الوصول إلى اليابان
إن السرور الذي حصل لنا عند وضع أقدامنا على الأرض اليابانية، بعد ما لَحِقَنا من أتعاب ذلك السفر الطويل كان مقداره عظيمًا جدًّا، حتى كان يتخيل لنا أننا كأننا وُجدنا من العدم، ونُجدنا من الهلاك، وكان في الانتظار جملة من الناس لقصد التفرج على السوَّاح على اختلاف أنواعهم، والكل متبسمون تظهر عليهم علامات السرور، ومن الرصيف إلى الجمرك مسافة صغيرة، ورأينا من مستخدمي الجمارك بعكس ما سمعناه عنهم؛ لأنهم قابلونا بجميع أنواع الملاطفة والموادعة، وقضوا لنا أشغالنا بغاية السرعة وتمام الإنسانية.
ومن أغرب ما رأيت أنه مع كون الوقت كان في البدرية رأيت شابًّا صغيرًا لا يتجاوز الرابعة عشرة من سنه، ومعه كيس فيه نقود لا تقل عن أربعمائة جنيه لأجل المصارفة للسوَّاح، وهذا يدلنا على أنهم في غاية من الأمانة، حتى يؤمن شاب مثل هذا على تلك النقود الكثيرة، ولا يخشى عليه من ضياعها، ورأيت أنهم يلبسون نعالًا أو قباقيب من خشب لحفظ أرجلهم من الأوساخ، وأنهم يحبون النظافة؛ ولذلك تراها ظاهرة على رجالهم ونسائهم وأطفالهم، وبدلًا عن أن نركب عربة يجرها رجلان تسمى: (ركشه) قد مشينا على أرجلنا؛ لأجل أن نتفرج على أحوالهم وأماكنهم، وكان ذلك صباحًا وهم مشتغلون بفتح دكاكينهم، ورأينا بيوتهم فوجدناها بيوتًا لطيفة والماء يجري أمامها في مجارٍ صغيرة، ورأينا عندهم قناطر كبيرة كلها من الخشب، والماء العذب موجود بكل جهة، وترى النساء والأطفال مشتغلين بغسل ملابسهم، وكان هذا منظرًا جميلًا، ثم وقفت لشراء أوراق بوستة عليها مناظر فوتوغرافيَّة، والدكاكين مرتفعة، وبجوار كل واحد منها قطعة يمكن الجلوس عليها، وهذه الدكاكين تشبه الدكاكين المصرية القديمة، غير أنها أنظف منها، وكل من أراد أن يجلس مع صاحب الدكان لا بد أن يخلع نعليه، ثم يدخل ويجلس معه، وبيوتهم في (سروجة) صغيرة جدًّا، وقليلة الارتفاع، وهي موضوعة تحت جبال عالية لتحفظها من شدَّة الهواء، وتقِيَها من برد الشتاء، ولما توجهنا جهة المحطة وجدنا قربها معبدًا، ووصلنا إلى المحطة، ولم نحصل على التذاكر إلا بكل مشقة؛ لعدم التفاهم ولو أن معنا ترجمانًا، إلا أنه كان يتكلم باللغة الإنجليزية مع كونه ما كان يفهم منها إلا شيئًا قليلًا، فطلبنا التذاكر من الدرجة الأولى وأعطيت لنا، إلا أنهم أخبرونا أن السكة من سروجة إلى (ميبرة) ليس بها عربات من الدرجة الأولى، ثم وزنوا ما معنا من الصناديق، ووضعوا على كل صندوق نمرة وحلقة من النحاس، وأعطونا مثلها قطعًا تشبه عملة النحاس التي كانت مستعملة بمصر من زمن قريب فأعطيتها لخادمي، وهذه القطع