المواسم عندهم
في أول شهر يناير لغاية آخر أسبوع منه يزينون بيوتهم برايات وأغصان خضراء من أغصان الأشجار، وبعد ذلك بعشرة أيام يشتغلون بالمصارعة، وفي شهري فبراير ومارس يكون عندهم موسم لزهر شجر البرقوق في إبانه، وآخر شهر مارس يكون عيد البنات الصغيرات، ويهديهن أهلهن وأقاربهن في هذا الموسم بعرائس كالعرائس المعروفة بمصر، وفي شهر أبريل يكون موسم زهر شجر الخوخ في أوانه وبعد ذلك بنحو أسبوع يكون عيد زهر الكريز وفي آخر أبريل يكون عيد ينابيع المياه الحارَّة، وفي شهر مايو يكون عيد الصبيان، ويهدونهم في هذا العيد بأسلحة ورايات صغيرة، وفي شهر يونيو يكون عيد زهر السوسن، وفي شهري يوليو وأغسطس يشتغلون بصيد نوع من السمك من الأنهار، وفي آخر شهر أغسطس يكون عيد زهر شجر الجلجان، وفي آخر الشهر يكون عيد نهر سوميده، وهو عيد فيضان ذلك النهر، وفي شهري أغسطس وسبتمبر جملة من الأعياد الدينية أيضًا، وفي أوائل شهر نوفمبر يكون عيد زهر الأقحوان، وفي شهر ديسمبر جملة أعياد دينية واستعداد لعيد أول السنة الآتية، وكل هذه الأعياد توجد المحبة بينهم، وتقوِّي رابطتهم، ويحصل منها التعارف بين الجميع، وتبعدهم عن الاشتغال بالملاهي والأمور التي لا فائدة فيها.
- القسم الأول: أعضاء الشرف، وهي العائلة الملوكية، وأكبر العائلات اليابانية، وجميع سفراء الدول الأجنبية.
- القسم الثاني: الأعضاء الذين يدفعون مقدارًا من النقود يزيد عن عشرة جنيهات سنويًّا، وهم الأعضاء الدائمون.
- القسم الثالث: الأعضاء الذين يدفعون نصف جنيه في الشهر مِنْ كل مَنْ يرغب ذلك، خصوصًا من السواح، ويبقى عضوًا سنة كاملة.
- القسم الرابع: هم الأعضاء العاملون في هذه الجمعية، وأعمال هذه الجمعية جليلة، أهمها: تسهيل جميع ما يلزم للسائحين القادمين على تلك البلاد على اختلاف طبقاتهم، وتيسير كل ما يلزم لكل واحد منهم يريد الوصول إلى أي شيء أو الاطلاع على أي أمر، ومن عملها أيضًا أنها تطبع كتبًا وإعلانات لكل شيء يكون مستحقًّا للاطلاع عليه في كل أسبوع، وتسهل الطريق إلى الوصول إليه لمن يريده.
وليلة ما وجدنا بيوكوهاما ثم عدنا إلى توكيو قد وجدنا هذه الليلة وليمة كبيرة بالفندق لأرباب الصحف والجرائد العلمية والسياسية، وكان بها محرر جرنال التيمس وعدد كثير من السياسيين والكتاب المشهورين، وكان من جملتهم موسيو (برونفسكي) الذي هو الآن نائب السفير المسكوفي باليابان، وكنت أعرفه من مدة مديدة؛ لأنه كان بمصر كاتبًا بالسفارة الروسية، وفي اليوم التالي قد أخبرني بوَّاب الفندق بأن المستر (رامبولد) الذي كان كاتبًا للورد كرومر — وهو الآن وكيل للسفارة هنا — يريد مقابلتي إذا تيسر لنا ذلك من الساعة الثانية ونصف بعد الظهر، فانتظرته لغاية الساعة الثالثة، ولما لم يحضر توجهت بنفسي إلى سفارة إنجلترا لزيارة السفير بها، وكان ذلك السفير أيضًا ضابطًا بالجيش المصري، وصاحبًا للسير ألدون غورست؛ ولذلك قد كان كتب إليه كتابًا يخبره بقدومي، وأنه يكون عضدًا لي في كل ما أريده فدخلنا السفارة، وأوَّل ما رآنا البوَّاب حيَّانا بالركوع كتحية اليابانيين، ثم وجدنا السفارة عبارة عن بيتين عظيمين في بستان كبير، فيه كثير من الزهور الجميلة والورد المختلف الأشكال والألوان، فأشار البوَّاب لسائق العربة أن يسير إلى البيت الثاني الكبير، الذي هو البيت الخصوصي للسفير، فلما وصلنا إليه وسألنا عن السفير أخبرنا الخادم بأنه في الإجازة بأوروبا، وليس هو موجودًا بتوكيو، فسألته عن المستر رامبولد، فأخبرني أنه ساكن بالبيت الثاني، فتوجهنا إليه، وسألنا عنه، فقيل لنا إنه قد توجه إلى الفندق لأجل زيارتنا، ولما أخبر أني توجهت لزيارته تكلم بواسطة (التلفون)، وطلب بقائي بضع دقائق لحين حضوره، وبعد دقيقتين قد حضر وقابلنا مقابلة جميلة، وأخبرنا أنه مستعد لخدمتنا في أي أمر نريده، وأن المستر ألدون غورست قد كاتبه في ذلك، ولكنه ظن أن مجيئنا ربما يكون في شهر يوليو، ولكني كنت هناك في شهر أبريل ثم أظهرت له تأسفي على عدم مقابلتي للسفير، وأني كنت أودُّ تلك المقابلة فشكرني على ذلك، وسألني أني إذا كنت أريد مقابلة السيدة امرأته، فأخبرته أني غير مستعد لذلك بالنسبة لكوني بملابس السياحة، فأجابني بأن هذا لا يعدُّ مانعًا، وأخبرني أنها تكون مسرورة إذا تفضَّلْتَ بمقابلتها، فأجبته إلى ذلك، وقد عدنا ثانيًا إلى بيت السفير، فوجدتها متأهبة للركوب، فلما أخبرت بذلك أرجأت الركوب، وانتظرت، وقابلتنا أحسن مقابلة مظهرة لأنواع السرور والبشر والحبور، وقدَّمت لنا من واجب التعظيم والاحترام والتكريم ما يستدل به على آدابها السامية، وتربيتها الراقية، وسألتني على كل ما أريد رؤيته في اليابان، وأخبرتني عن جميع المواضع التي تستحق التوجه إليها، وفهمت (رامبولد) كل ما يمكنه أن يطلب منه الإذن للدخول إلى الأشياء التي تحتاج إلى إذن، وبعد ذلك قدَّمت لها الشكر على ما رأيته من حسن ملاطفتها وعظيم عنايتها، وبعد ذلك انصرفنا قاصدين زيارة بعض دور الآثار الشهيرة، فوجدت أن أجمل ما يوجد عندهم في متاحفهم أصله من الصين، ثم عدنا ثانيًا من أمام السراي الملوكية المحاطة بسكك واسعة وفيها ترامات كهربائية.
وكانت الفسحة من داخل البلد جميلة جدًّا لكثرة المرور على الكباري الكبيرة الموجودة على الأنهار المتفرعة إلى فروع كثيرة، ومتجهة إلى جهات مختلفة، ورأيت أن الفقراء بهذه البلدة يحافظون على النظافة محافظة تامة.
وبعد وصولي إلى (النزل) أرسلت لناظر الخارجية ورقة الزيارة، وأخبرته أني كنت أريد أن أتشرف بمقابلة الميكادو مقابلة غير رسمية، وظننت أني لكوني شرقيًّا ومسلمًا ربما يكون ذلك مما يسهل تلك المقابلة، فأخبرت أنه لا يمكن مقابلته، أو الدنو منه، إلا بصفة رسمية بواسطة سفير من السفراء، فلما علمت ذلك صرفت النظر عن تلك المقابلة.
وفي هذه الليلة قد عزمنا على أن نتوجه إلى الفندق الأهلي الياباني الذي سبق الكلام عليه، فأخبرونا أن ما يدفعه الشخص الواحد من النقود قيمة أكله ٢ ين ونصف، وما يدفعه عن التفرج على المرقص ٢٥ ينًّا، فتوجهنا وقت الغروب إليه، وبمجرد وصولنا قابلنا عدة نساء من اليابانيات على بابه، وأخبرنا بأنه لا بد من خلع النعال؛ لأن المحل مفروش، ومن ضمن هؤلاء بنت صغيرة تبلغ من العمر نحو تسع سنين، ومشت أمامنا لأجل أن تدلنا على المحل الذي نجلس فيه، وهي في غاية من النظافة والخلاعة، فوصلنا إلى رحبة كبيرة حيطانها الأربع من الورق السميك، وبها كثير من الرسوم اليابانية البديعة الأشكال والألوان، فوجدنا بها وسادات على الأرض ومقاعد بسيطة ليس بها سواها، مع سعة الحجرة ونظافتها، وبمجرد وصولنا إلى هذه الحجرة وجلوسنا فيها قد أتت عدَّة نساء، وأحضرن أمام كل واحد منا خوانًا صغيرًا؛ لأجل وضع الأكل عليه، فجلسنا على هذه المقاعد متربعين كالعادة العربية، ثم أحضروا لنا الأكل، فأوَّلًا قد أحضروا لنا المرقة المعروفة بالشربة، ولم يحضروا لنا ملاعق لأجلها، بل إنهم من غريب أمرهم أنهم قد استعاضوا عنها بكاسات صغيرة يشربونها بها، وبعد ذلك أحضروا لنا نوعًا من السمك حسن الصنع، وعدَّة من أنواع الخضراوات والأرز، وكان الأكل بواسطة خشبتين صغيرتين يقبضهما الإنسان ويجعلهما شبه (الماشة) ثم يأكل بهما، وكل شخص له آنية مخصوصة، والخادمات يخرجن ويدخلن معًا عند حضور أي طعام كان، ولما انتهى الأكل ورفع من أمامنا، حيانا هؤلاء الخادمات بالسجود على الأرض — كما هي عادتهن — وبعد ذلك فتحت الحائط التي كانت أمامنا، لأن بيوتهم مبنية من حيطان من الورق؛ ولذلك ينقلونها على حسب أغراضهم واحتياجاتهم، وبعد أن فتحت هذه الحائط ابتدأ الرقص، فوجدناه بحالة لم نسر منها، والموسيقى عندهم كذلك ليست على ما ينبغي؛ لأنها عبارة عن ست بنات، كل اثنتين لهما عمل مخصوص، فاثنتان منهما تلعبان بشيء يشبه العود وبيدهما قطعة تضربان عليها، واثنتان تصفران بصفارة، واثنتان تغنيان، والجميع يفعلن ذلك بحالة محزنة كأنهن يبكين، وبعدما رأينا كل ما فعلوه، ورأينا أن الرقص كأنه حركات أخرس يريد أن يفهم الكلام إلى سواه؛ أعطيناهم المطلوب وبعض نقود على سبيل الصدقة، فسررن بذلك سرورًا كثيرًا، ثم أخبرني الترجمان أن هذا الرقص ليس هو من عادات اليابانيات، وإنما يفعلن ذلك مرضاة للسوَّاح لأجل كسبهن، وليس عندهن رقص في عوائدهن، فكلمت الترجمان أن يرجع بنا إلى الفندق؛ لأجل أن نتغدَّى هناك مرة ثانية؛ لأن الأكل الذي أكلناه لا يسدُّ رمقًا ولا يحصل منه شبع، فعدنا إلى الفندق وتغدَّينا كالعادة.
وفي يوم آخر قد توجهنا لزيارة الرياض والبساتين، وبقينا طول يومنا، وعند رجوعنا في الساعة السابعة بعد الظهر كان بالفندق وليمة كبيرة من الأميرال وضباط الأسطول الأمريكاني، الذي قد جاء زائرًا اليابان للأميرال توجو، وضباط البحرية اليابانية، وكانت الموسيقى التي تضرب لهم وقت تناول الطعام كل أفرادها عبيد أمريكانيون.
ومع كون الحالة كانت سارَّة، إلا أن الشيء الذي يؤسف عليه ويُكَرِّه الإقامةَ للغريب في هذه البلاد هو: أن اليابانيين مع ما وصلوا إليه من التقدم والحضارة يريدون أن يأخذوا من أي شخص كل شيء، ولا يطلعونه على شيء.
ثم عزمنا على التوجه إلى (نيكو)، وهي بلدة مشهورة بلطافة منظرها، وحسن معابدها، وما اشتملت عليه تلك المعابد مما لا يخلو الاطلاع عليه من جزيل الفوائد، سيما وأنه في أول شهر يونيو كان بها احتفال عظيم، فسافرت إليها من توكيو الساعة الواحدة وأربعين دقيقة في قطار معتاد يقف في جميع المحطات لقصد الاطلاع على ما اشتملت عليه هذه الطريق، ومعرفته بغاية التحقيق والتدقيق؛ ولذلك قد مكثنا في هذه المسافة خمس ساعات حتى وصلنا إلى هذه البلدة بعد مضي ربع ساعة من الساعة الثامنة، وكان بجوار السكة الحديدية طريق محفوفة من جانبيها بالأشجار الهائلة الارتفاع التي هي من شجر السنيبر، وهي قديمة العهد من نحو ثلثمائة سنة؛ ولذلك كانت السكة في غاية من جودة الهواء، مظللة بظل هذه الأشجار؛ حيث إن الشمس لا يمكن أن تنفذ أشعتها منها، وطول هذه السكة ١٥ كيلو مترا.
ولما وصلنا إلى المحطة وجدنا عليها نحو ٢٠٠ ركشة عربات يجرها الرجال، فركبنا في واحدة منها وتوجهنا إلى الفندق، وكان مرورنا بشارع طويل، وفي جهتيه دكاكين فيها مصنوعات البلدة، وخلف كل دكان بيت صاحبه؛ لأن أغلب اليابانيين من أهل الحرف والصنائع، وهيئة هذا البلد تشبه بلاد سويسرا، وحيث إن الفندق على تل مرتفع فلما وصلنا إلى ذلك المرتفع انضم لكل عربة رجل آخر مساعد للذي يجرها، حتى أمكن الوصول إلى الفندق، فوجدناه على شكل البيوت اليابانية، وهو مبني من الخشب، وفناؤه مجعول من الخشب أيضًا؛ لأجل التظلل وحوله مظلة، وهو موضوع وضعًا جميلًا، ووجدنا أن خدَّام هذا الفندق كلهن إناث، وكلما يُسأَلْنَ عن شيء أو يُطلب منهن أي شيء يجبن بلفظ (ييس)؛ أي نعم أو حاضر، ولما دخلنا الفندق وجدنا حجراته وغرفه في غاية من النظافة ومحتوية على جميع اللوازم الضرورية، ومستضيئة بالنور الكهربائي، وبعد ذلك قد توجهنا إلى المطعم، فوجدناه محلًّا كبيرًا، وبه جملة خوانات صغيرة على الشكل الأوروبي، ولأجل التسلية رأيناهم واضعين أمام كل مائدة إناء من البلور فيه شيء من الماء والخضرة، ونوع من السمك الأحمر الجميل الشكل، وكان الأكل متقنًا، والخدمة على أحسن ما يرام بواسطة هؤلاء البنات، ومن غريب الأمر أن السائح ينزل في هذا الفندق بشرط أن يدفع القيمة بما فيها ثمن الأكل، وعند رؤية الأطعمة المكتوبة في الورق، وكثرة أصنافها وأشكالها، يظن أنه لا يمكن أي إنسان أن يأكل كل هذه المآكل، ولكن عند الطلب يظهر له أنهم لا يعطون من الصنف المطلوب إلا شيئًا يسيرًا جدًّا؛ بحيث إن النظر لا يكاد يراه، ولا يمكنون الإنسان من الأخذ من الصنف الذي يريده بيده كما هي العادة المتبعة في أوروبا.
ولما أصبح الصباح أجرنا عربات ركشة لأجل التفسح في ضواحي البلد، ولرؤية منحدرات المياه التي تحف هذه البلدة، وقد جر الرجال هذه العربات نحو ٥٠ دقيقة، ولم يستريحوا إلا بعد وصولنا إلى تلك الينابيع، وبعد الاطلاع عليها ومعرفة أنها آتية من أعلى الجبال ومنحدرة إلى أسفلها، وأن مياهها في غاية الصفاء والعذوبة، رجعنا بعد ثلث ساعة إلى الفندق.
