الفصل الحادى عشر
حين أفاق وجد نفسه في المستشفى، مع ستة عشر خبيرًا وباحثًا، وثلاث من فتيات العلاقات العامة، وتلك الصغيرة فتاة الجنوب، غمغم من فوره: الرئيس ونائبته.
وسمع حديثًا جانبيًّا بين المرضى والجرحى في أطراف العنبر شاهق الطول، شديد الضيق، الشبيه بإسطبل إنجليزي الطراز، طُليت جدرانه بلون أصفر لموني، وما زالت لمبات سقفه المدلاة في أعناقها وسلوكها مشعلة، رغم أن الوقت كان ضحى نهار يوم جديد، قال أحد المرضى: إن ما حدث كان متوقعًا، نتيجة منطقية في منطقتنا، فالنزال يفضي إلى ما نحن فيه.
سمع أوجاعًا وتوجعات وسبابًا كثيرًا، معيدًا تساؤله، بل هو راح يحرك عينيه مكتشفًا ضياع منظاره، فتكوَّر من فوره باحثًا عنه على سريره، وما تحته وحوله، والطاولة وجيوبه بكاملها، فُقدت، تساءل: الرئيس … الباقين.
وضايقه جدًّا سماعه لتأوهات يعرفها، فتح عينيه عن آخرهما، ومسحهما بفوطة مستطلعًا وجه العالية: ما معنى هذا؟
قال: ما معناه؟
قام من فوره مرضوضًا مجرجرًا إلى الخلف عنه ملاءة السرير حافيًا إلى أقارب سريرها، فيما قبل منتصف العنبر شاهق الطول، ضامر العرض، قاربها، نائمة تغط كطفلة راضية أقرب إلى أن تكون في ضيعتها أو حديقة بيتها الريفي، منها إلى هذا العنبر، تحسس جبهتها عن قرب في ذات اللحظة التي قاربت السرير فيها ممرضة، لامست يدها يده قبل أن تستقر على جبهة العالية نائمة، انسحب من فوره عائدًا إلى سريره كمن يطمئن نفسه: تنفسها طبيعي.
استقر المهاجر على سريره مدخنًا في شَرَهٍ، صامتًا بلا منظار، لحين انفتاح أقصى أبواب العنبر ودخول وفد الأطباء وكبار الزائرين يتقدمهم ثلاثة مصورين صحفيين، راحوا يصورون كبار الزوار وهم يسلمون على المرضى والجرحى، ويقدمون لهم الزهور الصناعية والشيكولاتا، والهدايا التذكارية في لطف بالغ، والمصورون ينحنون ويتلوون بفلاشاتهم لتغطية كل الزوايا.
ولدهشته اكتشف الرئيس ونائبته في مقدمة الوفد الوزاري الزائر.
– هما!
تنبَّه مادًّا جذعه الناحل الطويل المنتهي بوجهه وأعلى ذقنه المشرئبة، حين قارب الوزير وكبار الزوار فراش العالية، والمحاولات الكثيرة التي بُذلت من الأطباء والممرضين والسيسترات لإيقاظها، بل حتى مصوري الصحف والتليفزيون أخفضوا من إضاءاتهم التي كانت منذ قليل مسلطة كمثل جمر فحم على وجهها الفينيقي البرنزي وسباتها، وذلك التنفس الهادي الوردي الصادر عبر أنفها الطويل القائم كمثل زاوية منفرجة مع سطح الوجه المسترخي إلى حد النوم.
– تنفسها طبيعي للغاية.
اعتدل جالسًا في منتصف سريره، تسح عيناه رامشة أكثر بلا منظار.
على هذا النحو رمقه الرئيس ونائبته حين أحاط بفراشه ستة مصورين مسلطين إضاءاتهم، بل إن بعضهم اعتلى سريره بحثًا عن زوايا جديدة، وتكوين مبتكر.
وظل هو يرمش في قرفصته، ضامًّا ركبتيه الناحلتين بساعديه، باذلًا أقصى جهده في أن يبدو ثابتًا تحت وابل الإضاءات المكثفة والعيون، خاصة الرئيس والنائبة التي سبق أن التهمت سؤاله على الورقة قبل أن يقع الدوي المفاجئ بلحظات: توقيت مريب، عقاب.
قاربه الرئيس دون أن يراه، وقدَّم له منظاره، فابتسم من فوره، ووضعه على عينيه فرحًا أكثر مما شجع النائبة البضة على بذل جهد أكبر وأشق في التدافع مع المسئولين ومصوري الصحف النشطين الذين اجتذبتهم زوايا جديدة لإعادة تصويره بالمنظار مبتسمًا، فرحًا، متطلعًا إلى ما حوله في حالة من الصفاء المحلق نادرة.
لكن ما أزعجه حقًّا هو محاولته لرد التحيات الكثيرة التي انهالت عليه: حمدًا لله على السلامة.
ذلك أن صوته الأجش المبحوح على الدوام لم يخرج أصلًا ليصل أذنًا قريبة منه إلى حد ملامسته والتقارب معه داخل «كدر» فوتوغرافي.
