الفصل الثاني عشر
حين تخلى عنه التومرجي، دافعًا أمامه بعجلته ومريضه أو جريحه أو عهدته وتركه نهبًا لتساؤله، عاد المهاجر منكسرًا قليلًا إلى فراشه، وراح يسترجع الأمر بكامله، بدءًا بالرحلة المضنية التي بدأها من عند سفح الهرم الأكبر من قرية «كرداسة» وما حولها بحثًا عن حواديت القرى فيما قبل المعرفة بالراديو — طبعًا لحين اختراق الحواجز وصولًا إلى هذه المدينة المتأججة بالنيران، ناهيك عن قهوة الأخت الصغرى، وصول عمان المرتعد، والموكب بكامله الذي لم يعنه في قليل أو كثير، سوى من حيث وصول منظاره إليه. صحيح أنه تعرفه منذ أن تسلمه غير مصدق من يد الرئيس — فما إن تحسس شنبره حتى عرف أنه ليس بمنظاره، لكن ما أراحه وهوَّن الأمر هو ارتياحه لحظة اكتشافه بأن مقاساته هي هي ٨٢٠٠ / ٦ للعين لليسرى، و٤٣٨٠ / ١٨ لأختها اليمنى. ومن هنا كانت جلسة استرخائه تلك التي تعمد أن تجيء على مرأى من المسئولين والجميع في منتصف الفراش بأقصى دقة ممكنة، وعلى فمه ابتسامة عريضة، تسببت فيما حدث من تسابق للمسئولين ومصوري الصحف السيارة، لتغطية كل الزوايا، الجميع أخذوا معه أكثر من كدر وبوز تذكاري.
أخرجه من تزاحم أفكاره تلك ضجةُ عجلات نقال المستشفى المخلعة العتيقة، يدفع بها التومرجي الملثم عائدًا بعد أن ألقى بمريضه على فراش أقصى العنبر عائدًا.
قفز من فوره إليه معترضًا: أنا هنا ليه؟
رفع عامل المستشفى قناعه، أو هو أنزله تحت ذقنه كمن يبذل جهدًا مضاعفًا وأجابه بكلام كثير موجزه أنه — أي التومرجي — لا دخل له يُذكر، أو يمكن أن يشكل خطرًا، عليه أو على جميع نزلاء هذا العنبر، وأولهم المهاجر ذاته، وقال موجهًا كلامه للجميع: ما نحن سوى نزلاء معكم ومعه، فالأمر سيان، طالما أنه «عبد المأمور»، بل إن مأمور المستشفى ذاته ومديره، له موقع أدنى من رئيسه، وهي متوالية — كما نعرف جميعًا — لا تنتهي.
وحاول هو بالمقابل أيضًا إيضاح الأمر، وأنه سليم ليس به خدش واحد، حتى إن آلامه القديمة لم تعد تؤلمه.
راح يقفز هنا وهناك محركًا جذعه الأعلى في رشاقة حسده عليها بالفعل عامل المستشفى وبعض الجرحى والمرضى، بل والفتاة المواجهة التي تَصوَّرها العالية.
الجميع التقت عيونهم وحطت إلى حيث يقف معتليًا سريره ووسادات رأسه وبذلته، كمن يخطب مُدويًا بلا صوت، سوى من حشرجات بدت مؤلمة لبعض الجرحى، وبخاصة الفتاة التي هبت منزعجة، كما لو كانت قد تخلصت من تأثير المورفين المخدر دفعة واحدة على صوته المدوي زاحفة بجذعها الأعلى بكامله، وهي تغطي منطقة أذنيها.
ولاحظ هو حركتها هذه، فأوصل درجة حشرجاته الصوتية إلى أقصى مداها، مستعينًا بعظمية ورشاقة تكوينه الجسدي، وقدراته البلاغية المؤثرة التي يعرفها عنه الجميع.
لكن يمكن عدم الجزم الدقيق بما تناثر بالفعل من خطابه في مواجهة التومرجي نصف المقنع، الذي واجهه عبر نقالة العنبر البيضاء، التي خدشت دماء راكبيها بياضها الناصع النقي، فبدت متسقة بدورها مع كلٍّ من العنبر وجرحاه.
أقول: لا شيء محدد حول ما تناثر من كلمات المهاجر وهياجه إلى حد الخطابة، الدفاع عن النفس.
أنا لست جريحًا، لا مكان لي هنا، طالما أني معافًى، وفي مقدوري الكشف عن كل أعضائي؛ القلب، ساقاي، البول، السكر، الدم، أين؟
تساءل بعض الجرحى الذين ساءهم وضعه وهياجه على هذا النحو، دون مراعاة لراحتهم، إلا أن الفتاة شبيهة العالية صرخت من فورها بأعلى صوتها في وجوههم مشيرة إلى أذنيها لاطمة: أنا سمعاه، مفيش نقطة دم، سكر.
وواصل هو دفاعه عن وجوده، لكن ليس أبدًا — وبالمرة — هنا مكاني؛ حيث إني باحث متخصص.
راح يتوجع قليلًا على سريره في مستوى أعلى من التومرجي الغاضب المندهش ونقالته: ليتني جريح أنزف!
استدار مستشهدًا بالنزلاء: مثلكم جميعًا، ليتني! لكنه شرف لا أدعيه، ليس في مقدوري.
صرخ عاليًا: ليكن هذا حالنا.
واستلقى من فوره منحطًّا في الوضع الممدد الملائم في منتصف فراشه.