وحيث إن وجودنا كان في الوقت الذي فيه اجتماع السوَّاح فكان التجار وأصحاب الدكاكين يذهبون وراءهم، ويطلبون منهم التوجه إلى دكاكينهم، ويرغبونهم في الأشياء الموجودة عندهم، ويحتالون عليهم بأنواع الحيل، حتى بلغ من أمرهم أن الإنسان لا يمكنه أن يمشي في البلد، بل ولا يجلس في الفندق إلا ويجد كثيرًا منهم يرغبه، ويطلب منه زيارة محله، ويمدح له ما عنده من الأشياء، ولا يتركونه إلا إذا اشترى شيئًا منها بأي قيمة كانت؛ ولذلك لما عدنا إلى الفندق قاصدين الغداء لم يزل بعضهم وراءنا حتى دخلنا محل الأكل، وهم لا ينصرفون عنا، ولا يصدُّهم أحد عن هذا الإلحاح الغريب والأمر العجيب، وبعد ذلك ظهر لنا أن أصحاب الفنادق أنفسهم يساعدونهم لأجل رواج تجارة بلادهم، ومكاسب تجارهم، فقد رأينا أن كل فندق به محل مخصوص فيه كثير من أصناف الأشياء التجارية البلدية مقسمة على حسب الدكاكين الموجودة في البلد، وبعد تناول الطعام توجهنا بعد الظهر لزيارة المعابد المشهورة التي أصلها مدافن الأمراء من عائلة (توكوجاوة)، وبعد ذلك قد أوجدوا بها المعابد وهذه المعابد كلها من أفخر المباني اليابانية، وفيها من الأشياء الجميلة، والنقوش العجيبة، والصنع الغريبة ما يدهش الألباب، ويحير الأفهام؛ ولذلك كانت جديرة بالاعتناء بها والتوجه إليها، ومهما بالغ الواصف في وصفها فإنه لا يقدرها حق قدرها؛ إذ ليس الخبر كالنظر، وهي موضوعة وضعًا طبيعيًّا في أحسن الجهات منظرًا؛ حيث إنها موضوعة في محل تجري فيه المياه العذبة اللطيفة بين الأشجار والأحجار، وأصوات العصافير والطيور المغرِّدة تشجي السامع، وتطرب بحسنها المسامع، وللوصول إلى هذا المعبد قد التزمنا أن نمر على النهر الذي هو بين الفندق وبين المعبد، وهذا النهر يسمى: (ديكافا)، وقد مررنا على كوبري على هذا النهر، ووجدنا بجواره كوبريًا آخر يعرف عندهم بالكوبري المقدَّس، وهو جميل الشكل، مطلي بطلاء ذهبي، وهو خاص بمرور الملك، لا يمر عليه أحد سواه.
ومن الأمراء المشهورين المدفونين بهذا المعبد الأمير (سميستو)، الذي كان سببًا في منع الخرستيان من دخول اليابان، ومنع تجارتهم، ولم يصرح بدخول أي تجارة أجنبية في (نكزاكي)، ولم يكن يصل إليها إلا الهولاندي والصيني، وكان مشهورًا بمحبة وطنه وحفظه من التغلب عليه، وللوصول إلى هذه المعابد قد توصلنا بسلالم عالية ودرجات كثيرة، ولما وصلنا إلى الباب رأيناه بابًا مفتخرًا، وهو مطلي بالبوية الجميلة، وماء الذهب والفضة، ولما دخلنا منه ظننا أننا في كفر من الكفور بالنسبة لاتساعه، واشتماله على عدَّة دور صغيرة، ومحالٍّ شتى؛ فوجدنا فيه محلًّا للجرس الكبير، ومحلًّا للدف، وبجوار كل معبد محل آخر للحصان المقدَّس الذي يسمونه حصان الإله، وهو حصان محجوز وموقوف على الإله طول السنة، موجود في هذا المحل، ولا يخرج منه إلا في أيام المواسم الدينية، وفي خدمته عجوز من اليابانيات مقصورة على هذه الخدمة، غير أنها تبيع ذرة في مكاييل صغيرة أو قمحًا، فالمتمسكون بالدين يشترون منها مقدارًا، ثم يعطون ما يشترونه من هذه الحبوب لهذا الحصان المقدَّس.
وجميع أبواب المعابد وحيطانها مصنوعة بأحسن الصنائع الممكنة والنجارة المتقنة، ويوجد بهذه المعابد عدَّة أجراس كبيرة تشبه أجراس الكنائس، منها ما هو هدية لها من ملوك كوريا، ومنها ما هو هدية من ملوك هولاندا، ويوجد أيضًا بكل معبد فسقية من الحجر على الشكل الياباني والصيني، وهي مملوءة من الماء العذب المقدَّس، الذي يتطهرون منه قبل دخولهم إلى تلك المعابد، وحيطان المعابد الموجودة في داخل حجراتها كلها مطلية بماء الذهب الجميل الصنع، البديع الوضع، وسقف هذه المعابد بها رسوم ونقوش ذهبية من أحسن ما صنعته أيدي مشاهير صناع الصين واليابان؛ ولذلك ينشرح ببهجتها الخاطر، ويسر برؤيتها الناظر.
والذي يريد الدخول في هذه المعابد لا بد له من أن يخلع نعليه قبل الدخول فيها؛ لأنها في اعتقادهم أماكن مقدسة مطهرة، لا يصح الدخول بالنعال فيها، ولا بد له أيضًا من أن يعطي القسوس شيئًا من النقود يبعثره عليهم.
وبعد التفرج على أول معبد توجهنا لزيارة بيت الأوثان، فوجدناه مصنوعًا على الشكل الصيني، وهو عبارة عن خمس غرف بعضها فوق بعض، وكل واحدة منها أمامها خارجة من الخشب لها دائر (درابزين) يشبه دائر المنارة، وبعد ذلك زرنا أربعة معابد أخرى، فوجدناها في أحسن وضع، وأجمل صنع، ووجدنا كل واحد منها مرسومًا برسم مخصوص بحيث لا يشبه أحدها الآخر، ومع كوننا لم ندقق النظر في كل شيء مما اشتملت عليه هذه المعابد، بل إننا نظرناها نظرًا إجماليًّا بالنسبة لِقِصَرِ الزمن الذي مكثناه فيها، وهو ثلاث ساعات ونصف، فإننا قد اندهشنا من حسن بنيانها، وبديع إتقانها، وما اشتملت عليه من جميل الآثار الذي يوجب الثناء والفخار، ولو أراد أيُّ إنسان أن يقدِّر ما اشتملت عليه هذه المعابد من التحف والأشياء الغريبة والمصنوعات العجيبة بقيمة نقدية لعجز عن ذلك، كما أنه لو أراد أن يصف حسن بهجتها، وبديع صناعتها لا يقدر على ذلك مهما أجاد في وصفها وأطال في مدحها؛ إذ ليس الخبر كالعيان، وهذا مما لا يختلف فيه اثنان، ولا يحتاج إلى حجة وبرهان، فإن الإنسان عند رؤيته لهذه المعابد الفاخرة، واطلاعه على ما اشتملت عليه من الأشياء الباهرة يصدق المثل الموجود عند اليابانيين، وهو قولهم لا تنطق بلفظ مفتخر باهر إلا بعد زيارة نيكو.
وهذه المعابد كانت تابعة لديانة البودا، ومن مدة ٤٥ سنة صارت تابعة لديانة (الشنتوئيست)، وهي ديانة الإمبراطور الحالي، وبعد التفرج على هذه المعابد الذي أكسبنا كثيرًا من الفوائد قد رجعنا إلى الفندق، ومررنا في أثناء رجوعنا على سراي الملك، وقضينا بقية يومنا في راحة تامة، ونعمة عامة.
وفي اليوم التالي ليوم زيارة تلك المعابد كان ابتداء الحفل الديني عندهم، وبمجرد أن أصبح الصباح صاروا يضربون الدفوف، ويدقون الطبول الدينية بغاية الشدَّة والقوة؛ إيذانًا للناس بأن ذلك اليوم هو مبدأ الاحتفال، وتوجهنا بعد الظهر قريبًا من المعبد، فرأينا الصبيان يهرولون حتى يطلعوا سلالم المعبد، ثم ينزلون، ثم يعودون إليها، ثم ينزلون عنها، وهكذا قد فعلوا ذلك مرارًا عديدة بغاية السرعة والنشاط فرحين مستبشرين بعيدهم، وبعد أن انتظرنا ساعتين في وسط هذا الازدحام الشديد والطبول والغوغاء قد أنزلوا صندوقين من ذهب من شكل معابد الديانة الصينية، وأخبرونا أن بكل واحد منهما تاريخ باني المعبد، وخُطَبه بخَطِّه وإمضائه، وكل واحد منهما كان محمولًا بالرجال يحمله ٧٥ رجلًا، وكان كلما اشتد بهم التعب، ونزل عليهم العرق يُرَوِّح لهم أناس قد خُصصوا لذلك بمراوح كبيرة، ولما مروا بهما على الناس صاروا يهتفون بألفاظ مصحوبة بالتضرع والابتهال، وأظنها أدعية، وكنت ترى البعض راكعًا، والبعض ساجدًا، إلى غير ذلك من أنواع التعظيم والتكريم، وكان هذا الاحتفال لأجل نقل الصندوقين من معبد إلى آخر؛ ليبيتا فيه ليلتهما، ثم يرجعوهما في اليوم الثاني في الاحتفال الأكبر، وفي اليوم الثاني للاحتفال كان الجو غير معتدل، والسماء غير مصحية، وأصبح الندى متكاثرًا، والسحاب متراكمًا، والرطوبة شديدة، وقد أخبرونا أن الاحتفال سيبتدئ في هذا اليوم من الساعة العاشرة، ثم أخبرنا بعد ذلك أن ابتداءه سيكون في الساعة الحادية عشرة، ولما خرجنا من الفندق لرؤية ذلك الاحتفال وجدنا الطرق مزدحمة ازدحامًا شديدًا، وباعة الألعاب في بهجة وسرور يبيعون ما معهم من الألعاب، مهما كان نوعها إلى الأطفال بغاية السهولة وبقدر ما يريدون من الأثمان، فكان منهم أناس يبيعون السمك الأحمر، وآخرون يبيعون السلحفاة، وآخرون يبيعون أشجارًا عاجزة، إلى غير ذلك من الأشياء المقدَّسة عندهم، المحترمة في اعتقاداتهم، وغير هؤلاء كثير من الناس يبيعون أنواع المأكولات، وكان يشتري منهم كثير من هذا الجم الغفير، والعدد الكبير.
ولما وصلنا قريبًا من المعابد وجدناهم في غاية الاستعداد؛ قد أحضروا للزائرين خيامًا كبيرة، فيها كثير من الفرش والكراسي الفاخرة، فلما جلسنا وجدنا أمامنا (كشكًا) صغيرًا مختصًّا بعائلة توكوجاوا، الذين هم من نسل هؤلاء الأمراء الذين أسسوا هذه المعابد، وشيدوا هذه المعاهد، ولهم أرفع صيت باليابان، وكبيرهم في الوقت الحاضر هو رئيس مجلس الأمة اليابانية، وفي هذا اليوم قد تواترت الطبول، وارتفعت الأصوات، وكثر الازدحام، وبقينا على هذه الحالة ولم نرَ شيئًا سوى ذلك حتى جاءت الساعة الثانية عشرة ولم يحضر شيء، فسألنا عن سبب ذلك، فأخبرونا أن التأخير ناشئ من شجرة عندهم، يسمونها شجرة الإله يحملها ١٥٠ رجلًا، وكلما مرت على ملأ من الناس يجتهدون في أخذ شيء من أوراقها، أو أطراف فروعها الصغيرة يتيمنون بذلك، ويتبركون به، ولما قربت منا ابتدأت الأجراس تدق، وهذه الأجراس كثيرة ما بين صغير وكبير، وأكبرها يبلغ ارتفاعه ثلاثة أمتار، وقاعدته ثلاثة أمتار ونصف متر، وكيفية ضرب هذا الجرس أنه معلق وبجواره حبل طويل معلق أيضًا، وفي وسطه عرق من الخشب، فالرجل يتعلق بهذا الحبل ويهز نفسه، وبهزه لنفسه يضرب العرق في الجرس فيدق ذلك الجرس.
ووقت الظهر قد شرف الاحتفال رئيس عائلة توكوجاوا، ودخل المحل المعدَّ له ومعه ثلاثة من كبار القسوس، فابتدأ الاحتفال بالترتيب الآتي: أولًا: رجال يحملون الكرسي المقدَّس، وبعدهم آخرون يحملون الشجرة المقدَّسة، وعددهم ١٥٠ رجلًا، كلهم لابسون لباسًا أبيض، ثم مائة رجل من الحرس يحملون الحراب، ثم بعد هؤلاء رجل لابس وجهًا صناعيًّا مشهورًا بحمرة وجهه، وطول أنفه، ثم ثلاثة رجال لابسين جلود سبع ويمشون مشيته، ثم ثلاثة آخرون يلبسون جلد لَبُؤَة ويمشون مشيتها، ثم ثلاثة آخرون بمزامير، ثم ثمان نساء يرقصن الرقص المقدّس الذي يصنع عندهم في معابدهم، ثم اثنان من القسوس على خيل، وكل واحد حوله أربعة من الخدم، ثم يمر خلفهم ثلاثة خيول مقدَّسة، ثم يمرُّ نحو خمسين رجلًا يحملون بنادق قديمة، ثم خمسون آخرون يحملون أقواسًا بنبالها، ثم خمسون يحملون سيوفًا، ثم مائة رجل مدرعين، ثم اثنا عشر غلامًا يحملون أزهارًا، ثم خمسون رجلًا لابسون وجوهًا صناعية، ثم أربعة قسوس حاملون مراوح مقدَّسة كبيرة، ثم قسيس كبير راكبًا فرسًا متقلدٌ سيفًا مقدسًا، وخلفه قسيس آخر يحمل سيفًا مقدسًا أيضًا، ثم أحد عشر مزراقًا برايات وبيارق مجعولة على كرسي يحمله خمسة وخمسون رجلًا بلباس أبيض، وبعد ذلك ثلاثة رجال لابسين لباسًا أبيض أيضًا يحملون دفًّا كبيرًا، ثم رجل يحمل جرسًا، ثم ثلاثون غلامًا يلبسون لباسًا ووجهًا بهيئة قرود ونسانيس، ثم عشرة رجال قابضين على عشرة نسانيس، ثم ستة من القسوس راجلون، ثم خمسون قسيسًا من ذوي الدرجات الصغيرة راجلون أيضًا، ثم اثنا عشر موسيقيًّا، ثم عشرة رجال حاملين صقورًا، ثم مقعدتان من الخشب مجعولتان لحمل الكرسي المقدَّس، ثم قسيس يحمل الورقة المقدَّسة، ثم قسيس آخر من ذوي الدرجات العالية راكبًا فرسًا وخلفه قسيس آخر مثله، ثم القسيس الأكبر راكبًا على فرس أيضًا، وخلفه خمسون رجلًا من خدم المعابد، ثم الكرسي المقدَّس الأكبر يحمله خمسون رجلًا بلباس أبيض وخلفه أربعون من الحرس، وبعد ذلك جرس ودف، ثم مقعدتان ثانيتان، كل واحدة منهما يحملها رجلان، ثم قسيس آخر يحمل ورقة مقدسة ثانية، وخلفه عشرون من الحرس، ثم كرسي مقدس يحمله خمسون رجلًا، ومعهم عشرون من الحرس، وله جرس ودف ومقعدة، وقسيس ثالث يحمل ورقة ثالثة مقدَّسة، وعشرون من الحرس، وكرسي ثالث يحمله خمسون رجلًا ذوو ملابس بيض، وخلفه قسيس، وفي آخر هذا المحفل يمر ثلاثة قسوس راكبين خيلًا، وأحسن ما في هذا الاحتفال أن جميع من به يكونون بملابس الهيئة القديمة التي مضت من ثلثمائة سنة، وكان يشتمل على كثير من البيارق اللطيفة والرايات الملوكية الجميلة، ثم لما انتهى هذا الاحتفال توجهنا إلى الفندق؛ لأجل تناول طعام الغداء، وقد رغبنا رئيس الفندق في زيارة المتحف الصناعي الذي هو تابع لعمودية البلد؛ لأجل أن نرغب الأجانب ونشجع الصناع والتجار، فرأينا أنه لا مانع من ذلك، وتوجهنا لزيارته، فرأيناه في محل جميل المنظر حسن الترتيب، ورأينا أن جميع الأشياء التي به مع جودتها تباع بأثمان قليلة بالنسبة لبيع التجار، وأنه يمتاز أيضًا بتحديد الأثمان، والبيع من غير زيادة ولا نقصان.
وبعد رجوعنا إلى الفندق قد عزمنا على الرجوع صباحًا إلى توكيو؛ وذلك لأننا قد رأينا المطر قد ابتدأ ينزل، وأن الإقامة في الأرياف في أوقات المطر لا تكون سارَّة، بل ربما كانت ضارَّة، فاستيقظنا صباحًا عند طلوع الفجر؛ لأجل أن يمكننا النزول في قطار الساعة السادسة ونصف، وإنما رغبنا في الركوب فيه؛ لعلمنا أنه يكون قليل الازدحام بالنسبة لقيامه في الصباح مُبَدِّرًا، وكانت حالة الجوِّ تشبه وقت الشتاء بمصر، فسافرنا المسافة التي كنا سافرناها للحضور إلى نيكو، وحيث إننا قد كنا أخبرنا الفندق الذي كنا فيه بإيابنا بتلغراف، فبمجرد وصولنا إلى المحطة وجدنا عربة بحصانين منتظرة لنا من قبل الفندق، فتوجهنا إليه وقابَلَنَا جميعُ من به من المستخدمين وغيرهم بغاية الترحاب والإجلال، ووجدنا أن المحل الذي كنا به باقٍ مستعد لنا، وبه كل ما تركناه من الأمتعة، ثم بعد قليل من الزمن ذهبنا إلى محل الغسيل لنجري ما هو لازم لنا، ثم نستعدُّ إلى تناول الطعام، وبعد تناوله قد استرحنا ساعة، وبعد ذلك خرجنا قاصدين رؤية الدكاكين التي لم نكن قد رأيناها من قبل.