تُعطى للشيء الذي يتبع الراكب ولا يُدْفَع عليه شيء، وأما سواه فإنه يُعطى لصاحبه ورقة مكتوبة كالجاري بجميع الجهات الأخرى، وحيث كان باقيًا على قيام الوابور ساعة أحببت أن أتفرج على المعبد القريب من المحطة، وتُعْرَف المعابد ببنيانها المخصوص، ومشابهة بعضها لبعض، وأنها تكون دائمًا في أعظم موضع وفي وسط بساتين، فدخلنا في بستان جميل، فيه كثير من الأشجار الكبيرة العالية التي يظهر عليها طول المدة، وقِدم العهد، وفي المشاية وجدنا على ناحيتيها شَمْعِدانات من الحجر، وبدل الزجاج هنا يستعمل ورق أبيض، وكذلك في كل سكة منه نحو عشرين مصباحًا، وفي ركن من أركان هذا البستان مدفع من المدافع المأخوذة في حرب الروسيا، وكثير من الأشياء التي أخذت في تلك الحرب، وبعد مدة رأينا فِسْقِيَّة من حجر واحد تشبه حجر الجرانيت، ومنبع الماء من صورة سلحفاة طولها نحو مترين، وهي حجر واحد أيضًا يخرج الماء من فمها، وهو يصب في هذه الفسقية، ويعتبرون أنه ماء مقدَّس، وقد أخبرني الترجمان بأن هذا الماء يغتسلون منه قبل الدخول في عباداتهم، كما أنهم يشربون منه تبركًا، فتوجهت لأكبر بنيان في هذا المعبد لأطَّلع عليه، فوجدت الباب مغلقًا وعلى كل جهة من جهتيه (كشك) آخر صغير، ومن حسن الحظ وجدت امرأة عجوزًا قد حضرت وابتدأت تصفق بيديها أولًا ثم ركعت، ثم جعلت تنطق بكلمات ثم تعود إلى التصفيق ثانيًا، ثم تركع، وهكذا، ثم مدت يدها على حبل، فلما أمسكت به وهزته وصل ذلك إلى أجراس فدقت تلك الأجراس، فظننت أنها تطلب فتح الباب من أحد، ثم سألت عن ذلك فقال لي الترجمان: إنها تصلي، فعرفت أن صلاتهم بهذه الكيفية.
والعادة عندهم أن من يدخل المعبد يدفع بعض النقود على سبيل الهدية، أو يرسل إلى المعبد شيئًا من المصنوعات الجميلة؛ ولذلك توجد أشياء كثيرة بالمعابد من أجمل مصنوعاتهم، وأدقها صنعًا، وأغلاها قيمة، وبعد ذلك رأيت أن وقت الرحيل قد أَزِفَ، فعدت إلى المحطة سريعًا، فرأيت أن القطار قد حضر إليها، فدخلت وركبت بغاية السرعة؛ لأجل حفظ الأماكن، ورأيت أن مقاعد العربات موضوعة صفين طولًا، وفي كل عربة محل للغسيل ومحل للراحة، ثم سار القطار وصرنا نمر على جبال مرتفعة، وأنهار كثيرة، ومزارع شتى، وكانت هذه المناظر في غاية من الجمال؛ لأنها كلها جديدة بالنسبة إلينا. ووجدت السكك الزراعية التي توصل بعض البلاد إلى بعض في غاية النظافة والنظام التام، غير أنها ضيقة عما ينبغي أن تكون عليه، ولما مررنا عليها وجدنا أن الأهالي يحملون الأشياء على ظهورهم، وليس لهم عربات إلا عربات الأيدي الصغيرة، فعرفت حينئذٍ أنه لا حاجة إلى سعة الطريق.
