عَبْر نَفخِ الروح فيه)، يُضاعفُ عَجزَه ذاك بعجزه عن ضَبطِ كل تلك الآثار والتحكُّم فيها. وبما أن الفتنة التي تتحدَّث عنها الأحاديث١٦ تأخُذ طابعًا رمزيًّا، فإنها تتناسَق وتتعاضَد مع كل عناصر النظام الرمزي الذي يُشكِّل الخلفية المرجعية للممارَسة الإنسانية. فتَغْدو الصورة لذلك ذاتَ أثَرٍ قدَاسي بعد أن كانت وسيطًا، ومدعاةً لطقوسٍ عقائدية تحوِّلها من مجرد صورةٍ مصطنَعة إلى منبعٍ للتعبُّد والتقديس.
يشير الحديث الثالث إلى علاقة الصورة بالخيال (خيول ذوات أجنحة). إن المُجنحات كائناتٌ تنتمي للمتخيل الإنساني، وهي من ثَم تنتمي، في طابعها الهجين ذاك، إلى كل ما هو عموديٌّ وعلويٌّ ومُتسامٍ؛١٧ أي إلى ما يتجاوز إرغامات الفضاء والزمن. والملائكة نفسها قد تمَّ تصوُّرها، سواء في المسيحية أو الإسلام. ككائناتٍ مُجنحة. تَستحضِر الصورة، التي جاءت في الحديث، كائناتٍ علوية لا مرئية ولا واقعية ولا تنتمي للبشري إلا على سبيل الرؤيا. وهي بذلك تَكشِف للعين ما لا ينكشِف لها، وتَمنَح للخيال والمتخيل شكلًا قابلًا للرؤية والمعاينة. والصورة تأخذُ أهميتَها وخطورتَها من قُدرتها الفائقة على تمثيل المرئي، الواقعي والخيالي المُفارِق. لكن حين نزع ذلك القِرام، أين تمَّ وضعُه؟ ولماذا لَم يهتِكه الرسولُ كما عوَّدَتنا على ذلك الأحاديثُ الأخرى؟

وبينما يؤكِّد الحديثُ الرابع موقفَ الرسول من الصور المعروضة والمقابِلة للعين والنظر (وهو ما يبرِّر فعل الهَتْك باعتباره عنفًا موجهًا ضد الصورة المعروفة لا ضد الثوب في ذاته)، فهو من جهةٍ ثانية، يُثبِت ما جاء في الحديث الثالث من المجموعة السابقة؛ أعني ضرورة وطء الصورة، وتحرير العين منها؛ ذلك أن تَركَها في مَوضِعها ذاك يحوِّلها — كما سبق الذِّكر — إلى جماليةٍ بصرية وإلى بعدٍ رمزي قابل للمتعة والتفكُّر. وكلُّ متعة (إن لم تكن محكومةً بالشرع) فتنة، وكلُّ فتنةٍ ضلالة …

إن قبول الصورة في فضاء البيت — كما يتوضح لحد الآن — رهين بمجموعة من الوسائط التي تُمكِّن من إبطال مفعولها التأثيري والرمزي؛ الهتك – النزع والإزاحة من أمام البصر – الطعن والتهشيم والتشويه (بخصوص التصاليب والأصنام) – قطع الرأس – الوطء … إلخ.

يُشير الحديثُ الخامس إلى أن الصورة ترتبط بالحسي والمحسوس؛ إذ هي إقرارٌ بالمرئي (وكل مرئيٍّ دنيوي)، وإثباتٌ له في الزمن والفضاء. بهذا المعنى تكون الصورة في جماليتها وتخييليتها تعضيدًا للدنيوي، ولحضوره إلى الحواس، وتهميشًا للامرئي، ولما لا يقبل أبدًا التصوير وإنما فقط التصوُّر. إنها واقعٌ ثانٍ يُخالِف الأصل، لكنه يلتصق بمدلولاته. هذه الحركة المزدوجة هي ما يميِّز الصورة؛ فهي تَطمِس المرجع، وتحافظ على مدلول هو بدَوره دالٌّ لمدلول هو العالم الخفي الذي يتحكَّم في الكون، ويُدير دفَّتَه. وهذا التضعيف والوساطة المزدوجة هي ما يجعل، بل ما يدفع بالمؤمن إلى أن يستهدف لا الدالَّ الصوري ولا مدلولَه الدنيوي المباشر، وإنما المرجع الأسمى الخفي الذي يكمُن وراء كل هذه العملية. إن الصورة مطالَبة بأن تُزاح من مكانها كي لا تحجُب عن المؤمن ما يكمُن وراء الوجود الإنساني بكامله. وباعتبارها حجابًا فهي تفترضُ هتكَها كي تتسلَّل من ورائها حقيقة الوجود وحقيقة القوة الكامنة وراءه.

