مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الآمر بالسَّير والنظر، المعين في الحضر والسفر، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، المُنزَّل عليه في الكتاب المبين: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ، وعلى آله وأصحابه الذين أكثروا الأسفار، ودوَّنوا الأخبار، ومصروا الأمصار في سالف الأعصار (وبعد) فإن الله جلت قدرته، وتعالت عظمته قد خلق الأرض وقدر فيها أقواتها، وأوجد الأمم وحبَّب إلى كل أمة عوائدها وأخلاقها، ورغبها في جوِّها ومهادها، ولغتها وبلادها، وجعل الناس مختلفي الأشكال والطباع، كما خالف بين ما وجدوا فيه من البقاع، ولكنهم مهما اختلفوا في المشارب، وتفرقوا في الملل والمذاهب؛ فإن رابطة الإنسانية تجمعهم، والأبوة الآدمية تقربهم وتشملهم، والمزاحمة في طلب الأرزاق هي التي يتسبب عنها ما بينهم من الخلاف أو الوفاق، فحب الاختصاص يفرِّقهم وضرورة المساعدة تجمعهم؛ لأن كل فريق من سكان الأرض يحتاج بعضه إلى بعض كما قيل:
ولكن لما كان حب الأوطان طبيعةً مفطورًا عليها الإنسان؛ وجب على العاقل أن يطوف في بلاد الله ما استطاع، ويرى كثيرًا من الأمكنة والبقاع، ويعرف ما لكل من العوائد التي يترتب عليها جزيل الفوائد، وإذا رأى أن جهة من الجهات أكثر ثروةً، وأعظم من أمته قوةً بحث في أسباب ذلك بحث المدقق الخبير، وعرفه معرفة الناقد البصير، حتى إذا عاد إلى عطنه عرف ذلك إلى أهل وطنه، وإذا رأى أمة مضمحلًّا حالها، كاسفًا بالها عرف أسباب ذلك الكساد، وما يترتب عليه من مضرات العباد، وحذر من ذلك أهل بلاده بقدر استطاعته، ومبلغ اجتهاده، ويكون إذا أخبر بشيء مخبرًا عن مشاهدة وعيان، لا عن تخمين وحسبان؛ فيحصل بذلك على فوائد جليلة، ومزايا جزيلة، أهمها: منفعة وطنه الذي فيه رُبِي، وببحبُوحةِ فضله حُبِي، والفوز برضا الله ومزيد ثوابه بنفعه للبلاد، وخدمته للعباد، وأحب عباد الله إلى الله أنفعهم لعباده، وزيادة علمه واتعاظه بأحوال الناس، وتباين طباعهم وأخلاقهم، واطلاعه على كثير من الأسرار الإلهية المكنونة، والقوانين المدبرة المصونة التي دبر الله بها شئون المخلوقات، وأحكم بها نظام الكائنات. فمن وقف على سر صنع الخالق زاد في تعظيمه، وعكف على إجلاله وتكريمه، وتقرب إليه بامتثال أوامره ونواهيه، واعتصم بحبل حبه ومراضيه؛ إذ كلما انكشف الغطاء وجلا نور العلم غياهب الظلماء انكشفت أسرار الأشياء، فيزيد الإنسان في تعظيم مودعها، ويجتهد في التقرب إلى مبدعها، ومن سافر واطلع على غير بلاده كان كمن عاش زيادة على عمره، وشهد عصره وغير عصره؛ لأنه علم بالمشاهد والأسفار أضعاف ما يمكن أن يعلمه بالإقامة ومطالعة الأخبار، وذلك علمه بالمشاهدة والنظر، وهذا علمه بالسماع والخبر، إلى غير ذلك من الفوائد التي لا تحصى، ولا يمكن حصرها ولا تُستقصى. ولا يخفى على ذوي الألباب كثير مما وقع للأنبياء والمرسلين، والصحابة والتابعين، والعلماء والعظماء والصالحين من التنقل والأسفار للقرى والأمصار، وما جاء في الكتاب العزيز، ووردت به الأخبار من الحث على السير في الأرض للنظر والاعتبار.
ولما كان لا يمكن كل واحد من الناس أن يسير في الأرض، ويتجوَّل في طولها والعرض؛ لموانع تمنعه من الأسفار، وبواعث تلزمه بعدم مبارحة الديار — نصب كثير من الفضلاء أنفسهم للسير في البلاد لمقاصد جليلة، أهمها: منفعة العباد، ودوَّنوا الرحل المفيدة في الجهات العديدة، فمن طالعها فكأنما شاهد ما شهدوه من المشاهد، واطلع على ما رأوه من الآثار والمعاهد؛ ولذلك قد رأيت أن أقيد رحلتي إلى اليابان؛ ليطلع عليها كل إنسان؛ خدمة للإنسانية أؤديها، وهدية للمسترشدين من بني الأوطان أهديها، وأسأل الله دوام التوفيق، والهداية لأقوم طريق.