– تنفسه طبيعي.
انسحب عامل النقالة تحت قناعه، ولم يعد يسمع سوى صوت عجلاتها بأزيزها لحين إغلاقه الباب الأخير المقابل بالمرصاد، والكمارات الحديدية الضخمة على هيئة مقص عملاق متعانق.
ساد ذلك النوع من الصمت الذي عادة ما يعقب المشاحنات عالية الصوت.
أما المهاجر المسن، فقد غطس نهبًا لهواجسه التي لا تخلو بحال من آلام جسدية، خاصة زوره الجاف إلى حد التشقق مما أدى إلى غياب صوته بكامله، في مواجهة الوزير والرئيس والنائبة الملهمة، حين حاول تخفيف الأمر عليهم ومجرد المداعبة الشائعة بأنه سليم معافى.
– عمر الشقي بقي.
ومع ذلك أخفق هو من جانبه في إيضاح الأمر، إن لم يزده سوءًا إلى حد التخوف من الوشاية، مما ترتب عليه بالقطع تركه على هذا النحو، وهو الذي لا يحس خدشًا في جسده، وإن لم يخل الأمر من هبوط عام.
تذكر فيما تذكر أن شيئًا أقرب حدث له في القاهرة، لم يكن بالدقة ذات الأمر أو الوضع، الذي موجزه الخروج.
صحا ذات نهار ليجد نفسه جالسًا القرفصاء على سريره داخل بدرومه، وأفراد ذلك الجهاز العام بملابسهم المدنية محيطين بالفراش والحمام الملحق، يفتشون السرير ومرتبته وجيوبه وأعلى الشرفات، وسيفون الكابينيه والكتب، وغرفة الكرار الملحقة، ودواليب الحائط، وانتهى الأمر كالمألوف، بأخذه مع الغسق داخل سيارة «بوكس»، وفي أحيان شيفروليه وموتوسيكل، ومشيًا على الأقدام، بل وظهر حصان، يختفي بعدها لحين الإفراج عنه بكفالة في ثلاثة أحايين غير متتابعة.
– والآن.
أحس بوخز زوره، غمغم بذات الصوت الأجش المبحوح، وهو يتطلع ماسحًا أعلى حوائطه بعينيه.
صحيح أنه لم يكن ذات العنبر، بسرائره الحديدية والبطاطين رمادية اللون على عادة الميري.
وبدا استياؤه جليًّا في عيني تلك الفتاة الجنوبية كطفلة صفراء الوجه حنونة، حين قاربت سريره في جينزها الأزرق وحديثها المفصح متحسسة جبهته، نبضه.
وحين فتح عينيه في عينيها بدت منكسة أكثر خجلًا، سألها أكثر من مرة بلا صوت سوى الفحيح «لماذا هو هنا؟» ولما لم تجب تصورها جزءًا من جهازهم العام.
مرة أخرى فتح عينيه حين راحت تدثره ببطانية وهي تشدها شدًّا من تحت منطقة وسطه في صعوبة.
كيف يمكن إفهامها، راح يشير إلى منطقة زوره: اللوز.
وحين أومأت إليه فاهمة، مضى من فوره شارحًا الأمر، مشيرًا مرة إلى أعضاء جسده الخشبي الممدد، ومرة إلى رأسه، ومنطقة الحجاب الحاجز وفكيه.
قفز جالسًا وهو يقاربها، سائلًا بصعوبة أجهدت الفتاة بقميصها ضارب الزرقة المزين بفراشات ذهبية تغطي منطقة نهديها: دي مصحة والا مستشفى؟
وحين أجابته الفتاة بالنفي، واصَلَ: يبقى معتقل.
ضحكت الفتاة وهي تحاول إقناعه بأنها مجرد زميلة، حيث إن فراشها في أقصى العنبر ونفس صفه، وإنها هي أيضًا لحقها الانفجار، إلا أنها مثله لم يصبها جرح، كل ما هنالك أنها استغرقت في النوم ولم يوقظها سوى صوته.
قال بصعوبة مشيرًا من جديد إلى زوره: صوتي راح.
وسألها إن كانت تسمعه، فأجابته: بصعوبة شوية.
أعجبه ابتسامتها التي ذكرته لومضة بحقول مصر الممتدة، فمضى يشرح لها الأمر كله مستعينًا بيديه وذراعيه في ملامسة يديها البضتين البيضاوين، وكتفها وعنقها النافر كمثل حمامة أيك دقيقة حين تنفعل وتتفاعل مع شرحه للأمر كله، لحين تذكيرها لما تعرض له طيلة أيام السيمنار، مذكرًا إياها باقتراحها بكتابة سؤاله وتقديمه للرئيس، حين التهمته النائبة من فورها قبل أن يصل يده.
ضحكت طويلًا، وأشارت إليه بأهمية الخروج، وحين سألها مقاربًا هذه المرة وهو يتحسس مفرق شعرها العاجي الأحمر، أعادت التأكيد بالإيجاب.
– بل يمكننا الخروج معًا.
ضمها من فوره إلى صدره العظمي، وقفز مرتديًا ملابسه بعد أن أقنعته بأن هذا العنبر الذي تساقط طلاؤه ما هو سوى رقم، أو عربة في قطار ممتد الطول من عنابر مزدحمة تغطي الأفق.
وأدهشه أن الأمر لم يستغرق كثيرًا، ليجد الجهة المقابلة، ويدلفان خارجين إلى حديقة الليمون.