ولنتساءل الآن: لِمَ لَمْ تقطع نساءُ النبي القطيفةَ المزركشة (ذات الأعلام)؟ هل لكون الزركشة عناصر تجريدية غير تمثيلية ولا تشخيصية شأنها شأن الكتاب (انظر الحديث ٤ من المجموعة الأولى)؟ أم لارتباط الزركَشَة وجمالها التجريدي بالزينة، وارتباط المرأة بكلِّ ما هو تجميلٌ لفَضائها الذاتي والموضعي؟

يبدو أن الصورة في طابعها الزُّخرفي التزييني لها ارتباطٌ عميق بالمرأة (يؤكِّد ذلك أن أغلبَ الأحاديثِ المتعلِّقة بالصورة مرويةٌ عن عائشة رضي الله عنها)، وهو ارتباطٌ جعلنا نَدين بتجويز الصورة، وحضورِها لنساء النبي، وبدخول الملائكة البيتَ الذي تُوجَد فيه الصور لهن أيضًا. إن ارتباط المرأة بالصورة يبدو هنا ارتباطًا وجوديًّا، سابقًا على كل ما من شأنه أن يمنَح للصورة وجودَها أو عدمَه؛ إذ الدلالات الجمالية والرمزية للصورة لا يُمكِنها أن تُوجَد بعضُها بدون البعض.

(٥) المسجد والقصر: فضاءاتٌ لجمالية الصورة

(الصورة في الإسلام التاريخي)
يبدو أن التاريخ الإسلامي اللاحق على الدعوة لم يُولِ كبيرَ عنايةٍ شرعية لمشكلة التصوير؛ بحيث إن القصور والمنشآت التي بُنيَت على عهد الأُمويِّين حفلَت بمختلف أشكال الرسوم والمنحوتات والصور التي لم تقتصر على مكوِّناتٍ طبيعية وحيوانية، بل تعدَّتها إلى المُجسمات الإنسانية. ولم تقتصر هذه المناظرُ التشكيلية والتصويرية على المنشآت الخصوصية، وقصور الأمراء والأعيان والخلفاء، بل تعدَّتها إلى المؤسَّسات العامة والمساجد؛ ففي مسجد دمشق (وقبله مسجد قبة الصخرة) الذي بُني على أنقاضِ كنيسةٍ شرقية، وفي جناحه الشرقي بالضبط تُوجَد صورةٌ فسيفسائية لمنظرٍ حضَري مُشجَّر يُمثِّل النموذج الفاضل للمدينة الإسلامية.١٨

وفي «قصر الحمراء»، الذي اكتُشفَت آثارُه مؤخرًا، يُمكِن معاينة التراكُم التشكيلي الذي خصَّ به الأُمويون فضاءاتهم الداخلية، ومن ضِمنِها تشكيلٌ لجسد امرأةٍ ضمن محيطٍ حضَري إضافةً إلى صورةٍ واقفة للخليفة هشام. أما في «خربة المفجر» فقد عثرَت الحفريات، من ضمن ما عُثِر عليه، على تمثال راقصةٍ نصفِ عارية ورسم صواني للوليد الثاني. وبينما يحتوي قصريُ الحمراء على رسومٍ جدارية ومشاهدَ للصيد، يحبل «قصر الخير الغربي» بصنوفِ الشخصيات الحيوانية كاللقلق والثعلب والغزال ومالك الحزين والخروف والجمل والقرد الراقص والدب الموسيقي، فضلًا عن صور للذكور والإناث متحرِّكة أو ثابتة.

إن إشارتَنا المقتضبة لهذه السمات والعناصر لا تكفي لسردها بقَدْر ما تؤكِّد ولع الأمويين البيِّن بالتمثيلات المشخصة، والتي جعلَت من مآثرهم مرتعًا لكل أنواع التصوير الفني (التشخيصي منه بالخصوص).١٩ وهو واقعٌ يبيِّن إلى أي حدٍّ دخلَت الصورة التشخيصية كمُكوِّنٍ أساسٍ في التصوُّر الجمالي الإسلامي للفضاء. وكأن هذا الولَع بالصورة قد ارتبط بشكلٍ واضح بالنقلة الحضارية النوعية التي تحقَّقَت في المجتمع الإسلامي، اللاحق على حُكم الخلفاء الراشدين، والتي جعلَت التداخل الثقافي والحضاري الإسلامي يمزجُ بين كل العاصر الوافدة عليه (سواء كانت ذات أصولٍ بيزنطية أو ساسانية أو فارسية).٢٠ إن هذه الهُجْنة هي التي أكسبَت الحضارةَ الوليدةَ طابَع التفاعُل المُنتِج بكل مفارقاته ومستتْبَعاته، وهي مفارقات سوف تتقلَّص لاحقًا كي يغدو التصوير الإسلامي أكثر تركيزًا على العناصر والمكوِّنات غير التشخيصية، وكي يتجاوزَ بشكلٍ واضح التعارُض المُفترَض بين التجسيمي والتجريدي.٢١