وفي ثاني يوم كنا قد حصلنا من جمعية السلام على تذكرة دخول في جنينة الترسخانة المشهورة بكونها أعظم جنينة بديع رسمها، ومنفردة بما اشتملت عليه من الأشجار الكثيرة المختلفة الأجناس، والزهور البديعة المتباينة الأشكال والألوان، وأغلب (الكرت بوستال) التي يكون بالمناظر اليابانية التي هي عبارة عن نساء وأطفال بين أشجار وأزهار من فوتوغرافية هذا البستان، ومع كونها أشهر بستان عندهم فإني لم أجدها أحسن من البستان الصغير الذي يسمى: ساتا كي، فإني أراه أعظم منها بالنسبة لحسن إتقانه، وكثرة ما اشتمل عليه من أنواع الأشجار، وبديع الأزهار، وشاهدت الترسخانة فرأيتها كبيرة، وعلمت أن اليابانيين يعملون بهمة عالية ونشاط مستمر، وبرجوعنا إلى الفندق من هناك قد رأينا بأحد البساتين خيامًا كثيرة وزينة باهرة، فسألنا عن ذلك، فأخبرنا الترجمان بأن هذه الزينة زينة عيد الصليب الأحمر الذي هو مختص بالمستشفيات وقت الحرب، وكانت السكك مزدحمة، فأخبرنا أن الملكة وولي العهد يشرفان هذا الاحتفال، وأمام هذا الاحتفال محل آخر معد للسيدات الوطنيات اللاتي ساعدن بكل ما عندهن في الحروب الأخيرة، والملكة هي رئيسة هذه الجمعية التي هي جمعية السيدات، وكان على كل ١٥ مترًا عسكري من البوليس، فلما رأيت ذلك حاصلًا في بلدة في غاية الأمن وحب الأهالي إلى العائلة الحاكمة تعجبت من لوم الناس على الإكثار من البوليس في مثل مصر أو إسلامبول.
وكان جميع الأعضاء لابسين مدليات ذهبية أو فضية؛ إشارةً إلى أنهم تابعون لهذه الجمعية، ثم أخبرت أن كل من يدفع عشرة جنيهات يكون عضوًا بها.
وبعد الظهر قد توجهنا لرؤية بساتين ورياض أخرى غير التي رأيناها ثم أخبرت أن كل من كان غنيًّا، وعنده شيء يستحق التفرج عليه يمكن الاطلاع عليه، والوصول إليه بواسطة جمعية السلام؛ حبًّا في الاطلاع على صناعاتهم، والافتخار بعمالهم، وبعد ذلك قد توجهنا إلى بستان النباتات الأميري فوجدناه وإن كان ليس أجمل من البساتين التي رأيناها بأوروبا؛ إلا أنه في غاية الانتظام، وأمام كل شجرة من أشجاره لوحة فيها اسم هذه الشجرة باللاتيني والياباني، ولحبي للأشجار ولمن يعتني بحسن وضعها أردت أن أتعرف بأحد نظار هذا البستان، وقد تم لي ذلك فعرفت أحد نظاره فرأيته شابًّا لطيفًا يتكلم باللغة الإنجليزية، ولكن من الأسف أنه أصم، فاضطرتني الحالة للتكلم معه بأرفع صوت حتى أجهدت نفسي في إسماعه، وهذا البستان كبير وفيه شجر كثير، ولما مشيت فيه ولم أجد شيئًا من حسن صنعته مما يلزم أن يكون في البساتين الشهيرة؛ عرفت أنهم ليس لهم دراية بإيجاد بساتين من العدم، وجعلها على أحسن ما يكون من النظام، بل غاية ما في إمكانهم أنهم ينتخبون محلًّا فيه أشجار طبيعية ليكون بستانًا، ثم يضعون فيه من الأشجار ما شاءوا بدون ملاحظة ترتيب في الوضع، أو إتقان في الصنع، وأغلب بساتينهم صغيرة ليست بقدر بساتين الجيزة، ولا تساوي بستان سراي الزعفران، ولا تضاهي بستان البرنس حسين باشا كامل الموجود بالجيزة، وحيث إن بساتينهم صغيرة فإنها تسقى غالبًا بالأمطار، ولا تحتاج إلى كثير من الخدمة، والذي يحسن منظرها هو أن كل واحد منها يوجد بداخله نهر صغير صناعي، وبركة في وسطها جزيرة تشتمل على كثير من الأزهار والنباتات النضرة، والأعشاب الخضرة، ولأجل الوصول إليها يتوصل إما بواسطة قنطرة، أو بواسطة طريق من أحجار موضوعة يمر الماء من بينها، وحيث إن بساتينهم طبيعية — كما قدمناه — فلا توجد فيها البهجة والعظمة اللتان يوجدان في بساتين أشهر عواصم أوروبا، ومع ذلك فإني مسرور من بساتينهم بالنسبة لحداثة مدنيتهم، ولا أقول ذلك تنقيصًا لهم، وإنما هو بيان للحقيقة.
وعند الرجوع إلى الفندق قد مررنا على الكنيسة البروتستانتية، فوجدنا كثيرًا من الرجال والنساء؛ ففهمنا أنهم مجتهدون في إدخال كثير من الناس في دينهم، واعتناق مذهبهم، وكذلك قد علمنا أن الراهبات التابعات إلى القديس بولس لهن بيت ومدرسة، وهنَّ كذلك مجتهدات في إشهار مذهبهنَّ، وقبل الوصول إلى الفندق قد مررنا على عدَّة دكاكين بقصد شراء شيء جميل من صنعة الأشغال اليدوية الحريرية والقصبية؛ لنقدمها لدولة الوالدة المصونة؛ لتكون تذكارًا لرحلتي هذه، وقد أكثرت في البحث حتى أجهدت نفسي فيه؛ لأجل العثور على شيء يليق بدولتها يكون مشغولًا بالصنعة اليابانية أو الصينية؛ لأن الاعتناء بوضع الأشكال الجميلة والزركشة اللطيفة يحتاج إلى دقة وتفكير، وفكر واسع، وتعب كثير، وإن أهل أوروبا قد فاقوا غيرهم في حسن الاختراع، وبرعوا في إتقان الأشكال والأوضاع، وبعد جهد جهيد قد اشتريت أحسن ما رأيت.
وآخر يوم من إقامتنا بتوكيو كانت السماء ممطرة، ولكني قد أحببت أن أتوجه قبل السفر إلى أحد الخياطين الصينيين لعمل كسوة صيفية على سبيل التجربة؛ لأن لهم شهرة فائقة في تفصيل الملابس وخياطتها وكيها، وبعد ذلك قد توجهت لزيارة متحف الأسلحة، فوجدناه يستحق التفرج؛ لكونه يوجد فيه أسلحة كثيرة وزرود وزروخ، وغير ذلك من الأسلحة التي كانت تستعمل في الأزمان الغابرة، وهذا المتحف بداخل بستان، وفي هذا البستان جملة من المدافع والجلل والأسلحة التي كانت قد أخذت من الموسكوف في الحرب الأخيرة، وجملة تروس من صلب مخروقة ومكسرة من الضرب؛ لأجل أن يعرفوا الناس ما وصلوا إليه من قوَّة مدافعهم وأسلحتهم التي هي من صنع أيديهم في بلادهم ومعاملهم، ثم تفرجنا على جملة أسلحة قديمة، وبعد ذلك دخلنا في محل آخر فوجدنا فيه كثيرًا من السيوف القديمة المشهورة، وفيها كثير من سيوف الملوك والقوَّاد والجنرالات، ثم دخلنا محلًّا آخر فوجدنا فيه دروعًا من أشكال مختلفة، وكلها بديعة، وباطلاعنا عليها ورؤيتنا لها علمنا أن ما عند التجار من مثل هذه الأشياء — ويزعمون أنه شيء عظيم — ليس فيه شيء يذكر بالنسبة لما هو موجود في هذا المحل، ثم دخلنا محلًّا آخر فوجدناه مملوءًا بالبنادق الكبيرة التي لا يمكن أن يحمل الواحدة منها إلا رجلان، ثم ذهبنا إلى جهة أخرى، فوجدنا فيها جملة بيارق مأخوذة من بلاد الصين وبلاد كوريا وبلاد الموسكوف، ومن ضمنها سرير السفر التابع لقائد جيش الموسكوف الجنرال كروباتكين، وبعد ذلك دخلنا محلًّا آخر فوجدنا فيه صور الملوك وقوَّاد الجيش الذين كان لهم الشهرة في الحروب، مرسومة برسوم بألوان زيتية، ومع كون هذا المحل ليس بكبير بالنسبة للمحال الموجودة بأوروبا، ولكنه جدير بالعناية به، وجعله محلًّا للنظر والزيارة.
وبعد الظهر قد توجهنا إلى سفارة إنجلترا لأداء الشكر للموسيو (رامبولد)؛ لكونه قد حصل لنا من السراي الملوكية على إذنين، أحدهما بزيارة السراي الملوكية (بكيوتو)، والآخر بزيارة قلعة (ناجويا)، ولتقدمة الاحترام لامرأة السفير، وعند الرجوع إلى الفندق قد أخبرني موسيو (برونفسكي) أنه في صباح غد سيحضر لنا بطاقة توصية لجمارك الروسيا، وبقينا ليلتنا هذه نحضر لوازمنا ونستعدُّ للسفر، ومن هذا الوقت الذي عزمنا فيه على مبارحة هذه البلد بعدنا عن السفارات وشركة كوك، وغير ذلك من الأشياء التي توجد في بلاد الحضارة والتمدين، وحيث إن المشقة في ظني أنها ستكون أكثر بعد مبارحتي لهذه البلدة دعوت الله تعالى أن يلاحظني بعين عنايته، ويتولاني بحسن رعايته، وتكلمت مع وكيل رئيس جمهورية أمريكا سابقًا موسيو فريانكس الذي كان معنا في نيكو، وأخبرني أنه مسافر إلى الصين معنا، وأنه سيعود معنا إلى أوروبا إن شاء الله تعالى.
ثم في اليوم التالي قد توجهنا إلى المحطة الساعة السابعة صباحًا، وركبنا القطار المتوجه إلى (ناجويا)، وقد سار بنا هذا القطار في منتصف الساعة الثامنة، وقد وجد معنا في العربة أربعة رجال من اليابانيين وفيهم رجل ضخم وبعينيه حول، وآخر شيخ هرم نحيف الجسم يظهر عليه أنه من أسرة عظيمة، وعشيرة كريمة، تلوح عليه الهيبة والوقار، والشرف والاعتبار، ولكنه لضعف جسمه، وانتهاك قوته لا يمكنه أن يتكلم ومعه رجل آخر، كنت أظن أنه حكيم أو كاتب له؛ لكونه كان قائمًا بخدمته بكل إخلاص وهمة ونشاط، وأما الرجل السمين الأحول فقد دخل في نفسي أنه القائد مرشال، أو ياما الذي كان قائدًا عامًّا في حرب الصين والروس، وأنه في سياحة بملابس غير رسمية، ولم يودِّعه أحد عند ركوبه القطار في محطة توكيو سوى رجل ميرلاي عسكري، أما الرجل الشيخ الهرم النحيف الجسم؛ فإنه كان مسافرًا سفرًا رسميًّا غالبًا؛ لأنه ودَّعه نحو ٢٥ رجلًا، ثم إن المرشال نزل في محطة صغيرة ومعه خادم صغير في غاية النظافة، لا يزيد سنه عن ١٥ سنة، وهو حامل لشنطته، وبعد محطة أخرى قد نزل ذلك الشيخ فكان في انتظاره نحو ٤٠ رجلًا ما بين ملكي وعسكري، ويظهر عليهم جميعًا أنهم من طبقات عالية، وقابلوه بغاية التكريم والتعظيم وصاروا يسلمون عليه بالركوع، ويظهرون له غاية الخشوع، وكل واحد منهم أخذ يقدِّم له ورقة زيارته مع الأدب التام، ولما سألت عنه الترجمان أخبرني أنه رئيس مجلس الأمة، فقلت في نفسي لعلها قد أعطيت له وظيفة شرف؛ لكونه من عائلة شريفة، وذلك بالنسبة لكونه في غاية من الضعف وانتهاك القوى لا يطيق الكلام إلا بكل مشقة، وأظنه عند خروجه من توكيو كان يحدِّث نفسه: هل يعود إليها ثانيًا بالسلامة، أو يقضى عليه في غيبته لما هو فيه من الضعف التام والاضمحلال العام؟!
وبعد مضي عشر دقائق من الساعة الخامسة بعد الظهر قد وصلنا إلى ناجويا، وهي بلدة عظيمة مشهورة بقلعتها وبالسراي الملوكية الموجودة بها، وعدد سكانها يبلغ ٢٨٠٠٠٠ نفس.
وأما السراي الملوكية الموجودة بها فهي قديمة البناء من مدة تزيد عن ١٦٠٠ سنة، وعند ذهابنا إلى الفندق قد مررنا بشارع واسع وطويل جدًّا، وهو يعرف عندهم بالشارع الكبير، وهو شارع في غاية البهجة، وجمال المنظر، تحفه الأشجار من جهتيه، ويمر به ترام كهربائي، وهو مستضيء بالنور الكهربائي أيضًا، وقد كان وصولنا إلى الفندق في عشرين دقيقة، ولما سألنا عن حُجَر للنوم قالوا لنا: هل كنتم حجزتموها قبل ذلك بواسطة إرسال تلغراف للفندق؟ فأخبرناهم أننا لم نفعل ذلك، فأخبرونا أن الفندق لا يوجد به الآن إلا محلان، أحدهما بالدور الأسفل، والثاني بالدور الأعلى، ولكن لما حضر الترجمان وعرفهم بنا أعطوا لنا محلين متجاورين من أنظف محال الفندق، وأحسنها رونقًا وبهاءً، وأعدلها هواءً، وأكملها استعدادًا، ولما نزلنا به رأينا أنه ليس فيه إلا نحو عشرين سائحًا، ورأينا أن خادمات هذا الفندق كلهن نساء، ولكنهن أقل درجة في الخدمة من الفنادق الأخرى، غير أنهن يكثرن الضحك، ويبدين الزينة، ويَمِلْنَ كثيرًا إلى المداعبة والملاعبة، وأما خدمتهن فليست بشيء يذكر بالنسبة لما هو موجود في فنادق توكيو أو نيكو أو غيرهما من البلاد الشهيرة.
وللسُّرُر في هذا الفندق ناموسيات؛ لأجل الوقاية من الناموس، وإنما ذكرت هذا ليعلم أن هناك ناموسًا مثل الذي يوجد في بلادنا.
وفي صباح اليوم التالي قد توجهنا لرؤية معمل يشتغل أواني فخارية من الأواني العادية الرخيصة الثمن، فوجدت هذا المعمل يشتغل أنواعًا كثيرة منها تعدُّ بالألوف.
ومن هناك قد توجهنا إلى رؤية السراي الملوكية، ولما قربنا منها قد رأينا في طريقنا عدَّة نقط عسكرية في محال قد خصصت بهم، ورأينا ميدانًا واسعًا معدًّا لاستعراض الجيش فيه، ولما وصلنا إلى السراي وجدناها محاطة بقلعة، وحولها جسر صناعي من الأحجار، وخندق عريض، غير أنه مملوء بالماء، وعند إرادة الدخول فيها قد طلب منا الحارس الذي على الباب الورقة التي تفيد الإذن بالدخول، فأطلعه الترجمان على الجواب الذي معنا بذلك، فلما اطلع عليه وعرف ما فيه أذن لنا بالدخول، فدخلنا القلعة بالعربات، وسرنا بها إلى أن وجدنا أنفسنا في بستان عظيم كله فواكه، وغالب شجره برقوق، وفي وسطه بئر عميقة، ثم بعد ذلك وصلنا إلى خندق، ووصلنا من باب كبير قديم إلى بستان آخر، ورأينا به كشكًا صغيرًا، وصلنا إليه بعرباتنا، ثم نزلنا هناك فوجدنا كثيرًا من الخدم، فذهب الترجمان ليريهم الإذن، ولما تحققوا منه طلبوا منا أن ندخل ونكتب أسماءنا في دفتر السراي، وبعد ذلك قد لازمنا خادم منهم، وسار بنا لأجل أن يطلعنا على كل شيء يحسن الاطلاع عليه، ثم دخلنا وتوصلنا من باب للخندق إلى بستان آخر، وهذا الباب من خشب قديم الصنع، ومغطى بالنحاس القديم أيضًا، ورأينا هذا البستان فيه فواكه كثيرة، أكثرها البرقوق كذلك، وفي وسطه بئر كالتي رأيناها في البستان السابق، غير أنها مغطاة بشبكة من حديد للمحافظة عليها لعذوبة مائها، وبالسؤال عنها علمنا أنها خاصة بشرب الميكادو، ثم أرانا الخادم السراي فوجدناها مبنية على متراس متين من الحجر، وهي خمسة أدوار، وبناؤها من شكل المعابد الصينية، وعلى آخر سقف الدور الأعلى منها من الناحيتين سمكتان بشكل الضرفيل، وأعطانا نظارة لأجل رؤيتهما، فرأيناهما ووجدناهما من الذهب، وارتفاع كل واحدة منهما ثلاثة أمتار، ويقال: إن الواحدة منهما مصنوعة من ١٨٠٠٠ قطعة من النقود الذهبية القديمة التي كانت تسمى: (كيشوكويان)، وهي الآن تقدر بثلاثة ملايين ونصف (ين)، وهما غاية من الإتقان في جودة الصنعة وحسن الشكل.