مضى معانيًا في توضيح حركة شفتيه للرد على كبار الزوار وصغارهم، لمجرد المجاملة، تبادل التحيات: متشكر قوي، دا كرم منك، سليمة سليمة، إلهي يهد حيلهم.
بل هو حاول التندر مع الوزير بنطق: «عمر الشقي بقي.»
إلى حد مقاربته ليصب مزحته هذه في أذنه اليمنى بلا طائل، ذلك أن الوزير وسكرتيرته الحسناء وطبيب العنبر أعادوا المحاولة لسماعه ثلاث مرات. الوزير، السكرتيرة، طبيب العنبر إلى أن تقدَّم منه الرئيس والنائبة في انزعاج قليل لاستيضاح الأمر، فلعله يتشكى، حتى إن النائبة قاربته بدورها مهونة واعدة: سؤالك عندي، في عنيه.
مشيرة إلى فمها.
وحاول هو إيضاح الأمر أكثر، لا يشكو، مجرد مزحة: عمر الشقي بقي.
مشيرًا معتدلًا إلى رقبته.
ومن جديد ضاع صوته الأجش، وطبطبت على ظهره النائبة منسحبة في أثر الوفد المتقدم، فظل مستقرًّا في جلسته، غير مقدم على التغيير من زاوية قرفصته، ذلك أن الركب تحرك من خلف ظهره، إلى أن غمرته إضاءة العنبر الطبيعية بدلًا من الفلاشات التي صاحبت تقدم الركب الرسمي.
ظل مثبتًا في وضعه ذاك، ذراعاه تطوقان ركبتيه مبتسمًا، في رضاء، جلس متطلعًا عبر منظاره المقرب إلى الجهة المقابلة، لحين أن أخرجه من وضعه الساكن ذاك الإضاءة التي عادت فغمرت ظهره المقرفص، ومنطقة قفاه، ومطلع رأسه الأميل إلى الاستطالة الرأسية باتجاه جبهته.
أخجله إلى حد تكثيف الإضاءة التي داخلها الكثير من ألوان قوس قزح، تبعًا لحركة الضوء وزواياه، أنه غطس قليلًا في ياقة قميصه، دون أن يستدير مستطلعًا الأمر: إيه اللي بيحصل … ولو.
خفت الضجة بخروج الوزير وكبار المسئولين من الباب الخلفي وتبعهم الباقون، بعد أن أدوا دورهم وأخذوا الصور التذكارية الصحفية.
حط وجوم أقرب إلى السكون على العنبر وجرحاه، فيما عدا وجه العالية حين تحركت بعينيها يمنة ويسرة كمن تبحث عن شيء لنراه.
قفز من فوره حافيًا مجرجرًا ملاءة سريره باتجاه سريرها وهي مسجاة تهمس بلا صوت، قاربها، حين انكب مطلًّا بوجهه الطويل المتندم على الدوام على وجهها، مكتشفًا من فوره أنها ليست الأخت الصغرى العالية.
عاد من فوره إلى فراشه، معيدًا التروي والتفكير فيما حدث ويحدث ماثلًا أمامه بكامله: ما معنى هذا؟ ها أنا ذا أتحرك، ليس بي خدش ولا حتى رضوض بسيطة، بل إنه حتى ليس هناك أدوية، أو موضع لمطهر ميكروكروم، أين؟
راح يتفحص أعضاء ومكونات جسده الناحل العظمي مفرط الطول، والتدفق المتلاحق بالحركة والحيوية، تحسس ذراعيه، منطقة رقبته، كيعانه، ساقيه، مقدمة سلسلة ظهره، أسنانه، ركبتيه، تسمَّع دقات قلبه.
– أين؟
أدهشه إلى حد كبير أن ليس بجسده بكامله أية آلام، مركزًا انتباهه على موضع آلام بواسيره، وأزعجه أكثر أنها باردة لا تنبض بأدنى ألم.
– ماذا جرى؟
هب جالسًا نصف جلسة قافزًا في رشاقة إلى إحدى زوايا فراشه متسائلًا: لماذا أنا هنا؟
بحث طويلًا عن مهرب على طول العنبر، منتعلًا شبشب زنوبة، متحركًا بأقصى حيويته إلى حد الركض والجري، عن تومرجي أو ممرضة دون جدوى.
عاد ثانية إلى فراشه مهدودًا قليلًا، محاولًا تذكر ما حدث، ذلك المؤتمر السيمنار الذي حُرم فيه من الإدلاء بمجرد وجهه نظر، لحين دوي جدران المبنى وابتهاجه الذاتي بالانبطاح.
مضى يلتفت هنا وهناك بحثًا عن الممرضة، هب من فوره منتعلًا شبشبه أزرق اللون، سائلًا: تسمح من فضلك، أي حد من إدارة المستشفى.
– أجل.
– أنا لم أُجرح.
مضى المهاجر يكشف للتومرجي، أو الطبيب، هو لا يعرف؛ ذلك أن محدثه كان يدفع أمامه بنقالة مستشفى عليها مريض أو جريح، مَن يعرف وكلاهما يضع قناعه على وجهه؟