من ناحيةٍ أخرى، وبالرغم من الجدالات التي تعلَّقَت بالصورة والتصوير تفسيرًا وفقهًا وكلامًا، أدَّى ذاك التفاعُل إلى ولادة حساسيةٍ جديدة تجاه الصورة تعترف بجماليتها، أو على الأقل تقبل ضمنيًّا بمُتخيلها.

لنلاحظ هذا الإعجاب بالصورة، مثلًا لدى مؤرِّخٍ مثل المسعودي وهو يتحدث عن المنجَزات التاريخية للروم: «ولهم الأرغن، وفيهم الطب والحكمة وعمل الصناعات والحذق بالصور، حتى إنهم ليُصوِّرون صورًا يظهَر عليها الحزن، وأخرى يظهَر عليها الفرَح والسرور، ويُسمَّى ملكهم الملِك الرحيم، ويظر العدل والإنصاف وهو ينُوح.»٢٢ ولا تزيد لهجتُه المُنبهِرة سوى حدَّةٍ عند حديثه عن مصر وملوكها: «وولَّدوا الأشكال الناطقة، وصوَّروا الصور المتحرِّكة، وبنَوا العالي من البنيان … وعجائبُهم ظاهرة، وحكمتُهم واضحة.»٢٣

(٦) الخط العربي: جسد اللغة وصورتها

إذا كنا في تحليلنا للأحاديث الخاصة بالصورة المرقومة قد انطلَقنا من قدسية اللغة، فلأن العربية لغةُ آدم في الجنة، وإن كانت لغته في الأرض السريانية. وكأننا بذلك أمام لغتَين؛ واحدة للتواصل الإنساني تكون تاريخية، وأخرى للتواصل الأخروي وتكون خالدةً ولا زمنية.

إن تأخُّر نشوءِ فنِّ خطٍّ عربي ناتجٌ عن تلك الحظوة اللاهوتية التي كان يكتَسِبها المنطوق والصوتي، والتي سادت سواء عند اللغويين العرب أو الفقهاء؛ فحَدُّ اللغة كما عَرفَها العرب وكما لخَّصَ ذلك ابنُ جني أصواتٌ يتعارف بها القوم فيما بينهم ويتواصَلون؛ لذا، وانطلاقًا من هذه المركزية الصوتية، حظي الذِّكر وتجميلُ الصوت في الذِّكر بوصية الفقهاء المسلمين تعبيرًا عن ارتباط النص القرآني «بالجوهر الصوتي» للغة التَّرداد والقراءة.

وبالرغم من هامشية الحرف المكتوب داخل المنظومة الفكرية الإسلامية، فإن الصوفية وبعض المفكِّرين الإسلاميين منَحوه بعض الأهمية إلى درجة أن بعضَهم جعل الحروف كائناتٍ روحانيةً خلَق الله الملائكة على عدَدها، فكان الألف أوَّل الحروف التي سجدَت لآدم، فجعلَه الله الحرف الأول بامتياز.٢٤ إن هذه القيمة التي حظي بها الحرف المكتوب اكتساها أيضًا من قدسية الحروف البَدْئية في بعض السور القرآنية، ومن التأويل الصوفي للحروف والكتابة. إن تلك الحروف الساهرة على فضاء السورة القرآنية تختزل بشكلٍ واضح وتؤشِّر للأهمية التي ستأخُذها الحروفُ سواء في بِنْيتها الرمزية أو في الممارَسة التخطيطية اللاحقة.

وبالرغم من أن المكتوب لا يُضاهي الصوتي، إلا أن ارتباطهما معًا بقدسية النصوص المرجعية الإسلامية وبقدسية أسماء الله الحسنى، وأهمية بعض الجمل في الممارَسة اليومية للمؤمن (الشهادة، التكبيرة …) جعل الخطَّاط العربي يعبِّر عن ذلك الارتباط (ويخرقُه في الآنِ نفسِه) عَبْر جمالية الخط وجلال الصورة المكتوبة.