وأما السراي؛ فهي من بناء أحد الأمراء البانين معابد بلدة نيكو من عائلة توكوجاوا، وكان من الأغنياء المشهورين وأصحاب الثروة المعدودين، وقد قدَّمنا أن هذه العائلة لا تزال في غاية الشهرة، ولا يزال منها رئيس الأمة، وهي أغنى من الإمبراطور، وقد أعطيت هذه السراي للإمبراطور والبلد هدية منهم من نحو ٤٠ سنة، والقلعة التي بها هي في غاية من الإتقان، وجمال الصنعة، ومتانة البنيان، وكل ما اشتملت عليه هو من الغرابة بمكان حتى إن ضباط اليوم يرون أن عمل مثلها الآن ليس في قدرة الإنسان، ومن عجيب إتقانها، وغريب إبداعها أن جميع أركانها وأوجهها يمكن أن ينظر منها العدو، مع كونها محفوظة بوقايات تقيها من وصول الضرر إليها، فسبحان من علم الإنسان، وخصه بالعقل والعرفان، ولما أردنا الدخول فيها اضطرتنا الحالة إلى أن نمر من المتراس الذي عليه السراي، وهو مبني بأحجار كبيرة تشبه الأحجار المبني بها الأهرام المصرية، وبالقرب من الباب مكتوب على أحد هذه الأحجار اسم ذلك القائد الكبير والمثري الشهير الباني لها وتلك الكتابة بالنحت في الصخر.
وهذا المتراس المتين والحصن المنيع ارتفاعه ١٠ أمتار، ولما دخلنا فيه وجدنا الدور الأرضي عبارة عن مخازن للجيش، وبوسطه بئر أخرى تسمى: بئر الذهب؛ لأنهم كانوا قد ألقوا فيها كثيرًا من الذهب، وإن كانوا يهزمون من المتاريس الثلاث والخنادق التي في الخارج وينحصرون في الداخل يكون لهم بئر يمكنهم أن يشربوا منها ويأكلوا مما هو مدَّخر في المخازن، والدور الأول كله محال للعساكر، غير أنهم كانوا ينامون على حصر، بعضهم بجوار بعض، فكانت تسع ٣٠٠٠ عسكري، وبجوار الحائط منافذ يمكن أن تفتح في وقت الحرب، وبواسطتها تصيب عساكرهم كثيرًا من عساكر العدوِّ على بعد ١٥٠ مترًا من الأرض، ولا يمكن العدوُّ أن يصيب منهم أحدًا؛ لأن الأسلحة في تلك الأيام لم تكن تصيب إلى النقط البعيدة، ومما أرانا إياه الخادم خشب كثير، سريع الالتهاب، يشبه خشب الإشراق، وأخبرنا أنهم كانوا يلقونه على الأعداء ملتهبًا.
والدور الثالث والرابع مثل الدور الأول سواء بسواء، أما الدور الخامس؛ فإنه مسكن القائد وكبار الضباط، ويوجد بين هذه الغرف رحبة كبيرة، وفي وسطها (طربيزة) من خشب، ومقسمة إلى درجات، وفيها رسم الجهات الأصلية الأربع، ومؤشر عليها بأسماء البلاد الكبيرة وطرقها، والمنظر منها إلى البلاد في غاية الجمال؛ لعدم وجود الجبال المانعة من النظر إليها، وفي كل جهة كرسي مثل الكرسي الذي يتلى عليه القرآن في المساجد، ومما رأيته من الترتيبات علمت أنه يمكنهم أن يروا كل شيء في وقت الحرب وهم في أماكنهم، فحصل لي اندهاش عظيم مما رأيته من تقدم حربيتهم، وبديع صنعتهم؛ حيث إني أيقنت أنهم صاروا في غاية الاستعداد، لا ينقصهم شيء مما يلزم أن يكون في الدول العظيمة، وهذه السراي مع حسن بنيانها، وبديع إتقانها فإنها كلها من الخشب من الدور الأول إلى الخامس، وبها قطع كبيرة من عرض ٨٠ سنتي وطول ١٤ مترًا، وهي في غاية من القوَّة والصلابة، ليس فيها شيء يشينها، ومن باب المزاح سألت الخادم هل يعلم عدد القطع الخشبية الكبيرة الموجودة في السراي، فتبسم ولم يجر جوابًا، وعلم أني أريد الممازحة، ولما لم أجد شيئًا من الأثاثات المنزلية أخبرني الخادم أنهم ليسوا في حاجة إليها؛ لأنهم ينامون على الحصر، وأن البناء من الخشب، فهم آمنون من العوارض الجوِّية، ولما رأى استغرابنا من حسن هذا البناء، ودقة صنعته، ووضعه وضعًا عسكريًّا تامًّا، لا ينقصه شيء أخبرني أن شجر البرقوق الذي رأيناه في البساتين كان غرسه أيضًا لفائدة حربية عظيمة، وهي أنهم إذا حوصروا وانقطعت عنهم طرق الوصول إلى الماء يمكنهم الاستغناء عن الماء بأكل البرقوق لكثرة ما فيه من الماء.
وارتفاع هذه السراي من الأرض إلى نهاية الدور الخامس ٩٥ مترًا، وإنه وإن كان بأوروبا سرايات حربية كبيرة، وقلاع كثيرة إلا أني لا أظن أنهم دققوا في وضعها، وأبدعوا في صنعها، ولم يتركوا شيئًا من اللوازم مثل ما فعل هؤلاء بهذه السراي في أمة شرقية، حديثة التقدم والتمدين.
وفي أثناء خروجنا ونحن في وسط البستان الأول قد عرَّج بنا الخادم على بناء لطيف، ومحل صغير في غاية الإتقان، وجمال البنيان، وأخبرنا أنه مسكن الإمبراطور الحالي وولي العهد في أيام عمل المناورات الحربية، ولما أردنا الدخول فيه أخبرونا بأنه يلزم خلع النعال؛ لأن المحل فيه فرش فاخرة، وأثاثات ثمينة باهرة، ولما دخلنا فيه لم نجد شيئًا من الأثاث غير حصر مفروشة، وأحسن ما فيه أن به سقفين بنقش بديع، وحيطانه عليها رسوم برسم أعظم من برعوا في الرسم في الأعصر القديمة.
وبعد ذلك رجعنا إلى الفندق قاصدين التأهب إلى السفر؛ لأنه لم يبقَ شيء بهذا البلد يستحق التوجه إليه والاطلاع عليه، سيما وأن السوَّاح الذين كانوا معنا بالفندق قد سافروا إلى حيث أرادوا، وقد كان سفرنا من هذه البلدة بعد مضي عشر دقائق من الساعة الخامسة بعد الظهر قاصدين التوجه إلى (كيوتو)، فوجدنا بالمحطة الحكمدار العسكري، ومعه جملة من كبار الضباط، فسألنا عن سبب ذلك، فأخبرنا أنهم ينتظرون الفريق الكوننت كاموره، وبمجرد دخول القطار إلى المحطة ونزول السوَّاح الذين كانوا فيه قد توجهنا لأجل أخذ أماكننا، فوجدنا بجوارنا الفريق بملابس العسكرية ونياشينه، غير أنه خالع جزمة الركوب، ولابس نعلًا بسيطًا، ومعه سبعة من الضباط غير الذين كانوا في الدرجة الثانية، فوجدناهم كلهم مثله بالملابس العسكرية، وخالعين نعالهم فأخذت من ذلك أنهم يحبون الراحة وقت الفراغ من العمل بقدر ما يجهدون أنفسهم وقت الحرب والضرب، وكانت المسافة إلى كيوتو ثلاث ساعات وسبعًا وعشرين دقيقة، مررنا فيها على بلاد بها مزارع عظيمة، وبلاد أخرى منظرها جميل لكثرة الجبال والغابات.
ومدينة كيوتو هي العاصمة القديمة لهذه البلاد، وهي محاطة بجملة بساتين ورياض وجبال وأنهار، وبقيت عاصمة لغاية سنة ١٨٦٩، ثم خلفتها مدينة توكيو، وصارت قاعدة للبلاد اليابانية من ذلك الوقت إلى الآن، وعرض مدينة كيوتو ثلاثة أميال ونصف، وطولها خمسة أميال.
وبخروجنا من المحطة قد وجدنا عربات الركشة لطيفةً، وعجلها باللاستك، وبينها وبين عربات ناجويا فرق كبير، ومررنا في طرق ضيقة لا تكاد تمر منها العربات، وهي باقية على الطراز الياباني القديم، ولم نجد منزلًا واحدًا مبنيًّا بالطراز الأوروبي، ولكنها وإن كانت ضيقة فهي موضوعة وضعًا هندسيًّا على شكل خطوط متوازية وخطوط مثلها متقاطعة معها، وكل شوارعها منوَّرة بالمصابيح التي من الورق المختلف الأشكال، الملوَّن بالألوان اللطيفة، ومكتوب عليها كتابة يابانية، وهذه المصابيح كثيرة كافية للاستضاءة، حتى إذا كانت الدكاكين مغلقة فلا بد من وجود تلك المصابيح عليها.
وعدد سكان هذه البلدة ٣٨٠ ألفًا وفيها ٨٨٠ معبدًا بوذيًّا غير معابد المتدينين بالأديان الأخرى، ولضيق الطرق فيها، وكونها بلدة قديمة ليس بها مركبات كهربائية كالبلاد الحديثة المدنية؛ فلم نصل إلى الفندق إلا بعد أربعين دقيقة، وحيث إن كل منازلها ليست مبنية إلا دورًا واحدًا ظننا أن الفندق ربما يكون كذلك، ولا يكون وافيًا بالغرض المطلوب، ولكن لما وصلنا إليه وجدناه دورين، ولما دخلنا فيه رأيت المحال التي قد أعدَّت لنا وافية بالغرض المقصود، سيما وأن كل محل منها له حمام مخصوص مستوفٍ، وبه المياه الحارَّة والباردة وجميع ما يلزم، وكل غرفة لها شرفة لأجل الجلوس فيها إذا أراد الإنسان ذلك، ثم نزلنا إلى محل الأكل فوجدناه محلًّا لطيفًا، ووجدنا الطعام على ما ينبغي، وفي ثاني يوم قد ركبنا عربات، وتوجهنا إلى الضواحي وطلعنا فوق قمة جبل؛ لأجل زيارة معبد شهير، ووجدنا المنظر من هناك على البلد جميلًا، وقد ألجأتنا ضرورة الوصول إلى هذا المعبد أن نترك العربات، ونمشي راجلين، ونصعد على درجات حتى وصلنا إلى قطعة مستوية مبنية بأحجار محاطة بدرابزين أمام المعبد، وهذا اليوم كان موعد ورود الوفود من جهات مختلفة لزيارة هذا المعبد، وبعد الاطلاع على هذا المعبد، ورؤية ما اشتمل عليه رأيناه لا بأس به، إلا أنه ليس بشيء يذكر بالنسبة للمعابد التي رأيناها في نيكو، وعند رجوعنا من زيارة هذا المعبد قد رجعنا من طريق أخرى، فوجدنا بها دكاكين كثيرة من جهتيها، وهذه الدكاكين قديمة البناء، وفيها كثير من الأشياء القديمة، ولغلوِّ ثمنها، وعدم أهميتها لقلة استعمالها لم نشترِ منها شيئًا، ثم أخبرنا الترجمان أن أحسن المصنوعات الجميلة هي الموجود بتوكيو، وبعد ذلك دخلنا في بعض الدكاكين الكبار، فوجدناه عبارة عن معرض يوجد به أشياء كثيرة، وأعظمها ما هو آتٍ من بلاد الصين فإنه حسن في الرسم، دقيق في الصنعة، وبعد ذلك قد ذهبنا إلى بعض الدكاكين؛ لشراء مراوح يابانية، فوجدت أن المراوح المشغولة بأوروبا على اسم يابانية أحسن من هذه في الوضع، وأتقن منها في الصنع.
وفي اليوم الثاني قد توجهنا لزيارة المتحف التجاري، فوجدناه في عمارة رفيعة البنيان، مشيدة الأركان، وفيه جميع المصنوعات البلدية، وهي تباع بأثمان مناسبة، وبقيمة محددة، يستوي فيها البعيد والقريب، والوطني والغريب، وكان القصد من توجهنا إليه أن نطلع عليه، ونعلم إن كانت أثمان الأشياء الموجودة به كالأثمان التي يباع بها في الخارج أم لا، وتعرفنا برجل هناك يدعى موسيو نشوموره، أخبرنا أنه كان له أخ بإسلامبول، وهما يحبان المسلمين، والذي عرفهم أننا مسلمون مساومتنا السبح والسجاجيد والحرير، فقلت: إن هذه الأشغال تشبه ما في بلدتنا، فدار الحديث بيننا حتى عرفنا، ثم أظهر لنا حبه للمسلمين كثيرًا والديانة الإسلامية، ثم أخذ يسألنا أسئلة كثيرة في الشريعة الإسلامية، ومن الأسئلة: أي ترجمة باللغة الإنجليزية للقرآن الشريف أحسن من غيرها؟ وقد أخبرنا أنهم قد بحثوا كثيرًا في أصول الديانات المختلفة غير الإسلامية، ولكنهم لم يتوصلوا إلى شيء من مباحث الديانة الإسلامية، وأنهم يودُّون ذلك كثيرًا، وقد حمدوا الله تعالى؛ حيث إنهم قد عثروا على مسلمين عسى أنهم يدلونهم على شيء من أصول هذه الديانة الشريفة، فأخبرناهم أن القرآن الشريف نزل باللغة العربية، وأنه مهما ترجم إلى أي لغة أخرى فإنه لا يمكن ترجمته على حقيقته، وبعد تبادل الحديث بيننا قد أعطانا ورقة زيارته، وطلب منا أن نعطيه أسماءنا كذلك، فرجوت عزيزي علي بك رضا أن يعطيه ورقة التعارف والزيارة، وكتبت له اسمي مجردًا عن كل لقب فسُرَّ بذلك سرورًا كثيرًا، وأظهر الشكر والممنونية، وقابلناه بمثل ذلك عملًا بقوله تعالى: وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا، وأداءً لواجب الإنسانية، والحالة العصرية المدنية، وفي اليوم التالي قد أرسل لنا يريد معرفة الوقت الذي يمكنه زيارتنا فيه، فأخبرناه أنه يمكنه ذلك في الساعة الخامسة بعد الظهر، وبمجرد مجيء ذلك الوقت الذي حددناه له قد أتى كما وعد، ولما دار الحديث بيننا أخبرنا أنه مستعدٌّ لقضاء أي مصلحة من مصالحنا وأي خدمة تلزم لنا، ثم حذرنا من التجار اليابانيين، وقال لنا إنهم يطلبون أثمانًا عاليةً بعيدة عن الحقيقة بعدًا شاسعًا، فشكرناه على ذلك.
وفي اليوم التالي لذلك اليوم أصبح الهواء جيدًا، وقد رغَّبنا رئيس الفندق في زيارة شلال (هودزو)، فالتزمنا أن نأخذ القطار الذي يسير في منتصف الساعة التاسعة إلى محطة صغيرة تسمى: (كصيؤكا)، ومنها قد مشينا عشرين دقيقة حتى وصلنا إلى قرية تسمى: (هوزرو)، فوجدنا بها زوارق كثيرة من الزوارق الصغيرة، وكان بالقطار كثير من السوَّاح، حتى أنه من شدَّة الزحام قد اضطروا لنقل أناس من الدرجة الثانية إلى الدرجة الأولى؛ ولذلك قد أرسلنا تلغرافًا لأجل أن يحفظوا لنا زورقًا، ومع ذلك وكوننا قد وصلنا أوَّلًا قبل غيرنا لم يعطونا زورقًا، وكلما خاطبنا واحدًا من رؤسائهم يحيل على الآخر حتى بقينا كذلك نحو ربع ساعة، وفي هذه المدة كان قد ركب جميع اليابانيين حتى ركاب الدرجة الثالثة، فحصل لنا تعب شديد من ذلك، ثم وجدنا سائحًا فرنسيًّا لما وجد هذه المعاملة السيئة نزل في زورق مستعد للسير بدون ورقة وسار به، وبعد ذلك قد أخبرونا أن المطلوب ثمان وعشرون زورقًا، وأنها موجودة كلها إلا أنه لم يوجد من الخدم ما يكفيها؛ فاستغربت من هذه المعاملة مع كوننا من ركاب الدرجة الأولى، وندفع أضعاف ما يدفع هؤلاء اليابانيون الذين اعتنوا براحتهم.