ورأيت الأراضي الزراعية في غاية النظام، قد أخذت زخرفها وازَّيَّنت بالزراعة، حتى إنه يخيل لرائيها أنها بساتين أو روابٍ ذات قرار ومعين، ومروج زاهرة، وجنات باهرة، وكل الحدود عندهم على خطوط مستقيمة، ورأيت أن الكُفُور عندهم ينتخبون لها أحسن المواقع، ويضعونها في وسط أشجار وأنهار؛ لأجل أن تقيها من شدة الحر في الصيف وقارس البرد في الشتاء، وكل منزل من المنازل له بستان يناسبه؛ ولذلك يظهر على كل بيت منها البهجة والسرور، ولما رأيت هذه الحالة صرت في غاية من الفرح حتى صار يخيل لي أني في جنة عالية، قطوفها دانية، وكانت تظهر علامات السرور أيضًا على جميع السواح الذين كانوا معنا، ورأيت أن هذه البلاد يوجد بها من المناظر الجميلة ما يوجد في سويسرا، إلا أن جبالها أعلى. ومن حسن الحظ أن ذلك كان في فصل الربيع، وأن جميع الأشجار كانت في غاية من النضارة والبهجة.
وكنا نرى أن نساءهم يشتغلن بزراعة الأرز، التي هي أعظم زراعاتهم، وتكون دائمًا زراعته في الأراضي المغمورة بالمياه، وبعد ساعتين قد أخذنا متاعنا، وتوجهنا لأجل النزول من هذا القطار بمحطة صغيرة، وفيها تناولنا غذاء الظهر — ولو أننا كنا في الساعة الحادية عشرة — ثم ركبنا القطار الجديد فوجدنا امرأة عجوزًا أمريكانية ومعها بنتها، ووجدنا شيخًا كبيرًا يابانيًّا قد حلق شاربه، وأبقى لحيته، فرأيناه نائمًا على المقعدة وجاعلًا رجليه في وجه هذه السيدة الأميركانية، فاستغربنا من هذه الحالة، وتعجبنا من هذه الحرية العجيبة والحالة الغريبة، وزاد تعجبنا من أنه لا يلتفت إلى أحد من الركاب، ولا يكترث بمن غاب أو حضر، كأنه جالس بمنزله بين أفراد أسرته، لا ينظر إلا إلى صحته وراحته. ولما رأيت الازدحام شديدًا في الدرجة الثانية طلبت البوليس لأجل أن يخلي محلًّا لتابعي، فبمجرد دخوله في العربة قد أخلوا المحل قبل أن يطلبه منهم، وكانت عربات الدرجة الأولى والثانية مزدحمة من العساكر اليابانيين، وهم لا يكترثون بأي شيء خالعين نعالهم وبعضهم نائم على بعض، ومنهم من يبصق أو يمخط أو يتثاءب، أو يفعل غير ذلك من الأمور التي نعدها معيبة محقَّرة، ووجدت أنهم يستعملون الشاي بكثرة مثل ما يتعاطى الدخان عندنا أو القهوة.
وكان الأكل عند محطة ميبرة مناسبًا، ولقلة الخدم وكثرة السائحين صرنا نأخذ ما يلزم لنا من المطبخ بأيدينا، ووجدنا أن الخدم والطباخين في غاية من الأدب، وكانت تحيتهم لنا بالركوع عند كل كلمة، وإن الإنسان إذا أعطاهم أي شيء على سبيل المنحة والصدقة يرون أنه شيء عظيم، ويأخذونه بغاية البشر والابتسام، والأدب والاحترام، مهما كانت حالته، وقلت قيمته. ثم سار القطار بنا من ميبرة إلى (تكيو)، وهذه مسافة ساعتين قد مررنا فيهما على بلاد كثيرة، ومناظر جميلة لا يمكن التعبير عنها، ولا وصفها حق وصفها، مهما جاد القلم ونطق بالحكم (… فما راءٍ كمن سمعَا)، وقد مررنا على بحيرة كبيرة تسمى (بيو)، وبقربها الجبل العظيم المسمى (نوجى)، وهو جبل محترم عندهم كاحترام جبل عرفات عندنا، وهو جبل عظيم الارتفاع؛ ولذلك لا يكاد