لقد غدَت الحروف في ريشة الخطَّاط العربي صورًا متحركة تُضيف من معانيها الجمالية إلى دلالاتِ اللغة والتركيب، بل إن اللغة العربية في جماليتها التصويرية قد صاحبَت هذا التطوُّر العام لفن الخط العربي، الذي كان بدَوره شكلًا من أشكال توسُّع الفنون الزخرفية. وكأن الخط قد غامَر وأغرَق في التصوير ليُثبِت إمكانيةَ الرسم الخطي على الاستقلال (ولو النسبي) عن سلطة الصوت والمعنى، وليُضاهي بفتنَته تلك فتنةَ الصورة التجسيمية، إلا أنها على كل حالٍ فتنةٌ قدسيةٌ تحميها قداسةُ اللغة والحرف العربي. وغدَا جمالُ الصورة المكتوبة معادلًا لجمال جسد الحروف، وهي تتشابَك وتتداخَل في لعبةٍ هندسية، مقترحةً على العين إمكانيةً أخرى للتعامل مع اللغة وقراءتها. ولم تكن إنجازاتُ ابن البواب وابن مقلة وياقوت المستعصمي٢٥ وغيرِهم لتقلَّ إبداعيةً وجماليةً عن الزخارفِ الجدارية والتصويراتِ التي تطوَّرَت في القرنَين الثالث والرابع الهجري.

وقد وعَى العرب بعلاقة الخط بالتصوير؛ إذ يقول ابن البواب بهذا الصدد:

يا مَن يُريدُ إجادةَ التحريرِ
ويَرومُ حُسنَ الخط والتصويرِ

ويقول ابن المعتز في قلم الوزير القاسم بن عبيد الله:

نقَشَتْ في الدُّجى نهارًا فما أدْ
رِي أخطٌّ فيهنَّ أم تصويرُ

بل إن الحروف، بالإضافة إلى دلالاتها لدى الصوفية، قد كانت تدُل على صورٍ معيَّنة؛ فالخليل بن أحمد الفراهيدي يقول في كتاب «الحروف» بأن الألف هو الرجلُ الحقيرُ الضعيف، وقيل هو السخيُّ والفرد في الفضائل، والباء هو الرجل الكثير الجماع، وما إلى ذلك.

لقد تصاحَب الخط العربي أيضًا مع الظهور المتأخِّر لفن المنمنمات التي وجَدَت إلى جانبِ جمالِ الخط فضاءً مضاعفًا للتجسيد؛ فقد منَح الواسطي (ق.٧ﻫ)٢٦ للمشاهد الواقعية والعجيبة من مقامات الحريري تمثيلاتٍ صوريةً من الروعة؛ بحيث تترابط فيها الصورةُ الذهنية للقراءة مع جمالية الخط مع الصورة التشكيلية في دعوةٍ لقراءةٍ بصرية متعدِّدة في الوسائط مُتضامِنة في متعة المتخيل القصصي.

(٧) الصورة والخيال والحقيقة الصوفية

ينهض التصوُّر الإسلامي للوجود على مجموعةٍ من الثنائيات المؤسسة التي تجعل المفارَقة واضحةً بين الإلهي والإنساني، وبين الحقيقة والخيال، وبين المنزَّه والمجسَّم، والمرئي واللامرئي … إلخ، إلا أن هذه الثنائيات الصارمة قد خضَعَت بدَورها للتأويل في الفكر الإسلامي اللاحق، مانحةً لها بذلك، سواء باتباع النظر الفلسفي أو الصوفي الكلامي، مصداقيةً عقلية، أو مفكِّكة لعنادها بالتخييل الباطني. وليس يهمُّنا هنا سوى الطريقة التي نظَّر بها المتصوفة، وابن عربي أساسًا، للصورة والشكل الذي به نَظَّر لها في نسيج تصوره.