ولما لم نجد راحة رجعنا إلى المحطة، وعزمنا على العودة من حيث أتينا، وصرفنا النظر عن رؤية ذلك الشلال، وبعد وصولنا إلى المحطة بهذه الحالة ومكثنا عندها نحو ثلث ساعة حضروا وأخبرونا أنهم جهزوا مركبًا، وأكثروا من الرجاء والاعتذار عن التأخير، وأخذوا يرغبونني في رؤية ذلك الشلال، فرجعت معهم، ومشيت المسافة التي مشيتها في الذهاب، فوجدت المركب مستعدة وأرضيتها مسقفة، وفيها رجلان يُجَدِّفان، أحدهما من الأمام والآخر من الخلف، وكل ذلك التأخير قد بلغ ساعة ونصفًا، وكان الكدر قد بلغ غايته والتعب منتهاه، والعادة عندهم أن يجلسوا في السفن مربعين، ولكنهم أحضروا لنا كراسي للجلوس عليها، وبعدما دفعنا ٦ ينات أجرة المركب سارت بنا في ذلك النهر، وبعد خمس دقائق قد أخذ النهر في الضيق ودخلنا بين جبلين عاليين متقاربين، واشتد تيار الماء فتركوا التجديف، ثم أخذ كل واحد مداره، وصاروا يباعدون المركب عن الحجارة الموجودة في وسط النهر وشواطئه، وهم في غاية الحذق حتى أن المركب صارت تمر من بين الأحجار كأنها سمكة مائية، فكان الراكب عند دخولها على الصخرة يظن أنها تقابلها لا محالة، وعند قربها منها يبعدونها عنها بغاية السرعة حتى تمر بجوارها ملاصقة لها بدون حصول أدنى خطر، وفي بعض مواضع الشلال كان الماء قليلًا حتى كنا نشعر باحتكاك الزورق على الصخور، وبقينا كذلك مدة ساعة وربع، والمناظر في غاية من الجمال لكونها طبيعية، وهذا النهر فيه كثير من السمك؛ ولذلك كنا لا نمر على جهة إلا ونجد فيها كثيرًا من الصيادين ومعهم كثير من السمك، وهم على قرب من الشاطئ وقرب وصولنا إلى (إياشيما) قد وجدنا الزوارق التي سبقتنا راجعة، ولشدة تيار الماء لا يمكن تركها ونفسها؛ ولذلك قد أجروا لكل واحدة رجلين زيادة عن الذين في المركب؛ لأجل شدِّها بالحبال ضد التيار حتى لا يحصل لها خطر من سرعته، ويستمرون على ذلك نحو ثلاث ساعات ونصف حتى يقطعوا ما قطعناه في ساعة وربع.
ولما رست المركب وجدنا المرسى في منتزه عظيم يحوطه بستان وأشجار جميلة، ولموافقة هذا اليوم للأحد كان به كثير من الناس، وأخبرنا الترجمان أن اليابانيين كانت عادتهم أنهم لا يستريحون من العمل إلا في اليوم الخامس عشر من الشهر، والتاسع والعشرين منه، ولكنهم الآن بالنسبة لمدنيتهم الحديثة وتقليدهم أهل أوروبا صاروا يستريحون في أيام الأحد أيضًا، فركبنا عربات (ركشة يجرها الرجال)، وكان بيننا وبين الفندق نحو ٨ كيلو مترات، فساروا مسرعين بدون انقطاع حتى أوصلونا إليه في نحو ثلاثة أرباع ساعة، ومررنا على كنيسة للكاثوليك وأخرى للبروتستنت، وزرنا أيضًا السراي المسماة سراي الذهب، وذلك لكون سقفها كلها مطلية بماء الذهب وحيطان حجراتها أيضًا، وشكلها ونظامها كسائر البيوت اليابانية، موضوعة في وسط بستان لطيف، وأمامها بركة صغيرة صناعية، وبها كثير من النباتات المائية اللطيفة، وسمك أحمر حسن اللون والشكل، يظهر عليه قدم المدَّة، وطول المكث.
وبعد ذلك توجهنا لمشاهدة بستان الحيوانات، فوجدنا به حيوانات، لكنها ليست كثيرة كالحيوانات الموجودة في بساتين الحيوانات بأوروبا، وحملنا ذلك على كونها حديثة العهد بخلاف بساتين أوروبا.
ورأينا أن المدافع المأخوذة من الموسكوف منتشرة عندهم في كل البلاد والبساتين والمعابد؛ تشجيعًا للأمة وتربيةً للشبان لتعودهم من نشأتهم على الوطنية.
وكيوتو هي بلدة كسائر البلاد اليابانية، وجميع أهلها متعوِّدون على الأشغال من حداثة سنهم حتى أن الأطفال الصغار يعوِّدونهم على حمل الأثقال وجر العربات؛ لأجل أن تقوى أعضاؤهم، وتنمو قوَّتهم، ويتعودوا من حداثة سنهم على تحمل المشاق والمتاعب، ومن النادر هناك أن يرى الإنسان رجلًا فاقد البصر، أو يجد شخصًا مقعدًا، ولكن الأمراض الجلدية منتشرة عندهم خصوصًا القراع، وفي اليوم التالي لذلك اليوم قد ابتدأ المطر بشدَّة، وحيث إنه من المعتاد في البلاد اليابانية لما يجيء المطر يستمر أشهرًا متتابعة مطرًا خفيفًا، وتشتد رطوبة الجوِّ؛ فبعد زيارة كل المعابد والبساتين والدكاكين، ورؤية كل ما يلزم الاطلاع عليه من المتاحف وغيرها قد عزمنا على السفر في غروب اليوم الثاني.
ثم أخبرنا أنه في ذلك اليوم ستباع أشياء كثيرة بطريق البيع العلني، وهذه الأشياء هي تابعة لمعبد من المعابد يراد ببيعها الحصول على نقدية لازمة له؛ لأجل تصليح فيه؛ لأن العادة عندهم أن يهدوا المعابد بهدايا، وهذه الهدايا يعمل منها متحف تابع للمعبد، ثم إذا اضطروا إلى نقود لازمة للمعبد يبيعون شيئًا منها لا يكون شديد اللزوم؛ لأجل الحصول عليها، وهذه الأشياء كانت موضوعة لأجل رؤيتها قبل إشهار مزادها بيومين في بيت لأحد الأغنياء قد تبرع بوضعها فيه؛ إكرامًا للمعبد، فتوجهنا للتفرج عليها، فرأينا أن أغلبها عبارة عن ملفات ورق قديم فيه بعض أشياء تاريخية أو دينية، أو غير ذلك مما لا يهمنا في شيء، وبعض كتب وصور برسم أعظم المصوِّرين القدماء عندهم، وبعض أشياء نحاسية أو خشبية أو غير ذلك، وأحسن ما رأيناه صنية كبيرة من الباغة التي في غاية الجمال، فرغبت فيها ووددت شراءها؛ لأني لم أجد باغة كبيرة مثل هذه، فأخبرني الترجمان أنها معرضة للعطب والتلف؛ لأنها لو وقعت على الأرض تنكسر توًّا فرغبت عنها وتركتها، وعند خروجنا قد وجدنا المطر قد اشتد حتى صار كثير من الناس يمشون حفاة، ويقلعون القباقيب الخشبية مع كونها زهيدة القيمة، وعرضة للتلف، وأنهم في الأيام الحارة يبلونها بالماء؛ لأجل أن تصير رطبة، ولم أعرف السر في ذلك.
وعند رجوعنا إلى الفندق لما علم التجار أننا عزمنا على السفر وجدنا الكثير منهم صار يعرض علينا البضائع بتنزيل نحو ٤٠ أو ٥٠ في المائة، ثم جاء وقت السفر، فتوجهنا إلى المحطة لأجل أخذ القطار إلى (كوبة)، وهي مينا شهيرة، وبينها وبين كيوتو ساعتان وعشر دقائق بالقطار السريع بالسكة الحديدية، وفي منتصف الطريق تقريبًا قد مررنا على بلدة تسمى: (أوساكا)، وهي بلدة كبيرة، وكانت في بعض الأزمان مقر حكومة اليابان، واليوم هي مقر الفبريقات الصناعية اليابانية، وعدد سكانها يبلغ ١٠٠٠٠٠٠ من الناس، وعند دخول القطار عليها يرى الراكب فيه كثيرًا من مداخن فبريقاتها، وهي كسائر المدن الكبيرة على شاطئ نهر يسمى: (يودوجافا)، ومسطحها ٨ أميال مربعة، وبها سراي وقلعة مثل اللتين رأيناهما بناجويا، غير أنهما حصل لهما حريق من نحو ٢٠٠ سنة، ولم يبقَ منهما إلا أثرهما.
ولم نزل سائرين حتى وصلنا إلى كوبة، فرأيناها بلدة مستطيلة على شاطئ البحر، وبها كثير من الناس المختلفي الملل والأجناس، وعدد سكانها يبلغ ٣٠ ألفًا، وتجارتها كثيرة جدًّا حتى أنه في سنة ١٩٠٦ كان مجموع التجارة الداخلة والخارجة يبلغ ثلاثين مليون ين، ومنظرها في غاية من الجمال؛ لأنها موضوعة على شكل قوس على البحر، وهي شبيهة بمينا نابلو الشهيرة بحسنها ورونقها، وكان الوصول إليها الساعة ٧ مساءً، فأخذنا العربات التي تجر كل واحدة منها بواسطة رجلين لكون الفندق في محل مرتفع يعسر الوصول إليه، ثم سرنا إلى أن وصلنا إليه، فوجدناه في غاية البهجة والجمال، ومبانيه في غاية الافتخار، وهو على الشكل الأوروبي لكونه حديث العهد؛ لأنه لم يفتح إلا في السنة الماضية.
وبوصولنا إليه أحببت أن أعطي لجارِّي العربة شيئًا على سبيل المنحة، وحيث إن العادة عندهم أن النقود التي تعطى ممن يركب نصف اليوم من بعد الظهر مثلًا هي خمسون سنًّا أي أربعة قروش، فلما أعطيتهم كثيرًا ظنوا أن الذي أعطيته لهم هو الأجرة، فامتنعوا عن أخذه، فصرت أفهمهم أن هذا غير الأجرة، فلم يفهموا ولم يقبلوا لعدم فهمهم، ولما دفعت لهم الأجرة بعد ذلك من الفندق وتحققوا أن الذي كنت أريد إعطاءه لهم هو غيرها ندموا على عدم أخذه، وصاروا يشتمون الرجل الذي كان سببًا في ذلك.
ولما دخلنا المحال التي أعدت لنا وجدناها على أحسن ما يرام من حسن الرونق وتمام النظام، ووجدنا الأثاثات كلها من الطرز الإنجليزي، وكل حجرة حتى حجرات الخدم لها حمام مخصوص، وما يتبع ذلك من اللوازم، ولما نزلنا إلى المطعم وجدناه محلًّا لطيفًا في غاية من النظافة وحسن النظام، إلا أن الأكل ليس على الهيئة الإنجليزية والشكل الأوروبي، بل هو قليل جدًّا كالعادة المتبعة في سائر فنادقهم، وفي الصباح قد خرجنا للتفرج على البلد، فوجدنا جزءًا عظيمًا على الشكل الأوروبي كأنها قطعة من بلاد أوروبا؛ وذلك لأن اليابان كانت قد أعطتها للأوروبيين؛ ليقيموا فيها لما كانت في حالة الضعف، ولما أرادت أخذها أخيرًا عرضت المسألة على مجلس التحكيم الدولي بلاهي عاصمة هولاندا، فلم يرضَ بردها إليهم، ثم وجدنا في هذه الجهة فنادق، وجملة صيدليات إنجليزية وألمانية، وبعد ذلك مررنا على السكة الكبيرة التي هي أكبر سكة بها، فوجدنا بها كثيرًا من الدكاكين، ومن غريب ما رأيته أني رأيت مروحة يابانية مرسومًا على أحد وجهيها صورة الحضرة الفخيمة الخديوية، وبجواره العلم المصري، فسألت عن ذلك فأخبرت أنها عملت بطلب أحد تجار بورت سعيد، ورأيت كثيرًا من الصينيين حتى أخبرني الترجمان أن البلد بها ١٥٠ ألف صيني، وبها نوادٍ كثيرة من ضمنها نادٍ للصينيين وأغلب البويجية وكتاب البنوك والخياطين من الصين.
ومما يستغرب أن الصينيين في اليابان أنظف منهم في بلادهم، بل إنهم أنظف من اليابانيين أنفسهم، والمناظر كلها واحدة، وغاية الأمر أن في هذه البلدة كثيرًا من الخيزران.
ووجدنا في بوغازها وابورًا حربيًّا نمساويًّا، ثم رجعنا إلى الفندق وقابلنا صاحبه، وأخبرناه عن حالة الذين يجرُّون العربات وسوء صنيعهم، وأنهم أقل من غيرهم ممن هم في الجهات الأخرى أدبًا وأخلاقًا ومعاملةً، فأخبرني أن هؤلاء بالنسبة لكونهم يعاملون البحارة الذين يحضرون على المراكب الحوشي الطباع قد أخذت طباعهم منهم حتى صارت طباعهم سيئة مثلهم، وأخبرني أنه في غاية الضيق منهم؛ ولذلك فإن الفندق له سبع عربات قد غير عليها في السنة الواحدة ثلاثين رجلًا، فأخبرته أنه من ضمن أحوالهم معنا أنهم يطلبون منا أن نخرج للفسحة معهم حتى إذا خرجنا إليها يمشون بنا الهوينى، ولا يريدون أن نقف عند شيء من الأشياء التي يحسن الاطلاع عليها كمحال التجارة وغير ذلك، ويسرعون السير حتى يصلوا إلى جهات غير ممدوحة لا يصح للإنسان الوجود فيها، ولا النظر إليها، ومهما حذرهم الإنسان عن ذلك، وأخبرهم أنه لا رغبة له فيها، فلا بد من مرورهم به عليها.
وبعد الظهر من ذلك اليوم قد تراكم السحاب، وابتدأ المطر والرعد واشتد الهواء، ولكون الفندق حديث البناء؛ فقد دخل المطر من جميع جوانبه، ولخوفي من استدامة المطر وتراكمه، وعلمي أن حالته لا تكون سارة؛ ابتدأت أن أسأم من الإقامة باليابان لكثرته فيها، فحاسبت أصحاب الفندق على المدة التي أقمتها فيه، وأخبرتهم أنهم يوقظوننا الساعة ٦ ويحضرون لنا شيئًا من الزاد صباحًا؛ لأجل أن نتوجه لأخذ القطار إلى (مياجيما)، وعند الصباح قد قام خادمي قبل خادم الفندق وأيقظنا، فنزلنا لأجل أخذ طعام الصباح، وحيث إن الفندق بمحل مرتفع. وإن الوصول إلى المحطة في غاية السهولة، وددت أن أسير إليها راجلًا، وأترك المتاع للخادم يوصله إليها فمشيت، وكان المشي في الصباح جميلًا غير أن المسافة كانت قريبة مثل المسافة التي بين المنيل وقصر النيل، ولما وصلنا إلى المحطة كان وقت قيام الوابور قد قرب، واستغربت لتأخير المتاع مع كونه كان يلزم أن يصل قبلنا بكثير، فأخبرني بوَّاب الفندق أن عادة اليابانيين معاكسة الأجانب دائمًا، وحيث إن الفندق لشركة إنجليزية فهم يعاكسونهم لأجل عدم نزول السوَّاح عندهم مرة ثانية.
ثم سار بنا القطار إلى (مياجيما)، وكان به ثلاثة من اليابانيين يستدل من هيئتهم أنهم تربوا ببعض عواصم أوروبا، أحدهم ضابط، ويستدل من كلامه على أنه قد تربى تربية طيبة، وأما الآخران؛ فيؤخذ من كلام أحدهما وحركاته أنه رجل مشخص، وعند الظهر قد توجهنا إلى عربة الأكل لتناول الطعام، فوجدناهم فيها ورأيناهم يشربون شرابًا مأخوذًا من الأرز يقال له: ساكيه، ولما رجعوا خلع أحدهم شرابه وأخذ يلعب أصابعه لما حصل له من نشوة الشراب، وقد مر بنا القطار على بلدة تسمى: (هيروشيما)، وهي من أكبر موانئ اليابان البحرية، وهي المينا التي كان يحصل منها تعبئة الجنود اليابانية في حرب الصين والمسكوف، ثم نظرنا على بعد، فوجدنا مركبين حربيتين موضوعتين لأجل تمرين الضباط والتلاميذ وتعليمهم.
وفي حالة وقوفنا بالمحطة قد ضم إلى الوابور عربة من الدرجة الأولى، ووضعوا فيها باقات ورد، فلما سألنا عن سبب ذلك قالوا إنه لوكيل جمهورية أمريكا سابقًا الذي سبق الكلام عليه. ثم سار القطار قاصدًا مياجيما، وكانت مقابلة هذا الوكيل رسمية مع كون سياحته غير رسمية، ولما وصلنا إلى مياجيما أخبره ترجمانه أني شقيق خديوي مصر المعظم؛ فسُرَّ بذلك سرورًا كثيرًا، وأكثر من التلطف والحفاوة والإجلال.