الثلج ينقطع من قمته حتى في وقت الصيف، ولحبهم له وما اشتمل عليه من حسن المنظر تراهم يرسمونه دائمًا بمناظره على كل صناعاتهم، وبعد ذلك قد وصلنا إلى (يوكوهاما)، وهي ميناء تجارية كبيرة مهمة، وأهميتها لكونها قريبة من (تكيو)، التي هي القاعدة والعاصمة، ومنها بعد عشرين دقيقة قد وصلنا إلى (تكيو) عاصمة البلاد اليابانية، فوجدنا بوَّاب فندق إمبريال منتظرًا لنا بالمحطة، فأحضر لنا العربات (الركشة) — عربات صغيرة بعجلتين يجرها رجل — فأمره أن يوصلنا إلى الفندق، فتركناه مع تابعنا بالمحطة؛ لأجل تخليص المتاع من المكس، ثم ذهبنا إلى الفندق، فلما وصلنا إليه وجدنا صعوبة كثيرة بالنسبة لازدحام غرفه وحجراته بالسوَّاح، حتى أنهم صاروا يعرضون علينا محالَّ في كل طبقة منه ليست مناسبة، فلما رأوا إعراضنا عنها اجتهدوا في وجود محالٍّ مناسبة، ولو أنها بالدور الأول من العمارة الجديدة التابعة للفندق. وأول شيء بدأنا به بعد وصولنا هو الاستحمام عقب هذا السفر الطويل، وكان أول ما خطر بفكري أن أتوجه صباحًا إلى يوكوهاما؛ لأجل الحصول على ترجمان، والمقابلة مع مندوب شركة كوك التي هي متعهدة لنا بقضاء جميع ما يلزم في أي سفر كان إلى أي جهة كانت من نحو عشرين سنة، فلما سألت بواب الفندق عن مواعيد القطارات التي توصل صباحًا إلى يوكوهاما، وأخبرته بغرضي؛ أخبرني أن ذلك المندوب الذي أريد مقابلته هو بالفندق بالنسبة لسياحة وكيل جمهورية الولايات المتحدة الأمريكية، فسررت بذلك، وأرسلت له بطاقة الزيارة التي فيها اسمي، فحضر توًّا، وأخبرته بجميع ما هو لازم، ولما أصبح الصباح توجهنا لأجل أن ننظر الأشياء الموجودة بهذه البلدة، فاطلعنا فيها على جملة شوارع فيها قصور مشيدة ومبانٍ عالية، ومن جملة ما رأيناه سراي الملك؛ حيث إننا قد مررنا عليها فوجدناها تشبه قلعة في وسط البلد، محاطة بخندق غير أنه مملوء بالماء، وأخبرنا الترجمان أن الإمبراطور لا يخرج إلا نادرًا في بعض الأعياد والمواسم، والترجمان الذي معنا مع كونه شيخًا كبيرًا ورجلًا كهلًا قد أخبرني أنه إلى الآن ما رأى الإمبراطور مرة واحدة. ثم توجهنا إلى شارع كبير واسع سعته نحو مائة متر، وطوله ثمانية كيلو متر، وبه مركبات كهربائية — المعروفة بالترام — ثم اطلعنا على دار الكتب المعروفة ﺑ (الكتبخانة) وجملة متاحف، وبالنسبة لحداثة عهد مدنيتهم ليس عندهم في متاحفهم أشياء كثيرة ولا نفائس مهمة.
ومما يُؤسَف عليه أن مباني الحكومة الآن كلها على الطراز الأوروبي، مع كون الطراز الياباني أحسن منه رونقًا وأجمل منظرًا، فإننا رأينا سرايات وقصورًا تابعة للأمراء والأعيان بالشكل الياباني في غاية من البهجة وتمام الإتقان، ورأينا دور السفراء بقرب السراي الملوكية تحيط بها الجناين والبساتين، وهي في شوراع لطيفة واسعة، وأغلبهم على الهيئة القديمة، وإنما يلبسون على رءوسهم قبعات (برانيط)، وأخبرنا أنه لا يلبس السترة والبنطلون إلا مستخدمو الحكومة.
وملابسهم مع بساطتها فإنها في غاية من الراحة؛ لكونها عبارة عن عباءة بحزام وشراب وحذاء.