لقد عبَّر الكلاباذي٢٧ في كتاب «التعرُّف إلى مذهب أهل التصوُّف» عن رأي المتصوفة في الصفات بما يلي: «إنه لا يجوز أن يحدث لله تعالى صفة لم يستحقَّها فيما لم يزل. إنه لم يستحقَّ اسم الخالق لخلقه الخلق، ولا لإحداث البرايا استحق اسم البارئ، ولا بتصويرِ الصور استحق اسم المصوِّر. ولو كان كذلك لكان ناقصًا فيما لم يزَل، وتَم بالخلق. تعالى الله — عن ذلك — علوًّا كبيرًا.» إن تنزيهًا من هذا النوع يتجاوَز بكثيرٍ تنزيه المعتزلة، ويخلُق مشكلةً أمام اللغة التي بها يتمُّ إدراك الذات الإلهية. وإذا نحن قارنَّا بين ما جاء في الحديث حول مضاهاة المصوِّر للذات الإلهية بفعل التصوير مع ما جاء به الكلاباذي، يبدو لنا أن الله — تعالى — أكبرُ من أن يُضاهى؛ لأن فعل التصوير لا يدلِّل على كماله، ولأن كمال ذاته قائمٌ خارج فعل التصوير والخلق، ويتجاوز إشكالات المفارَقة بين المرئي واللامرئي. لقد لجأ المتصوِّفة إلى خلق علاقةٍ باطنة بين المتعالي مطلقًا وبين الذات الصوفية العارفة؛ وذلك عَبْر مد الجسور بينهما بشكلٍ يمكن معه الحوارُ خارج أي حدودٍ فاصلة ممكِنة. وكانت المرآة والرؤيا والخيال الوسائط الوجودية التي عَبْرها استطاع ابن عربي صياغةَ إمكانية هذه التجربة في طابعها الكشفي الاستبطاني.
تبعًا لذلك، يغدو العالم بالنسبة لابن عربي مرآةً كبرى عاكسة لعظمة الذات الإلهية؛ ففيها تنعكس أسماؤه بالشكلِ نفسِه الذي يغدو الحقُّ بدوره مرآةً تنعكس فيها الموجودات. هذه العلاقة المرآوية تجعل العلاقة بين الحق والكائن علاقة خيالٍ بخيال يرتبطان جدليًّا في وجودهما الواحد بالآخر، في تجربةِ رؤيةٍ لا ككل الرؤى. يقول ابن عربي في الفتوحات المكية: «فهو مرآتُك في رؤيتك نفسك، وأنت مرآتُه في رؤيته أسماءه وظهور أحكامها.»٢٨ إن العلاقة بين العُلوي والكائن الدنيوي تغدو بهذا المعنى علاقة بين مرايا تُضعِّف إحداهما الأخرى، وتكشف إحداهما في الأخرى عمقها. ولأن المرآة فضاءٌ للصورة أصلًا، تتشكَّل بشكلها وتترامى في سطحها، فإن ابن عربي يقيم تمييزًا بين الشكل (وهو ما يقابل في تحليلنا الصورة) وبين الصورة. يوضِّح أحد قُراء ابن عربي هذا التميز قائلًا: «لا ينبغي أن نخلط بين مفهوم الشكل الوجودي وبين الصورة المرآوية؛ فالشكل يعطي الهيئةَ الموضوعية للكائن، أما الصورةُ فهي ما تستبطنه الذاتُ العارفة من أثَر ذلك الشكل.»٢٩
إن المرآة التي يتحدث عنها ابن عربي مرآةٌ خيالية داخلية، والصور التي تستقبلها أو تولِّدها وتصوغُها ليست بأقلَّ خيالية. إنها مرآةٌ معرفيةٌ كونية تمنح للخيال قوةً أنطولوجيةً كونية، عَبْرها تستطيع ذات المتصوِّف اكتشافَ مسارب الوجود في تعدُّده وغَور معانيه. وهي من ثَم مرآةٌ تُولِّد المعاني وتركِّب بينها تحت إشراف قوةٍ حقيقية هي الخيال. إن هذا الأخير يغدو المَعْبر الأساس لتجاوز محدودية المعرفة البشرية الظاهرية؛ فهو الذي «يصوِّر الحق»؛ ولذا فهو «أحقُّ باسم النور من جميع المخلوقات الموصوفة بالنورانية؛ فنوره لا يشبه الأنوار، وبه تُدرك التجليات، وهو نورُ عين الخيال لا نور عين الحس.»٣٠ وبما أن الفكر العالمي في كلِّياته عوَّدنا على الربط بين النور والحقيقة، فإن الخيال عند ابن عربي يغدو المَلَكة التي تؤدي إلى الحقيقة؛ لأنه بدَوره حقيقةٌ تتجاوز واقعية الحسي، وتشتغل في المدى الفاصل، والرابط بين المرئي واللامرئي؛ أي بين الصورة العينية المحسوسة (الشكل) وبين الصورة المتخيَّلة (الصورة). وهو يقول بهذا الصدد: «فلولا أن الشارع علم أن عندك حقيقةً تُسمَّى الخيال لها هذا الحكم لما قال لك «اعبد الله» كأنك تراه ببصرك.»٣١
يتبدَّى أن الصورة الصوفية ليست نشاطًا بصريًّا بقَدْر ما هي نتاجُ فعل البصيرة والرؤيا. وبما أن الرؤيا لا تخطئ أبدًا كما يخطئ الخيال والصورة،٣٢ فإن الصورة البصرية تغدو من هذا المنظور — كما يؤكِّد ذلك ابن عربي — مجرد دالٍّ يَحْوي بين أحضانه (أي في عينه وجوهره) مدلوله الصوري الفعلي، ذلك الذي يدخل في ارتباطٍ مرآوي مع لغز الكون وحقيقته. إن البصري مجرد إمكانيةٍ ظاهرة (كأنك تراه)، ومجرد تشبيه ومجاز. أما الحقيقة — حقيقة الصورة — فهي ما يُمكِّن من رؤية ما لا يُرى رؤية العين، وإنما عين الرؤية.