ومياجيما هي عبارة عن بلدة صغيرة، وكلها تعتبر عندهم مقدسة؛ لأنها كلها معابد، وهذه الجزيرة من ضمن ثلثمائة جزيرة موجودة على شواطئ البحر المسمى عندهم البحر الجواني، وهي في غاية من حسن المنظر حتى أنه يحتم على كل سائح يأتي إلى تلك البلاد أن يزورها لما احتوت عليه من جميل الآثار، وحسن المناظر الطبيعية، ثم ذهبنا من المحطة إلى الرصيف، ومنه قد أخذنا مركبًا صغيرة حتى وصلنا إلى مياجيما، وحينما وصلنا إليها كان البحر فيه مد وجزر، فلما حصل الجزر لم نتمكن من الوصول إليها إلا بعد مدة، ولما وصلنا إلى الفندق أخبرنا رئيسه أنه بالنظر لكثرة وجود السواح قد أرسل لنا تلغرافًا؛ لأجل أن نتأخر يومين، ولكن هذا التلغراف لم يصل إلينا، فلم نؤخر سياحتنا، وهذا الفندق عبارة عن خمسة محال (كشكات) من الخشب المسمى في الهند بنجلو، وكل واحد منها ما بين ثلاث أو أربع أو خمس أود، وكانت كلها مشغولة، وهذا الفندق موضوع في وسط حوض بين جبلين، وفيه مصب الماء من أعلى الجبل، وقد تأخر المتاع ساعتين حتى أنه قد عدَّى من البحر ووصل إلينا، ولما طلعنا لأجل أن ننظر قدومه وجدنا جملة من الغزلان والثياتل، وكلها مستأنسة ومملوكة لأهالي الجزيرة، وبعد ذلك قد توجهنا إلى المطعم فوجدناه محلًّا لا بأس به، وقضينا ليلتنا هذه بخير حالة، ثم لما أصبح الصباح توجهنا لأجل التفرج على البلد فمررنا بطريق واسعة، ووجدنا بها كثيرًا من هذه الغزلان والثياتل، ووجدنا نسوة يبعن بعض حبوب في قراطيس، والناس يشترونها منهن، ويرمونها لهذه الغزلان والثياتل، ومع كونها مستأنسة لو وجدت من الإنسان أي حركة تنزعج منها.
ومن أجمل ما وجدته في تلك الطريق أن بها فوانيس من حجر موضوعة على أعمدة من الحجر أيضًا، وهي في غاية من حسن الصنع وجمال الوضع؛ لأنها من الأشغال الصينية، وكنا وددنا أن نأخذ بعض الصور فأخبرنا أن الفوتوغرافيا ممنوعة بهذه الجزيرة لأمرين: الأول: أنها مقدسة، وأن جميع ما فيها كذلك، وأنهم يحرمون أخذ صور الأشياء المقدسة احترامًا لها وتعظيمًا وإجلالًا وتكريمًا. الثاني: أنه ممنوع منعًا كليًّا المرور بحيوانات مزعجة لهذه الغزلان والثياتل المقدسة كالكلاب مثلًا حتى بلغ من تعظيمهم أنه لا يوجد حتى عربات الركشة مخافة من انزعاجها.
ثم مررنا على عدة دكاكين في أكبر شارع فيها، فوجدنا الأشياء التي بها لا تستحق الذكر ومنه قد وصلنا إلى المعبد الكبير المشهور الذي قد مضى عليه أكثر من عشرة قرون، وشهرته أنه مبني على أعمدة من الخشب موضوعة في الماء، ولم يحصل لها أقل تأثير مع قدم العهد وطول المدة، وكله مصنوع من الخشب أيضًا، وقد اشتمل على كثير من محاسن الصنائع، وبدائع البدائع، وإنه متى حصل الجزر ينكشف عنه الماء، ومتى حصل المد يدخل في الماء، وعلى نحو مائة متر من رحبة ذلك المعبد يوجد باب في وسط الماء بشكل أبواب المعابد للدخول منه إليه من الماء، وارتفاع هذا الباب ١٦ مترًا، وعرضه ٣٠ مترًا، وهو مبني من قطع كبيرة من الخشب، كل جانب منه كأنه قطعة واحدة، والذي بناه هو أحد الأمراء الذين كانوا قوادًا للجيش بعدما هزم كوريا؛ تذكارًا لذلك وتعظيمًا للمعبد، وشهرة هذا المعبد أيضًا أن الواصل إليه يمر على عدة طرق مسقفة، وموضوع بجوانبها أعمدة من الخشب أيضًا، وكلها موضوعة على البحر، وفيه كثير من القسوس والكهنة والراهبات العاكفين على العبادة، وإذا أعطى الإنسان شيئًا من النقود لهؤلاء الراهبات يرقصن رقصًا خاصًّا قديمًا بالملابس القديمة الدينية، ولما رجعنا وجدنا امرأة تبيع قراطيس من القمح فاشترينا منها بعض هذه القراطيس، ثم إنها دقت جرسًا فبمجرد سماع صوته جاءت حومة كبيرة من الحمام التابع للمعبد وأكلته.
وبعد الظهر قد اطلعنا على باقي البلد، فوجدنا أن أغلب أهاليها من صيادي السمك.
وفي هذا اليوم قد سافر كثير من السواح وحضر غيرهم، وفي اليوم التالي قد زرنا معبدًا آخر فوجدنا فيه حصانين مقدسين وعشرة أشخاص يخدمونهما، وشاهدنا أمام المعبد حصانًا كبيرًا مصنوعًا من البرنز، ومكتفًا بأحبال؛ خوفًا من الهرب في اعتقادهم، ومن مزاعمهم أن الحصان متى بقي في خدمة الإله فإنه لا بد أن يكتسب اللون الأبيض مهما كان لونه الأصلي.
وبعد زيارة هذا المعبد قد توجهنا إلى زيارة معبد سواه، فوجدنا به رحبة كبيرة، وفي هذه الرحبة ألوف من قطع الخشب مسمرة في الحيطان، ومكتوب عليها أسماء بالخط الياباني وغيره، ومن اعتقاداتهم أن من كتب اسمه ووضعه مع هذه الأسماء وكان مسافرًا إلى حرب أو سياحة أو تجارة أو غير ذلك؛ فإنه لا بد أن يعود سالمًا غانمًا آمنًا من جميع الطوارئ، ثم طلبوا مني أن أشتري قطعة، وأكتب فيها اسمي، وأضعها تبركًا فلم أمانع في ذلك، وكتبت اسمي، واليوم الذي حضرت فيه وأعطيتهم ما طلبوه وهو ٢٠ سنًّا، والذي يظهر أنهم يحترمون القطع التي توضع من اليابانيين، وأما قطع غيرهم فإنهم يرفعونها بعد ذلك، فإذا جاء الشتاء جعلوها وقودًا لهم، وإنهم قد انتفعوا بثمنها؛ وإلا فلو بقيت هذه الأخشاب موضوعة من سنين عديدة، ومدد مديدة لضاق المحل عنها ولو وضع بعضها فوق بعض.
وفي هذا اليوم قد اطلعنا على الجرائد فوجدنا فيها أنهم باعوا فنجان شاي وإبريقها بثمن ٢٥٠٠ جنيه، ومحبرة قديمة بلوازمها الكتابية بمبلغ ٢٠٠ جنيه، وهذه الأشياء هي من أشياء معبد كيوتو التي تكلمنا عليها فيما سبق، وهي وإن لم تساوِ هذه القيمة فإنهم يشترونها بها مساعدة للمعابد وحبًّا فيها وخدمة لها.
وفي اليوم التالي قد أصبح الهواء معتدلًا والجو رائقًا والسماء مصحية، فرأينا أن هذه فرصة لزيارة المعبد الذي على قمة الجبل، ولما أخبرونا أن هذا المعبد في محل في غاية الارتفاع، وأن الواصل إليه لا بد أن يجتاز ٢٠ ألف درجة حتى يصل إليه؛ رأينا أن هذا أمر صعب وتعب كثير فأخبرنا أن هناك رجالًا يحملون الإنسان وهو جالس على كرسي من الخيزران حتى يوصلوه إليه، وسهلوا لنا الأمر فتوجهنا إليه ووجدنا هذه الكراسي يجلس الإنسان فيها ويحمل كل واحد منها أربعة رجال كل اثنين من جهة، والذي يظهر في أول الأمر أنها سهلة، ولكنها في الحقيقة متعبة تعبًا كثيرًا؛ سيما وأن السلالم ليست مستقيمة ولا منتظمة، بل هي منحنية ومنحوتة في نفس الصخر؛ ولذلك ترى هؤلاء الحمالين يتعبون تعبًا شديدًا ويستريحون في كل ٥ دقائق، وفي بعض هذه السكة كان الإنسان يرى نفسه على شفا جرف من الجبل فيحصل له انزعاج، وبعد ساعتين و٤٥ دقيقة قد وصلنا إلى ذلك المعبد فرأينا أن المنظر من هناك في غاية الجمال مع كون السحاب كان قد ستر ضوء الشمس، ولو كانت الشمس مضيئة لكان المنظر أجمل من ذلك، وبمجرد وصولنا قد جاءنا قسيس بدفتر معه، وطلب منا كتابة أسمائنا فيه، وإنه يأخذ على ذلك ينًّا، فكتبنا وأعطيناه، وبعد مكثنا هناك نحو ثلث ساعة شاهدنا فيها هذا المعبد واستراح الحمالون قد عدنا، وكان النزول أشق وأصعب، وأشد وأتعب، ولانحدار الطريق وكونها محفوفة بالخطر كان يوجد فيها على كل نحو ٥ دقائق كشك صغير، ووجدنا في وسط الطريق محلًّا للاستراحة، وفيه امرأة تبيع أشياء مرطبة كالشاي ونحوه، فاسترحنا هناك، وفي هذا الوقت ذهب الحمالون إلى الصلاة في معبد هناك، وفي هذا المعبد قِدْر كبير جدًّا من أعجب ما صنعته يد الإنسان، وبعد الاستراحة ركبنا وسرنا حتى انتهت هذه الدرجات، ورجعنا بحمد الله سالمين ووصلنا إلى الفندق، وتكلمت مع ناظره، وأخبرته بأحوال هؤلاء الحمالين وعدم معرفتهم، فأخبرني أن هذه ليست حرفتهم وإنما حرفتهم صيد السمك، وغاية الأمر أنهم يفعلون ذلك لضرورة احتياجهم ولجلب المنفعة لأنفسهم بما يأخذونه من النقود من السواح، وأخبرني أن القسوس إذا أخذوا مقدارًا معينًا من النقود من الشخص يضيئون له جميع تلك الفوانيس الموجودة على شاطئ البحر بجوار المعبد الكبير، فعزمنا على رؤية ذلك، ولكن قد نزل المطر بشدة فلم يمكنَّا أن نبقى حتى نعطيهم هذه النقدية ونرى هذا المنظر، وفي ثاني يوم قد عزمنا على السفر بعد الظهر، وفي الساعة الثانية عشرة أجرنا زورقًا يسمى: (صان بان)، وهي زوارق يابانية مستوية الظهر، وفي مقدمتها عريش صغير مصنوع من البوص الصيني، وهو قليل الارتفاع جدًّا بحيث إن الجالس فيه لا يمكنه أن ينصب قامته بل يجلس منحنيًا، وحيث إن المطر كان نازلًا بقوة، وكان الريح قليلًا فلم يستطع النُّوتيُّ أن يفرد قُلُعَها، وبعد نصف ساعة وصلنا إلى الشاطئ الذي به المحطة ثم مكثنا بها مدة إلى أن جاء القطار السريع، فركبناه ثم سرنا إلى (شيمونوزيكي)، ولما ركبنا بهذا القطار وجدناه أحسن من كل قطار رأيناه في طريق اليابان، وكان به ضابطان زي أحدهما كالزي الإسبانيولي، وحيث إننا كنا سائرين دائمًا بموازاة سواحل البحر كانت المناظر في غاية الجمال، ثم وصلنا في منتصف الساعة التاسعة ليلًا إلى (شيمونوزيكي) وتوجهنا إلى الفندق التابع لمصلحة السكة الحديدية، وهو قريب من المحطة؛ ولذلك مشينا حتى وصلنا إليه فوجدناه في غاية النظافة، وسُقُف حجراته وغرفه مرتفعة ارتفاعًا يشبه ارتفاع سُقُف المباني المصرية، وكل حجرة فيها جميع ما يلزم للإنسان كسائر الفنادق اليابانية.
ولما أصبح الصباح خرجنا للتفرج على هذه البلدة ورؤية المرسى، فوجدت ألوفًا من المراكب الشراعية ووجدت أمام هذه البلدة بلدة أخرى تسمى: (موجي) وهي مرسى للسفن أيضًا، وبها فابريقات كثيرة ومنظرها في النهار ليس بشيء يذكر، ولكن في الليل لما تضاء مصابيح البلدين وتنعكس أشعة هذه المصابيح في البحر يظهر لها منظر جميل، وحيث إننا لم نرَ شيئًا يستحق البقاء لرؤيته قد عزمنا على السفر بعدما كنا عزمنا على الإقامة بها يومين؛ وذلك لأن البلاد التي نريد السير إليها الآن ليست في مدنية البلاد السابقة، وربما حصل ما يستوجب التأخير، ولكن يكون قد سبق العزم، وشيمونوزيكي هي البغاز الموصل إلى فوزان التي هي المينا البحرية لكوريا التي صممنا على زيارتها.
وفي هذه الليلة كان بالفندق وليمة فاخرة لأجل (قومندان) البوليس؛ لكونه قد ترقى إلى وظيفة أخرى أرقى من وظيفته، وكان بها نحو الستين من مستخدمي الحكومة وأعيان البلد، ومن أحسن ما وجدته فيها أنه لما كان يحصل التنافس عادة في محال الجلوس، رأيتهم جعلوا قرعة بين الموجودين ما عدا الرئيس والمحافظ؛ فكل من أخذ ورقة من أوراق الاقتراع يرى نمرة جلوسه فيها فيأخذ كرسيه على حسبها.
وفي الصباح قد توجهنا لرؤية نهر هناك خارج البلد، وذلك النهر مشهور بسرعة تياره.
وقد أخبرنا أن البلاد التي نريد زيارتها بمنشوريا وكوريا شديدة الحرارة، فلم يثنِ ذلك عزمنا على الزيارة، وفي منتصف الساعة السابعة بعد الظهر قد توجهنا إلى الرصيف ووجدنا البحر تتلاطم أمواجه، فركبنا زورقًا صغيرًا ليوصنا إلى الباخرة داخل البحر لعدم استطاعتها أن تلقي مراسيها بالساحل لعظم حجمها، وكان بهذا الزورق كثير من الأطفال والنساء، ولم يكونوا في نظافة تامة، فظننت أن هؤلاء كلهم سيركبون معنا، ولما دخلنا الباخرة وجدنا أن أحسن حجرة فيها محجوزة لأحد أكابر مستخدمي الحكومة، وكانوا أعطونا أولًا محلًّا صغيرًا، وبعدما وضعت فيه أمتعتنا قد أخرجوها ثانيًا، ووضعوها في تلك الحجرة الكبيرة التي كانت محجوزة لذلك الرجل العظيم، ثم جعلوه في محلنا، ولم أعرف السبب في ذلك، ثم صعدت على سطح (الوابور) فلم أجد كثيرًا من الذين كانوا معنا وقت التعدية، فعلمت أنهم كانوا يودعون بعض المسافرين ثم رجعوا إلى حال سبيلهم.
ومن أحسن ما رأيت أني لما نظرت إلى البحر وجدت به كثيرًا من السمك المعروف بالسمك الكهربائي الذي يضيء في جوف البحر، ثم سارت الباخرة في منتصف الساعة العاشرة ليلًا، وصار البحر بفضل الله هادئًا بخلاف ما رأيناه عند نزولنا فحمدنا الله تعالى على ذلك، وقضينا ليلتنا هذه براحة عامة وصحة تامة، ولما استيقظت الساعة السادسة صباحًا وجدت العمال مشغولين بغسل الباخرة وتنظيفها كالعادة المتبعة، فرغبت في جلوسي بالصالون، وكان معنا رجل من اليابان لابس ملابس بحرية تشبه ملابس القبطان (رئيس الباخرة) فظننت أنه هو، ولكنا أخبرنا بعد ذلك أنه مدير عدة مديريات في بلاد كوريا وأنه ذاهب إليها، وفي الساعة السابعة قد صرنا نرى بوغاز فوزان، ولكنا لم نرَها؛ لأنها موضوعة خلف صخر جبلي، ثم مررنا على جملة أكمات وصخور بها قلاع وحصون قديمة، ولما رأينا أننا قد قربنا من البلد أسرعنا لتناول الفطور لأجل التأهب للخروج إليها.
ثم وصلنا إلى مرسى فوزان، وهي عاصمة كبيرة منقسمة إلى قسمين: قسم يسمى بالبلدة القديمة، وهذا القسم محاط بسور عظيم ومنظره جميل إلى (المينا)، وقسم يسمى بالبلد الجديد أو الياباني، ولما وصلنا إليه وجدنا اليابانيين يشتغلون بهمة ونشاط في بناء رصيف عظيم ومحطة كبيرة، ورأينا منظر البلدة حسنًا، إلا أنه لا يساوي مناظر البلاد اليابانية بالنسبة لقلة الأشجار الكبيرة فيها وخلوها من المزارع التي توجد هناك، وبمجرد وصول الوابور إلى المحطة رأينا كثيرًا من أهالي كوريا، فوجدناهم في غاية من القوة وبسطة الجسم، ويظهر عليهم من شكلهم أنهم من أصل طيب، غير أن حالة الفقر مؤثرة عليهم ظاهرة على وجوههم، ولما نزلنا وجدنا أطفالًا صغارًا ذكورًا وإناثًا، حفاة الأقدام، مكشوفي الرأس، مضفوري الشعر، وعلى ظهورهم مَحَامِلُ من الخشب لحمل الأشياء، وحيث إن هؤلاء الفقراء ممنوعو الدخول للقرب من القطار، وإن جميع الحمالين من اليابانيين؛ لأنهم أصحاب السيادة على كوريا؛ ولذلك يمنعون هؤلاء الفقراء بحجة أنهم ليسوا من أصحاب أمانة، وحيث إن إدارة السكة الحديدية والبواخر البحرية كلها يابانية فهم لا يضمنون ولا ينفعون إلا أبناء جنسهم؛ ولذلك قد أعطينا ما معنا من الأمتعة للحمالين اليابانيين؛ حيث إنهم هم الأمناء على زعمهم.
ووقت وقوفنا في المحطة لانتظار الوابور قد تعرفنا برجل لطيف متعلم من اليابانيين يحسن اللغة الفرنسية ويتكلم بها بغاية الدقة، وأخبرنا أنه كان موجودًا بحرب اليابان للروس مستشارًا شرعيًّا، وأنه كان قد سافر إلى فرنسا وتعلم بها، وتعرف في هذه المدة ببعض المصريين الذين كانوا بها، ثم أخبرنا عن كثير من أحوال الحرب اليابانية الروسية، وعما حصل فيها من الفظائع وكثرة المذابح، وأعطانا عدة معلومات عن كوريا، وأخبرنا أنهم كانوا في قديم الزمان أساتذة اليابانيين ومعلميهم، ولكنهم بعد ذلك قد مالوا إلى الراحة والكسل، وتركوا الجد في العمل حتى وصلوا إلى حالة سيئة وفقر مدقع، وانحلت عزائمهم، وخارت قواهم حتى عجزوا عن الزراعة وعمل السكك والطرق المسهلة لتجاراتهم ومنفعة بلادهم، ورماهم بالكذب الكثير والقول من غير عمل، ولما وقع نظرنا على أول كفر من كفورهم رأيناهم في غاية من الفاقة، ودورهم مبنية بالطين المجعول بعضه فوق بعض مثل دور فقراء الكفور والقرى المصرية الصغيرة، وأولادهم حفاة عراة.
وحيث إن ملابسهم من القماش الأبيض، وهو لا يتحمل الأوساخ، بل تسرع إليه بسرعة؛ فتراها في غاية من القذارة، وأخبرنا أنه بداخل دورهم تنانير يحمونها وينامون عليها كالعادة المتبعة في الشتاء عند فلاحي الوجه البحري بالقطر المصري، وكان هذا الرجل يذكر هذه الأشياء بالسخرية وعدم الاستحسان، ومن جملة ما أخبرني به أنه من ضمن عاداتهم أنهم يدفنون موتاهم مدة سنتين تحت قش وأوراق أشجار يابسة، ثم بعد مضي هذه المدة يدفنونهم في الأرض تحت قبة من الطين، وأن أولادهم يموت منهم نحو سبعين في المائة لكونهم معرضين للعوارض الجوية، متروكين على الحالة الفطرية كأنهم أبناء حيوانات عجم؛ ولذلك ترى الباقين منهم في غاية القوة لكونهم قدروا على تحمل جميع المشقات وقاوموا كثيرًا من الصعوبات. وبعد ساعة ونصف وصلنا إلى الجهة التي نريد النزول فيها، ثم أخبرني أنه ذاهب إلى البوغاز الذي كان قد اختبأ فيه الأميرال طوجو بأسطوله، وأن هذا البوغاز يوجد فيه والحالة هذه نحو ٦ آلاف من اليابانيين متوطنين به.
ولما رأيت مزارعهم وجدتها يظهر عليها عدم الخدمة والإهمال، ووجدت لون أحجار جبالها وأرضها أحمر، ويستدل من ذلك أنه لا بد وأن يكون بها كثير من السنوبر، وفي جهات أخرى كانت الصخور تُرى في غاية الزرقة أو السواد؛ لسواد أحجارها، وهذه الأحجار هي التي تؤخذ منها السبورات.
وبقرب هذه الجهات شمالًا توجد معادن ذهبية وفضية، وبها كثير من جمعيات أوروبا لأجل استخراجها، وكان رئيس هذه الجمعيات سابقًا موسيو هانت الأمريكاني، الذي كان قد أعطي من حكومة السودان أراضي كثيرة بشرط أنهم يزرعون القطن وغيره من النباتات المصرية وغيرها، ويعوِّدون السودانيين على العمل، ويعرِّفونهم طرق الزراعة، ولكنه وجد أن هذه الأراضي تحتاج إلى تعب شديد ومال كثير فتركها.
ثم وصلنا بعد مدة إلى بلدة تسمى: تيكو، وهي أيضًا محاطة بسور عظيم مبني من الحجر، ارتفاعه ستة أمتار، وفيها من السكان نحو ٤٥٠٠٠ نفس من أهلها، ونحو ١٠٠٠ من اليابانيين القاطنين بها، وهي أكبر بلدة بجنوب كوريا، ولكني كرهت المناظر؛ لكونها ليست مختلفة، بل يشبه بعضها بعضًا ولعدم وجود الأشجار الكبيرة والأنهر الكثيرة التي تشرح الخاطر ويقربها الناظر، وغاية ما رأيته هناك من الأشياء المشابهة لما في مصر أنهم ينطلون الماء بالشادوف، وعلى كل عشرة أميال يوجد بيت صغير بجوار السكة الحديدية فيه خفر من العساكر اليابانية، وتوجد عساكرهم في جميع المحطات متسلحين كما وجدت عساكر المسكوف في سبريا ومنشوريا.
والعساكر الذين هم في هذه المحال التي أعدت لهم مقيمون فيها بأولادهم وعائلاتهم، وعندهم (تلفون) موصل من كل نقطة إلى الأخرى، ولما كنا باليابان كنا إذا رأينا أخشابًا جميلة ذات رائحة طيبة أو أخشابًا عمارية كبيرة يخبروننا أنها من كوريا، ولكننا لما وُجِدنا بها لم نجد فيها شيئًا من ذلك في جهة الجنوب التي كنا بها، ولكن ربما كانت هذه الأشياء في الجهات الأخرى التي لم نرحل إليها ولم نرها.
ثم مررنا على بلدة تسمى: (سيكوان)، وهي بلدة مشهورة بالواقعة الحربية التي حصلت بين اليابان والصين في الحرب الأخيرة، وفيها نزل المدير الياباني الذي كان راكبًا معنا، ووجدنا في انتظاره ما يزيد عن الثلاثين من اليابانيين وبعض عظماء كوريا، وإن اليابانيين بالنسبة إلى أهل كوريا أجسامهم نحيفة، وقاماتهم قصيرة، وقد قدمنا أن الكوريين في غاية من الضخامة وبسطة الجسم، ثم مررنا بعد ذلك على بلدة أخرى يقال لها (سويجن) فوجدناها كغيرها من هذه البلاد محاطة بسور عظيم، وهي مشهورة بحسن منظرها وحبها بالنسبة لما اشتملت عليه من الغابات والمياه والأنهار، وأخيرًا وصلنا إلى (سيول) عاصمة كوريا وكان وصولنا إليها ليلًا فلم نتمكن من رؤية شيء فيها، وكان الترجمان في انتظارنا فسلمنا له الأمتعة، ووصلنا إلى الفندق حيث إننا قد رأيناه قريبًا من المحطة، ولما وصلنا إليه وجدنا صاحبه رجلًا فرنسيًّا، ولما أرانا محاله صرنا فرحين مسرورين؛ حيث إننا قدد استرحنا من العناء بعد سفرنا عشرين ساعة: نصفها في البحر ونصفها في البر.
ولما أصبح الصباح وصى الترجمان على عربات (ركشه) يجرها الرجال، وتفسحنا بها في داخل البلدة، فوجدنا بيوتها قديمة، وكلها دَوْرٌ واحد، وكل بيوت الأعيان بها مُحاطةٌ بسور وشوارعها واسعة، ولكنها غير منتظمة، وعساكر البوليس من الأهالي، وأما الضباط فهم يابانيون ورائحة الشوارع كريهة من رائحة المنازل المجاورة لها، وسكانها ٢٠٠٠٠ نفس من أهلها، سوى ٦ آلاف من اليابانيين، وهي محاطة بسور عظيم ارتفاعه ٨ أمتار، وله ٨ أبواب منظرها في غاية الجمال يدخل فيها الداخل كأنه داخل من سرداب تحت الجبل وفوقه منازل، وأكبر شارع فيها يسمى: شورو، وفي وسط البلد بآخر هذا الشارع هيكل عظيم مصنوع من المرمر على طريقة الصناعة الصينية للمعابد وله اثنا عشر دورًا، ويقال إن هذا الهيكل قد أهداه أحد ملوك الصين إلى كوريا من نحو ٧٠٠ سنة، ووجدنا أن أغلب الأهالي يجلسون أمام منازلهم ويشربون الدخان في أعواد أو يشربون أشياء أخرى من الخمر، ووجدنا الدكاكين قليلة، والذي يظهر أنهم ليس عندهم صنائع.
وبعد الظهر قد رغَّبنا الترجمان في زيارة قبر أم الملك الحالي، فركبنا العربات الركشة الساعة الثانية بعد الظهر، وجُلْنا في أنحاء البلد، وفي أثناء مرورنا وجدنا كثيرًا من الأهالي سكارى حتى شيوخهم، ووجدنا جملة من الثيران مربوطًا بعضها بجانب بعض، ومحملة بالأخشاب التي يراد بيعها، ويبقونها هكذا بحمولها، ثم ينتظرون من يشتري منهم شيئًا مما عليها، ثم خرجنا من البلد، ودخلنا في غابات غير منتظمة، وبعد ساعة من سيرنا قد وصلنا أولًا إلى قبر أم الملك، فوجدناه في غاية البساطة، وهو موضوع على أَكَمَةٍ مرتفعة، ويتوصل إليه بدرجات من حجر الجرانيت، ثم بعد انتهاء هذه الدرجات توجد مقعدتان، إحداهما يمينًا والأخرى شمالًا، وبينهما حجر جسيم مكعبه متران، وبعد ذلك يرى القبر كسائر قبورهم، عبارة عن قبة من الطين عليها خضرة طبيعية، وعند رجوعنا قد مررنا على دكان لأحد الأمريكان يشتغل النحاس الأصفر، ويصنع منه ما شاء من أباريق وشمعدانات، وغير ذلك من الأواني؛ لأجل إرسالها إلى أمريكا، ثم ذهبنا بعد ذلك إلى سوقهم، فوجدناه ضيقًا وليس عندهم شيء سوى النظارات والسبح وأعواد الدخان، وليس فيها شيء جيد، ثم رأينا بيوت القناصل والأكابر، فلم نجد فيها ما يستحق الذكر، وأرونا باب السراي التي قتل اليابانيون فيها أم الملك الحالي؛ لكونها كانت تكرههم، وحبسوا أباه زوجها، وأصبح ابنه الملك الحالي هو الملك المطلق التصرف، وكانت العادة عندهم أن يتولى ابن الملك عند هرم والده، ويعمل الأشياء البسيطة من نفسه، فإذا عرض أمر مهم رجع فيه إلى الملك الأكبر الشيخ الهرم؛ لأنه حنَّكَتْه التجارب؛ فهو أعرف بالأمور من الصغير، ومع كون الملك الحالي يظهر الميل لليابانيين؛ فإنه حر في تصرفاته إلا أن سراياه محفوفة بالعساكر اليابانية.
وقد أخبرنا أن الكوريين يكرهون اليابانيين، ويقتلون كل من قدروا على قتله منهم.
ثم نظرنا في الطريق فرأينا جملة من الأهالي بخيولهم يحملون لوازم الجيش الياباني، فأخبرَنا الترجمان أنهم لا بد أن يكونوا قد قتلوا أحدًا من اليابانيين لأن عادة اليابانيين أنهم متى قتل الكوريون منهم أحدًا يشدِّدون عليهم، ويسخرونهم في حمل لوازم الجيش بلا أجرة، وكل من يتأخر منهم عن ذلك يضرب ضربًا شديدًا بالعصيِّ والكرابيج، حتى يضطر إلى الحمل مرغمًا مجبورًا، ورأينا غالب نسائهم يتقنعن بقناع كسائر نساء الأرياف في القرى المصرية والعادة العربية القديمة، ويلبسن السراويل وفي أرجلهن أخفاف باللون الأصفر أو الأحمر، وهن في غاية الحشمة والكمال.
وقد تحادثنا مع صاحب الفندق، وأظهرنا له استغرابنا مما رأيناه من قذارة الشوارع والروائح الكريهة التي لا توجد في جهة أخرى، فأخبرني أن هؤلاء الناس في غاية من الكسل والقذارة، حتى أنك تجد خارج منزل كل واحد مرحاضًا بمجرور أمام بيته، وتبقى هذه القاذورات حتى يجيء المطر فيقذفها إلى الخارج ولولا ذلك لبقيت طول الدهر.
وقد مرَّ علينا ونحن بالفندق خِدْر من خشب بهيئة كشك صغير محمول بأربعة رجال، ومغطى بجلد نمر، فسألنا عنه، فأخبرنا صاحب الفندق أن نساء الأكابر هنا لا يخرجْنَ من جهة إلى أخرى إلا بهذه الحالة؛ لعُدْمِ العربات في هذه الجهات عند الأهالي.
وفي صباح اليوم الثاني قد تأهبنا للسفر إلى (مكدن)، ولما أخبرنا صاحب الفندق بذلك عرفنا أن هذه السكة ليس فيها شيء من الماء ولا من الزاد، واستحسن أن نأخذ شيئًا مما عنده من المأكول بقدر مئونة يومين، فرأينا أنه لا مانع من ذلك، وأخذنا ما هو لازم، ثم توجهنا إلى المحطة، وركبنا القطار إلى (أنطونج)، وقد كنا أخبرنا أن هذه السكة في غاية من الخوف؛ لكونها مملوءة من الوحوش الضارية والأسود الكاسرة، ولكنه بحمد الله تعالى ووقايته لم نجد شيئًا مما أخبرونا به وخوَّفونا منه، وغاية الأمر أننا كنا نمر على غابات صغيرة فيها كثير من الطيور البرية، وكانت السكة في غاية الأمن والزراعة بحالة أحسن مما رأيناه قبل ذلك، ولم نزل سائرين في أمان واطمئنان حتى وصلنا بعد ١٤ ساعة إلى (نيوريجي)، وهي آخر حدود كوريا، وهي بلدة موضوعة على نهر (لبالو) المشهور في الحروب التي حصلت بجهته، وكان وصولنا إليها الساعة الحادية عشرة ليلًا.
وحيث إن هذه البلدة ليس فيها فنادق كنا ملزمين بالضرورة أن نعدي النهر حتى نبيت في (أنطنيخ)، فركبنا في مركب قديمة، وفيها اثنان من الكوريين يجذفان، وكنا عشرين ليس فيهم أحد من السواح سوانا، والجميع من أهالي الصين وكوريا الذين لا يعرفون أي لغة أجنبية فلم يمكننا أن نتكلم معهم، كما أنهم لم يمكنهم أن يتكلموا معنا، وبقي هؤلاء البحارون يجذفون نحو ثلاثة أرباع ساعة بغاية الجهد حتى وصلنا إلى الشاطئ الآخر، ورأينا به سفنا تجارية كبيرة؛ حيث إن هذا النهر عميق جدًّا، والذي وصلنا في هذه المسافة هو: مسابقتنا لسفينة أخرى كان يجذف فيها أربعة، ولولا ذلك لما وصلنا في أقل من ساعة، ولكثرة ازدحام الشاطئ بالسفن كان مرسانا إلى جانب سفن كثيرة، ثم صرنا نتخطاها لأجل الوصول إلى البر، وبينما كان عزيزي علي بك رضا يتخطى من سفينة إلى أخرى إذ زلقت رجله فنزل في البحر، فحصل لي اندهاش عظيم، ورعب كثير؛ مخافة أن يكون قد حصل له شيء من الأذى، ولكن بفضل الله تعالى وحسن رعايته وملاحظته لنا بعين عنايته لم يصب بأدنى أذى؛ لأنهم نشلوه بسرعة زائدة ومهارة فائقة، ثم سرنا حتى وصلنا إلى الفندق الياباني، وعند دخولنا أمرنا بأن نخلع نعالنا، ثم أرونا غرفًا فيها كراسي فقط مفروشة بملاءات، وأخبرونا أنها هي المعدة للنوم عندهم، ثم إن صاحب الفندق وبناته أسرعوا بإحضار ملابس يابانية لأجل أن يلبسها عزيزنا علي بك حتى تجف ملابسه، وكان ذلك في منتصف الساعة الواحدة بعد نصف الليل، ثم أخبرنا صاحب الفندق أنه يلزمنا أن نكون متيقظين ومستعدين في منتصف الساعة السادسة صباحًا.