الصورة عند ابن عربي إذن حقيقةٌ جوهريةٌ متجاوزة للحضور الحسي للشكل، وبالرغم من أنه لا يغمط حقَّ الحسي في قوله:

الأذن عاشقةٌ والعين عاشقةٌ
شتَّانَ ما بين عِشقِ العَينِ والخبرِ
فالأذنُ تعشَق ما وَهْمي يُصوِّره
والعينُ تعشَق محسوسًا من الصورِ
(…) إلا هوى زينَب فإنه عجبٌ
قد استوى فيه حظُّ السمعِ والبصرِ٣٣

بالرغم من ذلك، فإن الفرق واضحٌ حين يتعلق الأمر لا بصورةٍ حسية، وإنما بصورةٍ يكون مدلولها غيرَ قابلٍ لأية مقارَبةٍ من ذاك النوع. فحين تعجز العين عن رؤية ما ليس محسوسًا، يُمكَّن الخيال وحده — عَبْر تقابل المرايا — من الرؤيا والكشف؛ لذا يتساءل المتصوِّف:

إذا تجلَّى حبيبي
بأي عينٍ أراه؟
بعَينِه لا بعَيني
فما يراهُ سِواه٣٤

يتبدَّى إذن أن الصورة قد وجَدَت لها في الثقافة العربية الإسلامية منافذَ كثيرة، من خط وتصوُّر صوفي وبلاغة وشعر … إلخ. إن هذا يعني أن الصورة التجسيمية لم تُمنع منعًا كليًّا من جهة، وأن ما طُرِد من الباب عاد للولوج من النافذة، من جهةٍ ثانية. بيد أن المشكلة لا تكمُن بالنسبة إلينا في إعادة طرح الإشكالية بالشكل الذي طُرح لدى المستشرقين؛ أي بالمعارضة بين التشخيصي والتجريدي، والبحث عن مشروعية الصورة التجسيمية في الثقافة العربية الإسلامية، بقَدْر ما نُلِح على أن الصورة كلٌّ متعدد ومتكامل الأطراف، وأن وجودها قد اخترق مجالات السلوك الثقافي متنقلًا بين المعقول والمحسوس، وخالقًا مجالاتِ تبلوُره.

وبهذا المعنى يُمكِن القول بأن الممارسة التصويرية قد ظلت تُوازي الكلمة في وظيفتها القداسية، بل تجسد قداستها في التصوير، وأن الإسلام قد بنى تصوُّره للصورة تدريجيًّا، وانطلاقًا من عملٍ تفكيكي تم بموجبه قَبول الصورة الجسمية مجردة من هُويتها (رأسها ووجهها)، والصورة النباتية والطبيعية عمومًا في جزئيتها (الأوراق في الزخارف)، وانطلاقًا من عملٍ شمولي تم بمقتضاه تحويل الخط من وظيفيته الكتابية إلى فن، والزخرفة إلى تصوير.

إن هاتَين العمليتَين تمكِّناننا من الوقوف على نوعية الصراع المكتوم، الذي حبلَت به الممارسة «الفنية»، والسلوك الجمالي الإسلاميان، اللذين خضَعَا لبِنْيات تطوُّر تاريخية وثقافية، وحافَظَا على توازُنٍ خفيٍّ بين هذا التطوُّر الذي منح للتصوير مجالًا أكبر، وبين مقتضيات النصوص التشريعية. هذا التوازن هو الذي لا يزال يتبدى لحد الآن في خلفية فنون الصورة في العالم العربي الحديث والمعاصر، الذي تطوَّرَت فيه فنون «التجريد» أكثر من التشخيص، والتشكيل أكثر من النحت، وغاب فيه فن البورتريه، الذي ظل تقريبًا حكرًا على الصورة الفوتوغرافية، التي لم تغدُ بدَورِها فنًّا معترفًا به إلا في العقود الأخيرة.