وفي الصباح قد حضر صاحب الفندق واعتذر لنا لكونه أعطى كل المحال المعدة للنوم والسُّرُر الموجودة بالفندق لوكيل جمهورية أمريكا، ثم تناولنا الفطور، وبعد ذلك خرجنا من الفندق، ومشينا حتى وصلنا إلى المحطة، وهذه البلدة هي ابتداء منشوريا الجنوبية، ولما وصلنا إلى المحطة وجدنا بها رئيس السكة الحديدية التي توصلنا إلى مكدن بأَمْرٍ ينتظر وكيل الجمهورية الأمريكية، وكان قد عهد إليه أيضًا أن يقوم بخدمتنا، فأخبرنا أنه قد حجز لنا نصف عربة، ولما حضر القطار وجدته أضيق من جميع القطارات الزراعية عندنا، ولما دخلنا العربة وجدناها مفصولة بساتر مثل الملاءة، ثم جاء جملة أناس؛ لأجل أن يسلموا على وكيل الجمهورية، ومن ضمنهم كثير من كبراء الصين قد حضروا بعربة بعجلتين تجرها بغلة، وقد تكلمنا عليها، وأمامهم وخلفهم فرسان، وحمدنا الله تعالى؛ حيث إننا رأينا ضباطًا من اليابانيين مأمورين بوجودهم معنا، وسررنا بذلك؛ حيث إنهم كانوا قد أخبرونا أن بالطريق لصوصًا يوقفون القطار ويسلبون الركاب، وبمرورنا بمنشوريا رأينا أن الزراعة أكثرها من الذرة ولكنها أحسن من زراعة الكوريين؛ لأن أهل منشوريا لهم همة وعندهم اعتناء كثير بأمر الزراعة، ويظهر عليهم الثروة؛ لأنه يوجد عندهم مواشٍ كثيرة خصوصًا البغال الكبيرة، والحمير الجيدة العالية.
وفيها كثير من الجبال التي تتخللها ينابيع المياه والأشجار الجميلة، وكان القطار يسير بنا في مرتفع من الأرض حتى أنه في بعض الأوقات يكون صاعدًا إلى أعلى جبل فيسير سيرًا بطيئًا، بحيث إنه لو ماشاه الراجل لسابقه، والسبب في ذلك أن هذه السكة كان أصل وضعها؛ لأجل حمل اللوازم الحربية في حربهم الأخيرة للموسكوف، ولم تكن مجعولة للمسافرين والسواح، وكان عملها بوقت قصير لضرورة احتياجهم إليها في وقت مخصوص، فخوفًا من ضياع ذلك الوقت، وكونهم يأخذون زمنًا طويلًا في قطع الجبال ومرور القطار من النقط التي يلزم أن يمر منها؛ جعلوه يمر من أعالي تلك الجبال مؤقتًا لانتهاز الفرصة، وجميع الأزهار الموجودة على تلك الجبال، رائحتها ذكية وألوانها جميلة؛ ولذلك كان يوجد عليها كثير من أجناس الفراش المختلف الأشكال والألوان، وكان منظرها جميلًا خصوصًا الأزرق منها.
ووقف القطار في محطة صغيرة نحو ساعة؛ لكونه كان أمامه قطار آخر يحمل بضائع خرج عن السكة الحديدية، فتعطل السير، فاسترحنا وأكلنا شيئًا مما كنا أخذناه من الفندق، ثم سار القطار، ولما كان يأخذ في الصعود إلى الأماكن المرتفعة كنا نرى مناظر جميلة تشبه مناظر بلاد سويسرا، ثم وصلنا في منتصف الساعة السابعة قبيل الغروب إلى بلدة تسمى: (ساهوكو)، فنزلنا فيها، ووجدنا بها فندقًا صغيرًا يابانيًّا، وبعد الأكل مما كنا قد أحضرناه معنا — وكان ليس بجيد — قد فرشوا لنا مراتب على حصر، وأعطوا كل واحد غطاء. ولما أصبح الصباح أسرعنا إلى المحطة، وكان مناظر السكة كمناظر الأمس، إلا أننا سرنا إلى طريق أعلى حتى صار القطار يتدرج في الارتفاع إلى ١٥٠٠ متر.
وبعد الظهر بارحنا الجبال، ودخلنا في أودية أراضيها مزدانة بالزراعة، وبها كفور صغيرة، وبعد مدة قد رأينا سور المدينة، ثم مررنا على محطة تسمى: (فوشن) فيها معادن فحمية، وبعد عشر دقائق منها قد وصلنا إلى محكة (مكدن) فرأينا فيها كثيرًا من اليابانيين والصينيين والأمريكانيين في انتظار وكيل الجمهورية، ووجدنا بوَّاب الفندق وبعض خدم معه، فسلمناهم ما كان معنا من الأشياء، وبعد خروجنا من المحطة قد رأينا كثيرًا من العربات ذوات العجلتين تجر كل واحدة منها ببغل، فركبنا في عربة تابعة للفندق يجرها حصان، وهناك قد رأينا عربتين من عربات الموسكوف يظهر أنهما متروكتان من مدة ما كانوا في موكدن، ورأينا عساكر البوليس هناك، وفي أيديهم عصي سميكة مثل الهِراوة، وملابسهم عسكرية، إلا أنهم يرسلون شعورهم على ظهورهم مجدولة، والسكة الموصلة من المحطة إلى البلد واسعة، وهي في غاية النظافة، وفيها ترام كهربائي، ورأينا ثكنات عساكر يابانية، ورأينا أن هذه البلدة أغلب سكانها من اليابانيين، وبعد ذلك مررنا من باب البلد الكبير، ودخلنا إلى البلد الأصلي فوجدنا به دكاكين كثيرة، ويظهر أنهم مشغولون بالصنائع، ولم نزل كذلك حتى وصلنا إلى الفندق، فوجدناه بيتًا صغيرًا، وكان ظننا أننا نجد فندقًا كبيرًا مستوفيًا؛ حيث إن هذه البلدة هي العاصمة، ورأينا اليابانيين يشتغلون بوضع أنابيب المياه والسلوك الكهربائية، والتلفون في هذه البلدة.
ولما كنا في أقوام كلهم بعيد عن المدنية كنا غير مطمئنين، وباعتهم كلهم يعلنون بأجراس صغيرة أو يصفرون بصفارة.
وفي الصباح قد أرسلنا عزيزنا علي بك بورقة زيارة منا إلى قنصل إنجلترا؛ لأجل أن نحصل على تصريح بزيارة المقابر والآثار الملوكية، فلما أخبر بذلك، وأعطيت له الورقة جاء وردَّ الزيارة، فرأيناه رجلًا كبير السن في غاية من الكمال والأدب، وله في هذه الجهة ١١ سنة، وفي أسرع وقت قد حصل على التصريح، وأرسله لنا، فاستصحبنا بوَّاب الفندق بصفة ترجمان؛ لكونه يعرف بعض اللغة الألمانية، وتوجهنا لزيارة المقابر والآثار الملوكية الشهيرة، ثم وصلنا بعد ثلاثة أرباع ساعة إلى بستان كبير، وروض طبيعي محاط (بدرابزين)، والمسافة التي قطعناها نحو ثمانية أميال، وفي آخر السير قد وصلنا إلى حائط كبير وبه باب كبير أيضًا، فخرج منه بعض الحرس، وطلبوا منا أن نريهم الإذن، ولما تحققوا منه أذنوا لنا بالدخول، فدخلنا ووجدنا طريقًا مرصوفة بالبلاط، وعلى جوانبها أشجار جسيمة من الصنوبر، ومن هذه الطريق قد وصلنا إلى باب آخر كبير، ولما دخلنا منه إلى بساتين رأينا طريقين متقاطعين وبجوانبهما صور أغلب الحيوانات ذوات الأربع من الحجر، وكل جنس أمامه ما يماثله، ثم وصلنا إلى معبد له عدة طبقات، بعضها فوق بعض، وأخبرنا أن هذا المعبد هو محل استراحة الملك ومقابلته ورأينا في وسط الحجرة كرسيًّا كبيرًا معدًّا لجلوس الملك، ثم رأينا معبدًا آخر مجعولًا لحفظ الوصايا فيه، وهو عبارة عن قبة من الأتربة المتراكمة كما في كوريا، وكانت المناظر ذات بهجة تسر منها النفوس، وتنشرح الصدور، وحيث إن هذا المحل فيه كثير من الأشجار والأزهار والمناظر الجميلة؛ فإن السواح كانوا يهرعون إليه في كل يوم أحد، ويقضون به جميع اليوم، وحيث إننا قد أخبرنا أن هذا المعبد هو أحسن من جميع المعابد الأخرى التي تبعد عنه بنحو ١٥ ميلًا، وإننا لم نكن في اطمئنان تام قد اكتفينا بزيارته، واستغنينا به عن غيره، ولم نكلف نفسنا تحمل مشاق السير لزيارة غيره بدون جدوى؛ حيث إنه أرفع منها شانًا وأحسن بنيانًا.
وفي صباح اليوم الثاني من إقامتنا بهذه العاصمة قد توجهنا لرؤية سراي الملك، وهي على نحو عشر دقائق من النزل، ولما وصلنا إلى بابها وجدنا ٥٠ زوجًا من النشارين ينشرون أخشابًا عمارية كبيرة للسراي، والظاهر أنه كان بها بعض عمارات، وقد قابَلَنا على بابها رجلٌ من العساكر، وطلب منا أن نريه ورقة الإذن بالدخول، فأريناها له، فأذن بالدخول، فدخلنا من الباب، فوجدنا من داخله حجرة لمستخدمي السراي، ووجدنا الكاتب الخصوصي لوالي منشوريا، واسمه (هوسي)، ورأيناه يتكلم باللغة الإنجليزية، وقال لنا أنه لأجل توصية القنصل؛ يطلعنا على جميع الذخائر الملوكية الموجودة هنا، ثم أخذ يفتح لنا أبوابًا كانت مختومة بالشمع الأحمر، فاطلعنا على أشياء كثيرة، وأول ما اطلعنا عليه قبعة من الذهب والفضة، وهذه القبعة كان يلبسها الملك وقت الصيد، وهي مكللة بالأحجار النفيسة، ثم أرونا زهريات ومحابر من حجر اليشم، وأرونا كثيرًا من أسلحة الملوك القدماء وسيوفهم وملابسهم، ورأينا جملة من عقود اللؤلؤ والمرجان، وعلمت أن المرجان كان محبوبًا عندهم ومرغوبًا لهم، هو وحجر أزرق هناك يسمى: كركهان.
ثم توجهنا إلى حجرة أخرى فوجدنا بها كثيرًا من الأواني الصينية على اختلاف أشكالها وألوانها، وأغلبها ملوَّن باللون الأبيض والأصفر والأزرق، وكلها أوانٍ عتيقة قد مضى عليها مدة مديدة من الزمان، ودخل صناعها في خبر كان، وأحدثها صنعًا له ٢٥٠ سنة، ومما رأيناه من المشابهة بين صنائعهم وبين الصنائع الأعجمية، يمكننا أن نحكم أنه لا بد أن يكون قد وجد بينهما ارتباط فيما تقدم من الأزمان، وأن هذه الأواني جمعت من الأشكال الغريبة، والنقوش العجيبة ما لا يدخل تحت حصر، ويعجب ذوق كل إنسان، ومن أحسن ما رأيناه آنيتان ملونتان بلون واحد يظهر فيه ألوان كثيرة، ولهما من المدة نحو ٧٠٠ سنة، وهذه توجد الآن في أوروبا ويزعمون أنها من اختراعاتهم الحديثة، ولما رأينا هذه التحف النفيسة والمصنوعات العجيبة لم نندم على عدم شراء شيء مما رأيناه في اليابان؛ لأنه لا يعد شيئًا بالنسبة لما رأيناه في هذا المحل.
وبعد ذلك قد دخلنا للتفرج على السراي فوجدناها مدهشة للأبصار، ووجدنا فيها قاعة تسمى: قاعة العرش، وفي وسطها كرسي مصنوع من الخشب الحفر، وبه نقوش ذهبية بارزة في غاية البهجة والجمال، وهو موضوع مدرج مرتفع، ارتفاعه درجتان وعليه مظلة كبيرة، وعلى شمال هذه القاعة أماكن متفرقة مجعولة لسراري الملك، وعلى اليمين مساكن كلها تابعة لزوجة الملك وحواشيها، ولها برج في غاية الجمال مطل على البلد، وعلى السراي رأينا علم الأسرة الملوكية منشورًا وله من المدة ٢٥٠ سنة، وهو أول علم استعملته الأسرة الملوكية الحالية، ومن معتقداتهم تعظيمه وإجلاله وتقديسه، حتى بلغ من احترامهم له أنهم لا يمسونه، ويعتقدون أنه مقدَّس لا يمس، والملك لا يحضر لهذه السراي إلا إذا حدثت حوادث مهمة في عاصمة باكين، وخاف على نفسه الهلاك، وحيث إن الأسرة الحاكمة أصلها من منشوريا فيحصل للملك اطمئنان عظيم إذا وجد فيها.
وقد حصل لنا سرور كثير من زيارة هذه السراي، ومما رأيناه بها من الأشياء الكثيرة التي رأيناها بها تستحق التفرج عليها، والسعي من بعيد الأقطار إليها، وعند خروجنا قد استفهمنا من الكاتب عما يلزم إعطاؤه للخدم من النقود فأكثر الرجاء أني لا أعطيهم كثيرًا؛ لأنهم يسكرون بما يأخذون، وفهمت من كلامه أن الإنسان يعطيهم ما شاء، فأعطيتهم ما قسم الله لهم، وكلفته أن يبلغ سلامي إلى الوالي، ثم انصرف وانصرفنا.
وبعد الظهر قبل السفر قد توجهنا إلى القنصل؛ لأجل إبداء شكرنا له بالنسبة لاهتمامه بشأننا وعنايته بنا.
ولما جاءت الساعة السابعة توجهنا إلى المحطة؛ لأجل ركوب القطار الذي يوصلنا إلى خربين فوجدنا بها رجلًا يسمى: ولسن، وهو رجل في غاية من الظرافة واللطافة، أصل والده إنجليزي وأمه هندية، وقد جاء لوداعنا من قبل القنصل، وهو وكيل لجملة شركات سكك حديدية، وقدم لنا ناظر المحطة، وأخبرنا أنهم حجزوا لنا ديوانًا خاصًّا بنا، وأخذ يخبرنا بالتقدم السريع والترقي الهائل الحديث الذي حصل في منشوريا وكوريا على يد اليابان، وأنهم أصبحوا يسابقون الأوروبيين في التجارة والصناعة وغير ذلك، وأخبرني أن له مدة ١٤ سنة في الصين، وأنه يعرف أن يتكلم بلغتهم ويكتب ٢٠٠٠ حرف من حروفها، ولكن الذي وصل إليه من الكتابة لا يؤهله أن يكتب جوابًا رسميًّا؛ لأن الذي يلزم لمن يريد كتابة جواب رسمي هو ٥٠٠٠ حرف.
ولما أخبرته أني كنت أريد التعرف ببعض المسلمين، وأن القنصل لم يرشدنا إلى ذلك أجابني بأنه متأسف، وقال لو عرفت ذلك سابقًا لأمكنني أن أريكم كثيرًا منهم، ثم أخبرني أن في مدينة مكدن جامعًا وأكثر من ١٠ آلاف مسلم صيني، وأن أغنى تجارها من المسلمين، فأخبرته أني كنت أود أن أعرف أنهم يقرءون القرآن ويقيمون الصلاة بأي لسان، فوعدني أنه يخبرني عن ذلك كله بجواب يرسله إليَّ بخربين، وفي أثناء هذه المحادثة قد جاء القطار فركبنا به، ووجدنا عرباته من أعظم العربات الموجودة في سائر الدنيا، فسافرنا ليلًا، وكانت المسافة ٦ ساعات لغاية محطة (شانشون)، وهي نهاية الخط الياباني، ومبدأ الخط الروسي بعد الحرب الأخيرة، ووجدنا أن البلاد في غاية الالتفات إلى الزراعة، وأنهم يقومون إليها وقت الفجر بكل همة ونشاط؛ ولذلك كانت زراعتهم في غاية من الجودة وأرضهم في غاية من القوة، وأن المأكولات لكثرتها رخيصة، وكذلك الطيور واللحوم والأسماك بالنسبة لانتظام سككها التي تسهل وصول جميع الأشياء إليها من جهة إلى أخرى بدون بطء ولا مشقة، ووجدنا في القطار بعض المغول فرأيناهم حالقين رءوسهم، ومرسلين لحاهم كالعادة العربية، والحالة الإسلامية، وهؤلاء كانوا راجعين من زيارة والي منشوريا، ومن محطة شانشون قد ركبنا قطار السكة الحديدية الموسكوفية، ولم نزل سائرين حتى وصلنا إلى خربين سالمين آمنين مطمئنين، فحمدنا الله على حسن رعايته، وجميل عنايته.