كما أن تفحُّصَنا للطرائق التي بها يُشخِّص الفنانون العرب الجسد قمينٌ بأن يؤكِّد لنا ذلك النزوع نحو التركيز على أطرافه، أو في الغالب الأعم تفكيكه وترميزه، وتجهيل رأسه ووجهه.٣٥ هكذا يُحوِّل الفنان الجسد إلى علامةٍ فنية لا هوية لها، ويترك المجال لاشتغالٍ خفي لتلك الإشكالية التي حلَّلناها هنا، أعني مداورة المحظورات التي أحاط بها الإسلام مشكلة الصورة والتصوير.
١  R. Debray, Vie et Mort de l’Image. Une histoire du regard en Occident, Gallimard, Paris, 1993, p. 79-80.
٢  المرجع نفسه، ص٨٢.
٣  تُجمع كتب تفسير الأحلام (ابن سيرين والنابلسي وابن شاهين) على أن رؤية مصور في الحُلْم تعني أن الإنسان يعيش تحت سيطرة الفاسد والخطأ؛ فالصور تجسيدٌ للكذب والاصطناع.
Cf. M. Aziza, L’Image et l’lslam: I’image dans la société arabe contemporaine, A. Michel, Paris, 1978. p, 454.
٤  انظر بهذا الصدد المسألة الخامسة من كتاب «الروح» لابن قيم الجوزية، دار الجيل، بيروت، ١٩٨٨م، ص٥٣ وما يليها.
٥  M. Cheble, Le Corps dans la tradition au Maghreb, Op. Cit., p. 122.
٦  جاء في «قصَص الأنبياء» للثعلَبي ما يؤكِّد فراغ صورة آدمَ قبل أن ينفُخ فيها تعالى من روحه: «ثم ألقاه (الله) على باب الجنة، فكلَّما مَر عليه ملأ من الملائكة عَجِبوا من حُسنِ صُورتِه وطُولِ قامتِه. ولم يكونوا قبلُ رأَوا شيئًا يُشبِهه من الصور، فمَر به إبليس فرآه فقال: لأمرٍ ما خُلِقتَ، ثم ضَربَه بيده، فإذا هو أجوفُ فدَخل في فيه، وخرَج من دبره، وقال لأصحابه الذين معه: هذا خلقٌ أجوفُ لا يثبُت ولا يتماسَك …» «قصص الأنبياء المسمى عرائس المجالس»، المكتبة الثقافية، بيروت، ب.ت، ص٢٣.
٧  انظر الثعلبي، مرجع مذكور، ص٤٤، وما بعدها. وكذا: المسعودي، «أخبار الزمان»، دار الأندلس، بيروت، ب.ت، وخاصة ما وقع لسليمان مع ابنة صيدون، التي صوَّر لها شيطانٌ كان يصحب أباها صورةً لأبيها كانت تعبُدها (ص٥٥)، ولنا في أساف ونائلة نموذجٌ لعبادةِ الخِصْبِ الأول المتمثِّل في الزوجِ النموذجي عند الجاهليين.
٨  إن لعنة الشيطان ضرورية بالنسبة للمؤمن الذي يرغب في التخلص من حضوره ووسوسته، وهي بالتالي ممارَسةٌ يومية ودائبة. أما لعنة المصوِّر فقد جاءت في الحديث كما يلي: «عن عون بن أبي جُحَيفة قال: رأيتُ أبي اشترى حجامًا فسألتُه عن ذلك، فقال: إن رسول الله نهى عن ثمن الدم وثمن الكلب وكسب الأمة، ولعَن الواشمة والمستوشمة وآكل الربا ومُوكِله ولعَن المصوِّر» (رواه البخاري).
٩  M. Arkoun, Pour une critique de la raison islamique, G.P. Maisonneuve et Larose. Paris, 1984, p. 65 et supra.
١٠  بالعودة إلى «لسان العرب» نجد أن كلمة صورة تعني: الوجه، الأعلام والزخرفة، الكتابة الخطية، الوشم، الخيال، الوهم، التماثيل المجسمة، العلامات الرمزية وغير الرمزية، ابن منظور، مادة: صور.
١١  الثعلبي، مرجع مذكور، ص٥٣–٦٣ والمسعودي، مرجع سابق، ص٤٣ وكذا عمر سليمان الأشقر، «عالم الجن والشياطين»، دار الكتب السلفية، القاهرة، دار الجيل، بيروت، ١٩٨٥م، ص٤٢-٥٢ وأبو الحسن الأشعري، «مقالات الإسلاميين»، مرجع مذكور، ص٥١١، وبخصوص الشيطان في صورة كلب، انظر عمر سليمان الأشقر، م.م، ص٥٢، والمسعودي م.م، ص٦٣.
١٢  قدماء ومحدثين، قارن مثلًا بين: عثمان سليمان الأشقر، م.م. وبدر الدين الشبلي الحنفي، «آكام المرجان في أحكام الجان» (منشور تحت عنوان: «غرائب وعجائب الجن») تحقيق: إبراهيم محمد الجمل، مكتبة القرآن، القاهرة، ب.ت.
١٣  «في حديث ابن مقرن: «أما علمتَ أن الصورة محرَّمة؟» أراد بالصورة الوجه وتحريمها المنع من الضَّرب واللَّطم على الوجه. ومنه الحديث: «كره أن تُعلم الصورة أي يجعل في الوجه كيٌّ أو سِمَة».» عن ابن منظور، «لسان العرب»، ص٣٤٧، وهو ما تؤكِّده التجربة الرمزية العالمية التي تعتبر الرأس: قائدًا «للجسد» و«العلامة الدالة على الشخص والملخِّصة له».
١٤  G. Durand, Les Structures anthropologiques de I’imaginaire, Op. Cit..
١٥  لقد تم دائمًا، سواء عند الإغريق أو عند العرب، تحقيرُ الكتابة بالمقارنة مع الكلام، هذا الأخير الذي أخذ أهميَّتَه من علاقتِه بالنفس وبالروح؛ ومن ثَم تمَّ إعلاؤه إلى مرتبة الحقيقة اللغوية الوحيدة. ولقد جاءت أبحاث جاك دريدا لتكشف عن هذا الاعتبار الميتافيزيقي سواء عند أفلاطون أو روسو أو حتى في امتدادته اللسانية المعاصرة (دو صوسور). يلخِّص دريدا هذه الوضعية بقوله: «من البديهي أن بِنْية وتاريخ الكتابة الصوتية قد لَعِبا دورًا حاسمًا في تحديد الكتابة كتضعيفٍ redoublement للعلامة وكعلامةٍ للعلامة؛ أي باعتبارها دالًّا لدالٍّ صوتي. وفي الوقت الذي يظل هذا الأخير مقيمًا في الحضرة الحيوية للذاكرة والروح psyché. يبتعد عنه الدالُّ الخطِّي الذي يقومُ بإعادة إنتاجه أو محاكاته، ليسقُطَ خارجَ الحياة. ويجُر هذه الأخيرةَ معه خارجَ نفسِها ويزجُّ بها في النوم …» J. Derrida, La Dissémination, Seuil,. Paris, 1972, p. 171.
١٦  نقدِّم هنا حديثًا أنموذجيًّا عن فتنة الصورة: عن عائشة أن النبي صلى في خميصةٍ لها أعلام، فنظَر إلى أعلامها نظرة، فلما انصَرَف قال: «اذهَبوا بخميصَتي هذه إلى أبي جهم وآتوني بأنبجانية أبي جهم، فإنها ألهَتْني آنفًا عن صلاتي»، وقال هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، قال النبي : «كنت أنظُر إلى علَمها وأنا في الصلاة فأخاف أن تفتِنَني» (رواه البخاري).
١٧  «الجناح هو الأداة المُثلَى المؤدِّية إلى التعالي»، ج دوران، مرجع سابق، ص٤٤١.
١٨  Larnbert, L’Art musulman, SDE, Paris, 1966, p. 35.
١٩  المرجع نفسه، ص٥١.
٢٠  G. Marçais, L’Art musulman, PUF, 1981, p. 1.
٢١  انظر محمد عزيزة، مرجع مذكور، ص٣٣، وكذا: A. Khatibi, M. Sijilmassi, La Calligraphie arabe, éd. Chêne, 1976, p. 28.
وهم يؤكِّدون جميعًا أن الخط لم يأتِ كتعويضٍ تجريدي عما سُمي بتحريم الصورة في الإسلام.
٢٢  المسعودي، مرجع سابق، ص١٠٠.
٢٣  نفسه، ص١٢.
٢٤  عن الخطيبي – السجلماسي، مرجع سابق، ص٣٢.
٢٥  محمد عزيزة، مرجع مذكور، ص٨٤.
٢٦  نفسه، ص٤٥.
٢٧  الكلاباذي، «التعرُّف إلى مذهب أهل التصوُّف»، دار الكتب العلمية، بيروت، ص٧٣.
٢٨  «فصوص الحكم»، تحقيق: أبو العلاء عفيفي، دار الكتاب العربي، ط٢، ١٩٤٦م، ص٢٦.
٢٩  منصف عبد الحق، «الكتابة والتجربة الصوفية»، منشورات عكاظ، الرباط، ١٩٨٨م، ص٣٨٢.
٣٠  ابن عربي، «الفتوحات المكية»، دار صادر، بيروت، ب.ت، ج١، ص٣٠٦.
٣١  المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
٣٢  نفسه، الصفحة نفسها.
٣٣  نفسه، ص٣٠٧.
٣٤  «الفتوحات المكية»، ج٢، ص٣٢٣.
٣٥  انظر لمزيد من التفاصيل بحثنا: «السيميائي والرمزي، ملاحظات حول جماليات العمل التشكيلي المعاصر بالمغرب»، مجلة علامات، ع٩، ١٩٩٨م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